img
يومياتي في أمريكا: بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم (24)
img
Print pagePDF pageEmail page

يومياتي في أمريكا:

بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم

 (24)

سعيا إلى الله بغير زاد

أسجل يوميتي هذه مساء الجمعة 16 من إبريل سنة 1982 . وقبل أن أعرض المضمون الرئيسي في الحلقة أشير إلى أمرين :

الأول أن الجليد يوم 6 /4/1982 غطى الأرض وظل يهطل في غزارة لم أشهدها من قبل … الجو هائل جدا … وقد بدأت العاصفة الثلجية تعوي في شدة وعنف ، ونعطلت المدارس في هذا اليوم ، وأغلقت الحوانيت أبوابها ، وبعضها علق لافتة    أي مغلق بسبب العاصفة  (closed because of the blizzard)  كتب عليها

 الثلجية ، الجليد يندفع بشدة مائلا ناحية الجنوب ، الريح تزأر وتنطلق في شكل موجات ودوامات دخانية . الجليد غطى جوانب كثيرة من زجاج نوافذ مسكني من الخارج ، وأصبح الشغل الشاغل لكل موجات التلفاز الآن نقل أخبار العاصفة الثلجية العاتية .

وفي اليوم التالي على التوالي عطلت المدارس بسبب العاصفة الثلجية .  

***********

 أما الثاني فهو يوم ميلادي ( الاثنين 12 / 4 / 1982 ) . وهذا معناه أنه قد مضى من عمري حتى الآن ثمان وأربعون سنة ، وقد جلست أتسلى بالألة الحاسبة لأعرف مقدار عمري تفصيلا .  وخرجت بالآتي :

48 سنة = 576 شهرا = 17532 يوما = 420768 ساعة = 25246580 دقيقة .

هذه الأعوام الطويلة كم حملت من الحلو والمر ، والسعادة والشقاء … وكم … وكم.

في حياتي رحل كثيرا من أهلي وأقاربي إلى العالم الآخر … فمن الذين رحلوا في حياتي عما والدي : الحاج أحمد والحاج إبراهيم قميحة ، ورحل عماي الوحيدان مسعد وعبده ، ورحلت عمتي فاطمة ، ورحل من أصهاري حماي الحاج عاشور وزوجته الحاجة فاطمة ،وشقيقها عبده الشامي ، وعديلي سعد عسل في حادث سيارة بلندن . ومن إخوتي وأشقائي : أحمد ونبوية وأمينة ، ثم والدي ووالدتي ، ومن أبناء عمي محمد مسعد قميحة ونجية مختار قميحة . ومحبوبة إبراهيم قميحة ، وشقيقتها فهيمة .

هؤلاء هم أهم الأقارب الذين ماتوا خلال ال 48 سنة التى عشتها .

وأنا أدعوا الله سبحانه وتعالى أن يحقق أهدافي الآتية :

1- إسعاد أسرتي : زوجتي وأبنائي وبناتي : لمياء وياسر وحنان وعبير وسامح .

2- خدمة الإسلام بالفكر والقلم بخاصة . إنني أدعوا الله أن يمنحني القوة والقدرة لتحقيق هذين الهدفين ، كما أدعوه أن يذلل طريقي من كل صعب ، وأن يفتح لي إلى الخير سبيلا ، وأن يخذل عني أعدائي .

 ***********

أما الرئيسي في هذه اليومية فهو إتصال الأخ نبيل سرور بي هاتفيا ليخبرني بإعدام ألخماسي : خالد الإسلامبولي وإخوانه فجر أمس الأول .وأنهى إلي التفاصيل الآتية

1- تم الإعدام فجرا : ثلاثة بالشنق ، واثنان رميا بالرصاص .

2- رفض الجنود ــ أو بعضهم ــ إطلاق الرصاص ، فأخرج الضابط مسدسه وقام بالمهمة .

3- لم يطلب الخماسي قبل الشهادة إلا القيام بالصلاة .

