img
سبعون عاما في حضن اللغة العريبة الحلقة 20
img
Print pagePDF pageEmail page

سبعون عاما في حضن اللغة العريبة

الحلقة العشرون

في الطريق إلى الإعارة

استقر بنا المقام في إحدى العمارات بشارع هارون بالدقي . وأهم ما يشد النظر في العمارة هو البواب السوداني ” محمد حسن ” ، ففيه تتوافر الرجولة والشهامة . والبواب يطلقون عليه في البلاد العربية الحارس ، فيقال حارس العمارة ، ولا يقال بواب العمارة . وربما جاءت كلمة بواب من كلمة الباب، فالمفروض أن يكون البواب حارسا أمام الباب دائما . واتسع نطاق حراسته ، فهو يقف حارسا لبوابة العمارة كلها .

          قلت إن بوابنا السوداني ” محمد حسن ” يتسم بالرجولة والشهامة ، فعيناه لا تغمضان ليلا ، وهو من كرمه لا يتناول طعام إفطاره في رمضان إلا أمام العمارة حتى يشاركه في إفطاره المتواضع من يريد . وهو إذا خرج لصلاة الجمعة يلبس ثيابه البيضاء الناصعة ، ويعتجر عمامة كبيرة بيضاء اللون أيضا . أما أمانته فواضحة في كل تصرفاته .

**********

          والإعارة تعني السفر خارج مصر إلى إحدى البلاد العربية للقيام بمهمة التدريس في إحدى مدارسها أو جامعاتها لمدة أربع سنوات على الأقل . والهدف من الإعارة تحسين الدخل المادي ، لأن المرتبات الشهرية في مصر كانت هابطة ، أما مرتبات في هذه البلاد فهي مبالغ فلكية ،  والمصري لا يستطيع أن يعيش عيشة كريمة في مصر إلا بعد حصوله على ثروة من الإعارة .

          وكان أول ترشيحي للإعارة سنة 1965 وأنا مدرس في الاسماعيلية ، وكانت الإعارة إلى ” الصومال ” . وكان علينا أن نحضر عددا من المحاضرات التدريبية والتربوية والسياسية ، يتحدث فيها شخصيات من ذوي المكانة في مجال السياسة والعلم .

          كان التدريب في معهد التربية بجامعة القاهرة ، وتحدث رئيس البعثة عن الصومال وخيراتها ، ورخص الحياة فيها ، حتى إن العجل الكبير ثمنه لا يزيد على ثلاثة جنيهات . ولكن أغرب المحاضرات فتلك التي ألقاها “حسن صبري الخولي ” المتحدث الرسمي باسم الرئيس جمال عبد الناصر ، وتحدث في  محاضرته عن مصر ومكانة مصر في العالم كله .

 فلما فتح الباب للمناقشات ، سأله أحدهم :

  س:  يقال إن إسرائيل على وشك اختراع القنبلة الذرية فما رأيكم ؟ وما استعداد    

         مصر لحماية نفسها ، وضرب عدوها قبل أن يفاجئنا بالقنابل الذرية ؟

      فأجاب وعلى وجهه ابتسامة سخرية وقال : في اليوم الذي يتأكد لنا مثل هذا الخبر سنقوم مباشرة ، ودون تراجع بشن الحرب الوقائية على إسرائيل .

       وأخذ كل منا ينظر في استغراب سائلا نفسه وغيره عن مفهوم هذا الاصطلاح الجديد ” الحرب الوقائية ” . ومات الاصطلاح في مهده وظهرت الحقيقة حينما هزمتنا إسرائيل هزيمة نكراء في الخامس من يونيو سنة 1967 . حينئذا علمت أن أصواتنا أعلى من قاماتنا . وأن كلام الكبار بالليل يتبخر بالنهار . وتبين لنا أن إجابة حسن صبري الخولي لم تكن أكثر من التهريج السياسي ، وتلميع الحكم القائم ؛ فقد

أكد المحللون فى وكالة المخابرات المركزية الامريكية أن إسرائيل قد تمكنت من تصنيع عدة قنابل نووية منذ عام 1968، وأنها ربما قامت منذ عام 1969 بتصنيع خمسة أو ستة قنابل نووية قوتها 19 كيلو طن.. وقد أكد مدير وكالة المخابرات “ريتشارد هيلز” فى حديثه أمام أعضاء لجنة الشئون الخارجية بالكونجرس فى 7 يوليو 1970 أن الإسرائيليين يملكون إمكانيات صنع قنبلة نووية.. هذا وقد تحول الرأى العام العالمى فيما يتعلق بمسألة انتاج الأسلحة النووية فى إسرائيل، من الشك إلى اليقين نتيجة تراكم الأدلة المقنعة على ذلك.
فمنذ عام 1955 توقعت عدة صحف رئيسية فى ألمانيا الغربية أن إسرائيل تعمل فى مجال القنابل النووية..وقد صرح رئيس وزراء إسرائيل الأسبق بن جوريون لمراسل صحيفة “النيويورك تايمز” فى مقال نشر عام 1963، أنه يحتمل أن تجرى إسرائيل تجارب عسكرية نووية، كما ذكر فى كتابه “سنوات التحدى” الذى نشر فى نفس العام أنه ليس من المستحيل على علماء إسرائيل أن يعملوا من أجل شعبهم ما فعلهاينشتين” و”أبنهايمر” و”تللر” – وثلاثتهم من اليهود- من أجل الولايات المتحدة الأمريكية.

