img
يومياتي في أمريكا: بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم (31)
img
Print pagePDF pageEmail page

يومياتي في أمريكا:

بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم

(31)

حديث مع النفس ونظرة إلى لمجتمع الأمريكي

الاحد 11 من يوليو 1982

 اليوم طرحت على نفسي السؤال التالي :

 ما جوابك لو عرض عليك بمرتب ضخم كبير أن تعيش وأسرتك مدى الحياة في أمريكا ؟

السؤال في ظاهره سهل ، والجواب الطبعي في نظر الكثيرين هو الإيجاب . ولكن لماذا التسرع في الإجابة ؟ فلنحتكم إلى المعيارالاقتصادي هذه المرة ، أي إلى قاعدة المكاسب والمخاسر حتى يكون القرار على أساس سليم :

أمريكا بلد حرية الرأي … هذا صحيح ، فتستطيع أن تبدي رأيك في النظام ، وفي رئيس الدولة كما تشاء ، ولا تطالب بالأدلة والأسانيد ، ولا تطارَد في عملك ، ولا يقتحم زوار الفجر عليك مسكنك ، وتلقى في غياهب السجون .

أمريكا حقا بلد العلم والحضارة والتكنولوجيا التى لا مثيل لها في العالم . وهو تقدم شمل الزراعة والصناعة والطب وعلوم الفضاء وكل مجالات الحياة .

أمريكا بلد الغنى والوفرة …. كل شيء متوفر وموجود … لا يخطر في ذهنك شيء كائنا ما كان إلا وهو متوفر في أمريكا ، ليس هناك ما يمكن أن يسمى بالأزمة في أي شيء صغر أو كبر … الطعام … الشراب … الملبس … المسكن …

 حرية الرأي والتعبير … التقدم العلمي والتقني الخارق … المال والغنى والرواج … هذه هي قائمة المكاسب التى يمكن أن ينتفع بها الإنسان على النطاق الأوسع .

ولكني العامل هنا في أمريكا ابتداء من العامل اليدوي البسيط ، وانتهاء بالعالم الكبير الخطير … هذا العامل في أية صورة من صوره مهدد في رزقه ، فمن حق رئيسه المباشر أن يفصله من عمله في لحظة دون أن يطالب بإبداء الأسباب . هذا هو حق صاحب العمل في المجتمع الرأسمالي . وأنا هنا أعتمد على رؤية ،لا على معلومات موثقة .

وأمريكا هي بلد الجريمة ، وجرائمها هي من كبريات الجرائم وأبشعها : القتل … الحرق … الاغتصاب … ومن ثم كانت هي بلد الرعب والفزع و اللاأمان .

إن أقوى دولة في العالم عجزت عحزا بينا عن حماية مواطنيها من هذه الجرائم البشعة . وأشجع الشجعان هنا لا يستطيع أن يمشي بعد الغروب بمفرده في قلب المدينة التى كانت من ساعات ، بل من دقائق تموج بآلاف المارة ، بل لايستطيع أمريكي أو أجنبي أن يأمن على نفسه أثناء السير نهارا في مكان منعزل ، أو لا مارة فيه ، فكثير جدا من الجرائم تتم في مثل هذه الحالة في وضح النهار ، وأنا أعرف بعض هذه الحالات ، وقد سمعت ـ مما لا تنشره الصحف ـ قصصا مذهلة في هذا المجال .

 ولا أنسى أن جامعة ( يل) وزعت علينا ــ نحن القادمين الجدد ــ كتابا فيه أوامر محددة لضمان السلامة . منها على سبيل التمثيل :

1- عليك أن تلزم مسكنك قبل غياب الشمس ، وإذا حل عليك الظلام وانت في وسط المدينة مثلا فعليك الاتصال ببوليس جامعة يل لتوصيلك إلى منزلك .

2- إذا شعرت بخطوات مريبة تتبعك فعليك أن تجري بأقصى سرعتك .

3- إذا حدث وهددك أحدهم مطالبا بما معك من نقود فسلمها إليه دون مقاومة ، وبعد ذلك من حقك أن تتخذ الإجراءات القانونية .

