img
إلا القصة يا مولاي! [8]
img
Print pagePDF pageEmail page

همسًا في أذن القذافي

إلا القصة يا مولاي! [8]

 

نص “الموت” هو أطول النصوص التي تضمها مجموعة القذافي (56-79)، ويصر القذافي على أن هذا النص (قصة) 74- بل (قصة درامية)75، وسنرى – فيما بعد حظ هذا الحكم من المصداقية، ونحاول أولا أن نتعرف على فحوى النص ومضمونه، حتى يكون حكمنا النقدي سديدًا، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، كما يقولون:

 ينطلق الكاتب – في نصه هذا- من سؤال غريب ساذج: هل الموت ذكر أم أنثى؟ ويصر القذافي على ضرورة تحديد جنس الموت، ويرتب على هذا التحديد نتيجة أغرب ترتبط بتحديد منهجنا في التعامل معه: “فإن كان ذكرًا وجبت مقارعته حتى النهاية، وإن كان أنثى وجب الاستسلام لها حتى الرمق الأخير”. (ص65)

والقذافي يؤسس هذا التفريق “على الاستعمال اللغوي” فالموت لغة ـ مذكر ـ والمنية ـ لغة ـ مؤنث صـ 65 ([1]).

وهو منطلق غالط لأن الإطلاقات اللغوية المتعددة على مسمى واحد لا تغير من طبيعته، فالسيف له عشرات الأسماء في اللغة العربية منها، المذكر مثل: القضيب والخشيب والحسام والهُذام، ومنها المؤنث مثل الصفيحة والصمصامة([2])، وللرمح كذلك عشرات الأسماء منها المذكر مثل: السمهري، والخطي، والأسمر، والعاسل، والمثقف، ومنها المؤنث مثل: الصعدة، والقناة، والأسلة، والمرانة([3])، وهذه الإطلاقات مذكرة كانت أو مؤنثة لم تغير من طبيعية المسمى، ولا من نظرة الناس إليه.

 

بل الموت أنثى..!!

 وبعد مسيرة طويلة، ومناورات ومناوشات وصراعات يصدر القذافي حكمه على الموت بأنه “أنثى” لأن أباه “أبا معمر” استسلم له في النهاية، ولو كان “ذكرًا” لقاومه أبوه وانتصر عليه، وجاء استسلام الأب للموت – وهو على فراشه – من قبيل الشهامة والأريحية وأخلاق الفروسية التي تحرم على المتحلي بها أن يحارب أو يقاوم أو حتى يعارض أنثى . يقول “معمر محمد عبد السلام أبو منيار القذافي” “.. ولكني تأكدت أخيرًا أنه أنثى لأن أبي استسلم له حتى الرمق الأخير يوم 8 من مايو 1985م، ولم يحرك ساكنًا لمقاومتها، ولأول مرة أراه مستسلمًا في المقاومة، بل يرفض أحيانًا أي تدخل ضد الموت، بل يدافع عنه، مما يدل على أنه أنثى، بل أنثى من النوع القديم، الذي قال فيه القرآن: (يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (ص75)

 

المواجهة.. والصراع

والاستدلال على أنثوية الموت باستسلام الوالد المريض له يعتبر استدلالا غير منطقي، لأنه استسلام المرغم المقهور بالشيخوخة أو المرض، وليس استسلاما إراديًا عن قدرة وتسامح لأنثى بدافع الرجولة والشهامة.. فالموت هنا “منيَّـة” أنثى اسا ومسمى – إنها واحدة من تداعيات الكاتب تعتبر – بأي تصور- غير منطقية من ناحية، ولا تخدم فنية النص من ناحية أخرى.

وقبل أن يموت الأب المجاهد – أي قبل أن يستسلم للموت “الأنثى” كان للأب وأصحابه مواجهات عاتية مع الموت الذي كان يظهر – أو   يتنكر – في صور متعددة للتمويه والخداع:

-فهو تارة يأتي فارسًا ممتطيا جوادًا أبيض، شاهرًا سيفه دون وجل – يأتي مواجهًا.. أو يناور فيطعن من الخلف.

-وتارة يأتي بسلاحه راجلا، أو زاحفا متخفيًا.

