img
يومياتي في أمريكا: بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم (49)
img
Print pagePDF pageEmail page

يومياتي في أمريكا:

بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم

(49)

الجمعة الأخيرة في أمريكا

الجمعة 4 من المحرم 1403   (22  من اكتوبر   1982)   

في التاسعة من صباح اليوم انطلقت أنا والأخ إبراهيم المعتاز إلى وسط المدينة واشترينا حقيبة خامسة لتستوعب ما تبقى من أشياء متناثرة في أرجاء حجرتي .

وحتى الثانية عشرة وأنا أحاول أن أجمع في الحقيبة أقصى ما أستطيع ، وضغطت عليها بكل ثقلي حتى تمزق جزء من جابنها . وكنت بالأمس ، وأمس الأول أعمل عملا دائبا في شقتي لأكمل ” تستيف ” حقائبي . ونظرت إلى ذلك التل العالي من الكتب والملابس ، والحقائب ، ولعب الأطفال ، وقلت في نفسي متى تنتهي هذه الكارثة … أعني ملء هذه الحقائب بما عندي ، وحاولت وحاولت وأخذت أعمل بجد ونشاط … ملأت ثلاث حقائب . لا حول ولا قوة إلا بالله . لابد من حقيبة رابعة .

وفي الرابعة والربع مساء انطلقت أنا والأخ إبراهيم إلى وسط البلد واشترينا الحقيبة الرابعة ، لقد امتلأت أيضا مما دفعني إلى شراء حقيبة خامسة .

في هذا اليوم ( 22 من أكتوبر 1982 ) انطلقت مع الأخ إبراهيم إلى المسجد وخطبت خطبة الجمعة ، وأممت المصلين،إنها آخر جمعة لي في الولايات المتحدة .

ودارت الخطبة على محوريين أساسيين هما :

1-  لماذا هاجر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة .

2-  لكل حدث في التاريخ الإسلامي مكانه من رقعة هذا التاريخ ، وكل هذه الأحداث تتلاحم لتكون نسيج هذا التاريخ . وهي مرتبة ترتيبا ربانيا يجعل كل حدث منها يؤتي ثماره ونتائجه المرجوة ، يستوي في ذلك بدر وأحد والخندق وحنين … الخ .

وخرجتُ من الفكرة الثانية لأخلص إلى أن الزمن ليس له قوة فاعلة ، إنما الزمن بما فيه ومن فيه . لذلك ليس من الإسلام أن يلقي المسلم بمسئولية إخفاقه على الزمن . وقد صدق الشاعر إذ قال :

نعيب زماننا والعيب فينا        وما لزماننا عيب سوانا

وجاء في حديث قدسي قوله نعالى على لسان نبيه :

” يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر ، فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر ؛ فإني أنا الدهر ، أقلب ليله ونهاره ، فإذا شئت قبضتهما ” ( أنا الدهر أي خالق الدهر ) .

وبعد صلاة الجمعة انطلقت إلى منزلي أجمع المتناثرات هنا وهناك … لا حول ولا قوة إلا بالله . امتلأت الحقيبة الخامسة ، واستعنا بكرتونة كبيرة ، فامتلأت بما عندي من أشياء لم تتسع لها الحقائب .

تناولنا الغداء في الخامسة عند الأخ إبراهيم المعتاز . وفي السادسة انطلقنا إلى مطار جون كنيدي بنيويورك .

وفي الطريق إلى المطار بسيارة الأخ إبراهيم  سالت دموعي ، وأخذت أجتر المواقف والأعمال التى قمت بها خلال عام كامل في الولايات المتحدة ، من نشاط علمي إلى نشاط دعوي ، إلى محاضرات وخطب . وتذكرت الإخوة العرب والمسلمين الذين التقيت بهم ، وحاولوا أن يخففوا عني قساوة الغربة ، وأخذت أجتر عبير الأيام التى قضيتها في جامعة يل ، وتذكرت أكثر من كل اؤلئك ” مؤتمر الشباب المسلم ” بمدينة سبرنج فيلد ( Spring field ) . وقد كنت أحد خطبائه ، وحضره من الإخوة الكرام : الدكتور يوسف القرضاوي ، والدكتور أحمد نوفل ،   والدكتور عبد الله عزام ، وغيرهم . وأسعدني وهز نفسي أن أسمع  الإخوة المسلمين من الأمريكيين ، والأفارقة ، والأسيويين ، وهم يهتفون بصوت يهز جوانب الاستاد الرياضي الذي أقيم فيه المؤتمر : الله أكبر ولله الحمد ، الله غايتنا ، والقرآن دستورنا ، والرسول زعيمنا ، والجهاد سبيلنا ، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا ، قلت في نفسي يا سبحان الله … من أوصلك إلى هنا يا حسن البنا ؟ وسمعت في أعماقي الجواب حارا متدفقا  ” إنها كلمة الله النافذة ، الله … الذي كتب على نفسه أن ينصر المؤمنين ، (  إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ “ سورة الحج 38   وتمثلت كذلك قوله تعالى (   وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ )     سورة الروم  (47)  .