**********

 وأمريكا هي بلد التحلل … الدين فيها نوع من الترف العقلي والمظهرية . واحتفاظ الفتاة بعِرْضها ــ إن وجدت ــ يعد دليلا على التأخر والهمجية ، وأخبرني أحد الأمريكان ـ من أصل لبناني ـ أنه ليس في أمريكا فتاة تحتفظ بعفتها وغشاء بكارتها بعد الثالثة عشرة ، وربما قبل ذلك . ومما قاله لي أن الآباء حينما تبلغ الفتاة هذه السن يبدءون معها دروسا في التوعية الجنسية ، وتتلخص في تعليم

الفتاة كيف تزاول الجنس مع صديقها دون أن تحمل ، ومن هنا لا تخلو حقيبة يد الفتاة من المراهم والوسائل العلمية الطبية التى تمكنها من مزاولة أحط أنواع الجنس دون أن يضايقها ما يسمى الحمل .

أما المعاشرة الدائمة دون زواج فأمر شائع لا يشد النظر .

وبعض الولايات يجيز نظاما في الزواج يسمى ” الزواج المفتوح ” ( Open marriage ) ،. وصورته أن يتزوج أربعة رجال أربع نساء ، بعقد مشترك

 ويشتركون في مسكن واحد ، ومن حق كل منهم أن يضاجع من يشاء من النساء الأربع دون قيود ، لكن لابد أن ينص في العقد على وجوب تحديد المرأة (الزوجة) الرجل الذي ينسب إليه من تنجب ، وقد يكون من رجل آخر من الأربعة ، ولا ضير في ذلك . أي هي شيوعية جنسية بهيمية خسيسة .

**********

 وأمريكا هي بلد ( التناقضية ) ففيها الحرية ، وفيها التعصب الديني والتمييز العنصري ، وفيها الغني البليونير المتخوم ، وفيها الزنجي الفقير الذي ينبش القمامة بحثا عن كسرة خبز، أو لعقة مربى خلفها صاحبها في قعر العلبة الملقاة .

فباسم الحرية ترتكب هنا أحط ألوان المفاسد والموبقات ، وينزل الإنسان إلى درك أحط مما ينزل إليه الحيوان الأعجم ، وقد أخطئوا حينما عبروا عن رغبات الإنسان

 ) ؛ فالحيوان لا يعرف الجنسية المثلية Animal Desires الدنيا بأنها (

وهو ما يسمى بالشذوذ الجنسي ، بينما نجد ذلك في أحط صوره ، ومن فجر التاريخ عند الإنسان . وفي أمريكا لا عيب في ذلك ، فالشذوذ معترف به ، وللشواذ مقار ،ومجلات ،وإعلاميات .

وعلى الرغم من الإباحـية المطلقة فإن من أشهر الجرائم هنـا في أمريكا “جريمة الاغتصاب ” … لقد مل الإنسان الأمريكي الإباحية المطلقة فتحول الكثيرون إلى ساديين … يجدون المتعة الكبري فيما يجيء غصبا وقهرا .

**********

واعتمادا لى ميزان المكاسب والمخاسر يميل الميزان لغير صالح الأسرة المسلمة هنا ، فتطل برأسها مشكلة الأبناء : فإن جاءوا كبارا وقفت أمامهم مشكلة اللغة ، وإن تربوا هنا صغارا أتقنوا الانجليزية ، وعجزوا عن العربية ، وانطبعت نفوسهم وعقولهم بالطابع الأمريكي فهما وتفكيرا ومشاعر . وأنا أعرف بعض الإخوة العرب الذين أنجبوا هنا يبذلون مجهودا خارقا مع أبنائهم في تعليمهم اللغة العربية والدين الإسلامي ، ومع ذلك لا ينطق أبناؤهم العربية إلا بصعوبة بالغة ، وطبعا يعجزون عن كتابة أقل الجمل وأبسطها ، وتأتي بعد ذلك مشكلة تزويج البنات والأبناء في بلد لا تعترف بالعِرض ، ولا القيم . نعم أنا أرفض … وأرفض بشدة أن أعيش مع أسرتي هنا مدى الحياة مهما كان دخلي ، وإن كنت أقبل أن أعيش بمفردي ، أو مع أسرتي هنا مدة لا تزيد على أربع سنوات في السلك الجامعي ، وبشرط أن يكون المرتب أمريكيا لا مصريا .

ولنا عودة إلى الحديث عن طوابع هذا المجتمع ، وعاداته ، وملامح المعيشة والعلاقات المختلفة ، وذلك على نحو أوفى وأشمل .

الاحد 11 من يوليو 1982

قطرات نفس

من الشِّعرُ الضَّاحِك

 من الحقائق التي حملها إلينا التاريخ، وسرى مسرى الأمثال قولهم “العرب أمة شاعرة”. وكذلك قولهم “الشعر ديوان العرب”. ولا مبالغة في ذلك: فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم وأيامهم، ومسيرة حياتهم.

