رحم الله تعليم زمان..!
قالوا: من لا ماضي له لا حاضر له, ومن لا حاضر له مات مستقبله, فالتاريخ امتداد زمني متدفق تعتمد مراحله بعضها علي بعضها الآخر, بدرجات مختلفات, وأيسر ما يقال في هذا المقام: إن ثمة علاقة – أو علاقات – رابطة ولو جاءت علي سبيل التجافي والتضاد. وتحديد نوع العلاقة هو المرتكز الأساسي للتقييم الدقيق لمرحلة تاريخية, أو مراحل.
نعم.. تعلمنا قبل الميمونة!!
وحتي يسٍلم معروضي وحكمي, أتحدث عما سرته, وعشتُهُ بنفسي, فهو تصوير لحالات عامة, وإن اتخذ الذات منطلقًا: بعد قضائي ثلاث سنين في المدرسة «الإلزامية» التحقت بالصف الأول من المدرسة الابتدائية الأميرية (وهو وصف يلحق كل مدرسة حكومية أي غير خاصة ( في بلدتي «المنزلة دقهلية», بعد نجاحي في اختبار تحريري, من لم يوفق فيه يلتحق بالمدرسة الخاصة الوحيدة في البلد.
كان ذلك عام 1945, وكانت المرحلة الابتدائية أربع سنين, حصلت بعدها علي «الشهادة الابتدائية», وبعدها التحقت بالمدرسة الثانوية الأميرية لأحصل بعدها علي شهادة اسمها «الثقافة العامة» ويبدأ التخصص في السنة الخامسة, فاخترت شعبة (الأدبي) لحبي الشديد للأدب واللغة العربية. مع أن والدي كان حريصًا علي أن ألتحق بالشعبة العلمية حتي ألتحق بكلية الطب, وأتخرج طبيبًا, فلم يكن في البلد إلا طبيب واحد هو الدكتور يوسف باشا رحمه اللّه.
لقد بدأت دراستي الابتدائية في العام الذي انتهت فيه الحرب العالمية الثانية وانتهيت من دراستي الثانوية بعد قيام «الميمونة» بعام واحد, وكانت عيني علي «دار العلوم» التي بدأت تقبل الحاصلين علي الثانوية العامة (وكان يطلق عليها التوجيهية) زيادة طبعًا علي الحاصلين علي الثانوية الأزهرية, ولا قبول إلا بعد امتحانات تحريرية وشفوية قاسية, اجتزتها بحمد اللّه, مع أنه لم يوفق إلا نصف العدد المتقدم.
نظرة .. للاعتبار
وفي السطور الآتية ألقي بعض الضوء علي طبيعة المرحلتين الابتدائية والثانوية, وأبعاد واقعهما, وآلياتهما اعتمادًا علي نظرة, بل معايشة ميدانية فعلية كما أشرت آنفًا, وذلك قبل قيام “الميمونة” :
1 – كانت المدرسة تشغل مبني أُسس, وبُني ليكون مدرسة, وكان الملعب الواسع, من أهم مرافق المدرسة, وفيه تعقد المباريات, والحفلات, ويصطف فيه التلاميذ.
2 – كان الطالب يدفع في بداية كل عام «مصروفات مدرسية» ضئيلة, ويعفي منها الفقراء من الطلاب, وكان ما يدفعه الطالب أقل بكثير جدًا مما يدفعه الطالب حاليًا مقابل «حصة واحدة» في درس خصوصي.
3 – كانت الإنجليزية تدرس ابتداء من السنة الأولي في المرحلة الابتدائية. أما الفرنسية فتدرس ابتداء من المرحلة الثانوية.
4 – كان المدرس معلمًا, أستاذًا, عالمًا بكل معني الكلمة, فالمرحلة الابتدائية يتولي التدريس فيها الحاصلون علي مؤهلات عالية من خريجي دار العلوم والأزهر, والجامعات. وبدافع الوفاء أذكر بالخير من أساتذة اللغة العربية الأساتذة: رأفت الخريبي, وشمس الدين المحلاوي في المرحلة الابتدائية, وعبد الجواد جامع, ومحمد جلال, ومحمد عبد الرحمن النجدي في المرحلة الثانوية, ومن أساتذة الإنجليزية: إبراهيم العزبي (ابن ميت سلسيل), وفياض, وعبد القوي, وفي الفرنسية أذكر الدكتور أمين واصف, الذي صار – فيما بعد – أستاذًا ثم وكيلاً لكلية الألسن بجامعة عين شمس.