4- تمت المسألة في تكتم شديد أثناء زيارة شارون لمصر ، ومما يدل على ذلك أن ” مجموعة المحامين ” عن الخماسي توجهت إلى جهة رسمية لتقديم التماس بتخفيف العقوبة ، أو إعادة المحاكمة ، على أن تكون جهرية ، ويستجاب فيها لطلبات الدفاع وخصوصا بالنسبة لأحضار بعض الشهود ، فتلقوا الجواب من المسئول الكبير ” إن الخماسي الآن في جوار الله ” .

5- لم تسلم الجثث إلي أهالي الشهداء ، ولكنها دفنت في مكان مجهول ، لم يعدّ أصلا ليكون مقبرة ، ولم توضع علامات تدل على وجود موتي في هذا المكان .        .  (unmarked place والتعبير الذي ذكر أنهم دفنوا في  َ(

6- لم يحضر أحدا من الصحفيين أو المصورين عملية الإعدام .

وبذلك يكون هذا العهد ” المباركي ” قد ارتكب ” جرائم رائدة ” ، ليس لها سوابق في تاريخ الحكم المصري، والمحاكمات المصرية حتى في العهد الاستعماري ومحاكمات دنشواي .

ومن هذه السوابق الرائدة آلتي تمثل عارا في تاريخنا :

1- سرية المحاكمة .

 2- التضييق على الدفاع ، وعدم تحقيق رغباته .

3- التعجيل بتنفيذ الحكم .

4- إخفاء الجثث وعدم تسليمها لأهالي المحكوم عليهم .

ومقتضى كل أولئك أن سنوات عصيبة قاتلة ستمر بالبلد ، وأن نزيف الدم قد يتحول إلى سيل دافق لا يعلم إلا الله مداه .

***********

 وقرأت الخبر ونقلت مقتطفات منه من جريدة     

New Haven Register                          April 1 / 5 / 1982

وكان العنوان في الصفحة الأولى :

Egypt executes five Sadat assassins.

   Cairo, Egypt (u . p . I ) Five Moslem  zealots convicted in the  assassination  of  President Anwar sadat  were  executed today  , tow soldiers by firing squad and three civilians by hanging …….

   ” Too late they are already with God “. an army officer told defense attorneys who gathered this morning to submit a new petition  at the prison compound where the men were being held …..

….The sentences were carried out after they were endorsed by  President Hosni Mubarak  , who rejected petitions of clemency and ignored reported reprisal threats by Moslems extremists who regard Sadist’s  killers as national

Heroes

مصر تعدم قتلة السادات الخمسة

أعدم اليوم خمسة المسلمين المتطرفين المتعصبين الذين أدينوا في اغتيال الرئيس أنور السادات : ومنهم اثنان عسكريان أعدما رميا بالرصاص ، وثلاثة مدنيون أعدموا شنقا .

” لقد تأخرتم كثيرا ( فات الآوان ) إنهم الآن في جوار الله ” كان هذا ما أنهاه ضابط الجيش لمحامي الدفاع عن المتهمين الذين اجتمعوا في الصباح لتسليم إلتماس جديد في مقر السجن الذي ينزل به المتهمون . لقد نفذت الأحكام بعد أن صدق عليها الرئيس حسني مبارك ، الذي رفض إلتماسات تطلب الرأفة والتخفيف من الأحكام الصادرة ، كما تجاهل ما أعلن وأشيع من تهديدات بالثأر والانتقام بوساطة المسلمين المتطرفين الذين يعتبرون قتلة السادات ابطالا .

ويلاحظ على النص الإنجليزي ــ مع أنه مجرد خبر ـ ما يأتي :  

  )Egypt executes(  1- نسبة تنفيذ الأحكام إلى مصر لا إلى الحكومة المصرية

      كأنما قتل السادات كان موجها ــ لا إلى شخص من الأشخاص ــ ولكن إلى وطن بأسره .

2- الشدة والبذاءة والوقاحة في وصف الذين صرعوا السادات فهم :

أ –     assassins ومعناها في الإنجليزية القتلة المستأجرون ، أو المتعصبون الذين يتلذذون بسفك الدماء    .

ب –  zealots  : وهي تعني المتحمسين المتعصبين , ولها معنى تاريخي هو :

         جماعة اليهود الذين قاوموا سيطرة الرومان على فلسطين قديما .

