img
يومياتي في أمريكا: بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم (27)
img
Print pagePDF pageEmail page

يومياتي في أمريكا:

بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم

 (27)

رسالة إلى أم جابر

بنتي الحبيبة لمياء : تحية طيبة وشكرا وأشواقا إليكم جميعا . قد تعجبين يا لمياء إذ أطلقت عليك ” أم جابر ” . وما أطلقت هذا الإطلاق عليك إلا لسببين :

الأول : أنني كنت أعتز بأمي اعتزازا صادقا عميقا ، وهي كانت تحبني وتعتز بي بلا حدود . وكانت تنادى دائما ب ” أم جابر ” ، مع أنني كنت أصغر الأبناء .

الثاني :أن من عاداتنا في الأرياف أن يُكنَى الشخص بأبيه ما دام لم يتزوج ، فمثلا كان أهل المنزلة يطلقون عليَّ وانا شاب عزب ” أبو المتولي ” ، وأنت تعلمين أن المتولي هو والدي ، فأردت أن أحيي هذه العادة بما تحمله من صدقية وعفوية . فلتكوني يا لمياء بهذه التسمية أو الكنية إلى أن يكرمك الله ” ببيت العدل ” فنناديك أم فلانة أو فلان .

ومعذرة يا حبيبتي إذ لم أجبك على بعض أسئلتك فى رسالتك السابقة ، فقد نسيت ، وما أنسانيها إلا الشيطان أن أذكرها . أو لأنني هنا في دار الغربة كما أقول دائما أعمل بربع عقل ، أما البقية فهي عندكم في مصر . والله يعلم أنني لا أبالغ في هذا الكلام . وقد هزتني عبارتك الجميلة البسيطه إذ تقولين ” … فنحن هنا نعمل حسابا لوجودك في غيابك ” . العبارة يا أم جابر فيها من العمق بقدر ما فيها من البساطة والوضوح ؛ لأن الإنسان في أثناء غياب ” صاحب الشأن ” يستطيع أن يفعل ما يشاء حيث ” لا رقيب ” . ومن عجب أنني طرقت هذا المعنى في رسالة الماجستير : فخليل مطران أحب فتاة لبنانية اسمها ” روز ” ، وهي التى نظم فيها قصيدة المساء سنة 1902 ، ماتت روز بمرض عضال ، فظل مطران نصف قرن أي مدة حياته بعد وفاتها عَزَبا لم يتزوج وفاء لها إلى أن مات سنة 1949 .

ولأن اسمها ” روز ” ومعناه وردة كثر ذكر الورد والزهور في قصائده حتى في العناوين : فله مثلا قصيدة بعنوان : ” وردة ماتت ” . وأخرى بعنوان ” الوردة والزنبقه ” ……. الخ . وقلت هذا هو الوفاء الحقيقي حيث لا انتظار لمنفعة أو مقابل من الطرف الأخر، بعد غيابه الأبدي ، وحيث لا رقابة منه بعد أن فارق الدنيا الفراق الأخير .

 وانا والحمد لله واثق فيك ، وفيكم ثقتي في نفسي . ومن الطرائف التى قرأتها أن فتاة طلبت من البائع شالا بنيا غامقا ، لتهديه لجدتها في عيد الأم ، فعرض عليها البائع شالا بنيا فاتح اللون بعض الشيء ، فرفضت الفتاة . قال البائع : ولكنه رائع النوع ، فلتحضر الجدة لتراه بنفسها فقد يعجبها . أجابت الفتاة : لا إنها كفيفة لا ترى بعد أن جاوزت التسعين . قال البائع : إذن انحلت المشكلة ، أخبريها أن هذا هو البني الغامق الذي تريد ؛ فالغامق والفاتح في نظر الأعمى سواء .

نظرت إليه الفتاة باحتقار شديد وقالت ” وما قيمتي بعد ذلك في نظر ضميري بعد أن أخون ثقتها فيَّ ، حتى لو كانت المسألة في لون شال ” !!! .

يا أم جابر … يا حبة قلبي… ثقي بالله ، واعتزى بنفسك ، وابذلي مجهودك في ثقة وصبر، واتركي الباقي لله ، وادعي لي في صلاتك بالصحة والعافية ، والصبر على فراقكم .

وأنت تسألين عن نظام الأمريكان في ولائمهم . وأقول إن عندهم ثلاثة أنواع من الولائم هي :

أ – ألولائم العادية ، كما عندنا : دعوة مجموعة من الأصدقاء لتناول العشاء مثلا عند فلان . والتكاليف كلها على الداعي .

