img
يومياتي في أمريكا: بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم (38)
img
Print pagePDF pageEmail page

يومياتي في أمريكا:

بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم

(38)

وداعا يا كندا

الثلاثاء 31 أغسطس 1982

إنه اليوم الأخير لنا في المدينة العظيمة ” تورنتو ” … ذهب الأخ محمود جمعة مضيفنا إلى عمله في المطعم الكبير ، بعد أن أكدنا له قبول دعوته لنا بتناول الغذاء في (Lunch) المطعم الذي يعمل به وهو ما يسميه الأمريكان

ويمكن أن نسميه نحن ( تصبيرة ) ؛ لأنه يكون في الظهيرة ، وليس وجبة رئيسية .

( Eominiom center plaza ) كان معنا الأخ محمد نصار وصحبنا إلى

( Mall) وهو مبنى ضخم جدا من ثلاثة أدوار على هيئة ما يسمى بالإنجليزية :

أي مجمع محلات. ويقال : إنه أضخم وآرقى ” مجمع تجاري ” في العالم كله . وأشهد أن ما رأيته من مجمعات نيويورك لا ترقى لمستوى هذا المجمع : مئات من المحلات المكتظة ببضائع بالملايين ، أضواء … نظام … نظافة … نشاط … حركة … جمال .

ومن هذه المحلات عدد كبير خصص لبيع الحيوانات والطيور الأليفة ، ورأيت أنواعا من القطط والكلاب لم أشهد لها مثيلا من قبل .

الساعة تقترب من الثانية عشرة ظهرا ، وعلينا أن نهرول إلى الأخ محمود جمعة ، فهو  ولا شك  ينتظرنا على أحر من الجمر . إنها ناطحة سحاب ضخمة لا تقل أدوارها عن ثمانين دورا . وفي الدور الأول يعمل الأخ محمود في المطعم الذي . ورأيت مئات من البشر يقفون في الصف ومع كل منهم )Lunch( يقدم الغداء فقط  صينية يوضع فيها البطاطس و الخبز وغير ذلك من الأطعمة المصرية . وكان محمود هو صاحب الدور الرئيسي في تقديم المطلوب ومعه ثلاثة من المصريين الأخرين .

وكل دور من هذه الناطحة فيه مطعم يأخذ صبغة شعب معين . فمطعم يقدم الطعام الصيني ، وآخر يقدم الطعام اليوناني … الخ .

أما صاحب هذا المطعم المصري فهو فلسطيني ، وعماله يثنون عليه الثناء الجميل .

الساعة الثالثة مساء ، وعلينا أن ننطلق إلى برج تورنتو ، ويقال : إنه أعلى أبراج العالم . وصعدنا إلى أعلى نقطة في البرج لنملأ عيوننا بجمال تورنتو … الخضرة … العمائر الشاهقة … شبكة الطرق التى تمتد كأنها شرايين في جسد إنسان . ولولا ضيق الوقت لقضينا في البرج ساعات وساعات .

وفي الرابعة والنصف مساء عدنا إلى منزل الأخ محمود ، حيث كان ينتظرنا هو وبعض زملائه . لتوديعنا . وودعنا الجميع وداعا حارا ، وشكرناهم على كرم ضيافتهم ، … هيا بنا يا زميلي العزيزين محمد مختار ، وسعيد بدران . وانطلقنا بالسيارة إلى الحدود الكندية لنشهد ” شلالات نياجرا ” من الجانب الكندي . ووصلنا إلى الحدود قبل المغرب . ووقفنا في الجانب الكندي نشهد شلال الجانب الأمريكي . ثم سرنا قرابة خمسين مترا لنشهد الشلال الجانبي الذي يقع أغلبه في كندا ، والذي يحدث تساقط مياهه موجة ضخمة جدا من الرذاذ .

وفي مواجهة الشلالات تجاورت المطاعم الفاخرة ، وجلسنا في أحدها وتناولنا عشاء فاخرا . وفي الثانية عشرة من منتصف الليل انطلقنا عائدين ، وفي لحظات دخلنا الحدود الأمريكية ، وانطلقت السيارة في رحلة العودة ، وكانت الطبيعة ساحرة في الطريق كعهدنا بها … الطريق في صعود وهبوط … الغابات … المزارع … المرتفعات … المنخفضات … الأنهار … الأشجار .

