img
مع ذكريات عيد الأضحي
img
Print pagePDF pageEmail page

مع ذكريات عيد الأضحي :

حكايتي .. مع خرفان طفولتي

ما زلت أتميز ضيقا وغيظا كلما رأيت كبشا ذا قرنين وترتفع حرارة هذه الحالة إذا كان القرنان من النوع المقوس الذي يظهر ـ في راس الكبش ـ كأنه حرف الهاء الذي يكتب في أول الكلمة ( هـ )  ولكن في صورة عكسية . ولو كنت أملك القدرة والشجاعة لهجمت على مثل هذا الكبش وخلعت قرنيه ، أو حطمتهما ، ولكنها عقدة الخوف من القرون . وهي عقدة ما زالت تتحكم فيّ من أيام الطفولة الباكرة ، أي من قرابة خمسة وستين عاما بسبب مأساة كان للخراف دور البطولة فيها ، ولأبدأ الحكاية من أولها :

   مسرح هذه الحكاية مسقط راسي مدينة المنزلة في أقصى شمال الدلتا ، وكانت أشبه بالقرية منها بالمدينة ، فقد كان عدد سكانها لا يزيد على عشرة آلاف ، والآن أصبح قرابة ربع مليون . وكانت البلدة تتكون من حارات تسمى كل حارة باسم أهم الأسر التي تعيش فيها وأكثرها عددا ، وهو تقليد متوارث عن أسلافنا العرب في السكنى : فيقال مضارب بنى فلان ، ولما بنيت المدن تكونت من أحياء كل حي تشغله قبيلة ، أو بطن أو فخذ منها .

   وكانت حارتنا المسماة بـ ” حارة قميحة ” أو ” حارة القمايحة ” يشغلها مسكن أسرتنا ، ومساكن أعمامي ، وعمتي ، وأبناء العمومة ، ويجاورها حارة منيسى ” أو ” المنايسة ” وحارة الطير ” وغيرها .

   وتمتد حارتنا قرابة مائة وخمسين مترا ، لتخلص إلى حارة أخرى مفتوحة على عدة حارات هي حارة ” عبد ربه ” ولكن كان على يمين حارتنا من ناحية وسطها عطفه أو زقاق ” الترعي ” والعطفة أصغر بكثير من الحارة . وهي عطفة ” سد ” تمتد إلى اليمين قرابة ثلاثين مترا ، وتنهي بمنزل في صدر العطفة ، ومن ثم لم يكن للعطفة منفذ . والمنزل المذكور هو منزل أرملة طيبة القلب هي : ” أم محمد ” .

   أما تاريخ المأساة فهو السادس من ذي الحجة 1357 هـ ( 27 من يناير 1939 م ) ، كان سني يقترب من الخامسة ، أما شقيقتي ” نبوية ” التي كانت تشاركني لعبي فكانت تكبرني بعام وبضعة أشهر . وقبل يوم المأساة بقرابة أسبوع اشترى والدي كبشين كبيرين أقرنين دفع فيهما ستة جنيهات  كاملة لذبحهما في العيد . وفي حارتنا بجانب بيتنا دق لهما في الأرض وتدين خشبيين متجاورين ، وفي رقبة كل كبش حبل متوسط الطول يتصل بوتده ، ووضع أمامها  ” طوالة ” أي صندوقا خشبيا وضع فيه ” العلف ” وهو خلطه من الفول المجروش والشعير وقشر الفول ، والردة . زيادة على إناء فيه ماء .

   لا أستطيع أن أعبر عن سعادتي بالخروفين ، وإن كانت سعادتي يقطعها مسحة من الحزن كلما تذكرت عبارة والدي ” لازم نعلفهم كويس علشان ندبحهم في العيد ” ، وأصبح من الصعب علي أن أتصور أو أتخيل غيابهما عنا . لقد استجاب الخروفان لي ولشقيقتي ، ولا شك أنهما يبادلاننا حبا بحب ، بدليل أنهما يتناولان العلف من أكفنا الصغيرة ، وكذلك بعض أعواد البرسيم ، ولا شك أنهما كانا يبادلاننا السعادة ونحن ” نملّس ” على رقبة كل منهما ، وندلك ظهره ، وأذكر أنني حاولت ذات يوم أن أركب أحدهما بمساعدة شقيقتي فنهرني والدي بشدة :