ب – الولائم المشتركة التكاليف ، بأن يحمل كل مدعو إلى بيت الداعي طبقا معه ، فيه لحوم ، أو حلوى … الخ . وتجمع هذه الأطباق على مائدة واحدة ، ويتناول المدعوون هذه الوجبة المتعددة الأصناف .

ج – الوليمة المستقلة التكاليف ، بمعنى أن يوجه الداعى دعوته إلى شخص أو أشخاص لتناول الغداء في مطعم ، وبعده يدفع كل فرد للمطعم مقابل ما أكل .

و أجيب بقية الأسئلة التى طرحتها على :

 السؤال الأول : هل الشعب الأمريكي يقول ” نكتا ” كالشعب المصري ، أم أنه متجهم ، لا ينكت ؟ وأقول : إن كثيرين يطرحون بعض نكاتهم ، ومن عجب أنهم يتخذون من ” اليونانيين ” مادة لنكتهم . ومن نكاتهم المشهورة أن أمريكيا كان مصابا بالاكتئاب ، واليأس من الحياة ، فصعد إلى أعلى طابق في ناطحة السحاب “Impire State ” محاولا الانتحار بإلقاء نفسه من فوق هذا الطابق ،وحاول رجال الشرطة أن يمنعوه ، دون جدوى ، واضطروا إلى الهجوم المفاجئ ، و الإمساك به ، وحاول ضابط الشرطة أن يقنعه بأنه مازال أمامه فسحة من العمر ، يعمل فيها ، وكله أمل في النجاح والتوفيق ، فالحياة مزيج من الحلو والمر ، والحزن والفرح ، وبعد أن نزلوا جميعا إلى الشارع وجدوا شخصا مقطوع الذراعين إلى المرفقين وهو يرقص مستعملا ما بقي من ذراعيه ، وحوله مجموعة كبيرة من الشباب يصفقون على وقع رقصاته .

قال الضابط للشاب الذى منعه من الانتحار : أنظر هذا مقطوع الذراعين ، ومع ذلك يبدو عليه السعادة ويرقص . فاقتنع الشاب بخطئه ، وتركه رجال الشرطة لينضم إلى مجموعة الشباب ، ويصفق للراقص المقطوع الذراعين .

وبعد أن انتهى السامر اقترب هذا الشاب من الراقص وسأله : كيف ترقص وأنت مقطوع الذراعين ؟ !! .

أجاب الراقص : والله ما أردت الرقص ولكن كنت أعاني ألما شنيعا لأن ” قملة ” كانت تنهش في جانبي ، أفحاولت أن ” أخرسها ” ، أو ” أخرجها ” بتحريك ما بقي من ذراعَيَّ حركات هيستيرية ، فتجمع علي هؤلاء ، وأخذوا يصفقون معتقدين أنني أرقص ، والحقيقة أنني كنت أتلوى من الألم .

**********

أما سؤالك الثاني يا أم جابر فهو : كيف يتعايش المصرييون في بيئة نقرأ عن كثرة الجرائم فيها ، وأبشعها ما يرتكبه السود ؟

وأقول : الحوانيت لا تسهر ، فالحياة اليومية تنتهي مع الغروب ، وقد وزعوا علينا كتابا في جامعة يل يشرح مبادئ السلامة . ومنها لا تتأخر عن المنزل بعد غروب الشمس ، ومنها إذا شعرت بأقدام مريبة تتبعك ، فعليك أن تعدو بأقصى ما تستطيع ، ومنها إذا استوقفك بعد الغروب بخاصة شخصا لا تعرفه وأمرك أن تعطيه ما في حوزتك من مال ، فنفذ ما يأمرك به ولا تقاوم ، وبعد ذلك اتخذ إجراءاتك القانونية .

وهي توجيهات لا لأساتذة جامعة YALE فحسب ، بل لكل الغرباء في الولايات المتحدة . وهناك كثيرون جدا من اصول زنجية يأخذون أنفسهم بالقيم الأخلاقية ، ويلتزمون جادة القانون .

