img
سبعون عاما في حضن اللغة العريبة الحلقة 18
img
Print pagePDF pageEmail page

           سبعون عاما في حضن اللغة العريبة

الحلقة الثامنة عشرة

إلى القاهرة وعالم الأورمان

 

بعد النكسة بشهر وبعض شهر ، وما وقع على أهل الإسماعيلية من مذابح وتخريب ، أخطرنا بضرورة مغادرة الاسماعيلية التى أصبحت خط الدفاع الأول ، بعد أن فقدنا كل شيء ، وبحمد الله تمكنا من أنا وزوجتي ولمياء وياسر من الهجرة إلى القاهرة ، ورأينا كيف تعيش القاهرة في لياليها الملاح … السينمات … والمسارح … والكازينوهات .

       نزلت عدة أيام في مسكن صهري بالجيزة ، ثم استأجرنا بعد ذلك ” شقة مفروشة بشارع الدري بالدقي ” . وكان علي أن أسلم نفسي لمنطقة الجيزة التعليمية لتعييني في إحدى مدارس الجيزة . والحمد لله  أخترت مدرسا بمدرسة “الأورمان ” الثانوية للبنات ، وهي تعتبر أرقى مدرسة في الجيزة كلها ، وكان اسمها قبل ذلك مدرسة الأميرة فوزية ( شقيقة الملك السابق فاروق ) . وكان قصر السادات خلف المدرسة مباشرة ، وهو في الأصل كان ملكا لمحمد خليل أحد الأثرياء .

        سعدت جدا بأن وجدت مكاني في هذه المدرسة التى مكثت فيها أطول مدة عشتها في التدريس .

        ومن زملائنا مدرسي اللغة العربية في المدرسة الأساتذة عبد العزيز قاسم ، والزحلان ، وأنور(وهو شاعر جيد) ، وأحمد جاويش ، وثابت بداري ــ وهو مهجر من الإسماعيلية مثلي ــ وشبانة ، وعفاف ، وكلثوم (وهما مدرستان) ، وإبراهيم العوادلي ( وهو شاعر ) يطلق عليه إخوانه والطالبات    ” أبو عيون جريئة ” ، وهو حقا كان جميل الوجه ، عميق النظر بعينيه الخضراوين  . أما المدرس الأول فهو إبراهيم الشربيني .     ومن الطرائف التى تعلقت بالأخ العوادلي أن مدرستنا كان يقصدها كل يوم عدد من الفلاحين يطلبون منه أن يحققوا طلبات لهم عن طريق الرئيس أنور السادات ، فيطيِّب خاطرهم بكلمات معسولة حتى ينصرفوا . وحرْص هؤلاء على الالتقاء بالأستاذ العوادلي أن أباه كان يقول على رؤوس الأشهاد  في  قريته : ” إن ابني إبراهيم والسادات قريبان من بعضهما إلى أقصى حد ” . وهو يقصد القرب المكاني ، فقد كان السادات يقيم في قصر خلف المدرسة مباشرة ، بينما كان الفلاحون يفهمونها على أنها قرب مودة وصداقة .

          أما الطرفة الثانية فيصدق عليها قول من قال ” ومن الشعر ما قتل ” .

 فقد قمت بنحله قصيدة أجريتها على لسانه ، وكان ـــ كما يقال ـــ يحب مدرسة من مدرسات المواد الفنية في المدرسة ومما قلته في هذه القصيدة ” وهو بريء منها ”                      القلب يحبك يا ” …. ”   =   والله على قولى شاهدْ

