img
يومياتي في أمريكا: بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم (5)
img
Print pagePDF pageEmail page

يومياتي في أمريكا:

بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم

(5)

في نيويورك وأغرب شارع في العالم

ـــــــــــــــــــــــــــ

ولاية نيويورك ، إحدى الولايات الأمريكية المطلة على المحيط الأطلسي وأولى الولايات من حيث عدد السكان حتى عام 1960 , تجاوركندا في الشمال والغرب , وتحيط بها خمس ولايات أمريكية هي بنسلفانيا ونيوجيرسي فى الجنوب , ثم كونكتيكت وماساشوزتس وفرمونت في الشرق .

كانت مستعمرة هولندية خلال القرن 17 , واستولت عليها انجلترا عام 1662 وأعلنت استقلالها في إبريل 1777 , ويرجع دستورها إلى هذا التاريخ(133 تعديلا ), وفي عام 1788 انضمت إلى الاتحاد فأصبحت الولاية 13 .

مدينة نيويورك ، العاصمة الاقتصادية للولايات المتحدة ( العاصمة الرسمية واشنجتون ) وأكبر مدنها من حيث عدد السكان والثروة القومية ، ونيويورك الكبرى كانت تعتبر الأولى في العالم من ناحية عدد السكان . تليها مكسيكو ستي . ثم طوكيو. وكانت تطل على المحيط الأطلسي عند ملتقى مصب نهري الهدسون وايست ، كما يشمل عمرانها جزيرة ” مانهاتن ” التي اشتراها المستعمرون الهولنديون من الهندود الحمر عام1616 بما قيمته 26 دولارا ، تبلغ مساحتها حاليا 365 م. م

تقسم نيويورك إداريا إلى خمسة أحياء كبرى هي ( حسب احصاء 1970) ، مانهاتن ، برونكس , بروكلن , كوين , ريتشموند . ويعتبر ميناؤها أنشط مواني العالم حركة ، وعند مدخل الميناء الداخلي أقيم تمثال الحرية على جزيرة ستاشن الصغيرة .

وأهم معلم من معالم نيويورك ” تمثال الحرية ” , وهو تمثال ضخم صنعه المثال الفرنسي ” بارتولدي ” , تخليدا لذكرى الثورتين الفرنسية والأمريكية . وارنفاعه يبلغ 46 مترا . وقد صنع من النحاس على هيئة امرأة تحمل في يدها شعلة . ويبلغ ارتفاع القاعدة 45 مترا . أهدته الرابطة ” الفرنسية ـ الأمريكية ” للولايات المتحدة سنة 1884 م. وأصبح تمثالا قوميا منذ سنة 1924 م.

**********

 ولنترك كل ذلك مؤقتا لنذهب إلي نيويورك ومشاهدها وأغرب شارع في العالم .

اليوم هو 5 11 1981م. ، وهو يوم لا ينسى ، وقد انطلقتُ أنا وصديق من العرب الأمريكان بسيارته من ” نيوهافن ” إلى نيويورك ، وبعد ساعتين وصلنا إليها ، وبدأنا جولاتنا بحي ” بروكلن ” , وفيه ، تقيم جالية عربية وإسلامية كبيرة , ثم انطلقنا إلى حي ” مانهاتن ” حيث يوجد ” التونز”Twins أي التوأمان ، وهما ناطحتا سحاب ، وارتفاع كل منهما 107 ادوار , وهما متماثلتان تماما ، لذلك أطلق عليهما هذا الاسم ، أما الاسم الآخر فهو ” مركز التجارة العالمي ” . ورسم الصعود إلي الدور الأعلى دولاران وربع . يصل المصعد إلى الدور الأعلى بعد دقيقة واحدة .. أي بسرعة رهيبة ، شعرنا اثناؤها بشىء من الدوار ، وضعف مفاجئ طارىء في السمع كأننا نستقل طائرة . ومن الدور الأعلى انكشفت لنا نيويورك كلها . هناك من بعيد عدد من ناطحات السحاب ، أما العمارات فإني ما أراها إلا كعلب الكبريت . والسيارات كنمل أو خنافس تمشي في الشونارع ببطء شديد جدا .

 وأقول : سبحان مغير الأحوال ، كانت أعلى ناطحة سحاب في نيويورك – بل أمريكا كلها – هي ناطحة امبايرستيت Impire State ثم قامت ناطحتان ” التونس ” Twins المتماثلتان ، وكل منهما أعلى من ” الأمباير ستيت ” بعدة أدوار ، فنسيها الناس وتحول اهتمام الدولة والناس إألى التونْس . ألست معي في أنه شاهد يمثل قاعدة عامة تصدق على الناس والزعماء والمنازل وأنواع الطعام والعقائد والأفكار … الخ.