**********

والسؤال الثالث : هل أنت يا أبي مستريح لتركك لنا في مصر ، وانفرادك بهذه الرحلة العلمية ؟ أم أنك أدركت أن الصواب كان في أن نكون معك في مغتربك ؟

وأنا أقول يا أم جابر إنها سقطة مازلت أشعر بمرارتها حتى الآن . وأدركت أن مصاحبتكم لي في هذه الرحلة العلمية كانت ستثمر منافع جمة لكم ولي ، منها : الاستقرار النفسي ، ومعرفة وطن جديد ، وإتقانكم للغة الانجليزية . أقول يا ليتني فعلتها ولكن ما جدوى ” يا ليتني ” بعد أن قضي الأمر ؟ ولكني على أية حال أراني مؤمنا بصدقية القول المأثور : لواطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع .

**********

أما سؤالك الأخير وهو : من صديقك الأثير في مغتربك ؟

وأقول يا أم جابر إن صديقي الذي أعايشه ليل نهار هو القرأن الكريم ، تلاوة وفهما ، وتأملا . وقراءة أكبر عدد من كتب التفسير .

وأحب أن أنبهك إلى أن جامعة يل فيها مكتبة ضخمة ، فيها من كتب التراث العربي و الإسلامي آلاف مؤلفة . ومن حرصهم على كتب المكتبة يتبعون الوسائل الآتية :

1- محظورا أن يدخل القارئ المكتبة ومعه أي قلم ، فهم يسلمونه قلما من نوع خاص اذا أراد كتابة ما يعن له من ملاحظات أو خلاصات ، وينبهون القارئ إلى أن المكتوب بهذا القلم سيختفي بعد خمس ساعات ، حتى يصوره أو ينقله بقلم أخر بعد مغادرته المكتبة ، والسبب في ذلك حرصهم على حماية الكتب وخصوصا كتب التراث ، فقد يلجأ القارئ للكتابة على هوامشها ، فإذا حدث ، فإن ما كتبه سيختفي بعد عدة ساعات .

2- وضع قطعة معدنية معينة في كعب الكتاب من الداخل ، لا يراها القارئ ، فلو فرض أن قارئا سطا على كتاب وخبأه في ملابسه مثلا ، فإنه يفضح نفسه وهو خاج من باب المكتبة لصدور صوت مثل جرس الإنذار، يدل على أن هذا القارئ الذى سيغادر معه كتاب من كتب المكتبة . و المسألة طبعا مصنوعة على أساس علمي .

ومع ذلك يستدعيه مسئول المكتبة ، وفي أدب جم يقول له : معذرة يا سيدي فقد نسيت أحد كتب المكتبة معك وأنت خارج ، وما ذلك إلا لحرصك على العلم .

مع ملاحظة أن القارئ يستطيع أن يصور له أي عدد من الصفحات يريده بطريقة ( الميكرو فيلم ) . وهو جالس مستريح في المكتبة ، مع تسديد قيمة التصوير .

إنها تصرفات خالية تماما من التعقيد والتعسير ، لتسهيل الحصول على العلم والمعرفة.

لعلكي الأن أدركت يا أم جابر لماذا كنت أتمنى أن تكونو جميعا معي حتى تروا الجديد في كل شىء .

**********

ووأخيرا يا أم جابر أهديك قصيدة نظمتها لك وتاريخها يوليو 1968م. أى كنت في الثالثة من عمرك . وأنا أنقلها لكي من يومياتي :

اغتربت تاركًا وحيدتي لمياء بنت الأعوام الثلاثة، وفي مسكني في مغتربي نظرت للأفق البعيد، وتذكرت حبيبتي …….وحيدتي لمياء، وملك عليَّ طيفها كل مشاعري، واستبد بي الحنين، فذابت نفسي شوقًا، وسال قلبي إلهامًا وشعرًا في رسالة إليها:

حـبـيبتي  لمياءْ
فـي لـيلةٍ شهباء
يـا بـسمة السناء
جـبـينك الصفاء
وثـغرك  المِعطاء
صـغيرتي  لمياء
مُـري بـلا حياء
في  لهجة استعلاء
أمـرًا لـه مضاء
نُطِعْ بلا استرخاء
لا يـمـلك الإباء
ونـحـن كالظماء
يـا  مهجتي لمياء
إذ أسـمـع النداء
ولـهـفـة  لهفاء
أثـيـرتـي لمياء
تـهل  في المساء
والـنجمة  الغراء
وألـثـم الـسماء
أراك  فـي الهواء
والـروضةَ الغنَّاء
طـيـفًا من النقاء
يـامـهجتي لمياء
يا  درتي العصماء
يـا  مِنحة السماءْ
تـفـوح بالضياء
ودرةَ  الـلـلألاء
يـفيض  بالنعماء
سـينٌ  وحا وراء
يـا  زينة الأسماء
بـالشخْطِ والإيماء
أعـلى  من اللواء
يـحـتم الإصغاء
كالجندِ في الهيجاء
بـل طاعة عمياء
وامـرك الصهباء
مـا أنـبل الوفاء
فـي نـبرةٍ لثْغاء
“بـابا حبيبي جاء”
طـيـوفك الهيفاء
في  البدر والعلاء
فـأحضن  المساء
تـمـوج  باللألاء
إمـا  يناجي الماء
والـربوة الزهْراء
والطهرِ  والرضاء
لـهفي على اللقاء
نـفسي  لك الفداء