                        شفتاك كريز مسحورُ      =  والصدر فشر البنــــور

                        مِن غيرك لا أعرف نوما = أو أدري للراحة طعــما

                        أينام محـــب مسحــور   = عالــمـه در وعطــور ؟

                        فالقلب يحبك يا ” …. “=  والله على قولى شاهد

        فقلت لإبراهيم العوادلي : ماشاء الله ماشاء الله !!! ما هذه العبقرية ؟ وما هذا الحب الملتهب ؟ ألست القائل …. ؟ فأقسم أنه ما كتب حرفا في هذه القصيدة . ثم صرخ وقال : ”  آه أنا أعلم أن الذي كتبها ــ نكاية فيّ ــ عبد المنعم (مدرس المود الاجتماعية) عدوي اللدود ، لكي يسوِّء سمعتي في المدرسة ” وأخذ يسب عبد المنعم الذي لم يكن في الحجرة ساعتها ، ورفع إبراهيم أحد الكراسي وحاول أن ينطلق به لضرب الأستاذ عبد المنعم ، ونحن نحاول منعه ، ولكنه كان مصرا على ضربه . وفجأة رأيناه يبتسم ، وتهدأ ثائرته ، ويقول : ”  الحمد لله … في القصيدة بيت يدل على أني بريء منها وهو :

                      شفتاك كريز مسحور      =  والصدر فشر البنــــور

        وأنا أعرف البنور ، ولكني والله لا أعرف شكل الكريز ، وما ذقته طيلة حياتي .  وبذلك انتهى هذا التوتر بالإغراق في الضحك .

                                         **********

         أما ناظرة المدرسة  فكانت السيدة نرجس أبو زيد ، وتعتبر قطعة حية جادة من عصر الناظرات العظيمات … وتتمتع بقدرة فائقة على الإدارة ، وتسيير الأمور ، وملاحظة كل صغيرة وكبيرة في المدرسة . وقد ظهرت شخصيتها في عيني على حقيقتها في عدد من المواقف منها : أنها كانت ترسل أحد الفراشين ( العمال ) لاستدعاء طالبة من الفصل الذي أقوم بالتدريس فيه ، فتكون إجابتي للفراش :      ” بلغ السيدة الناظرة بأنني لا أستطيع أن أخرج تلميذة من الفصل إلا بعد انتهاء الحصة ” .

          ولا عجب أن يحذرني المدرس الأول من هذه التصرفات غير البصيرة التى قد تؤدي إلى أن يكون تقدير الناظرة لي تقديرا منخفضا . كل ذلك وأنا ابتسم وأقول ” إن  لي خطة لا يمكن أن أحيد عنها ” . ثم تكون نتيجة تقييم العمل طيلة العام فأحصل على أعلى تقدير من الناظرة والموجه ، وتعلمت من ذلك أن الإنسان يجب أن يساير في عمله ضميره ، وخطته التى رسمها لنفسه ، وبتعبير أخر : على الإنسان أن يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال .

         وفي المدرسة كنا نقيم ندوات شعرية ، أما الندوة الكبرى فكانت بعد تناول الإفطار في أحد أيام رمضان ، ويشترك فيها مجموعة من العلماء والخطباء والشعراء من المدرسة وخارجها .

**********

         وعودا على بدء أقول استقر بنا المقام في شقة مفروشة في  شارع الدري بالدقي بالجيزة . وكانت تزورنا إحدى الفلسطينيات المهاجرات بعد نكبة فلسطين … كانت تزورنا هي وابنتها ( بسمة ) وهي شابة في قرابة السابعة عشرة من عمرها ، وتتمتع بنعمة الجمال الخارق ، وحينما رأيتها وعرفت مأساة أسرتها  التي قتل الصهاينة جدتها ذات مساء ، والتقيت بها  في 27 مارس 1968م، وفي قلبها لوعة باكية، وفي عينيها بكاء ملتاع ، وقصت عليّ قصتها، وسألتني سؤالها الدامي: ما مصيرنا؟ وما المآل ؟

     نظمت قصيدة أخاطبها فيها ومما جاء في هذه القصيدة :

لا تحزني … لا تحزني

لا تحزني يا بسمةَ الخيالْ

وأنت تسألين ما المآل؟

وهل نعود للديار ذاتَ يومْ

ونقطف الزيتون والآمال؟

وهل تعود بسمتي إلى الديارْ

تقبل الضياءَ والظلال؟

وهل نرى الفراشَ في الحقولْ

ونغرف المياه بالأكفْ

نرشها باوجهِ الصحابْ

وننشئ البيوتَ في الرمالْ

ونهدم البيوتْ

لنبتني بيوتْ

ونصنع الأغصانَ كالسيوفْ

ونصعدُ التلالْ

…………..