ووصلنا إلى نيوهافن في الثامنة والنصف من صباح الثلااء 31 من أغسطس 1982 .

**********

والآن من حقي على نفسي ، أو من حق نفسي علي أن تسأل ما الذي أفدته من هذه الرحلة ؟

لقد أفدت كثيرا … أفدت ضمن ما أفدت :

1-   معلومات جديدة ، ورؤية جديدة ، ومعارف جديدة : منهاالشلالات بموقعها الجغرافي وصورتها ومسارها . ورأينا الطرق الطويلة … والغابات … وغابات صيد الغزلان … والمزارع المتكاملة ، بمعنى أن المزرعة الواحدة فيها الأرض المزروعة ، ومصانع حفظ الألبان ، وحظائر تربية الجاموس والبقر … الخ .

2-   تجديد النشاط : فالحمد لله كنت لا أقل نشاطا عن الأخوين أللذين صحباني في رحلتي هذه ، بل كنت أفوقهما نشاطا في بعض الأحيان ، مع أن سني تكاد تساوي مجموع سنهما . والحمد لله منحني الله من القوة ما مكنني من أداء عملي على أكمل وجه وأوفاه .

3-   التعرف على بعض الإخوة المصريين ، ومن هؤلاء الأخ فاروق ( 43 سنة ) ، وهو يعمل مع محمود جمعة في مطعم واحد .

4-   ومن هؤلاء الأخ محمد نصار الذي يسكن مع محمود جمعة ، ويعمل في أحد المطاعم ( غاسل أطباق ) في مطعم أجره فيه أربعة دولارات ونصف في الساعة . وهو شاب رقيق الشعور ، ذو عاطفة دينية قوية لا يشرب الخمر ، ولا حتى البيرة . حدثته عن الإسلام حديثا طويلا ففاضت عيناه بالدموع ، وكان دائما يطلب مني أن أحدثه عن الإسلام بصفة دائمة

***********

وفي الثامنة والنصف من صباح الثلاثاء كنت أمام بيتي في نيوهافن، وودعت الأخوين محمد مختار وسعيد بدران على أمل اللقاء إن شاء الله . وقد علمت أن سعيد سيسافر إلى السعودية بعد أسبوعين ، وأن محمد مختار سيترك بريدج بورت إلى الأبد … قد يكون اليوم أو غدا . سيرحل إلى بوسطن ، ويستقر هناك ، ليكمل دراسته في كلية الصيدلة . إن محمد مختار شاب مكافح ، فقد كان يعمل عاملا في مطعم ، بجانب كونه طالبا ، وقد وفقه الله إلى الزواج بأمريكية جمعت بين جمال الخُلق والخلق … بين جمال الروح وجمال الوجه ، وهو يعيش في سعادة غامرة ؛ يحب زوجته وتبادله الزوجة حبا بحب .

تصحبكما السلامة أيها الأخوان العزيزان الحبيبان .

الثلاثاءء 31 أغسطس 1982

قطرات نفس

لغة الربيع

مِنَ الحقائق التي حملها إلينا التاريخ، وسرت مسرى الأمثال، قولهم: “العرب أمة شاعرة”. وكذلك قولهم: “الشعر ديوان العرب”. ولا مبالغة في ذلك: فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم، ومسيرة حياتهم.

**********

إإن الربيعَ هو روحُ الحياة، وابتسامة الوجود، ونبضُ الجمالِ المتجددِ بلا حدود. ….فلنعش مع “ربيع الشعراء”، وهمْ قد يلتقون بشعرهم على ملامحه العامة، ولكنْ يبقى لكل منهم رؤيته الفنيةُ الخاصة، وبصماته الأسلوبية التي تنم عليه، ولعل هذا ما قصده “وردزورث” بقوله: “لو أن ألف شاعر نظم كل منهم في الربيع قصيدة، لكنا أمام ألف ربيع، لا ربيع واحد.