                                   **********

      ولم أتمكن من السفر ، والسبب هو ” تصريح الأمن ” . فقد كان على كل معار أن يحصل على ما يسمى بتصريح الأمن وإلا ألغي ترشيحه  للإعارة ومنع من السفر ، وهذا ما حدث معي .

       وبعدها رشحت للإعارة  إلى السودان ، ولم أتمكن من السفر للسبب نفسه … الأمن لم يوافق .

       وبعدها رشحت للإعارة   إلى ليبيا السنوسية فمنعت من السفر للسبب نفسه … الأمن لم يوافق  .

       وبعد انتقالي إلى مدرسة الأورمان رشحت للإعارة إلى ليبيا القذافية … ليبيا معمر القذافي الذي كان يعتبر قائدا للثورة على الحكم السنوسي ، تلك الثورة التي قامت في 1 سبتمبر سنة 1969 ،  وحرمت كذلك من تصريح الأمن . في الوقت الذي سمح للآخرين بالخروج . ولم أعد متحمسا للإعارة ، ولكني قلت في نفسي : فلأجرب حظي هذه المرة . فكتبت طلبا لترشيحي للإعارة .

                             **********      

       وأعود إلى بوابنا محمد حسن الذي رسمت ملامحه في صورة سريعة . بادرني قائلا :

        ـــ يا سعادة البيه فيه ناس سألوا عليك النهارده .

        ـــ من هم يا عم محمد  ؟

        ـــ أنا لا أعرفهم ، وهم جاءوا في أوقات مختلفة ، يسألون عنك ، وعن بلدك    

            وعملك ، ومكانك بين السكان .

         ـــ من هم يا عم محمد ؟

         ـــ أنا لا أعرفهم ، ولكن يظهر أنهم موظفون .

                          **********

       وعلى غير انتظار أتاني استدعاء إلي مباحث أمن الدولة في شارع جابر بن حيان بالدقي ؛ لألتقي بضابط المباحث الكبير إلهامي سرور . ورحب بي الرجل ترحيبا طيبا جدا ودارت بيننا المحاورة الآتية :

       ـــ  مبروك … مبروك يا سيدي . 

       ـــ  خير إن ، شاء الله .

       ـــ  بإذن الله طالع الكويت .

       ـــ الحمد لله رب العالمين . 

       ـــ  الله !!! أنا شايفك مش متحمس .

       ـــ  لأني أومن  تماما أن الأرزاق بيد الله .

       ـــ لأ …إن شاء الله هتخرج … وهنطلع لك تصريح الأمن ، لكن لي بعض الطلبات البسيطة .

       ـــ  تفضل قل ما تريد .

       ـــ شوف يا سيدي … إحنا اخترناك لأننا نعرف أنك أستاذ عبقري ، وصاحب شخصية لها مكانة بين الآخرين .

       ـــ شكرا على هذا الثناء .

       ـــ ستذهب إلى الكويت وهناك خلايا من الإخوان المسلمين … يذمون عبد الناصر ، ويظهرون نقمتهم عليه . وأنا عايزك ترسل لي أسماء هؤلاء … لن نؤذيهم ، ولكن حنشوف هم تعبانين من إيه ونزيل تعبهم ، يعني بصراحة أنت هتخدمهم .  والكلام ده بيني وبينك ، وستراسلني على اسم آخر بعنوان آخر سأعطيه لك قبل أن تتركني .   

       ـــ  … …          

       ـــ وبالمناسبة هذا خطاب وصلني من مبعوث في الكويت  … وهو مصري من منية النصر دقهلية يقول لي فيه إن أسماء الخلية الرئيسية لإخوان منية النصر في الويت هم فلان … وفلان … وفلان … 

          وأؤكد لك ان المسألة ستكون سرا بيني وبينك .

          وأؤكد أيضا أننا لن نؤذي هؤلاء الناس بل سنزيل متاعبهم . فما رأيك  .

        ـــ  شوف يا إلهامي بيه … سعادتك مغشوش فيَّ ، واتهمتني بالعبقرية ، وأنا لا أصلح لهذه المهمة ؛ لأنها تحتاج إلى شخصية اجتماعية ، تختلط بالآخرين . وأنا  لست رجلا اجتماعيا ؛ لأني مشغول بمدرستي وكتابي وقلمي ، فلن تجد فيَّ النموذج المطلوب  .

     ـــ إذن لن تسنطيع الخروج .

   ـــ ومن قال لك أنني حريص على الخروج ؛ فأنا مؤمن تماما أن الأرزاق بيد الله .

                               **********  

           وفي حديثه معي سقط الضابط إلهامي في أخطاء فادحة :

أولها  : اعتقاده بأنني من السذاجة بحيث يمكنه أن أستجيب لتكليفاته .

وثانيها : إنني كنت أعرف كل إخوان منية النصر فردا فردا ، وليس منهم واحد ممن ذكر .

 وثالثها : أنه عبر عن اصطلاح ” الأسرة ” باصطلاح شيوعي معروف وهو “الخلية”  . 

        ولكن الغريب أنني فوجئت بمنحي تصريح الأمن للسفر إلى الكويت ، بعد منعي من الخروج معارا إلى الصومال ، والسودان ، وليبيا السنوسية ، وليبيا القذافية . وتمكنت من السفر إلى الكويت في 26 سبتمبر سنة 1970 . وبعدها بيومين مات عبد الناصر . وكانت إعارتي للكويت هي الإعارة الأولى في حياتي ، أما الوقائع والأنشطة الأدبية والنقدية في الكويت فلها حلقة أخرى جديدة .

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img