وختمتها بالأبيات الآتية :

فالصوتُ أصبحَ للهزيمِ وللهديرْ

لا صوتَ إلا للرصاصْ

يشدو بأنغام القصاص

في زحف معركةِ المصيرْ

لا حكم إلا للرصاص وللسعير

ولتنظري يا بسمتي

للسيلِ يزحف ماردًا ظمآنَ للثأر الحقودْ

والشعبُ يقصف هاتفًا كالنار

“هل لي من مزيد؟”

والحق يعصفُ بالقيودِ

وبالوعيد وباليهودْ

ليطهر الأرض الشهيدةْ

سينا وقدسَ الأنبياءْ

ويعيد للأفقِ الصريعْ

فجر الحقيقةِ والربيعْ

ويزيِّـنَ الدربَ المدمَّى

بالورود وبالشموع

لا تحزني يا بسمتي

يا مقلتي ومهجتي

وترقبي الفجر الحبيب

فغدٌ لناظرِه قريبْ

**********

      ونعود إلى مدرسة الأورمان وأشير إلى أن أساتذة اللغة العربية كانوا يؤدون عملهم بقوة وحماسة ، وبجانب الدروس الرسمية تكونت مجموعات دراسية لضعيفات المستوى بأجر رمزي لا يزيد على جنيه في الشهر . وعلى أية حال كانت الأورمان منطلقا طيبا لمزيد من المعرفة والانتاج النثري والشعري .

       وفي الأورمان ترقيت من مدرس للمرحلة الثانوية إلى مدرس أول للغة العربية ، ومنها إلى موجه ( مفتش )  أللغة العربية .

      وبهذه المناسبة أشير إلى أن زوجتي عملت بالتدريس سنة  1966م في الاسماعيلية ، وكان أول تعيينها في قرية ( أبو صوير ) التي تبعد عن الإسماعيلية قرابة ثلاثة أميال ، ثم نقلت إلى إحدى مدارس الإسماعيلية بالمدينة نفسها ، ولما هاجرنا ، أو هجِّرنا اشتغلت بالتدريس في مدرسة ” على بن أبي طالب الابتدائية الأميرية ” ، وهي قريبة من سكننا ، ثم طلبت منها الاستقالة والتفرغ لأعمال البيت والأسرة  ، فاستجابت بقناعة واقتناع  وحماسة

     أما لمياء ابنتي وياسر ابني فقد التحقا بمدرسة خاصة هي مدرسة العروبة بالدقي ، وبعدها التحقت لمياء بمدرسة الدقى الابتدائية الأميرية ، والتحق ياسر بعد ذلك بمدرسة دار التربية الخاصة ، وهي إحدى مدارس اللغات المتميزة .

      ومن فضل الله علينا أننا عثرنا على شقة نموذجية في شارع هارون بالدقي ، وهو سكن قريب من مدرسة الأورمان ، وقريب كذلك من مدرستي لمياء وياسر . مما زادني طمأنينة ، وشعورا براحة نفسية عميقة .

