الشهيد عبد الله عزام
الفارس الذى صعد
كان أول لقائى بابن فلسطين الدكتور عبدالله عزام فى أواخر ديسمبر سنة 1981 فى مدينة «سبرنج فيلد» بولاية ألينوى بالولايات المتحدة حيث عقد مؤتمر الشباب المسلم العربى، وكان شعار المؤتمر «القدوة الحسنة»، وقد حضر الدكتور عزام ممثلا لمجاهدى أفغانستان فى المؤتمر. وكان لقاؤنا الثانى ولقاءاتنا التالية فى الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد 1985 حيث كنا نعمل، ثم ترك الجامعة سنة 1987 وتفرغ تمامًا لتحمل أعباء الجهاد الأفغانى. وبعدانتهاء إعارتى عدت إلى مصر فى يونيو 1989. وبعدها بأيام علمت أنه استشهد هو وابناه: محمد وإبراهيم بعبوة ناسفة فى مدينة بشاور الباكستانية قاعدة المجاهدين فى باكستان.
(1)
يا عبدَ الله يا عزامْ
أنا أدعوكَ…
أناديكَ
فهل تسمعُنِى؟
هل تسمعُ صوتى
هل تسمعْ؟
فى عالمِكَ العُلْويِّ الأرفعْ؟
وأنا فى غْربةِ روحى
فى وطنى
أتحسسُ طينى
قيدى العاتى
دنيا الناس الصماءِ الجوفاءْ
هل تسمعْ؟
هل تذكرنى؟
هل تذكرُ أول لُقيانا؟
قد كان لقاءً مشهودا
(2)
من ربع قرن إنني عرفْتهُ
خلفَ البحارِ فى مناطقِ الجليدْ
فى العالَمِ الجديدْ
فى بلدةٍ تدعى «سْبِرِنْج فيلْدْ»
كانَ اللقاءُ الأولُ
والأرضُ والأشجارُ بيضاءٌ من الجليدْ
والجوُّ فى برودةٍ تُجمِّد البشَرْ
وتُرعِشُ الحديدَ والحَجرْ
لكنّما
من كلِّ فجٍّ فى «أميرْكا» قادمونْ
المسلمونَ يزحفون
وبالألوفِ يزحفون
«فى بلدِة الجليدِ مؤتمرْ
شعارهُ:
«بالقدوةِ المثلى نصلْ..
وننتصرْ»
ويومَها…
أحسستُ أن الدفْءَ يَعمُرُ القلوبْ
ويغمرُ الإحساسَ بالربيعِ
والعبير… والأملْ
«لا إله إلا الله
محمد رسول الله
عليها نحيا
وعليها نموتْ
وفى سبيلها نجاهدْ
وعليها نلقَى اللهْ»
وعندها ترقرقتْ فى مقلتيَّ دمعةُ الفرحْ
رأيتُهمْ…
وعشتُهمْ
رأيتُ حمزةً يمزِّقُ الصفوفْ
وخالدًا بسيفِهِ
يوزِّعُ الحتوفْ
والفرسُ والرومانُ يَفْزعونْ
قلوبُهُمْ تحاولُ الفرارَ من صدورِهمْ
ولاتَ حينها فرارْ
وفى عيونهم مذلةٌ يرُوعُها انكسارْ
سمعتُهُ .. وعشتُهُ.. بلالْ
يزلزلُ الحصونَ والجدرانْ
بعزَّة الإيمانِ فى حلاوةِ الأذانْ
ومصعبًا يرتلُ القرآنْ
فتقشعرُّ من خشوعِها القلوبُ والأبدانْ
ويلتقى الزمانُ بالزمانْ
والدفءُ يَسْرى من جديدْ
فى بلدةٍ تُدْعَى «سْبِرنجْ فِيلْد»
مدينةِ الجليدْ
إحدى بلادِ الأمرِكانْ.
وفجْأةً
سمعتُ صوتَهُ
مُدمْدِمًا وهادِرا
وبالضياءِ عامرا
«عزامُ.. يا عزامُ.. قُلْ
فالحفلُ كلُّه مَعَكْ
ومنصتٌ إليك.. لن يَمَل»
– يا أمةَ الإيمانْ
قد جئتكمْ.. فى جعبتى رسالةٌ
من مسلمى الأفغانْ
من أمةٍ قد أقسمتْ
أن تسحقَ الكفَرَ العتِيْ
أن تهتكَ الظلمَ الغويْ
أن تُطلعَ الفجرَ الندِيْ
فى دولةٍ دستورُها القرآنُ
زعيمُها النبيْ
سبيلها الجهادْ
والموتُ فى سبيل الله قمةُ الأملْ
وغايةُ النضالِ والزُّحوفِ والعملْ
(3)
أما اللقا الثانى فكانَ فى «إسلامَ بَادْ»
فى الجامعةْ..