ورأيت شريط العام كله يمر أمام ناظري كأنه دقائق ممتعة سعيدة ، فلم أجد إلا خيرا ، ودروسا نافعة ، لقد بارك الله لي في وقتي ، وفي جهدي ، وفي علاقتي الطيبة  بإخواننا وأبنائنا ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال ” عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ؛ إن أصابته سرّاء شكر ؛ فكان خيراً له ، وإن أصابته ضرّاء صبر ؛ فكان خيراً له .(  رواه مسلم  ).   

لقد مرت الساعات ولم يبق لي إلا أن أقول : وداعا … وداعا … يا أمريكا

قطرات نفس

أول خطبة للنبي صلى الله عليه وسلم  في المدينة

الحمد لله أحمده واستعينه واستغفره ، واستهديه وأؤمن به ، ولا أكفره ، وأعادي من يكفره ، وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ، والنور والموعظة ، على فترة من الرسل ، وقلّة من العلم ، وضلالة من الناس ، وانقطاع من الزمن ، ودنوّ من الساعة ، وقرب الأجل ، ومن يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى وفرّط ، وضلّ ضلالا بعيدا.

وأوصيكم بتقوى الله ، فانه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضّه على الآخرة ، وأن يأمره بتقوى الله.

فاحذروا ما حذّركم الله من نفسه ، ولا أفضل من ذلك نصيحة ، ولا أفضل من ذلك ذكرى ، وإنه تقوى لمن عمل به على وجل ومخافة ، وعون صدق على ما تبتغون من أمر الآخرة ، ومن يصلح الذي بينه وبين الله تعالى من أمر السر والعلانية ــ  ولا ينوي بذلك الا وجه الله تعالى ــ يكن له ذكرا في عاجل أمره ، وذخرا فيما بعد الموت ، حين يفتقر المرء الى ما قدّم ، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا ، ويحذركم الله نفسه ، والله رءوف بالعباد.

والذي صدق قوله ، وأنجز وعده لا خلف لذلك! فانه يقول تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) ( ق 29 )  واتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية ، فانه من يتّق الله ؛ فقد فاز فوزا عظيما.

وإن تقوى الله تقي مقته ، وتقي عقوبته ، وتخشى سخطه ، وإن تقوى الله تبيّض الوجه وترفع الدرجة.

خذوا بحظكم ولا تفرّطوا في جنب الله ، قد علّمكم الله كتابه ، ونهج بكم سبيله ،  ليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين.

فأحسنوا كما أحسن الله إليكم ، وعادوا أعداءه ، وجاهدوا في الله حق جهاده ، هو اجتباكم وسمّاكم المسلمين ، ليهلك من هلك عن بيّنة ، ويحيا من حيّ عن بيّنة ، ولا قوّة الا بالله ، فأكثروا من ذكر الله ، واعملوا لما بعد الموت ، فانه من أصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس ، ولا يملكون منه ، الله أكبر ، ولا قوّة الا بالله العليّ العظيم“. ، وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ  ) (الحج 78 )  

ذكره الحافظ ابن جرير الطبري بقوله: حدّثني يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي أنه بلغه عن خطبة النبي صلى الله عليه وسلّم في أوّل خطبة جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عمرو بن عوف  ــ  رضي الله عنهم ــ أنه قال ، وذكر هذهالخطبة.

الجمعة 4 من المحرم 1403   (22  من اكتوبر   1982).

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img