img
سبعون عاما في حضن اللغة العريبة الحلقة 31
img
Print pagePDF pageEmail page

سبعون عاما في حضن اللغة العريبة

الحلقة الحادية والثلاثون

 في الجامعة الإسلامية

بإسلام أباد

ما ذكرناه في الحلقة السابقة جاء من قبيل زيارة لمدة شهرين لباكستان اعتبارا من  ” 2 / 11 / 1983   إلى  13 / 12 / 1983  ” .

      أما إعارتي للعمل بباكستان فكانت لمدة خمس سنوات اعتبارا من (  1 / 9 / 1984 إلى  31 / 8 / 1989 ) .

في المرة الأولى كما أشرت ذهبت بمفردي ، ونزلت في استراحة الجامعة . أما هذه المرة فصحبت معي أسرتي المكونة مني وزوجتي وابني سامح وابنتيَّ حنان وعبير . أما لمياء وياسر فقد تركناهما في القاهرة : ياسر في كلية الهندسة بحلوان ، ولمياء بكلية الصيدلة بالقاهرة .

استأجرنا مبنى ” فيلا ” من طابقين تقع أمام  ” جبل مارجالا ” ، ولم يكن بيننا وبين الجبل إلا عرض الطريق الذي لا يزيد على عشرين مترا ، والشارع معروف باسم ” مارجالا رود ” أي طريق مارجالا . وهذا الجبل  هو جزء من سلسلة جبال الهملايا ، وهو دائم الخضرة طيلة العام ، ونرى الأهالي يطلقون مواشيهم ترعى حرة في الجبل ، فإذا ما حل وقت الغروب عادت إلى عريشتها دون ان تخطئ . ومن أغرب الغرائب التى سمعتها هي أن أصحابها يقومون كل يوم بحلبها في الأرض ؛ لأن ترك اللبن في ضروع الماشية يصيبها بالأمراض الخبيثة . وطبعا هم يأخذون كفايتهم من هذا اللبن ، وهو أقل بكثير جدا مما يحلب في الأرض .

   كان مسكننا مريحا ، قمنا بتأثيثه تأثيثا فاخرا ، ولشدة غرامي بلعبة تنس الطاولة ( البنج بونج ) اشتريت منضدة ووضعتها في صالة المبنى ، وكنا ندعو بعض الزملاء وأبناءهم للعب معي .

   وكنا ندفع إيجار المسكن بالسنة على ما هو معروف في باكستان ، واتخذنا في المبنى كلب حراسة طيبا مخلصا ، ولكنه شرس في وجه كل من يحاول فتح بوابة المبنى .

وكان لنا جار شهم يقطن الفيلا الملاصقة لنا ، واسمه مستر أحسن طوبال .            

واتخذ الأبناء سطح الفيلا ملعبا لمزاولة لعبة ( الباتيناج ) . كان جبل مارجالا بخضرته الدائمة طيلة العام يمتد إلى  لا  مدى ، وكان الناظر إليه من سطح مسكننا يخيل إليه أن شارع مارجالا نهر طويل ، وأن الجبل يعد شاطئه الثاني ، وخصوصا في الليالي القمرية ، ومن عجب أن يخرج كثير من الباكستانين إلى الجبل يدربون أصواتهم على الخطابة بصوت مسموع ، أما أنا فكنت أخرج إليه بدراجتي في منحنياته المختلفة ، كتدريب رياضي .

والتحقت حنان وشقيقتها عبير بالمدرسة الليبية المجاورة للمسكن ، أما سامح فالتحق بمدرسة باكستانية تدرس كل المواد بالإنجليزية حتى التربية الدينية .  

*********

وكانت الجامعة الإسلامية تضم صفوة من الأساتذة أغلبهم من المصريين ، ومن أشهرهم  د . عبد اللطيف عامر  ــ  د . على عشري زايد ــ د . محمود شرف الدين  ــ د . محمود مزروعة  ــ د . محمد عبد التواب    ـــ د . فؤاد مخيمر ــ د.فوزي عبد ربه      ـــ  د . رفعت الفرنواني   ـــ د . محمد فتيح   ـــ د . عبدالغفورجعفر  ــ  د . محمد سراج  ـــ  د.فؤاد العقلي ــ د. محمود بركات ــ د.دياب عبد الجواد ــ    د . حسن عبد الباقي ــ د . محمد السنهوري   ــ  د . مصطفى أبو سمك ــ د . عبد الله جمال الدين ــ د . محمد شرف الدين ــ د . أيوب.

 وهناك مدرسون ( لم يحصلوا على الدكتوراة ) يقومون بتدريس  المواد الأساسية، وأظهرهم الأساتذة : مصطفى عبد الصادق ، وأحمد محمود ، وإبراهيم كمال الدين ، وزكي بدوي ، وإبراهيم حماد.  

