img
مِن المائدَة الرَّمَضَانيّ‍َة
img
Print pagePDF pageEmail page

مِن المائدَة الرَّمَضَانيّ‍َة 

 

من الحقائق التي حملها إلينا التاريخ، وسرى مسرى الأمثال قولهم “العرب أمة شاعرة”. وكذلك قولهم “الشعر ديوان العرب”. ولا مبالغة في ذلك: فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم وأيامهم، ومسيرتة حياتهم.

عزيزي المستمع: أنت ضيفنا في هذه الحلقة على “المائدة الرمضانية” فنحن نعرفُ أن حلولَ رمضانَ يرتبطُ بظهورِ ألوانٍ معينةس من المطعومات والمشروبات، مثل الكنافةِ والقطايفِ، والتمرِ، والمشمشِ، والزبيب، وقمر الدين، وغيرها.

وفي ديوان العرب نلتقي بصفحات متعددة تعرضُ ـ في خفة ـ بالحديث عن هذه الألوان، وتوصفها، ومن أظرف الظرفاء الشاعرُ حسين شفيقُ المصري الذي عاش في القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين، وقد اشتهر بما يسمى بالشعر الحلمنتيشي، وهو الشعرُ الخفيف الضاحك الذي يعارضُ به الشاعر القصائدَ العربية القديمة المشهورة، أي ينظم قصائدَ على وزنها وقافيتها.

وقد عارض قصيدة أبي العلاء المعري التي مطلعها:

عللاني فإن بيض الأماني

                فنيت، والظلامُ ليسَ بفانِي

وفي الأبيات التالية نرى الشاعرَ حُسينَ المصري يعرض أغلب المطعومات والمشروبات الرمضانية فيقول:

نصف شعبان قد مضى ووراء    النصف باقي الأيام من شعبان

فترى كل ما تحب وتهوى                من شهى الطعام في رمضانِ

من كباب وكفتة وفطير         وكنافٍ مصفوفة في الصواني

وفراخ محمرات بسمن           خير ما يشتري من “الفخراني

واذكر المشمش البديع خشافا            بزبيب له أعض لساني

وإذا ما شربت من قمر الدين             فخذه في صفرة الكهرمانِ

***

فلنترك العصر الحديث يا عزيزي المستمع ـ لنعيش دقائق مع بعض ظرفاء العصر المملوكي، ومن أشهرهم الشاعر أبو الحسين الجزار، وهو اسم على مسمى؛ لأنه كان يمتهن الجزارة فعلاً، أي يرتزق من بيع اللحم في عصره كسدت فيه سوق الشعر. لقد كان من هواة الكنافة والقطايف. لذلك كتب إلى صديقه “علم الدين” يطلب منه هدية من الكنافة ومعها “القطرُ” أي المحلول السكري الغليظ الذي “تسقى” به الكنافة، يقول أبو الحسين:

أيا علم الدين الذي جُودُ كفه

                براحته قد أخجل الغيث والبحرا

لئن أمحلت أرض الكنافة إنني

                لأرجو لها من سحب راحتك القطرا

فعجل بها جودا، فما لي حاجةٌ

                سواها نباتًا يثمر الحمدَ والشكْرا

***

وفي أبيات أخرى يجمع بين الكنافة والقطايف: فيقول:

تالله ما لثم المراشف     كلا، ولا شم المعاطفْ

بألذ وقعًا في حشا               ي من الكنافة والقطايف

***

ونرى الشاعر الجزار يشخص الكنافةَ والقطايف، ويفتعلُ بينه وبينها قصة حب، ويستخدم ألفاظ المحبين مثل الغضب والرضى، والهجر، والجفاء، والصدود. فيقول:

ومالي أرى وجه الكنافة غاضبًا

                ولولا رضاها لم أسغ رمضانها

عجبت لها في هجرها كيف أظهرت

                عليَّ جفاء صدعني جفانها

ترى اتهمتني بالقطائف، فاغتدت

                تصد اعتقادًا أن قلبي خانها

وقد قاطعتني، ماسمعت كلامها

                لأن لساني لم يخاطبُ لسانها

***

والقطايف هي صنو الكنافة، فالمائدة الرمضانية تجمع بينهما، ولا تذكر إحداهما إلا مرتبطة بالأخرى، ولكن بعض الشعراء أفردها بالوصف كما نرى في قول ابن نباتة:

أقولُ وقد جاءَ الغلامُ بصحنه

                عقيب طعام الفطر يا غاية المنى

بعيشك قل لي: جاء صحن قطائف؟

                فصرح بمن أهوى، ودعني من اكلني

ويقول أحد الشعراء:

هاتِ القطائفَ هُنا

                فالصومُ حببها لنا

قد كان يأكلها.. أبي

                وأخي وأكرهها أنا

لكنني.. مذ ذقتها

                وذقتُ السعادةَ والهَنَا

***

ويقول شاعر آخر:

قطائفٌ لواطفٌ روابي    تنزلُ في الحلقِ بلا حجابِ

وللمشمش مكان أيضًا على المائدة الرمضانية، وكذلك في شعر الشعراء. يقول أحدهم:

ومشمش جاءنا من أعجب العجب

                        أشهى إليَّ من اللذاتِ والطربِ

كأنه ـ وهُبُوبُ الريح ينثره ـ

                        بنادقٌ خرطت من خالص الذهبِ

***

ويرسم أحد الشعراء صورة جميلة آسرة لطبق من التين في الأبيات الثلاثة الآتية:

أنعم بتين طاب طعما واكتسى

                حسنًا، وقاربَ منظرًا من مخبرِ

في برد ثلج، في نقاتبر، وفي

                ريح العبير وطيب طعم السكرِ

يحكي إذا ما وُصفَّ في أطباقه

                خيمًا ضربن من الحرير الأحمرِ

***

ويبقى التمر ـ يا عزيزي المستمع. هو أشيع هذه المطعومات، وأكثرها انتشارًا، وأقربُها إلى نفوس الصائمين، وذلك لارتباطه بالسنة النبوية في الإفطار، ولكثرته ورخص ثمنه ـ على مدار التاريخ ـ إذا قيس بالألوان الأخرى. وفي التمر يقول أحد الشعراء:

لله تمر طيب   واف. على البشر انطوى

يا حسنه مجتمعًا        يحلوُ لنا بلا نَوَى

***

وكان الشعراء في العصر المملوكي، والعصر التركي مُغْرمين بالمحسنات البديعية من ازدواج ومقابلة وتورية ومجانسة.

ومثال ذلك أن الشاعر ابن نباتة المصري أهدى إليه أحدُ أصدقائه في رمضان تمرًا رديئًا كثير النوى، فكتب إليه مداعبًا:

أرسلت تمرًا، بل نوى فقبلته

                بيد الوداد، فما عليكَ عتابُ

وإذا تباعدت الجسومُ فودنا

                باق، ونحنُ على النوى أحبابُ

ففي كلمة “النوى” في البيت الثاني ما يسمى في علم البديع (تورية)، وهي تعني أن يكون للكلمة معنيان: معنى قريب غير مقصود، ومعنى بعيدٌ هو المقصود.

والمعنى القريب لكلمة النوى هو “البعاد” كما يوحي بذلك الشطر الأول من البيت الثاني، وهو معنى لا يريده الشاعر. أما المعنى البعيد الذي يقصده فهو نوى التمر. جمع نواة.

ويربط الشاعر آخر بين التمر، والموروث الديني في السنة النبوية فيقول:

فطور التمر سنه                رسولُ اللهِ سَنَّهْ

ينالُ الأجرَ عبدٌ         يُحَلِّي منه سِنَّهْ

والشاعر هنا يستخدم ما يسمى بالجناس، ويعني تشابه كلمات في الحروف مع الاختلاف في المعنى ـ كما نرى في سُنَّهْ ـ وسَنَّهْ ـ وسِنَّة: فالأولى بمعنى تشريع، والثانية: فعل بمعنى شرع، والثالثة بكسر السين واحدة الأسنان.

***

عزيزي المستمع: نأمل أن تكون قد تمتعت بهذه الوجبة الشعرية الرمضانية. ونتركك على خير، وإلى اللقاء في حلقة جديدةٍ من ديوان العرب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img