للعلمِ والأدبِ الرفيعْ
والفقهِ والقلب الربيعْ
كنا هناكْ
ألقاه مبتسما فأبتسمُ
يُلقى التحية والسلامْ
ويُغِذّ نحوَ الفصلِ سيرَهْ
(4)
ثم اختفَى فسألتُ عنه
فقيل:
– لا تبحثْ هنا، وابحثْ هناكْ
– وما هناكْ؟
– حيثُ المدافعُ والخنادقُ والصخورْ
حيث الكفاحُ المرُّ يحكى ملحمَةْ
كُتِبتْ بماءِ القلبِ والأعصابِ
والأشلاءِ والعزم السعيرْ
فهناك خالدُها
وسعدٌ
والمثنَّّى
والكتيبةُ
والنذيرْ
يتقدمون بفتيةِ الأفغانِ
فى زحفٍ خطيرْ
و«عُقابُ» سيدِنا رسولِ الله
فَوقهُمو ترفرفُ كالهديرْ
ليحققوا النصرَ الكبيرْ
أو موتةً تزهو على الأكوانِ
«أنْعِمْ بالمصيرْ»!
«عزامُ» فى هذِى الكتيبِة فى بَشاورْ
أو عند «غزنةَ» أو «هرات» و«قندهارْ»
ليلاً هُنا، وهناكَ فى أَلَقِ النهارْ
(5)
وقرأتُ فى صحفِ الدعارةِ
والخيانةِ و«الدُّلارْ»:
«القدسُ مسرَى المصطفى
عزامُ يتركها يمزقُها ويحرقها اليهودْ
كيما يقاتلَ ها هنا
لم لا يجالدهمْ هناك؟
عزامُ.. يا عربيُّ
فلتجعل جهادَك للعربْ»
ويجيءُ يَا «عزام» ردُّك صاعقا:
«أنا من هنا…
وأنا كذلك من هناكْ…
أبى الإسلامُ لا أبَ لى سواهُ
إذا افتخرُوا بقيس أو تميمِ
جنسيتى الدينُ الحنيفْ
قوميتى الدينُ الحنيفْ
وولاؤنا لاثنين لا يتزعزعُ:
لإلهنا ورسولِنا
والحقُّ فى أعماقنا يتربعُ
والأرضُ أنَّى ما تكون
هى أرضُ كلِّ المسلمينْ
ما دام يسكنُها مُوَحِّدْ
القدسُ مثلُ «جلالِ بادَ» و«كابلٍ»
ودمشقُ أو بغدادُ واليمنُ السعيدُ
كقَندهارْ
والمسلمُ الحرُّ الأبيْ
إما يرى الأهواء بالقاداتِ تلْعبْ
والشهرةَ الجوفاءَ فى ساحاتها
أملاً ومطمعْ
راياتهُم عُمّيةٌ
ورياحهمْ شرقيةٌ غربيةٌ..
فى هذه الحالِ التى تُنْدِى الجبينْ
المسلمُ الحرُّ الأبيْ
لا يطمئنُ لغير راياتِ النبيْ»
(6)
سألتهمُ…
القادمينَ من هناكَ من بشاورِ
عن فارس.. عرفْتهُ.. صحبتهُ
فما غدرْ..
عاشَ الحياةَ قمةً تلامسُ القمرْ
فما انحنى.. وما انكسرْ
بل كان دائمًا
فى رحلةِ العناءِ ينتصرْ
كأنما من طينةٍ قد صيغَ
غير طينةِ البشرْ
فعالِمًا عرفْتهُ
يقينُهُ بالله والكتابِ والرسولِ
والقضاءِ والقدرْ
كموجة العبير فى نَقاوة المطرْ
أما الرضاءُ بالهوانِ عندهُ
فسقطةٌ لا تُغتفرْ
وفارسًا عرفتُهُ
إذا عزمْ..
فقد هجمْ
وإن هجمْ
فقد قصَمْ
كأنما النصر الأبيُّ
فى حياتِهِ قسَمْ
وكان بينهَ وبين شرعِة الجهادِ
مثلما قرابةِ الرحِمْ
ففى الجهادِ كِلْمتُهْ
وللجهادِ عزمتُهْ
وللجهاد غضْبتُهْ
وللجهاد ثورتُهْ
وللجهاد غُربتُهْ
وللجهادِ نومتُهْ
وللجهادِ يقْظَتهْ
سألتُهُمْ…
القادمين من بشاورِ:
وكيف ماتْ..؟!
