img
هذا يوم الحداد العام
img
Print pagePDF pageEmail page

هذا يوم الحداد العام

سيظل شهر ديسمبر 1954 شهر سواد حالك في تاريخ مصر, وسيظل يوم الخميس التاسع من هذا الشهرنقطة عار في جبين حكومة العساكر التي حكمت مصر, ومازالت تحكمها حتي الآن. إنه اليوم الذي شنق فيه عبد الناصر ستة من أشرف وأنقي رجال هذه الأمة, هم الشهداء: عبد القادرعودة, ويوسف طلعت, ومحمد فرغلي وإبراهيم الطيب وهنداوي دوير, ومحمود عبد اللطيف. وكان القاضي الذي أدان هؤلاء المجاهدين الأشراف ضابطًا مجنونًا اسمه «جمال سالم» وطبعًا كان من أجهل الناس بالقانون, مجردًا من أبسط قواعد الذوق واللياقة والخلقوالنبالة.

وكانت «جريمة» هؤلاء الإخوان التآمر علي مصر, وتدبير مؤامرة لاغتيال «الزعيم الخالد جمال عبد الناصر» في ميدان المنشية بالإسكندرية, وقد ثبت أنها كانت تمثيلية دُبرت, ونُسجت خيوطها بليل, ووُزعت فيها الأدوار. وكان الهدف منها ضربالإخوان لأنهم كانوا القوة الشعبية الوحيدة التي تمثل العقبة الكأداء في طريقديكتاتورية عبد الناصر وبطانته من العساكر .

وتحت حبل المشنقة دعا عبد القادرعودة ربه «اللهم اجعل دمي لعنة علي رجال الثورة» واستجاب الله دعوته, فرأينا ما نزل بهؤلاء من نكبات, وما تعرضوا له من فضائح وكيف سلط الله بعضهم علي بعضهم الآخر, وكانوا:

كالنار تأكل بعضها

إن لم تجد ما تأكله

علي الطنطاوي وبيانه الإيماني

وعلي الطنطاوي (1327-1420هـ) (1909 – 1999م) هو القاضي السوري المشهور, ويوصف دائمًا بأنه: «فقيه الأدباء, وأديب الفقهاء», لأنه يعرض فقهه وفكره – كتابةًأو حديثًا – بأسلوب أدبي طلي راق بليغ, في تدفق لا يعرف التصنع والتكلفوالافتعال.

وبعد إعدام الإخوان مباشرة كتب مقالاً طُبع في كتيب صغير, وطُبع منه أكثر من نصف مليون, وتُرجم بعد ذلك إلي اللغة الأوردية, كما ترجم إلي اللغة الانجليزية, ونُشر في كثير من صحف العالم. وأذكر أننا- ونحن في بداية التعليمالجامعي- قرأنا هذا البيان, وكنت أحفظ كثيرًا من فقراته.. ولم أتمكن من قراءته مرة ثانية إلا بعد صدوره بتسعة وأربعين عامًا -أي من بضعة أشهر- منشورًا في الجزءالثامن من «ذكريات» علي الطنطاوي (ص 16-22), وأنا أعد بحثًا عن (شخصية المكان فيذكريات علي الطنطاوي) نشر في مجلة الأدب الإسلامي.

هذا يوم الحدادالعام..

كان عنوان هذا البيان «هذا يوم الحداد العام», وقد طُبع منه – كما ذكرت آنفًا – أكثر من نصف مليون نسخة, وتُرجم إلي الأوردية والانجليزية, ولأن أبناء هذاالجيل – أو أغلبهم – لم يقرؤه, وكمظهر من مظاهر الوفاء لذكري هؤلاء الشهداء الأبرارالستة. رأيت أن أقدم قطوفًا من هذا البيان, وكم كنت أتمني أن أقدمه بتمامه,” ولكن المساحة المتاحة ” تكبح جماح أمنيتي, فأكتفي بالقطوف عن الشجرة الوارفة الظلال.

إنه عرس لا مأتم..

استهل شيخنا بيانه استهلالاً أخاذًابارعًا نصه:

لو كان الأمر إليّ لما جعلته أمر حداد, بل يوم بًشٍر وابتهاج, ولما صيرته مأتمًا بل عرسًا, عرس الشهداء الأبرار علي الحور العين, ولما قعدت معالإخوان أتقبل التعزيات, بل التهنئات. وهل يرجو المسلم شيئًا أكبر من أن يموت شهيدًا?

وهل يسأل الله خيرًا من حسن الخاتمة… إني لأتمني – والله شاهد علي ماأقول – أن يجعل منيتي علي يد فاجر ظالم, فأمضي شهيدًا إلي الجنة, ويمضي قاتلي إليالنار, فتكون مكافأتي سعادتي به, ويكون عقابه شقاؤه بي.

عقاب.. وعقاب!!

هذاهو العقاب لا عقابك يا جمال, عقاب الله «الناصر» لأوليائه, القاهر فوق أعدائه, الذي ستقف أمامه وحدك, ليس معك جيشك, ولا دباباتك, ولا سلاحك, ولا عتادك, تساق إليه وحيدًا فريدًا.. فيسألك عن هذه الدماء الزكية فيم أرقتها? وعن هذه الأرواح الطاهرة فيم أزهقتها? وعن هاتيك النساء القانتات الصابرات فيم رملتهن? وعن أولئك الأطفال البرءاء فيم يتمتهم? وعن هذه الجماعة الداعية إلي الله, المجاهدة في سبيله, فيم شمّتَّ بها أعداء الله ورسوله?..