 فعلينا جميعا أن نقول : سبحان مغير الأحوال ، والبقاء للأصلح دائما . ثم ألست معي في أن النفس بفطرتها تميل إلى التجديد , أو على الأقل تميل إلى التغيير والتنويع ؟ وصدق المثل الذي يقول : إن في التنويع متعة حتى في الهموم .

**********

والمناظير المكبرة موزعة مثبتة على سور الدور الأعلى ، ويرى الناظرمن واحد منها المشهد الأرضي الذي يريده كأنه أمامه بحجمه الطبيعي . وفي الجزيرة النائية يقف تمثال الحرية Statue of Liberty وأمامه آلاف السيارات ما بين واقفة ومنطلقة .

ومن حقك – يا قارئي– أن تعجب … بل تذهل , وأنت تسائل نفسك : أمريكا ترفع تمثالا لإنسان يرفع بيده شعلة الحرية والنهضة والنور لا لشعبها فحسب ، ولكن لشعوب العالم كله . ولكن التمثال ـ للأسف الأسيف ـ فقد دلالته ، فأمريكا كانت ومازالت هي بؤرة الاستعباد والظلم والنهب والاستغلال , ولن أحدثك عن مآسي الزنوج في أمريكا ، فهو تاريخ معروف مشهور .

ولاننسى أن الرئيس الأمريكي هارى ترومان ( 1884-1972) ـ وهو الذي ألقيت في عهده القنبلة الذرية على اليابان ـ يعتبر من أكبر نصراء الصهيونية وإسرائيل ، وكان أسرع الرؤساء اعترافا بها ، فيقال إنه اعترف بها بعد إعلان ميلادها بأربع دقائق . فقال له بعض عقلاء الساسة الأمريكان : إن عملك هذا سيغضب العرب . فرد على الفور : خبروني كم صوتا للعرب في الكونجرس الأمريكي؟

فالسياسة في نظره لامكان للقيم الإنسانية فيها ، ولكنها تقوم على النفعية والمصلحة الذاتية , والهيمنة والتعالي .

وبعد ترومان كان حكام الولايات المتحدة ، ومؤسساتها الرسمية أقوى سند لإسرائيل . أما عداوتها للعرب والمسلمين وخصوصا في عهد بوش فأظهر من أن نقف عنده . ومع ذلك يرفعون للحرية تمثالا، ويعتبرون تمثالهم هذا أهم معلم من معالم الولايات المتحدة .

ويقفز إلى خاطري واقعة لا أنساها مع أنه قد مضى عليها عشرات من السنين . وخلاصتها أن الفليسوف الإيرلندي جورج برنارد شو زار القاهرة وصحبه بعض مسئولي السياحة لمشاهدة الأهرام , وصعد جزءا كبيرا من الهرم الأكبر ، وأطال النظر إلى بعض القرى التي تقع حول الأهرام وخصوصا قرية نزلة السمان , وكل بيوتها مقام بالصفيح والقش . ثم سأله الصحفيون : ما أنطباعك عن الهرم الأكبر بعد أن تسلقت كثيرا من درجاته ؟ فأجاب : هناك أمر واحد فقط أنبه إليه وهو : إذا أراد المصريون تحقيق مجدهم الحقيقي فعليهم أن يهدموا الأهرامات ، ويبنوا بحجارتها مساكن للمساكين سكان الجحور والعشش الصفيح والقش .

وأقول للرئيس بوش الأب الروحي والمادي للصيونية وإسرائيل . وعدو العرب والمسلمين إن من حق الشعوب التي ظلمتموها وطحنتموها أن تزحف , وتنزع تمثال الحرية من مكانه ، وتصهره , وتحوله إلى رصاص , أو كرات ترجمكم بها ، أنتم وأذنابكم من القادة والحكام الذين يسجدون لكم ويظلمون شعوبهم ، ويخلصون الودلإسرائيل والصهاينة .

************

 وبعدها هبطت أنا وصاحبي إلى الدور الأرضي ، وتجولنا في أرجاء المدينة الكبيرة ، ورأينا مبنى الأمم المتحدة : المبنى الذي شهد اتفاقات … واختلافات ، واجتماعات ومؤامرات .