ج – وكذلك الآمر في وصف المسلمين الذين قيموا مصرع السادات تقييمه السليم ،

       فقد وصفتهم الصحيفة بأنهم (   extremists  ) . أي متطرفون متعصبون .

************

ومما قلته موجها إلى الخماسي الشهيد :

يا خالد يا اسْلامبولي.. يا أنشودة فخرْ

يا مطلعَ فجر.

دفنوكم في قبر مجهول

حتى لا يصبح هذا القبرُ مزارْ

يا ويلهمو

والأُم الثكْلى

أمك يا خالدْ

ماذا تفعل حين تريد زيارة قبر الابن المظلوم؟

والأب الشيخ؟!

ماذا يفعل حين يريد قراءة فاتحة القرآنِ

لروح الابن

أو يروي القبرَ

بدمع يطفئ بعض لهيب القلْبْ

هل يقرأها في الصحراءْ ؟

أم يتلوها فوق الماء؟

أم يصعد كل جبال الكونِ

ليقرأ فاتحة القرآنْ ؟

أم يحفر كل تراب الأرضْ

بحثًا عن جسد مدفونٍ

في قبر مجهول؟

قولوا

قولوا يا جلادي مصرْ

قولوا يا سفاحي العصرْ؟

ماذا تفعل أم أكلتْها الأيامْ ؟

ماذا يفعل هذا الأب

يا ولدي

ما بقيت منه غير عظامْ ؟

يا خالد يا اسلامبولي

يا أنشودة فخرْ

يا مطلع فجر

دفنوكم في قبرٍ مجهولْ

حتى لا يصبح هذا القبر مزارْ

يا ويلهمو

يا ويل الجاهلِ

أعني من حاكمكم

أو أعدمكم

أو من يرأس من حاكمكم

أو أعدمكم.

إن الحق كشمس تسطعْ

دومًا تسطع

لا تنطفئ بألف قرارْ

قد يأتي غيم يحجبها

وإلى حين قد يحجبها

لكن الشمس تمزقهُ

وتبددهُ

دفنوكم في قبر مجهول

حتى لا يصبح هذا القبر مزار

ما أجهلهم !!

ما أجبنهم !!

***********

أما الشباب المسلم في أمريكا فقد أرسلوا إلى رئيس الجمهورية رسالة بالعربية والإنجليزية نصها :

( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169 ) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (172 ) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ( 173 )  آل عمران  169 – 173

Mr. Hosni Mubarak  :

 The five honorable martyrs murdered April 15 /1982 are alive in Allah’s heaven and in hearts of hundreds of millions of Moslems . By killing these five great men you stained the honor of Islam with their blood and you gave birth to millions of other men who will oppose you and fight the treachery you represent . after witnessing Sadat execution you insist on following that tyrant’s path because a non-believer like you  cannot reconsider his decadent conduct .

You may escape the people’s bullets as you hide under the ceiling of Aruba Palace , but Allah justice will reach you wherever you go . May the curse of Allah be on you in this life and in the life to come .

                                                                                                                                                        The Moslem Community

North Eastern  . U.S.A               

               

***********

الجمعة 16 من إبريل 1982

قطرات نفس

موت يهب الحياة

الشاعر الفلسطيني أبو الطيب عبد الرحيم محمود (1913 – 1947م) الذي استشهد وهو يقاتل الصهاينة في موقعة الشجرة, هذاالشاعر البطل الشهيد عرفته شعرًا قبل أن أعرفه شاعرًا, عرفته كلمات قبل أن أعرفه رجلاً وإنسانًا, ففي أواخر الأربعينيات – ونحن تلاميذ صغار في المرحلة الابتدائية – كنا نتغني بكلماته القوية الرنانة الآسرة:

سأحمل روحي علي راحتي

وأُلقي بها في مهاوي الردَي

فإما حياة تسر الصديق

وإما ممات يغيظ العدي

كنا نردد هذه الكلمات – دون أن تنسب لقائلها, ولو نسبتٍ فلن يغني ذلك شيئًا» فما كان منا أحد – في هذه السن الباكرة – يعرف من هو عبد الرحيم محمود, وما كان أساتذتنا يقفون قصيرًا أو طويلاً إلا أمام الأسماء المتوهجة المشهورة, من أمثال أحمد شوقي, وحافظ إبراهيموخليل مطران, وإيليا أبي ماضي, وأحمد محرم.