     وأحمد الله سبحانه وتعالى أن أرى من طالبات الأورمان إقبالا على دروسي ، واعتزازا بي . وتخرج في هذه المدرسة عدد من المفكرات وأستاذات الجامعة على رأسهم جميعا الدكتورة نيفين عبد الخالق التي تعمل حاليا أستاذة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة .                 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تذييل

       تلقيت ببريدي الضوئي الرسالة الآتية من زميلي في دار العلوم الأستاذ فاروق عبد الحليم :

        عزيزي الدكتور جابر ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أنا ـ بحمد الله ـ أتابع الحلقات التى تكتبها في رابطة أدباء الشام ، تحت عنوان سبعون عاما في حضن اللغة العربية ، ولكنني بعد قراءة الحلقة الحادية عشرة لم أجد اسما لأستاذنا الدكتور محمد عبد الله دراز الذي كان يفسر لنا سورة البقرة في الفرقة الأولى ، وعجبت : كيف يُـنسى مثل هذا الرجل الرائد العظيم ، ولو لم يكن له كتاب غير دستور الأخلاق في القرآن الكريم لكفاه فخرا واعتزازا وتفوقا .

       وجاء خلاصة ردي فيما يأتي :

       وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد . فأنت تعلم أنني لم أذكر كل أساتذة الدار ، فكلهم جدير بالذكر والتوقف . ولكن من حقك وحق القراء بل المسلمين جميعا أن يذكروا هذا الأستاذ العظيم  .

الدكتور محمد عبد الله دراز

    تلقينا عنه مادة التفسير في الفرقة الأولى من دار العلوم … ففسر لنا سورة البقرة بطريقة جديدة ، أعيشها لأول مرة    كان مهيبا … تنظر إليه فكأنك ترى وجها من وجوه الرعيل الأول العظيم ، وكان يشدنا بصوته الهاديء ، وفكره المنتظم ، وقدرته على الاستشهاد من كنوز القرآن والسنة وأقوال السلف الصالح ، ومن سلوكياته العظيمة التي لم أجدها إلا فيه : أنه كان إذا جاء على لسانه “آية سجْدة” قام من كرسيه أثناء المحاضرة وسجد لله على منصته التي كانت ترتفع عن الأرض قرابة نصف متر ، وقد دفعني إعجابي بهذه الشخصية إلى قراءة بعض مؤلفاته ، وأهمها كتاب ” دستور الأخلاق في القرآن الكريم ” ، وهو الأطروحة التي حصل بها على درجة الدكتوراه من فرنسا .

   وقد استغرق ست سنوات (1941 م- 1947 م) في تحضير رسالتي الدكتوراه باللغة الفرنسية وهما (المدخل إلى القرآن) و (دستور الأخلاق في القرآن) . ونوقشت هذه الرسالة أمام لجنة من كبار المستشرقين ومنهم: ماسينيون- ليفي بروفنسال وغيرهما. ومُنِح المؤلف شهادة الدكتوراه بمرتبة الشرف العليا في 15 / 12 / 1947 م.

   عُرِف بحسن الخُلُق في الحديث والحلم والتواضع، إلا أنه كان جريئاً صُلْباً قائماً بالحق، فعندما عُرِض عليه منصب شيخ الأزهر الشريف سنة 1953 م ، رفض بسبب القيود التى تضمنها العرض، اعتزازاً بدين الله وإخلاصا لعقيدته.

وأعمال الدكتور محمد بن عبد اللّه دراز هي:
1-
المختار.
2-
مدخل إلى القرآن(بالفرنسية- مترجم إلى العربية .(
3-
دستور الأخلاق في القرآن (بالفرنسية- مترجم إلى العربية) .
4-
الدين.
5-
النبأ العظيم.
6-
دراسات إسلامية في العلاقات الاجتماعية والدولية.
7-
نظرات في الاسلام.
8-
أصل الِإسلام.
9-
العبادات: الصلاة- الزكاة- الصوم- الحج.
10-
رأي الإسلام في القتال.
11-
بين المثالية والواقعية.
12-
الأزهر الجامعة القديمة الحديثة.
13-
مجموعة أحاديث إذاعية في الدين والأخلاق.
14-
مجموعة من المحاضرات والمقالات النافعة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img