ثم يرتد القذافي إلى الذات، ويقدم حيثيات شخصية لتجريم الموت وإدانته: فهو قاتل إخوته، ومجوِّع أسرته، إنه الذي قتل من إخوته أربعة أولاد وبنتين، ودخل في معارك طاحنة مع أبيه الشجاع، وتقمص أزياء الجنود الطليان والإريتريين ليقتل أباه.. إلخ.

ويقاتل أبوه الموت في معارك ضارية، ويعجز الموت عن قهر الأب، حتى بعد أن تخفَّى في هيئة حية ولدغه في كعبه، فقد تغلب على سم “الحية الموت” بشرب جرعات من طبيخ الشاي الأحمر دون سكر، وبذلك أخفق الموت في تحقيقه.

ويتقمص الموت حية أخرى تلدغ الأب لدغة قوية، ولكنها لم تأت بنتيجة ؛ لأنه كان قد تحصن من السم باللدغة الأولى.

ونفهم من هذا الصراع الشاق المرير بين الأب والموت أن الموت “المهزوم” كان ذكرًا.

وأخيرًا استسلم الأب للموت، وهو على فراشه، مما يفهم منه أن الموت كان هذه المرة أنثى، وينسى الكاتب – وقد حكم بأن الموت في هذه الحال الأخيرة أنثى- أن مفهوم المخالفة يقوده إلى نتيجة لا يمكن أن يقبلها أحد، وهي أن الموت لو ظل ذكرًا في مواجهة الأب.. لعاش الأب في دنياه إلى الأبد.

لذلك قلنا – من قبل- إن فكرة الكاتب الأخيرة غير مستساغة منطقيًا وفنيا، حتى لو كانت “تذكير” الموت أو “تأنيثه” تتم بإرادة الأب.

 

السقوط الفني

وكل هذه التصورات تطرح مفاهيم ومقولات سطحية تذكرنا بأدب الأطفال وحكايات هذا الأدب، وإن كان النص القذافي – الذي رأى فيه بعض النقاد الحواريين قصة فلسفية – يفتقر إلى الهادفية التربوية والإنسانية.

وكان يمكن للقذافي – لو كان يملك الإمكانات والآليات الفنية والدرامية- أن يستلهم روح الجهاد الليبي التاريخي- وهو حقيقة باهرة – في عمل أو أعمال روائية أو قصصية جليلة، ولكنه للأسف اكتفي في نصه هذا بمجرد إشارات وإلمامات سريعة، سرعان ما ذابت وتلاشت في ركام التداعيات اللاحقة.

وقد رأينا أن القذافي يصر على وصف عمله هذا بأنه قصة , أو قصة درامية، وهو حكم لم يتعد حدود الأمل والطموح، لأن الكاتب نجح في تدمير البناء القصصي المأمول بناقضات ثلاث:

الأولى: الإسقاطات السياسية والاجتماعية المعاصرة، التي كانت تفرض نفسها بين حين وآخر – بصراحة وتبجح- على السرد، دون أن يكون لها أدنى ارتباط فكري أو فني بالسياق كما نرى في الأمثلة الآتية:

-“…فالموت لا ييأس لأن ثقته بنفسه أقوى من اليأس، وتأكده من النصر النهائي أعظم من الهزيمة المؤقتة والخذلان العابر، والسر أن قوته في ذاته، وليس بدعم من أمريكا”(ص70).

    -“ولكن إذا ضعف الموت، وتحول إلى أنثى غير جماهيرية (أي غير ليبية) أو لاتينية، جاء حريما مستسلمًا بلا سلاح , ودخل بسلام وبإغراء وسكينة.. فليس من الرجولة مقاومته ومقارعته”.(ص 79).

    -“… فالموت لا يرحم خصمه مهما استسلم، ومهما جبن وأبدى من ضعف ومسكنة، ولو أصبح ساداتيا (أي مثل أنور السادات)(ص79).