كانت مأساة فلسطين في تلك الأيام في بداية نضجها المنكود: ولدت إسرائيل بعد مخاض اشترك فيه الاحتلال الإنجليزي,والصهيونية, والصليبية العالمية, والتقاعس العربي, وظلت أبيات عبد الرحيم محمود رنينًا في أذنيّ ذا عبق خاص, ونكهة غريبة, تختلف عما أجده في شعر الحماسة والوطنية الذي كنا نحفظه في هذه المرحلة. وكان تأثير البيت الأول أقوي في نفسي من تأثير البيت الثاني, لأني لم أكن مقتنعًا بمضمون شطره الثاني, وكنت أتحدث إلي نفسي: حياة تسر الصديق.. نعم, ولكن ممات يغيظ العدَي كيف? كيف.. والأعداء يسرهم أن يموت كل مواطن مناضل, وكل مكافح شريف. ؟

ثم تمر الأيام, واكتشف المعني الكبير الخالد في مثل هذا الممات الذي يغيظ الأعداء, ويثيرهم, ويحزنهم, بل يزلزل أركانهم, ويقوض بنياتهم, إنه الموت «الخالق البنّاء».. الموت المشًّيد المعٍلي, الموت الباعث الناشر, هو الموت الذي كشف أحمد شوقي عن مفهومه الجليل العظيم في قوله:

ولا يبني الممالك كالضحايا

ولا يدني الحقوق ولا يحقُ

ففي القتلي لأجيال حياة

وفي الأسري فديً لهمو وعتقُ

إنه مفهوم علوي يسبح في أفق قوله تعالي: {يخرج الحي من الميت}[الأنعام: 95], نعم.. لا بد من موت بالقوة, والحق, والثبات, ولو «مات» مثل هذا الموت, لماتت مثل هذه الحياة.

وبذلك استطعت أن أسبح في هذا الأفق بوجدانيقبل أن أعيشه بعقلي. ثم أهتدي للتفسير الذي كفاني وشفاني, تفسير ذلك «الموت الذي يغيظ العدى», وعرفت كيف تنتصر الحياة بمثل هذا الموت, وعرفت أن الحقيقة التاريخية التي لا تطمس تتلخص في أن الانتصارات الكبري تعتمد علي هؤلاء الذين تقدموا الصفوفوقادوا الرجال, وجادوا بالنفوس, ومضوا في التاريخ شعلات, وقدٍوات تتفجر منها حيوات خالدات, تبني, وتعلي, ولا تموت.

إنها كلمات لا تحتمل الكذب أو التكذيب, كلمات تعكسها, وتجسدها – في قوة وأمانة – الانتفاضة الفلسطينية المباركة, ففي كل يوم تسيل دماء, ويسقط شهداء من الرجال والنساء والأطفال, وتنسف بيوت, وتحرق مزارع. وكل هذه التضحيات في مواجهات غير متكافئة, ومع ذلك زرعت الرعب في قلوب الصهاينة, وأطارت النوم من عيونهم, وجعلت أبناء الشعب الفلسطيني يدركون, ويؤمنون أنه لا حل لقضيتهم إلا بالحجر والرشاش, ومزيد من الدماء والشهداء.

فليخرس المطبعون من أذناب الثور الأمريكي, وليخرس طلاب الدنيا والأرصدة المتضخمة من رجال السلطة الفلسطينية وأشياعهم الذين يدعون الشعب الفلسطيني المناضل إلي السكينة والهدوء, وإلقاء السلاحو«نبذ العنف», حرصًا علي السلام والسلامة, وحقنا للدماء, ليخرس هؤلاء جميعًا, فلا مكان لهم في مسيرة النضال.. مسيرة الموت الشريف, من أجل ميلاد جديد لحياة الكرامةوكرامة الحياة. 

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img