 

وكان رئيس الجامعة هو الدكتور حسين حامد حسان ، الذي لم يكن يقيم في الجامعة أكثر من يومين أو ثلاثة كل شهر ثم يذهب ويعود ، ويقول ــ أو يقال ــ إنه في غيابه عن الجامعة يسعى إلى ما يحقق مصلحة الجامعة من مساعدات ودعم مادي من البلاد العربية الأخرى وخصوصا السعودية . ولكنه لا يستطيع أن ينكر أنه كان صاحب أعمال أخرى لاعلاقة لها بالجامعة ، هدفها تحقيق مصالحه الخاصة ، من أعمال بنكية وإدارية ، وتجارية . 

أما الرئيس الأعلى فهو البروفيسور الباكستاني محمد أفضل ، ولقبه بالإنجليزية rector .

واحمد الله إذ كانت السنوات التي قضيتها في باكستان كلها خيرا وبركة فأنتجت عددا كبيرا من الكتب ، كما كان هناك نهضة ثقافية بعدد كبير من المحاضرات العامة والندوات ، والأمسيات الشعرية .

وفي الجامعة كانت العلاقة بين الأساتذة بصفة عامة علاقة طيبة ، وإن لم تخل من قلة قليلة تسيء إلى هذا الطابع . وقد سجلت ذلك في إحدى القصائد أنقلها بالنص من مذكراتي : 

      ” هناك فئة من الناس ” أدعياء علم وفن وأدب ” يشعرون في أنفسهم بنقص حاد ، يدفعهم إلى الإنقاص من قيمة الأخرين ، والإزراء بأدبهم ، والانتصار لما يكتبون وينظمون من غثاء ، وقد نالني في غيبتي من هؤلاء شيء من رذاذ إفرازاتهم . وتولى أخي الحبيب الأستاذ زكي بدوي (أبوشذا) التصدي لهؤلاء . فكانت القصيدة الأتية :

 

 

               عجبا لقومٍ ينـقـمــون عليَّ مــــا  = 

                                         نَسجتْ يميني من بديع قصيــــدِي

                 من ناقم يبدي البشاشة والـرضا  = 

                                          والقلــبُ قلــبُ منافــق وحقـــــود

                 ومُجاهر بالنقدِ عنـــد تغيبــــــي   =

                                           ماذا أقـــول لجبنــهِ الــرعـديــــدِ

                 يطوون عني الكشح إمــــا ألقهـم    =

                                            ويصيبهم صمــمٌ أمــام نشيـــدي

                 قيثارتي رنــامــــة ٌ لكنــهـــــم     =

                                             يُبــدون كـــل تغـافــل وصُــدودِ

                 وكأنهم من قوم نوح أوصــدوا    = 

                                              آذانهم بـأصـابـــع وســـــــدود

                  قال الصديق”أبو شذا” فلتلقهم  =

                                               بزبالــة التاريـــخ والتبديـــــد

                  سحقا لمن يبغي البلابل خُرَّسا   =

                                               بُكْما عــن الترنيم والتـــرديــد

                  أنى لهم أن يخرسوا الطير التى  =

                                               جعلت حزانى الناس في تعيـيــد

                  فالبلبل الغــرِّيــــد مطبوع على   =

                                                أن يسحر الأكوان بالتغـريــــد

                   شتان ما الغربان في تنعابـهـــا   =

                                                 والبلبل الصــداح بـالتسعيــــد

                   فاليسكتوا أو يأخذوا سهمي الذي = 

                                                  إنْ شُـد صـار كأحمد محمود  

*********

أما الطلاب فأغلبهم من الباكستانين ، وهناك أعداد أخرى من الأفغانيين  والمصريين والسوريين والفلسطينين وغيرهم ، والجامعة تهتم بصفة أساسية بالمواد الشرعية والعربية .

 وقمت أنا بتدريس مادة الأدب و ــ على ما أذكر ــ مادة العقود الشرعية . والحمد لله كنت مقبلا على عملي في إيمان وحماسة ويقين .

وكان للجامعة وكيلان هما : الدكتور أحمد العسال  والدكتور : حسن الشافعي .

وكان الدكتور حسن شعلة من النشاط ، فكان يقضي نهاره في الجامعة يشرف على كل صغيرة وكبيرة بنفسه ، حتى إننا كنا نشفق عليه من هذا الجهد المبذول ، ومن مزاياه ، أنه كان يتقن اللغة الإنجليزية كتابة ومحادثة وخطابة ، كما كان متواضعا ، مخلصا لدينة ووطنه ولغته .

وقد كتبت إليه هذا الإهداء على كتابي ” المعارضة في الإسلام بين النظرية والتطبيق ” للأخ الدكتور حسن الشافعي.