    – “..حتى خيل لنا أن ضجيج موكب الموت الذي يرعب الأصحاء هو أغنية مخدرة لأحد المشهورين من المغنين المصريين بالنسبة للمرضى، وحتى ظننت أنه لا يلزم مخدر كيماوي لمعالجة المريض، وإنما تكفي أغنية مصرية طويلة..”.(ص76)

فالدعم الأمريكي، والسادات في ضعفه وخوره، والفتاة الليبية أو الجماهيرية، ومثلها اللاتينية، ليست في ضعف الأنثى، ولكن في قوة الرجال – والأغنية المصرية التي يمكن أن تحل محل المخدر الطبي.. كل أولئك إقحامات متكلفة لا تمت بأية صلة لأي عمل قصصي، بل إنها تفسد هذا العمل إن وجد، وأني وجد.

 

والناقضة الثانية

والناقضة الثانية: هي تدخل الكاتب المباشر والصريح بنبرة وعظية خطابية صاخة، كما نرى في الأمثلة التالية:

-“إذن لا ترحموا الموت” ولا تسترحموه، فالأمر مقضي بيننا وبينه، فهو عدو لدود، لا صلح معه، ولا أمل فيه فلا ترحموه…”(ص68)

-“..فعليكم مقاومة الموت لإطالة أعماركم مثل أبي الذي لم يستسلم له يومًا، وقاتله دون خوف منه، حتى بلغ عمره مائة سنة , برغم أنف الموت الذي أراد أن ينهيه في الثلاثين, فالموقف الصحيح هو المواجهة، أما الهروب إلى الخارج فلا ينجى من الموت: “أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة”.(ص79)

 

وثالثة الأثافي

وهي الناقضة الثالثة: إقحام العبارات التي يضيق عنها الفن القصصي، ولا تستخدم إلا في الأخبار والتحقيقات الصحفية، ومن هذه العبارات.

– “… ولكن الموت – كما عرفنا من هذه القصة- لا يموت”. (ص74).

– “.. وعلى العموم..” (77)

– والنتيجة هي أن الموت يفشل..” (ص 78).

فكل هذه الأصوات قوالب نقدية تتنافر مع طبيعة العمل القصصي ؛ لأنها وافدة من خارجه.

 

التفتيت والبعثرة اللامنهجية

ويرى أحمد الفقيه أن هذه (القصة) لجأت إلى استخدام عدد من التقنيات من بينها تكسير تراتبية الزمن، وتكسير حدود المكان، وارتفعت بهذين العنصرين من محدوديتها إلى أن صار هذا الزمن هو زمن المواجهة بين الإنسان وبين حتمية الموت، وصار المكان هو العالم الواسع…” (ص139) من المجموعة.

ومع تحفظنا الشديد على وصف “القصة” الذي خلعه الفقيه على نص القذافي-نوافقه على أن القذافي في هذا النص خرج على الترتيب الزماني والمكاني الحصرى بمفهومه النمطي، ولجأ بالنسبة للأحداث- وكلها جزئية إلى ما يسمى حديثا بالتفتيت Atomization بمعنى أن تكون الأحداث الجزئية موزعة على مدار السرد تبعا لنسق معين في نطاق البناء الكلي، وتكثيف الجزئية الواحدة التي تتشعب إلى جزئيات أدق يمكنها من إعطاء الدلالة الإيحائية التي تعطيها البنية الكلية، ولا يعني هذا التفتيت وتراص البني الجزئية  في بنية كلية، وهو ما يسميه أحد النقاد “بالبعثرة المنهجية”([4]).

ولكن ما فعله القذافي في نصه الموت كان “بعثرة لا منهجية” وتفتيتا غير ملتزم , وأعتقد أن السبب الأساسي – بغض النظر عن استعداده وإمكاناته الفنية –  أنه لم يخطط لعمله قبل الشروع فيه، فجاء العمل تداعيات متدافعة بلا ضوابط، وبلا روابط يتلبس فيها القديم بالحديث، والسياسي بحديث الذات، والأداء التعبيري الراقي بالأسلوب الدارج، وقد رأينا فيما سبق كيف أقحم القذافي على عمله من العبارات والإسقاطات ما أهدر فنية العمل، أو ما منع عمله من أن يكون فنيًا.

 

لو ملك الأداة…!!