وشوارع نيويورك مرقمة , أي أن كل شارع يحمل رقما لا اسما من الأسماء ، والأرقام متتالية ، ومن ثم تستطيع بسهولة أن تصل إلى العنوان الذي تريده .

قلت لصاحبي يكفي ما أنجزناه اليوم ، واعتقد أنه حان وقت العودة إلى مساكننا ….. ضحك صاحبي وقال : إن كان كل ما شهدناه مهما فإن هناك الأهم .

الأهم ؟

نعم .. شارع 42 … إذا لم تره فهذا يعني أنك لم تر الوجه الحقيقي لأمريكا.

 كان الوقت قد جاوز الغروب بقرابة ساعة , ونحن نتجه إلى شارع 42 ، ” وركن ” صاحبي سيارته قرب مدخل الشارع الذي كان يسبح في الأضواء حتى يعتقد الناظر أنه يرى قطعة متوهجة من النهار .

 وبدأنا خطواتنا الأولى في الشارع ، فشد نظري عشرات من العسكر تمتطي الخيول موزعة على الشارع ، وكل جندي فارس من هؤلاء يتمتع بقامة فارعة ، وقوة تكاد تفيض من وجهه وعينيه ، وقد جهز تجهيزا كاملا : المسدس ، العصا الكهربية ، جهاز اللاسلكي ، الكلبشات ( القيد الحديدي ) .. الخ .

 قلت لصاحبي : منظر غريب جدا !!! هل نحن في ميدان قتال ؟؟ وقف صاحبي وقال سترى ما هو أغرب من ذلك بكثير . أنظر إلى الرصيف الآخر ؟

لم أر إلا مجموعتين من الشباب كل مجموعة من قرابة عشرة شبان ، وبين المجموعتين مسافة لاتزيد على سبعة أمتار . وهناك شاب يتـنقل بين المجموعتين عدة مرات ، ويتحدث إلى كل مجموعة لدقائق .

قلت لصاحبيى… منظر عادي لاغربة فيه

صبرا … فبعد دقائق تبدأ الحرب .. إذا ابتعد هذا الشاب عن الرصيف ، ونظر إلى المجمو عتين من مكان قريب .

 وصدق صاحبي : فقد بدأت الحرب باستعمال الأيدى والأرجل والرؤوس .. كل ذلك في خفة وسرعة وقوة .. ومن شدة التضارب سالت دماء ، وسقط قرابة ستة من المتضاربين ، والأورام تغطي عيونهم , والدماء تسيل من أفواهم . كل ذلك دار بعيدا عن عيون العسكر الفرسان . ولكن واحدا منهم لمح المعركة من بعيد ، فأخذ يصفر بصفارته . وهنا بدأت مرحلة الفرار الصاروخي , ولم يبق على الرصيف إلا ستة من الفريقين مثخنين بالجراح والكدمات والتورمات , وفي لحظة جاءت سيارة الإسعاف وحملتهم .

 قلت لصاحبي : فئتان تتقاتلان بوحشية أدت إلى إراقة الدماء ، فما الهدف ؟ ولماذا اختيار هذه الوسيلة لتحقيق هذا الهدف ؟ .

سأشرح لك مارأيت بايجاز شديد: ما رأيت أسميه” القتال او التضارب الأبيض ” لسببين :

الأول : أنه لم يستعمل فيه أى نوع من انواع الأسلحة .

الثاني : أن وراءه هدفا نبيلا . أو على الأقل هدفا لا غضاضة فيه ، وهو بذل أقصى ما يمكن بذله من جهد . والهدف هو التخلص من الطاقة الزائدة – كما يعتقدون :

وهذا الشاب الذي كان يسعى بين الفريقين ؟؟

هذا هو الحكم .. ويسعى بين الفريقين لإعطاء أوامر محددة منها :

1- عدم استعمل السلاح .

2- اذا سقط الخصم على الأرض يجب ألا يمسه أحد .

3- اذا وقع واحد من الفريقين في يد الشرطة الفرسان فيجب ألا يذكر اسم واحد من فريقه أو الفريق الخصم .

**********

وواصلنا التجوال في الشارع ، فرأينا بعض من يسيرون على الأرصفة … يتطوحون ورائحة الخمر تتصاعد من أفواههم ، وفي يد كل منهم زجاجة خمر يعب منها , ولكنها ” مستورة ” في كيس ورقي سميك ، لأن القانون هنا لايمنع الشرب والسكر ، ولكن يحرم الجهر بهما , وهذا هو سبب إخفاء زجاجة الخمر في كيس يسترها ..