 

أهدي إليك كلامي

 

= يا فذَّ علمِ الكلام

 

مضمخًا بالتحايا

 

= معطرًا بالسلام

 

جزاك ربيَ خيرًا

 

= عن أمة الإسلام

 

ودمتَ للعلمِ ثبتًا

 

= في خير خيرِ مقام

 

  ***  
فانظر كتابيَ واجْهدْ

 

= بعلمك المتنامي

 

أن تبديَ الرأيَ فيه

 

= وما به من سَقام

 

فقد يكون كلامي

 

= مثلَ السحابِ الجَهام

 

فلستُ في الفكر فذا

 

= ولستُ.. كالأعلام

 

ما زلتُ أحبو بطيئًا

 

= في عالم الأقلام

 

والنقدُ يبني ويهدي

 

= كالنورِ في الإظلام

 

إن جاء من “شافعي”

 

= بدا كبدرِ التمام

 

فاذكر أخاك بنقدٍ

 

= ولا عليك ملامي

 

                إسلام آباد   30/3/ 1989

*********

أما الوكيل الدكتور أحمد العسال فقد كان في مكتبه يدير المسائل الإدارية والتنظيمية ، وكان يتسم بالدقة والحرص على اتقان العمل . ومن الطرائف المرتبطة به طرفة أنقلها بحذافيرها في السطور الاتية :

” أحمد الله سبحانه وتعالى إذ منحني القدرة على تقليد الأصوات ، من ذلك مثلا أنني سجلت ” المقامة الزبيبية ” على مدى ساعتين ، متقمصا كل شخصيات المقامة : عبد الناصر ، شاة إيران ، أنور السادات … الخ . وكذلك سجلت على شرائط كاسيت مسرحية مجلود الضمير ، والمقامة المشيوخية . وكان في كلية اللغة العربية بالجامعة أحد الأساتذة من ذوي الأصوات المميزة ، وهو الدكتور محمد فتيح ، فاتصلت هاتفيا من الدور الأعلى بالدكتور العسال ــ على أنني الدكتور فتيح ــ وأخبرته أنني أحتاجه لأمر مهم ، وأنني سأكون عنده بعد خمس دقائق ، وانتظر الدكتور العسال ، فلم يحضر الدكتور فتيح إلا بعد نصف ساعة ، فأغلظ له الدكتور العسال الكلام قائلا :

ـــ يا أخي من صفات المؤمن أنه يفي بما يقول ، وإذا حدث لا يكذب .

   فأقسم له الدكتور فتيح أنه لم يتصل به هاتفيا طوال هذا اليوم .

( تنبيه : الدكتور العسال حتى يومنا هذا لا يعلم بحقيقة ما حدث ) .  

          

ومن طرائف معيشتنا في رحاب الجامعة الإسلامية تلك الجمعية التى شكلها وترأسها الدكتور فؤاد مخيمر ولائحتها في البنود الأتية :

  • تسمى الجمعية جمعية سيد الطعام ( وسيد الطعام هو اللحم ) .
  • يحكم على مكانة الوليمة بقدر ما فيها من لحم . أما الأرز والخبز وما شابهه فلا اعتبار له .
  • باب العضوية مفتوح للإ خوة المشهورين بالنهم ، والشوق الدائم الذي لا ينقطع إلى اللحوم .

 

وكان الدكتور فؤاد يتمثل دائما ببيتي الأتي :

    رأيت وليمة الأمرا خروفا  =  ووجبة غيرهم ” مرغي ” نحيفا

( المرغي : هو الدجاج باللغة الأوردية ) .

*********

هذا وقد ذكرت من قبل أن أن لمياء بنتي كانت في القاهرة في كلية الصيدلة بجامعة القاهرة ، وكان ابني ياسر طالبا بكلية الهندسة بجامعة حلوان . وكان من عادتي أن أضع لكل رسالة أرسلها إليهما رمزا يدل عليها مثل : ” حسبكم الله ونعم الوكيل ” ــ ” السعادة ” ــ ” قبلة على البعد ” ــ ” التدريب ” وفي هذه الرسالة بصفة خاصة وصية لياسر بأن يتقن التدريب اتقانا يتقدم به على كل زملائه . ثم كانت المأساة فوجئ مسكننا ( 33 شارع هارون بالجيزة ) يحاصر بعدد من المصفحات ، ويمنع المرور فيه ، وتقتحم شقتنا ويلقى القبض على ياسر ، وتغطى عيناه بعصابة لا ينفذ منها شعاع واحد وفي يده قيد حديدي ، وحمل في سيارة مصفحة إلى أحد مراكز المباحث وظل الضابط يحقق معه من الساعة السابعة مساء إلى الساعة الثالثة صباحا وجاء في بعض أسألته :

ــ متى كان تدريبكم على السلاح ؟

ــ ما نوع السلاح الذي تدربتم عليه ؟

ــ ما المخطط التخريبي الذي وضع لكم لتخريب مصر ؟

  … والضابط لا يفهم … أو لا يريد أن يفهم أن هذا تدريب على بعض مواد كلية الهندسة ، ولا علاقة له بتخريب أو إيذاء .

  وأخيرا بعد هذه الساعات الطويلة أفرج عنه وعاد إلى سكنه ، ولم يذق كل سكان العمارة للنوم طعما طيلة أيام .

    وأدركت أن كل الرسائل التى أرسلها كانت تفتح بأيدي رجال الأمن .

      ولنا عودة ـــ وربما أكثر ــ إلى الجامعة الإسلامية . والحمد لله رب العالمين .

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img