وأكرر القول بأن القذافي كان أمامه من تجارب آبائه، وماضيهم القريب في مجابهة الطليان ما يعطيه –  لو كان يملك آليات الفن وقدراته- نسيجا رائعًا- لا لقصة قصيرة، ولكن لعمل روائي درامي كبير. والقدرة على امتلاك الماضي واستدعائه هي الميزة الأولى للفنان، وليس المهم أن تكون قد حدثت له تجارب كثيرة، أو أن تكون ذاكرته قوية، بل المهم قدرته على استخدام هذه التجارب بالتأليف بين عناصرها المتشعبة تأليفا ينتج تنظيمات جديدة، ورب رجل قوى الذاكرة يتذكر كل تجربة بكل حذافيرها، ولكن لا قدرة لديه على إحيائها ونقلها، لأنه ليست لديه القدرة على الفصل بين جوهرها وعَرَضِها([5]).

 

وعن الأعمال الأخرى..

(ملعونة عائلة يعقوب- أفطروا لرؤيته-دعاء الجمعة الآخرة- وانتهت الجمعة دون دعاء- المسحراتي ظهرًا) إنها عناوين بقية نصوص “المجموعة القذافية” وهي لا تستغرق من الكتاب أكثر من ثلاثين صفحة، وكل منها يمثل “خواطر مبعثرة” لا يجمعها رابط معنوي أو فكري اللهم إلا الهجاء الحاد المبتذل، والتهكم المرفوض على شخصيات جليلة لها مكانها العلمي والفقهي والاجتماعي في تاريخنا، ومنهم بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عرضنا لذلك في حلقات سابقة، ولو أننا رفعنا عناوين هذه الأعمال لكان من السهل وصلها لتمثل عملا واحدًا، أو منظومة واحدة في السب والقذف والهجاء واللعن , استهدفت عائلة نبي الله يعقوب، وخالد ابن الوليد، وخبيب بن عدي، وأم أيمن بركة حاضنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وابن كثير، وابن تيمية، والغزالي، وحسن البنا، وسيد قطب.. إلخ.

 

الأداء التعبيري

أسلوب القذافي في هذه المجموعة هو أسلوب القذافي في خطبه وأحاديثه دون تنميق أو صقل وتهذيب.. هو أسلوب مرسل تحس أنه خرج من اللسان مباشرة دون أن يمر “بمصفاة” العقل والأناة، فهو أقرب ما يكون إلى الأسلوب الصحفي الذي لم “يمر” على “مُراجع” ومثل هذا الأسلوب يوقع صاحبه في حرج شديد جدًا لو حوسب محاسبة جادة صادقة.

هذا هو الطابع  الغالب على أداء القذافي في هذه المجموعة، ولكنه – للحق –  لم يعدم قليلا من الشرائح الجميلة تصويرا وتعبيرًا، كما نرى في حديثه التالي عن الأرض: “والأرض أمكم حقًا: هي التي ولدتكم من أحشائها، وهي التي تحتضنكم وتغذيكم وتسقيكم، فلا تعقُّوا أمكم، لا تقطع شعر أمك، ولا تقطع أصابعها، أو تمزق لحمها، أو تجرح جسمها، فقط قلم أظفارها، ونظف جسدها من الأوساخ والأدران، وداوها من الأمراض..”.ص23.

ومن ذلك أيضا هذه اللوحة التي رسمها للموت بأسلوب رفيع.

“فالموت مقاوم من طراز منقطع النظير حقا، ذو نفس طويل، وصبر غير محدود، وثقة في النصر على الخصم تصل إلى حد اليقين، مهما بدأ خصمه منتصرًا وقويا، وله ركن شديد، ومهما خسر من معارك، ومهما أثـْخِن وقهر لا تؤثر فيه أصداء مهرجان فرح الانتصار عليه التي يقيمها المنتصرون الواهون..”(ص66).

وأكثر من ذلك ما يواجهنا – في أعمال القذافي – من قوالب وأساليب عامية أو شبه عامية، من ذلك:

-“ويطب ما يعوقه في سيرة برجله..” (ص45)

– “ويحوش الغنم من ميدان الشجرة..” (ص45)

– “لم لا نوسع بالنا وننتظر في الصف حتى نشترى هذا الدواء..” (58)

وقد يهبط الأسلوب إلى درك من “السوقية” التي تجافي أي فن من الفنون، بل تثير الغثيان والأسى، ونكتفي بمثالين فقط.