هذا . ومعروف أن من أشهر “الربيعيات” قصيدة البحتري التي يقول فيها:

أتاك الربيعُ الطلق يختال ضاحكا
وقد نبه النيروز في غسق الدجى
مـن الـحسنِ حتى كاد أنْ يتكلما
أوائـل وردٍ كـن بـالأمس نوما

 **********

 وقد أعطى النقاد هذه القصيدة حقها من الدراسة والإعجاب، لذلك سنتخطاها مبهورين أيضًا بجمالها  إلى غيرها من ربيعيات الشعراء الأخر، كالربيعية التالية لابن وكيع التنيسي:

ألست  ترى وشي الربيع المنمنما
فقد حاكت الأرضُ السماء بنوْرها
فمن  نرجس لما رأى حسن نفسه
وأبدى  على الورد الجني تطاولا
ومن  سوسن لما رأى الصبغ كله
تـجلبب  من زرق اليواقيت حلة
وألـوانِ مـنـثور تَخالف شكلها
ومـا  رصـع الربعي فيه ونظما
فـلـم أدر في التشبيه أيهما السما
تـداخـلـه  عُجب بها .. فتبسما
فـأظهر غيظ الورد في خده.. دما
عـلـى كل أنوار الرياض تقسما
فـأغرب في الملبوس منه وأعلما
فـظـل  بـها شكل الربيع متممًا

 إنها لوحة حية جميلة للربيع ، شخص فيها الشاعر الورد، والنرجس والسوسن، واتسعت اللوحة الممتدة للأرض والسماء.

 **********

 ونرى “ابن اللبانة” في ربيعيته يربط بين جمالِ الوردِ، وجمالِ خد حبيبته، بل جعل جمال حبيبته يفوق الورد والصبح والريحان، أما صوتها فيفوق  رقةً وجمالاً  صوت الطيور المغردة، يقول ابن اللبانة:

رق الربيع، ورق طبع هوائه
لـولا ذبـولُ الوردَ قلتُ بأنه
الـوردُ  ليس صفاته كصفاته
يتنفس الإصباح والريحانُ مِنْ
فـانظر نضارة أرضه وسمائه
خـد الحبيب عليه صبغ حيائه
والـطيرُ  ليس غناؤُها كغنائه
حركات معطفه، وحسن روائه

وتأتي ربيعية صفي الدين الحلي متدفقة بالحركة، والصوت، واللون، وتعدد التشبيهات

مع تشخيص مظاهر الطبيعية الناضرة، ومطلعها :,

ورد  الـربيعُ فمرحبا بوروده
وبحسن منظره، وطيب نسيمه
وبـنـور بهجته ونوْر وروده
وأنـيـق ملبسه ووشي بروده

 ويهتم البارودي في إحدى ربيعياته، بما يبعثه الربيعَ من أريج عطر، تبعثه أزهاره ووروده وإن لم يغفل العناصرَ الجمالية الأخرى فيقول:

رف الـنـدى، وتـنفس النوارُ
وتـأرجـت سرر البطاح كأنها
زهر يرف على الغصون وطائر
ونـواسـم  أنـفـاسهن طويلة
وتـكـلـمـت بـلغاتها الأطيارُ
فـي بـطـن كـل قرارة عطارُ
ٌغـردُ الـهـدير، وجدول زخارُ
وهـواجـر أعـمـارهن قصارُ

ويلح إيليا أبو ماضي في ربيعياته  وما أكثرها  على دعوة الحزانى والمأزومين والمتشائمين إلى هجر الحزن والتشاؤم، والنظر إلى الوجود بنفس خلية متفتحة، والتمتع بجمال الطبيعية الفتانة الساحرة، وقد لخص فلسفته في قوله:

أيها المشتكي وما بك داء             كن جميلاً تر الوجود جميلا            ً

ويوجه الخطاب لمثل هذا المشتكي المتشائم بقوله:

انظرْ. فما زالتْ تطل من الثرى
مـا بـين أشجار كأن غصونها
ومـسـارح  فتن النسيم جمالها
والجدولُ  الجذلان يضحك لاهيًّا
فـهـنـا  مكانُ بالأريج معطر
صـور  تـكـاد لـحسنها تتكلم
آنـا تـصـفـق تـارة، وتسلم
فـسـرى  يـدندن تارة ويهمهم
والـنـرجسُ الولهانُ مغفٍ يحلمُ
ٌوهـنـاك  طـود بالشعاع معممُ

هذا قليل جدا مما قيل في الربيع ، وما زال الربيعُ يعمرُ نفوسنا بسحره الممتد، وأريجه المعطار، وآمل أن نستوفي  مستقبلا  حديثنا بشواهد فنية أخرىفي جماليات الربيع . فهو روحُ الحياة، وابتسامة الوجود، ونبضُ الجمالِ المتجددِ بلا حدود.

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img