وأخيرا لكم جميعا تحياتي وأشواقي ودعائي . وفقكم الله لما يحب ويرضى إنه نعم المولى ونعم النصير .

الاربعاء 12 من مايو سنة 1982 .

 قطرات نفس

المعلم

 لايستطيع واحد منا – أيا كانت مكانته ورتبته – أن ينكر فضل معلمه عليه فى أية مرحلة من مراحل التعليم . فليس منا إلا من جلس فى فصل من صغره يتلقى عن معلمه ما ينمى عقله ، ويشحذ فكره ، ويسمو بروحه ، ويرسي فى أعماقه محاسن الأخلاق .

 وطبيعة الرسالة التى يؤديها المعلم يصورها أحد المفكرين الحكماء بقوله ( إذا كان لكل واحد منا فى يده خمس أصابح ، فإن للمعلم فى يده ست أصابع ، والإصبع السادسة هى أصبع الطباشير ، يضيء المعلم ببياضها سواد السبورة ، ويهتك بها ظلام العقول ) .

ورسالة المعلم لها وجهان كوجهي العملة الواحدة لايمكن الفصل بينهما : الوجه الأول هو الوجه التعليمى التثقيفى . أما الوجه الثانى فهو الوجه التربوي الذى يهتم بإرساء القيم الخلقية والنفسية والروحية فى نفوس التلاميذ .

 والمعلم الناجح هو الذى يخلص لهذه الرسالة بمفهومها الشامل ، ويحرص على خلق التوازن السوي بين هذه الجوانب المختلفة حتى تؤتى هذه الرسالة ثمارها المرجوة المنشودة .

وكان الشاعر على حق حين خاطب المعلم قائلا :

قرأتَ  كتابَ الكون سطرا تلا سطرا
أصابعك استولتْ على العقل فازدَهَى
وتـنـظرك الدنيا ، وقد عُلِقتْ علي
مـعـلـمُ  : عدْ فاكتبه أجمل مايُقرا
تـبـاشـره نـثـرا ، فتتركه شعرا
فـم  لك قال السحر أو ابطل السحرا

وكلنا يحفظ البيت المشهور لاحمد شوقى :

قم للمعلم وفه التبجيلا              كاد المعلم أن يكون رسولا

فلا عجب إذن أن نجد تلاميذ السيد المسيح وحوارييه ينادونه دائما ب(المعلم ) وهل رسالة الرسل جميعا إلا توجيه وإرشاد وتربية وتعليم ؟

وكل هذه الاقوال – وغيرها كثير :

    تبرز عظمة المعلم وسمو رسالته – من جانب ، كما تشير – من جانب آخر – فى إجمال – إلى واجب المعلم فى أعناقنا وحقوقه علينا جميعا .

 فواجب التلاميذ نحوه يتلخص فى الطاعة ، والامتثال والاستجابة ، والحرص على الإفادة الصادقة من شرحه وتوجيهاته . وكذلك صدق الشعور نحوه بالمحبة والوفاء ، والاعتراف بالفضل والجميل .

 وعلى الآباء وأولياء الأمور أن يغرسوا هذه المعاني والقيم والمشاعر فى نفوس أبنائهم نحو معلميهم . كما عليهم أن يعاونوا المعلمين فى أداء مهمتهم بمتابعة أبنائهم فى أداء مايكلفون به من دروس وواجبات منزلية ، وذلك انطلاقا من بدهية واضحة عليهم أن يؤمنوا بها إيمانا راسخا وهى : أن البيت والمدرسة والمجتمع العام حلقات ثلاث متواصلة متلاحمة متكاملة . وكلها تلتقى فى هدف واحد وهو تخريج المواطن الصالح الذى ينفع دينه ووطنه وأمته ، بل الإنسانية جمعاء .

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img