– فهو يتحدث عن الجماهير قائلا: “.. وتفّـتْ على وجه نيكسون وهو يغادر البيت الأبيض، بعد أن أدخلته فيه وهي تصفق..” (ص44)

– “شوال يبدأ يوم الاثنين، وطز فيكم، وفي هلالكم، وفي محاكمكم الشرعية، وغير الشرعية..”. (ص96)

وكل هذه القوالب – وغيرها كثير- لا يمكن إدخالها في مفهوم السخرية الفنية لأنها تمثل نوعًا من التهكم البذئ، والهجاء الساقط.

ومن البدهيات النقدية أن أسلوب القصة القصيرة إنما يمثل “أدبًا” رفيعًا، ويتسم بقوة الإيحاء، وشدة الأسر, وبراعة التصوير.

 

النقاد.. والغاوون

النقد أمانة، والناقد بمثابة القاضي عليه أن يحكم بعدل، ويتعامل مع المعروض المنقود بموضوعية، والموضوعية تعني الالتزام الكامل بأخلاق الناقد  كما يجب أن يكون، ومن أهمها: التعامل مع “المادة” لذاتها، مع التجرد الكامل من هو ى النفس، ونوازع العاطفة، ودون الاستجابة لمؤثرات أو ضغوط سياسية أو اجتماعية أو شخصية لتوجيه النقد وجهة معينة، وصبغة التيار السائد المهيمن، أو الشخصية الحاكمة، أو المتحكمة ذات السيادة والمكانة والنفوذ.

ومثل هذا النقد المنحرف يعد كذبا على الواقع، وكذبا على النفس، وتزييفا وكذبا على الآخرين، والنتيجة الحتمية هي إفساد الأذواق واختلال المعايير، وخصوصا إذا كان هذا النقد المنحرف المسرف صادرًا من مشاهير لهم ثقلهم، ولهم مكانتهم في الساحة الأدبية والفكرية، لأن أمثال هؤلاء يُـتخذون مثلا أعلى يحتذيه شباب النقاد والأدباء والمتأدبون.

أقول هذا لأن ما قرأته لنقاد كبار من كتابات عن “مجموعة القذافي” كان غريبا وخطيرًا، لأنها أعطت هذه الأعمال ما لا تستحق ,ووضعتهافي مصافالأعمال الرائدة، وجعلت من كاتبها فلتة لم يجُدْ الدهر بمثلها.. و..و.. وقد عرضنا في حلقة سابقة سطورًا قليلة للناقد أحمد الفقيه، ولننظر إلى أقوال أخرى قيلت في ندوة عقدت بتونس، ونشرت في العدد الأول من السنة العشرين من مجلة الثقافة العربية “الليبية” يناير 1995) (من ص 8 إلى ص 17).

-فالدكتور خليفة التليسي يرى أن القذافي في هذه المجموعة قد بلغ بموهبته القصصية، درجة عالية من الشفافية التي لا تتاح للقصاصين المحترفين إلا بعد ممارسة طويلة لهذا الفن، وقليل منهم من استطاع فعلا أن يبلغ بالقصة تلك المستويات الشعرية البالغة النفاذ والرهافة..”.(ص11)

ويمضي التليسي مشبها القذافي بالكاتب الإيطالي “جيوفاني فيرجا” ويرى أن القذافي “في طليعة المبدعين، وربما تجاوزهم بعمق الرؤيا والمعالجة…” (ص11)

ويرى أمين الخازن أن أعمال القذافي “تعد انتصارًا للقصة القصيرة كجنس أدبي له حضوره في حياتنا الأدبية..”. (ص13)

وأكثر من ذلك تعد “انتصارًا لمفهومنا في الأدب والفن”. (ص14)

ويري أحمد أبو إصبع([6]) أن: “هذه الأعمال تجربة فريدة لقائد سياسي يمتلك فرص التعبير والخطاب المباشر عبر وسائل الاتصال الجماهيري، ولكنه آثر أن يتواصل مع الجمهور بأسلوب أكثر حميمية، وليس هناك من مجال يتسم بهذه الصفة مثل الفنون الأدبية..”(ص58)

ويرى أحمد الرفاعي أن مجموعة القذافي قد بلغت من الرقي والقوة والتجديد بحيث جاءت “أبعد من أدوات القياس، وأكبر من مسارب القواعد”([7]).