فعش كيف عشت, وسر مهما سرت, فهل تقدر أنتجد لك طريقًا لا يمر بك علي المحشر ? ولا يقف بك موقف الحساب? هل تعرف لك مُلكًاغير ملك الله? تفر إليه كما يفر المجرم السياسي من دولة أساء إلي حكامها, إلي دولة أخري تحميه منها? وهل تظنها تدوم لك يا عبد الناصر? لو دامت لغيرك ما وصلت إليك.

ما أعظم الضحايا!!!

يا عبد الناصر جزاك الله بما تستحقه:

أوتعرف بمن ضحيت? ضحيت بمن كان أعلم المسلمين بالشرع الجنائي في الإسلام, ومن سنحتاج إليه غدًافلا نجده, ولا نجد مثله, فنبكي عليه حزنًا وأسفًا, ويضحك عدونا شماتة وسرورًا? بمنألّف الكتاب الجليل (التشريع الجنائي الإسلامي) الذي ترجم إلي كثير من لغات الناس, وتقرر تدريسه في الجامعات, وتزاحم الجميع علي تكريم مؤلفه, وبعثوا يطلبونه, فقيللهم إنه لا يستطيع أن يحضر حفلات تكريم, لأن عبد الناصر كرّم علمه وفضلّه بحبل المشنقة.

يا عبد الناصر جزاك الله بما تستحق:

ضحيت بسيد المجاهدين الفرغلي, بالشيخ الذي أفزع بريطانيا حتي جعل راديو «فايد» – البريطاني – ينادي كل يوم ثلاث مرات, بأن من جاء برأسه فله خمسة آلاف, فجاءهم برأسه عبد الناصر, فيا عبد الناصرجزاك الله بما تستحق…. لقد كانوا جميعًا من أئمة التقي, ومصابيح الهدي, من الذين يقومون الليل, يقطعونه تسبيحًا وقرآنًا, ويجاهدون في النهار يملئونه جهادًاوإحسانًا

تعذيب.. وتعذيب

وأشهد لقد قرأت أخبار المشركين وتعذيبهم لمن آمن من قريش وما فعل أعداء الإسلام بالمسلمين من الطغاة الجبارين, كهولاكو وجنكيز, وماصنعت محاكم التفتيش في الأندلس, وما تصنع إسرائيل في فلسطين, في دير ياسين, وقبية, ونحالين, فوالله ما آلمني شيء كما آلمني ما صنع عبد الناصر وأعوانه بهذه النخبةالصالحة من المسلمين.

ولو كان في هؤلاء الشهداء قاتل أو مجرم, وحاكموه محاكمة, ثم عاقبوه قصاصًا, لما اعترضهم أحد, أما أن يكونوا من خيار المؤمنين, وأنيكون ذنبهم أنهم أعدوا السلاح للعدو وبعلم رجال الحكومة, وأنهم دربوا علي القتال والتدريب بعلم رجال الحكومة, وأنهم أعلنوا رأيهم في المعاهدة , وحق الرأي واحد منحقوق الإنسان, وأن تحاكمهم هذه المحكمة, وليست محكمة فيها قضاة…. وأن يكون الحكم علي هذه الصورة فهذه قصة فظيعة فظيعة فظيعة, بلغ من فظاعتها أن أجمع الناس – علياختلاف البلدان والألسنة والألوان والمذاهب والألوان علي استنكارها..

عساكربلا فروسية..

ولست أدري كيف يلبس هؤلاء لباس الجند, ويحملون شارة العسكرية, وما سلكوا سبل البطولة, ولا استنوا بسنن الفروسية عند الفرسان.

الفارس من يبارزخصمه في الميدان, وينازله مسلحًا, أما الذي يبدي البطولة والخصم أعزل مقيد, وحوله الرهط من الأنصار, وخصمه مفرد, فهذا ليس من الفروسية في شيء.

أما أنتم يا أيهاالإخوان..

أما أنتم يا أيها الإخوان المسلمون, فاعلموا أن المحن تدريب.. وتمرين, وكلما تقدم الجندي خطوة صعب التدريب عليه وقسا, فإذا وصل إلي أقساه, فقدبلغ آية القوة, وصار جنديًا كاملاً.

وأنتم بلغتم الغاية اليوم حين امتُحنتم الامتحان الأكبر, امتحان الدم, ونجحتم, نجحتم والله, ولم تزعزع المشانق إيمان هؤلاءالإخوان, ولا هزت أعصابهم, ولقد قابلوا الموت مقابلة انحنت – إكبارًا لبطولتها وعظمتها – هامات الرجال في كل مكان.

واذكروا أن الشيخ الإمام حسن البنا – رحمهالله – كان قد أنذركم أنها لا تزال أمامكم مصائب شداد, واختبارات صعاب, وقد أقدمتم عليها, وأنتم عارفون بها.

والعاقبة لكم, إنها والله لكم, ولأنكم تمشون علي هديالإسلام. المستقبل لكم, فلا تزعزعكم الأحداث, ولا تفتنكم عن إيمانكم, علي أن تبقواصفًا واحدًا, لا تفرق بينكم الدنيا, ولا يقسمكم النزاع علي الزعامات, وأن تجعلواإمامكم دائمًا كتاب ربكم .

وبعد.. فيا أهل الشهداء: الصبر الصبر. إن دموع العالم الإسلامي كله قد مازجت دموعكم, وقلوبهم جميعًا قد قاسمت الأسي قلوبكم, وكلهم أخ لكم وصديق. ومأتمكم صار مأتم دنيا الإسلام كلها, والله معكم, والله خير من الجميع “.

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img