فبعضهم أجانبى:
«كَبَا به الجوادُ فى غَيابة الغبارِ
فانكسرْ…
فحاولَ امتشاقَ سيفِِِهِ
مكبّرًا.. وراجلا…
لكنهُ القدرْ
فمقبض الحسامِ في يمينه انكسرْ
وكَفُّه كانت تجودُ بالدماءِ كالمطرْ
فقَرَّ فى مكانِهِ
ولم يفرْ
وصاح صيحةً كأنها البركانُ
والزلزالُ والنذُرْ:
«لن أنْقهرْ…
«لن أنْقِهرْ…»
ومدَّ كفَّهُ العصماءَ لابنِهِ محمدٍ
وبعدَها ماذا حَدَثْ؟
لا أعرِفُ..
فذاك غيبٌ لم أرهْ..
لكننى وجدتُ فى مكانِِهِ
حيثُ انفجرْ…
بُقَعًا منَ الدماءِ
والمضاءِ
والإباءِ
والضياءِ
تبتسمْ
(7)
لكنَّ واحدًا يقول غيرَ ما سمعتُهُ:
«رأيتُهُ فى ليلةِ الضبابِ
وهو يُبْحِرُ…
ويضربُ المجدافَ فى اللُّجِّيِّ
لا يَنى.. لا يفتُرُ
والموجُ فوقَ الموجِ
مظلمُ الأحشاءِ
ظالمٌ.. مدمرُ
لكنَّهُ – رأيتُهُ –
يعاندُ الرياحَ والتيارَ
والصخورَ والدُّجَى
يَمْضى…
ويضربُ المجدافَ فى اللُّجِّيْ
بعزمه الصخريْ
ناديتُهُ فى فزعةٍ ملتاعةٍ
جريحةِ الصدَى
والظلمةُ العصوفُ تستبدُّ
والموتُ فى أحشائِها
معربدًا يمتدُّ…
«عزامُ.. يا عزامُ..
كيفَ تعاندُ؟!
لا تبحرَنَّ ضِدَّهُ…
فإنهُ معربدٌ.. وفاجرُ
أوْ دعْهُما: محمدًا وإبراهيمَ
فى الضفافِ
للحياةِ والشباب والأملْ»
لكنهُ بابنيهِ قد أصرَّ أن يمرْ
وساخِرا..
من الضباب والظلامِ والتيارِ.. مَرْ
سمعتُهُ مهللا مكبِّرا
من خلفِ جدران الضبابِ القاتم
«الله أكبرُ…
قد وصلْنا…
لا تُرَعْ
لا تركنَنَّ للهمومِ.. والفَزَعْ»
وفجأة.. صَمَتْ.. صَمَتْ..
ناديتُهُ.. فما سَمِعْ
وما سمعْتْ
لكننى..
علمتُ أن صخرةً سوداءَ
كالظلامِ.. خائنةْ
قد حطَّمَتْ سفينتَهْ
ومزقتْ شراعَهُ
وبعثرتْ دماءهُ
فأعجزتْ دفاعَهُ
وبعدَها…
رأَوْا هناكَ فى الظلامِ
فى مكانِهِ حيثُ انفجرْ
بُقَعا من الدماءِ
والمضاءِ
والإباءِ
والضياءِ
تبتسمْ
(8)
أما أنا
فإننى رأيتُهُ
نحو السماء صاعدًا وراقِيا
حاولتُ أن ألاحقَهْ
وأدرِكَهْ
لم أستطعْ
فقد دهانِيَ اللهاثُ
والإعياءُ والوهَنْ
ألسْتُ فى غيابةِ العبيدِ مرتَهنْ
تشدّنى للقاع والضياعِ طينَتى
مجنونةً عطشَى لظلٍّ زائل
فى دُنْيتى..؟
لذاك تاهتْ صيحتى…
رأيتُهُ
وفى يمينِهِ عزيزُه محمدٌ
وفى يساره الحبيبُ إبراهيْمْ
وصوتهم تكبيرةٌ علويةٌ:
«الله أكبرُ يا صحابْ..
جئنا لها..
فزْنا بها..»
ناديتُهُ:
«مهلا.. أبا محمدٍ..
خذنى معك..
لكنه فى سرعة الضياء
راحَ وانطلقْ
مجاوزًا نهرَ المجرةِ والفَلَكْ
لسُدَّة علويةٍ
أرقى من الأقطارِ والسماءِ
لا تحدّها مشاعرٌ ولا بصرْ
وخلفَهُ
رأيتُ شلالا من الدمِ الزكِيِّ
والمضاءِ
والإباءِ
والعلاءِ
والضياءِ
يبتسمْ..
اترك تعليقاً