img
يومياتي في أمريكا: بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم (32)
img
Print pagePDF pageEmail page

يومياتي في أمريكا:

بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم

(32)

رسالة إلى الأبناء في العيد

الاربعاء  21 من  يوليو  1982

يا أحبابي في القاهرة اليوم هو أول يوم من أيام عيد الفطر المبارك … أنا بعيد عنكم ، وأنتم عني بعداء ، لكن يعلم الله أنكم في القلب والجوانح … في الدم والأعصاب وأعيش على أمل لقياكم … اليوم أول العيد يا أحباب … هل لبستم الجديد ؟ واستشعرتم فرحة العيد وأنا عنكم بعيد ؟ هل ضحكتم مع الضاحكين ؟ ولهوتم مع اللاهين ؟ ولعبتم مع اللاعبين  ؟ هل بعثتم صياحكم المعهود وأنتم تلهون مع جيرانكم لهوكم الطيب البريء ؟ وهل وجدتم اليد الحانية والقلب العطوف ، والصدر الدافئ الذي يعوضكم عن بعد الأب الغريب البعيد ، فيشعركم بقرب عودة المغترب البعيد ؟ هل لمستم الابتسامة على وجوه الأقارب والأصهار فتزرع السعادة في قلوبكم ، وتنسيكم بعض همومكم ؟

خرجت اليوم يا أحبابي لصلاة العيد في مدينة ” وست هافن ” ، حيث تجمع عدد كبير من الشباب المسلم في ثيابهم البيض ، وكبرنا وهللنا ، وصلينا واستغرقنا يا أحبابي في الخشوع العابد ، والذكر الخشوع ، وارتفعت أيدينا … بل قلوبنا في الصلاة تهتف من أعماقها مرات ومرات : الله أكبر … الله أكبر … الله أكبر … لا إله إلا الله … والله أكبر … الله أكبر … ولله الحمد .

وآه لو تدرون يا أحبابي المعنى الكبير لعبارة ” الله أكبر ” … إنها تجديد للعقد مع الله ، وإعادة لبناء الالتزام بالعزة الربانية ، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون   .المنافقون  8  .

   إنها يا أحبابي… يا أفلاذ كبدي رفض لمنطق الذلة والعبودية والخنوع … الله أكبر … أمامه تذل الجبهات ، وتنخفض الأعناق ، وتلين القلوب ، وبالدمع تفيض العيون .

   ومن هذه الذلة أمام الله ــ يا أحبابي … يا نياط قلبي ــ يستقي المؤمن عزته أمام العالم أجمع ، فإذا به قمة لا تخشع ، وإذا به سماء لا تهون .

 علمنا  سيدي وسيدكم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم : أن الجباه لا تسجد إلا لله ، وأن قلوب المؤمنين لا تخشع إلا لله . ولكن العيد ــ يا أحبابي ـ يأتي على أتباع محمد ، وقد هجروا محمدا ، وقرأن محمد ، وتعاليم محمد عليه الصلاة والسلام . فأصبح المسلمون الآن هوانا ، وخشوعا ، وضياعا ، واستسلاما  ، وأصبحت كلمة المسلم الآن يا أحبابي مرادفة لكلمة الذليل ، بعد أن كانت كلمة المسلم رمزا للعزة والقوة ودليلا على الثبات  والأنفة . ومن المحزن المؤسف أن    ) mob  المسلم في المجتمع الأمريكي يطلق عليه الصليبيون والصهاينة كلمتي (

) ومعناها ما نسميه mop ومعناها متخلف همجي غوغائي ، وكذلك كلمة ( 

بالعامية ” خيشة ” أي الخرقة التى يمسح بها الأرض . وكلا الإطلاقين خبيث يدل على الاستهانة بشخصية المسلم ، بعد أن استهان به حكامه في بلادنا العربية والإسلامية .

يأتي العيد ــ يا أحبابي ــ والقدس في أسر إسرائيل ، والمسجد الأقصى يدنسه بغايا اليهود … أحط خلق الله … المسجد الأقصى ــ يا أحبابي ــ  الذي أمَّ فيه  سيدي وسيدكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنبياء في ليلة مباركة هي ليلة الإسراء والمعراج  (   سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) الاسراء 1

 يأتي العيد ــ يا حبات قلبي ــ والصديق بيجن يعربد هو وكلاب الأرض ، فيضرب أي بقعة يريد وأي مدينة يشاء .

يأتي العيد ــ يا فلذات كبدي ــ والعرب مزق مهلهلة ، والمسلمون أشلاء ممزقة مُطـرَّدة ، والمسلم يسفك دم أخيه وأمه وأبيه .

يأتي العيد ــ يا فلذات كبدي ــ وفي النفس خواطر وهواجس ومشاعر وأحاسيس لو ترجمت لكانت لهيبا وسعيرا.  فمعذرة في العيد ــ يا أحبابي ــ عن قليل بل أقل القليل مما تموج به نفسي الغريبة البعيدة عنكم آلاف الأميال  .  وبحـروف من أنفاسي وأعصابي وأشواقي أكتب داعيا لكم بالخير والسعادة والبهجة والتوفيق . وسلاما سلاما سلاما 

الاحد 11 من  يوليو  1982

قطرات نفس

عيد الشعراء

شعر الاغتراب لون واضح القسمات في أدبنا العربي، مثل شعر الغزل، وشعر المديح، وشعر الفخر. وهو أصدق ألوان الشعر تعبيرًا عن لواعج النفس بسبب الفراق، والحنين إلى الأهل والأوطان، ومصدر كل أولئك ـ كما يقول الجاحظ “توقد النار في الأكباد”.