ويرى أشرف عبد الفتاح أن القذافي في مجموعته “استخد م باقتدار مدارس التحليل النفسي واللاشعور، وسبر أغوار النفس البشرية، وكان قادرًا قدرة فائقة على تفريغ نفسه على الورق…”(ص52) (8)

 

وشهادة زياد بن أبيه..!!

 ويدور في فلك “الشهادات” السابقة كلمات كثيرة جدًا لا يتسع لها، ولا لبعضها مقامنا هذا، ولكن ما قيل ذكرني “بزياد بن أبيه”، وكان –  من صغره – فصيحا بليغا قوي العارضة ,حتى إن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- استمع إليه- وكان يافعًا – فقال: “لو كان هذا الفتى قريشيا لساق العرب بعصاه”.

وينقل لنا التاريخ أن معاوية بن أبي سفيان أرسله إلى البصرة واليا عليها سنة 45هـ، فخطب خطبته المعروفة “بالبتراء”، وكان فيها من العنف والشدة، والوعيد، قدر ما تدفقت به من البلاغة وروعة العرض وقوة التأثير، فلما انتهى من خطبته قام إليه “عبد الله بن الأهتم” وقال “أشهد أيها الأمير لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب” فصرخ زياد في وجهه “كذبت، ذاك نبي الله داود صلوات الله عليه”(9).

أقول ما أحوجنا – بعد أن قرأنا “مجموعة القذافي” – بل ما أحوج القذافي نفسه إلى تذكرهذه الواقعة, وما أحوجه إلى صرخة قوية كصرخة زياد بن أبيه , يجابه بها أدعياء النقد، ودعاة التزييف والتوثين  .

وهمسًا في أذن زعيم الجماهيرية “العقيد معمر محمد عبد السلام أبو منيار القذافي” أقول ” إن ما قرأته لك في مجموعتك يصعب , بل يستحيل أن يمثل “مجموعة قصصية”، لأنك كما تشي هذه “المجموعة النصية” – لا تملك آليات الفن القصصي، وهذا لا يعيبك، فليس من اللازم اللازب إذا كان القائد زعيما وخطيبا ومحدثا، وصاحب نظرية عالمية!!” في كتاب أخضر , أقول ليس من اللازم الحتمي أن يكون كاتب قصة، وأعتقد أنني لم أتجاوز الصواب حينما همست في أذنك من أول حلقة: (إلا القصة يا مولاي).. ورحم الله فتحي سعيد”.

 

الهوامش والتعليقات:

 

 

([1]) يذكرني هذا بقول من قال إذا أردت أن تعرف إن كان العصور الصغير ذكرًا أو أنثى فضع أمامه طبقا صغير فيه ماء، فإذا شرب فهو ذكر، وإذا شربت فهي أنثى.

([2]) الثعالبي: فقه اللغة وسر العربية 249 (دار الكتب العلمية – بيروت-د.ت).

([3]) السابق 338، وهو من ملحق بالكتاب السابق مأخوذ من كتاب (ابن الأدابي) الطرابلسي: كغاية المتحفظ، ونهاية المتلفظ).

([4]) د. يحيي عبد الدايم “تيار الوعي في الرواية اللبنانية المعاصرة، مجلة فصول: إبريل 1982م.

([5]) د. محمد النويهي: طبيعة الفن ومسئولية الفنان 61 (دار المعرفة –  القاهرة 1964م).

(6) مجلة الثقافة العربية (ليبية) عدد 3 ـ 4 مارس ـ أبريل 1995م.

(7) مجلة الثقافة العربية ص 10- العدد 9- سبتمبر 1995م.

(8) السابق ص 52.
وانظر في كشف هذا النهج النقدي وخطورته: “الأدب الحديث بين عدالة الموضوعية وجناية التطرف “لجابر قميحة من ص 9 إلى ص 36 (الدار المصرية اللبنانية -1992) وانظر ص 34 بصفة خاصة.

(9) عن: أحمد زكي صفوت: جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة 2/274 (المكتبة العلمية- بيروت. د.ث).

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img