 ورأينا كيف بلغ السكر بأحدهم أقصى مداه , فسقط لايعي مما حوله شيئا … وتعْـجَل سيارة الإسعاف بحمله إلى مركزالعلاج .

 وعلى الأرصفة عدد كبير من المصورين بآلات التصوير الصندوقية الكبيرة ذات القوائم الثلاثة , التي نرى مثلها فى مصر أمام المحاكم والمجمعات الحكومية ، ومع كل مصور ” موديل بشري ” يتمثل في فتاة عليها غلالة رقيقة جدا… شفافة جدا .. ومن حق ” الزبون ” أن يتصور معها في أي وضع يشاء .

 وعلى كل الارصفة ترى شبانا أغلبهم من السود . وهم يعلنون عن بضاعتهم المخفيةSmoking Smoking . وهو إعلان عن قطع الحشيش والأفيون ، وحبوب الهلوسة . ولم يخل الشارع من ” لاعبي الـ 3 ورقات ” كما نرى في مصر .

    أما الذي يثير الغثيان والقرف حقيقة فمشهدان :

الأول : الأفيشات الضخمة على واجهات بعض المسارح . وعليها صورة ضخمة لعملية الشذوذ الجنسي ” اللواط” ويقال – والعهدة على الراوي- أنها تقدم عمليا كنمرة من النمر التي تقدم على المسرح .

 وزاد شعوري بالغثيان ، وأنا أتذكر حقيقة علمية لاينكرها أحد وهي أن الإنسان هو الجنس الوحيد الذي يزاول الشذوذ الجنسي ، ولا وجود للشذوذ عند أي نوع من الحيوانات أو الحشرات .

والمشهد الثاني : في الحوانيت التي تبيع نماذج الأجهزة التناسلية الخاصة بالجنسين بأحجام وألوان مختلفة ، ولكن التقليد متقن بصورة مذهلة ، حتي ليخيل للرائي أنها طبيعية …, ووقفنا طويلا أمام المعروض منها ، فلاحظ صاحب المحل ذلك ، فنهض من وراء مكتبه وسألنا ، أي مقاس تريدان What Size ? , فرد صاحبي على الفور : جئنا لا لنشتري منك ، ولكن لنبيع لك .

قلت لصاحبي : لقد قسوت علي الرجل في ردك …

لا لم أقْـسُ لأن سؤاله يوحي باعتقاده أننا من الشواذ جنسيا .. والأجهزة الذكورية لا يشتريها إلا أمثال هؤلاء حرصا على ” الارتواء الجنسي ” ، وللجهاز قاعدة في حجم نصف الكف تعمل بالبطاريات ، ويركب فيها الجهاز الذكوري ليعطي درجة الحرارة المطلوبة .

 ونتجول في الشارع الذي يسبح في الأنوار ويسهر طيلة الليل , وأكثر ما فيه محلات الألكترونيات : أجهزة الراديو والتسجيل وغيرها ، وبأسعار لاتزيد على نصف أسعار المدن الأخرى , وهممت أن أشتري جهاز تسجيل , فصرخ صاحبي :

لاتفعل .

ولماذا ؟

 ــ كل هذه الاجهزة مغشوشة من الداخل .

لكن البائع سيجربه أمامي .

نعم … وسيعمل بحالة طيبة … ولكن لمدة لاتزيد على يومين , فمن أهم صفات شارع 42 الغش المتقن والتزييف المتميز .

 **********

وغادرنا الشارع الملعون , وانطلقنا عائدين إلى ” نيوهافن ” وفي الطريق قطع صاحبي الصمت قائلا :

ــ هيه …… أعتقد أنني لم أبالغ عندما أخبرتك أن الشارع 42 يمثل الوجه الحقيقي لأمريكا ؟

ــ لا مبالغة … وخصوصا في الجانب السياسي :فمشاهد هذا الشارع تكاد تكون تمثيلا حيا لمفردات السياسة الأمريكية بكل ما تحمله من سقوط , ودعارة , وغش , وتزييف .

وفي مسكني بنيوهافن ألقيت بنفسي على سريري كجثة صيغت من الألم . وطارَدَتني في منامي الكوابيس أشباحا كالحة … تجري , وتطير , وتغيب عن النظر , ثم تعود يخرج من عيونها وأفواهها دخان كثيف , وهي تصرخ بصوت دميم : سْـموكنج….سْـموكنج….سْـموكنج .

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img