ومن شعر الاغتراب ـ في الأدب العربي: روميات أبي فراس الحمداني (وهو أسير في سجون الروم)، وسرنديبيات البارودي، وأندلسيات شوقي (والأول كان منفيًّا إلى سرنديب، والثاني منفيًّا إلى الأندلس).

ويكثر شعر الغربة عند ابن زيدون، والمتنبي في فترة السنوات الثماني التي ترك فيها سيف الدولة . وهناك من شعر الغربة ما هو أرقى وأسمى، وهو شعر “الغربة الروحية” التي يستشعرها الإنسان حتى وهو في وطنه، وبين أهله، وغالبًا ما نجد هذا الشعور عند أصحاب المبادئ والمثاليات الذين يرفضون كثيرًا من الأوضاع الاجتماعية والسياسية في أوطانهم، وقد أشار ابن الرومي إلى هذا اللون في قوله:

أعاذك أنْسُ المجد من كلِّ وحشةٍ =فإنك في هذا الأنام غريبُ

وتشتد هموم الشاعر المغترب، وتتوقد شاعريته، ويتوهج وجدانه إذا ما حل العيد، وهو بعيد عن وطنه، وأهله وأبنائه، وخصوصًا إذا كان اغترابه إجباريًا قسريًا، لا يدَ له فيه.

ونقف في السطور التالية مع شاعرين من شعراء “الاغتراب” أولهما أبو الطيب المتنبي (303 ـ 354هـ)، والثاني: عمر بهاء الدين الأميري ـ رحمه الله ـ ومن أشهر دواوينه “مع الله و”ألوان طيف” و “نجاوى محمدية” و “فلب ورب” وقد فارق الشاعر وطنه بعد أن سجن واضطهد، فانطلق سائحًا في الله، في بلاد المشرق والمغرب، وسلاحه المبدأ الصادق، والإيمان العميق، والكلمة الهادية.

***

ووقفتنا مع الشاعرين محدد بشعر الغربة في “العيد”، وقد حل بالشاعرين، وكل منهما “غريب” .. في غير وطنه.

وأشهر قصيدة ـ في هذا الموضوع ـ نظمها المتنبي سنة 350هـ وهو يهم بمغادرة مصر إلى غير رجعة قبل العيد بيوم واحد، وهي داليته المشهورة، والتي مطلعها:

عيدُ بأيةِ حال عدت يا عيد         بما مضى أم بأمر فيك تجديد

أما الأحبة فالبيداء دونهمُ             فليت دونك بيدا دونها .. بيدُ

وانطلق المتنبي يعبر عن همومه، ويلعن سنيه في مصر، ويهجو الشعب المصري الذي أكرم مثواه، ويهجو كافورا الإخشيدي بأحط ألوان السباب ،مع أن المتنبي مدحه من قبل بمدائح رائعة، وصل بعضها إلى سيف الدولة، فقال “كنت أتمنى أن يقول المتنبي فيّ مثل ما قال في كافور”.. وما نقم المتنبي من كافور ـ على كرمه معه ـ إلا أنه لم يحقق طمعه في أن يوليه “ولاية” يكون هو حاكمها، والمتصرف فيها.

ولا كذلك شعر الغربة عند الأميري ـ رحمه الله ـ فهو يصدر من نفس تقية نقية، قلبه معلق بالله، مؤمن بأن الآخرة خير له من الأولى .

  ***

وهو لا يستشعر للعيد متعة، ولا تأخذه به فرحة، ما دامت القدس في يد الأعداء الذين نهبوا الأرض وهتكوا الحرمات، وشردوا الشعب الأصيل:

ما العيدُ والقدسُ في الأغلال رازحةٌ
واسـتـجـير برب البيت في قلق
وأرسـل الـدعوة الحرى على ثقة
فـالـنصر في قدر الله الحكيم على
والـمـسـلـمـات سبيَّات لفساقِ
عـلـى  “المدينة” من فتكِ وإزهاقِ
بالله  فـي صـبر فذِّ العزم عملاق
وعـدِ مـع الصبر في إيمان سبَّاق

ويضرب الشاعر في فجاج الأرض داعيًا إلى الله، والحق، والجهاد، ويهل العيد، ولا جديد إلا تفاقم البلاء، وتدفق الدماء، وتسلط “الكبار” بظلمهم على الشعوب. ويرى في العيد فرصة لمحاسبة النفس، بعد أن فقد ما كان يبعثه في النفوس من فرح وسعادة:

يقولون لي عيد سعيد، وإنه         لَيوم حسابٍ لو نحسُّ ونشعر

أعيدٌ، وللبغي العدوُّ تفاقمٌ         وأمرُ ولاة الأمرِ أنكى وأخطر؟

إنهما مفهومان متناقضان للعيد عند الشاعرين: عيد المتنبي، يعني تحقق ما  يرضى عنه من المطالب المادية، والأطماع الدنيا، وعيد الاميري يتمثل في تحرير الوطن والأمة الإسلامية، وانتصار الحق، وإعلاء كلمة الله.

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img