 وأجدني أقف أمام رسالةٍ أرسلتْها إحدى الأخوات من مدينة “وجدة” بالمغرب العربي تسأل فيها:

 هل الشعر العربي كله جادّ صارم ؟ أليس في شعر العرب ما يثير الابتسامة أو الضحكة؟ وهي تذكرنا بحديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي يقول: “روحوا عن القلوب ساعةً بعد ساعة، فإنَّ القلوب إذا كلت عميت”. ونحن نشكر للأخت اهتمامها، ونقدم هذه السطور عن “الشعر الضاحك”، وهو الشعر الذي ـ إن لم يثر ضحكاتنا ,فهو على الأقل ـ يرسمُ ابتسامةً على شفاهنا.

 نفتح ديوان العرب، ونلتقي ـ أول ما نلتقي ـ بشاعرِ الملاحمِ، والمعارك العربية أبي الطيب المتنبي، ونراهُ وقد مرَّ برجلين: كناني وعامري قتلا جرذا أي فأرًا كبيرًا، وأمسكه أحدهما يريه للناس ليعجبوا من ضخامته، فقال المتنبي ـ على البديهة:

لقد  أصبح الجرُذ المستغير
رمـاه الـكناني والعامري
كـلا الـرجلين ادعى قتله
وأيـكـمـا كان من خلفه
أسير المنايا صريع العطب
وتـلَّاه  للوجه فَعْلَ العَرَبْ
فـأيـكما غل حُرَّ السلَب؟
فـإن به عضة في الذنب؟

****************

وكانت شخصية البخيل موضوعًا لسخرية الأدباء العرب، فللجاحظ كتاب ضخم عن البخلاء، وها هو ذا ابن الرومي يرسمُ صورة “كاريكاتيرية” ساخرة لبخيل اسمه عيسى في البيتين التاليين:

يقتر عيسى على نفسه
فـلو  يستطيع لتقتيره
ولـيس بباقٍ ولا خالدِ
تنفس من منخر واحد

ويدعو أحد البخلاء الشاعر أبا نصر “كشاجم” لتناول الطعام في بيته، فيقبل كشاجم الدعوة، وكانت النتيجةُ أنّ.. لكنْ لندع الشاعر يصفُ هذه الواقعة بنفسه يقول كشاجم:

صديقً لنا من أبرع الناس في البخل
دعـاني  كما يدعُو الصديق صديقهُ
فـلـمـا جـلـسنا للطعامِ.. رأيتُه
ويـغـتـاظ أحـيـانًا ويشتم عبده
فـأقـبـلـت أسـتل الغذاء مخافةً
أمـد يـدي سـرًّا لأسـرق لـقمةً
وأفـضـلهم  فيه، وليس بذي فضلِ
فـجـئـت كما يأتي إلى مِثْلِهِ مِثْلي
يـرى  أنه من بعض أعضائه أكلي
وأعـلـمُ أن الغيظ والشتم من أجلي
وألـحـاظ  عينيه رقيبٌ على فعلي
فـيـلـحظني شزرًا، فأعبثُ بالبقلِ

ويمضي الشاعر كشاجم في وصف مشاهد المأساة، وتنتهي الوليمة بالحرمان، ويعلن الشاعر أن له ثواب الصائمين لولا أنه لم ينو الصيام مسبقًا.

*****************0

 وكان أبو الفتح كشاجم يمتلك سكينا نفيسة لبري الأقلام، فطمع فيها كاتبٌ أديبٌ فسرقها فرثاها أبو الفتح بقصيدة منها الأبيات التالية:

يـا قـاتـل الله كـتـاب الدواوين
لـقـد دهـانـي لطيف منهمو خَتِل
فـابـتـزنـيها،ولم  أشعر به عبثا
كـانـت تـقـوّم أقـلامي وتنحفها
هـيـفـاء مـرهفة، بيضاء مذهبة
كـأنـهـا حـيـن يشجيني تذكرها
مـا  يـستحلون مِن سرْق السكاكين
فـي ذات حـد كحد السيف مسنون
ولستُ  ـ لو ساءني ظنٌّ ـ بمغبون
بـريًـا، وتـسخطها قَطّا فترضيني
قـال الإلـه لها ـ سبحانه ـ كوني
في القلب مني، وفي الأحشاء تفريني

*************

 والضيف الثقيل شخصية لا يخلو منها زمانٌ أو مكان. وفي الضيف الثقيل يقول ابن المعتز:

وزائـر  زارنـي ثـقيلٌ
أوجـع لـلقلب من غريم
بـغـير  زادٍ ولا شرابٍ
ينصر همي على سروري
ظـل مُـلـحًّا على فقير
ولا حـمـيـرٍ ولا شعيرِ

 وكان بين أحمد شوقي، والدكتور محجوب ثابت ودٌّ قديم، وكان للدكتور محجوب حصان يرتاد به شوارع القاهرة أيام الثورة المصرية سنة 1919م ، وكان أصدقاؤه يطلقون علي الحصان “مكسويني”، وهو بطل إيرلندي مشهور انتحر جوعًا بالإضراب عن الطعام. وأطلقوا على الحصان هذا الاسم (مكسويني) أو مكسي , كناية عن هزاله، وشدة جوعه وعدم العناية به. ثم باع محجوب الحصان، واشترى بدلاً منه سيارة قديمة من نوع (أوفرلاند) فقال شوقي مداعبًا موجهًا خطابه إلى الحصان:

أدنيا الخيل يا مكسي
لـقـد بـدلك الدهرُ
فصبرا يا فتى الخيلِ
أحـق أن مـحجوبًا
وبـاع  الأبلق الحر
ولم يعرفْ له الفضل
كـدنيا  الناس غدارهْ
مـن الإقـبالِ إدبارهْ
فـنفسُ  الحرِّ صبارهُ
سـلا  عـنك بسيارهْ
بـ  (أوفرلاند) نعارهْ
ولا   قـدَّر   آثـاره

وفي مداعبة أخرى يخاطب شوقي الحصان مكسويني قائلاً:

تـفديك  يا مكسي الجيادُ الصلادمُ
كأنك ـ إن حاربت ـ فوقك عنترٌ
فـإنـك  شـمسٌ والجياد كواكبٌ
وتفدي الأساة النُّطس من أنت خادمُ
وتحت ابن سينا أنتَ ـ حين تُسالمُ
وإنـك ديـنـارٌ، وهـنَّ دراهـمُ

 أما الابتسامة التالية فهي مهداة للآباء والأمهات، بصفة خاصة، فمما يحدث كثيرًا أن الأم تعود إلى البيت لتجد ابنتها التي لم تتجاوز ثلاث سنوات، أو أربعا، وقد أخرجت أدوات الزينة الخاصة بالأم، لتصب منها على وجهها وثيابها بصورة عشوائية، أو تتناول كتابًا ثمينًا من المكتبة، وتشوه وجوه صفحاته بأقلامها الملونة، وتهب الصغيرة ـ حين تشعر بمجيء الأم ـ لتعرض عليها ـ في تباه ـ إنجازها العظيم، وتكاد الأم تتفجر من الغيظ، ولكنها لا تملك في النهاية إلا الابتسام، إن الشاعر خليل مطران يعرض علينا موقفًا مشابهًا فيقول:

… لـيَ ابن عم بالغ أربعا
طـلق المحيا، شعره مذْهب
يـسـير كالجندي مستكبرا
قـالـت  لـه أمه يوما وقد
هـيـا  نزر جدتك الآن يا
فراح  مثل الظبي يعدو إلى
وكان في إحدى الكُوَى طائرٌ
رآه فـيـه صـامتا موحشًا
فـفـتـح الباب له مسرعا
أراك  مـشـتـاقًا إلى جدةٍ
مـن عمره أو دونها أشهرا
وثغـره  كنز حوى جوهرا
وما  أحبَّ الطفلَ مُستكبرا!!
أحسن سيرا “حُق أن تُؤجرا
بنيَّ فالبس ثوبـك الأفخرا”
غرفتـِه  جـذلانَ مستبشرا
قد  أودعوه قَـفصًا مقـفرا
كما  يكون الحـرُّ مستأسرا
وقال” أحسنت فخيرًا تـرى
تزورها فاذهب وعد مبْكِرا”

***********************

 وطبعًا انطلق الطائر الثمين ـ لا إلى جدته، ولكن إلى الفضاء الرحيب، وطبعًا لم يعد إلى قفصه، لا مبكرًا، ولا متأخرًا، وتكاد الأم تتميز من الغيظ لما فعله صغيرها بعفوية وحسن نية، ولكن سرعان ما تعلو شفتيها ابتسامة حانية. فنحن ـ الآباء والأمهات ـ لا نملك إلا هذا أمام “شقاوة” الصغار في تصرفاتهم البريئة.

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img