   ” أوعى تعمل كده تاني … لو عملتها حينطحك ،ويسيحّ دمك ” . واستجبت لأبي فلم ” أعملها تاني ” وأذكر كذلك أننا ـ أنا وشقيقتي ـ كدنا نطير من الفرح .. عندما رأينا خروفينا يسجلان انتصارا باهرا على كبش عمي مسعد الذي جاء من آخر الحارة حيث يسكن عمي ، ويظهر أن الجوع ” قرصه ” فحاول أن يشارك كبشينا ” علفهما ” فثارا عليه ثورة غير ” ميمونة ” ، وأخذا يسددان إليه دفعات من القرون ” الموجهة ” ، ولم يتركاه إلا بعد أن جاوز مقره إلى حارة  ” عبد ربه ” خوفا وفزعا . وأقسم أنني شعرت بالزهو وأنا أرهما يعودان إلى موقعهما في وقار وخيلاء ، وضحكت أنا وشقيقتي ونحن نراهما بحبليهما .. وفي نهايتهما ” الوتدان ” اللذان لم يصمدا ، فاستسلما وانخلعا للكبشين الناقمين الثائرين على الغازي المعتدي . وأضطر أبي إلى ربطهما في وتدين آخرين أطول من السابقين ،ولم يكتف بذلك بل أعطى وتداً مثلهما لعمي مسعد ، وطلب منه أن يربط فيه خروفه ، بعد ان يدق الوتد عميقا في الأرض لأنها ” أرض مايعة ” على حد قوله .

          

   وأويت إلى فراشي وأنا أستشعر السعادة الغامرة بالنصر الذي أحرزه كبشانا ، ولا يفارق مخيلتي منظرهما ، وهما عائدان إلى موقعهما في وقار وزهو وفخار ، ورأيت فيما يرى النائم أني أركب أحدهما ، وأنا أميل بصدري ممسكا بقرنيه من الخلف ، ولم أشعر بالخوف وهو يطير بي فوق منازل حارتنا ، ونظرت إلى أسفل فرايت كبشنا الثاني ـ في حجمه الطبيعي ـ ينظر إلينا ، وكأنه ينتظر دوره لأركبه كصاحبه ، ونظرت إلى كبش عمي مسعد فرأيته ـ وأقسم ـ في حجم كلب صغير ، وقد نكس رأسه معلقا نظره بالأرض ، عجبا .. لقد رأيت في راسه أذنين طويلتين بدل القرنين .. ياه … لقد شغلت عن ” الأعلى ” بالأسفل .. وتغير شعوري من الأمن والسعادة إلى الخوف والفزع ، وأنا أري الكبش يواصل صعوده حتى جاوز السحاب … وخشيت السقوط .. فقد انطلق الكبش بي إلى أعلى وهو في وضع رأسي .. وازداد تشبثي بقرنيه من الخلف .. وازداد فزعي . وأخذت أصرخ  : ” الحقوني .. انزل … انزل ـ كفاية كفاية ” . ولم ينقذني إلا أمي التي أخذت تهزني إلى أن استيقظت .. وأخذتني في حضنها وهي تبسمل وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم .

   ” فيه إيه يا حبيبي ..؟ ما تخافشي .. دا كابوس وزال . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ..”

   وشعرت بالطمأنينة لأن ما حدث كان حلما لا حقيقة . ولكني لم أستطع أن أفسر الدموع الغزيرة التي ملأت عيني ، وغمرت خدّيّ واستأنفت النوم ، وبعد استيقاظي تناولت الإفطار على عجل ، ونزلت إلى الخروفين بمفردي ، كانا كعهدي بهما هدوءا ،ووقارا ، وأخذت أملأ كفي اليمني بحفنات العلف ، فيتناولانها ، وأنا أكثر منهما رضاء وفرحا ، وبذلك تأكدت أن ما رأيته كان حلما مزعجا ، ولم يكن حقيقة .. وألحت على مشاهد الحلم … هذا الكابوس المزعج وأخذت أمرر يدي على ظهر أحدهما ، وأقول في نفسي ” على هذا الظهر ركبت وطرنا إلى السحاب ” ، واستدرت مواجها الخروف وأخذت أشد قرنيه إلىّ بقوة وأحّدث نفسي ” لولا أمساكي بهذين القرنين ، لسقطت على الأرض . ومت ” . ولتأكيد اعترافي بالجميل اشتد جذبي للقرنين نحوي . وفجأة أخذ يهز رأسه بشدة يمينا ويسارا ، حتى خلص قرنيه من قبضتيّ الصغيرتين ، وفي لمح البصر نطحني في صدري نطحة طرحتني أرضا ، ونهضت ، وتراجعت إلى الخلف عدة خطوات ، ووجهي إليه . وفي لمح البصر رأيته يخلص عنقه ورأسه من الحبل الذي لم يُحكم ربطه ،وسدد إلى نطحة أخرى ، أخفقت كفاي في اتقائها ، حاولت أن أصرخ ، ولكني عجزت عن ذلك تماما ، فقد التصق لساني من الرعب بحلقي ، وأحسست أن قدرتي الصوتية قد تجمدت تماما . وزحفت على ظهري إلى الخلف قرابة مترين مستعينا بيمناي الواهنة المرتعشة ، وأثناء الزحف المفزوع كنت أرفع راسي عن الأرض قرابة شبر ، وعيناي معلقتان بالكبش الجاحد المعتدي ، وتوقف منشغلا برفيقه الذي كان ـ على ما يبدو ـ مؤمنا بفضيلة التعاون ، فتمكن من قطع حبله لحظة نهوضي من سقطتي ، وصرت أواجه كبشين لا كبشا واحدا .