5 – وكان العصر, هو عصر «النُّظار العظام» بحق: كان ناظر المدرسة “شخصية” ذات هيبة, وعلم, ومكانة وثقل في كل الأوساط, ولا يخاطَب إلا بـ” فلان بيه ” وأذكر من هؤلاء الأساتذة: السيد الخباطي, ومحمود الهجرسي, وأحمد السلكاوي, وإمام ناصف.
6 – لم تكن نعرف – في كل المراحل – ما يسمي بالدروس الخصوصية, ولا حتي مجموعات التقوية المدرسية, فالعملية التعليمية كانت تسير في طريقها السوي الطبيعيالسديد.
7 – كان الشعور الجاد الصادق بالمسئولية يسيطر علي المدرسين, فيؤدون أعمالهم بإخلاص وحماسة, وامتد هذا الشعور إلي الطلاب, فلم يكن هناك واقعات غش إلانادرًا.
8 – كانت نتائج الامتحانات تمثيلاً صادقًا لقدرات الطلاب وتحصيلهم, لأن الأساتذة كانوا يلتزمون الدقة في «تصحيح أوراق الإجابة», زيادة علي إخلاصهم في العطاء والعمل.
9 – كانت أيام الامتحانات – بصفة عامة – وامتحانات الشهادات ( الابتدائية – الثقافة – التوجيهية) بصفة خاصة – تمضي كبقية الأيام, دون رهبة أو «طوارئ» أو حرق أعصاب.
بين الأمس واليوم
تلك كانت أهم ملامح الواقع التعليمي قبل الميمونة .فما ملامح هذا الواقع بعد قيام الميمونة(1952) وخصوصًا العهد «البهائي» – نسبة إلي الوزير الهمام حسين بهاء الدين – وماتلاه? وأسهًّل الإجابة علي القارئ, وأطلب منه أن يسجل عكس الملامح التسعة السابقة ليفوز بملامح هذا الواقع التعليمي الذي نعيشه الآن:
– فالمدارس أُلغي منها الملعب لتزرع بحجرات الأسمنت, وكثير من المباني مهترئ يهدد حياة التلاميذ.
– أصبحت الدروس الخصوصية هي الأساس, والمدرسة هي الاستثناء, والطالب يكلف أسرته آلاف الجنيهات لهذه الدروس, وعليها أن «تحجز» لابنها مكانًا عند الأستاذ قبل بداية العام بأشهر, وبعض الأسر تستدين أو تبيع بعض الأثاث أو «حلي» الزوجة أو البنات من أجل الدرس الخصوصي. و«الأستاذ» يرفض دائمًا إلا أن يعطي الدرس إلا «لمجموعة», وانتهت أيام الدرس الخاص لطالب بمفرده لأن الحصيلة تكون تافهة, لا تقنع الأستاذ, وكأنه المقصود بقول الشاعر:
كالحوتً لا يرويه شيء يَطعمهْ
يصبح ظمآن وفي الماء فمهْ
– أما مستوي المدرس – بصفة عامة, فالحديث عنه أصبح من قبيل إهدار الوقت والكلمات.
– وكارثة الكوارث نراها في «تطويع» المناهج تبعًا لإرادة «الامبراطور بوش» صاحب نظرية «تجفيف المنابع», وهي حقيقة لا تحتاج إلي شرح وتوضيح..
– ومن فضول القول كذلك أن أتحدث عن المستوي العلمي للطلاب والمتخرجين.
ولا تسلني عن العلاج.. فعرض بعض خطوط العلاج لا يتسع له مقال, ولا أكثر من مقال.. ولا حول ولا قوة إلا باللّه .
هذا , وندعو الله أن يبارك في جهود الدكتورحمدي حسن – المتحدث باسم الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين بالبرلمان المصري ( 2005) – إذ قدم أول طلب إحاطة في البرلمان الجديد لرئيس مجلس الوزراء , والدكتور أحمد جمال الدين – وزير التربية والتعليم – عن انهيار التعليم .
بارك الله فيك – يا دكتورحمدي – وبارك جهاد نواب الإخوان المسلمين , إنه نعم المولى ونعم النصير .
اترك تعليقاً