   وتكرر السيناريو على النحو التالي :

   ينطحني الأول ، وأحاول تخفيف ضغط النطحة عن صدري بكفيّ وأنطرح أرضا ، وأنهض .. وأتراجع بظهري داخل الحارة خطوة أو خطوتين ، ويبدأ الثاني مهمته بنفس الطريقة ، ويتكرر النطح ، فالسقوط ، فالنهوض ،فالتراجع وهلم جرا . وأثناء انسحابي المهزوم رأيت كبش عمي مسعد مضطجعا على جنبه الأيمن فتظاهر بأنه مشغول بالتهام بعض عيدان البرسيم ، وكأنه يعلن أنه اتخذ قرارا فوريا بالحياد ، وعدم الانحياز ” بعد العلقة ” التي أكلها من يومين .

كانت الحارة خالية من البشر تماما ، فاليوم يوم جمعة ، والناس لا يستيقظون من نومهم إلاقبل الصلاة بساعة أو ساعتين . ودخلت ” عطفة الترعي ” التي تنتهي بلا منفذ ،وفي صدره منزل الأرملة أم محمد . سيناريو العطاء مستمر ، ولا يُسمع في العطفة أو حارتنا إلا صوت ” بُمْ ” … صوت النطحات المسددة إلى صدري ، ويديّ ، وأحسست أن جسدي أصبح كصوتي تبلدا متجمداً .. فلم أشعر بأي وجع وألم ، واقتربت بظهري من منزل ” أم محمد ” الذي يسد العطفة ، وحاولت النهوض من آخر سقطة ، ولكني عجزت عن الوقوف ، إلا على ركبتيّ .. فوجه أحد الكبشين نطحة إلى وجهي ، فأحسست أن أنفي قد تحول إلى جمرة من نار ، وأحسست أن دما دافئا يتدفق إلى ذقني وعنقي ، ولكني أقول للحق ـ أن هذه النطحة فكّتْ عقدة صوتي ، ومنحتني قدرة فائقة على الجري … وارتميت على باب ” أم محمد ” ، وأنا أصرخ صراخا باكيا … انفتح الباب عن الأرملة الطيبة ، وأخذتْ تطلق عبارات الاستغاثة بالجيران ، وهي تتلقفني بذارعيها .. وما زلت أذكر من كلماتها التي أدخلت بعض الطمأنينة إلى نفسي ” يا حبيبي… يا ابني … يا ضنايا … يا حتة من قلب أمك ” .

   وللحق أيضا شعرت بأنني صرت خفيفا جدا … وأن كل شيء صار في عينيّ .. غائما شبحيا ،حتى نور الصباح ، ورأيتني أطير … فوق سطوح حارتنا … وتجاوزت السحاب في طيراني … دون الاستعانة بأجنحة … أو خروف .

          

وأفقت من غيبوبتي … لأجدني على سريري الصغير وقد لُف رأسي في شاش كثيف ، وذارعي اليمني في الجبس ، وحول سريري الصغير والداي وأعمامي وكثير من أقاربنا … ووجدتني أجهش بالبكاء ، وأنا أقول لأبي :

   “ـ النهارده تموتْهم .. ضروري تموتهم …

   ـ حاضر … خلاص حموّتهم النهارده …

   ـ لا … قبل ما تموتهم اربطهم كويس … وهات خروف عمي مسعد ينطحهم ، ويكسر قرونهم … وبعد كده تضربهم جامد .. قبل ما تموتهم …

   ـ حاضر … كل ده .. حيحصل النهارده إن شاء الله ” .

   وكان هذا أول عيد أضحى لم يدخل بيتنا فيه لحم الضأن . بعد أن تخلص أبي منهما، وذلك بتسليمهما لخالي الذي كان يسكن في حي بعيد . وهذا ما علمته بعد ذلك بأشهر .

          

لقد مضى على هذه الواقعة المأساة قرابة خمسة وستين عاما ، ومع ذلك ما زلت أتميز ضيقا وغيظا كلما رأيت كبشا ذا قرنين . ألست معي ـ يا قارئي العزيز ـ أنني على حق في هذا الشعور ؟

Print Friendly, PDF & Email
مقالات
1 Comment » for مع ذكريات عيد الأضحي
  1. يقول زاهد:

    الله يرحم الاستاذ قميحة. انا دايما اقرا مقالاته واحیانا اترجم له.

اترك رداً على زاهد إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img