img
سبعون عاما في حضن اللغة العريبة الحلقة 15
img
Print pagePDF pageEmail page

       سبعون عاما في حضن اللغة العريبة

الحلقة الخامسة عشرة

التخرج وبداية التدريس  

عشت  وأنا طالب في دار العلوم أحب التدريس لدرجة العشق . ومن حبي للتدريس أقبلت في السنة الأخيرة على ” التربية العملية ” بحماسة وحب . ونظامها أننا كنا نذهب يوما واحدا كل أسبوع للقيام بالتدريس عمليا ، وكان يشرف على مجموعتنا الأستاذ محمد على مصطفى رحمه الله . وجاء حظي في مدرسة محمد علي الإعدادية بحي السيدة زينب بالقاهرة . ومن مظاهر حبي لعملية التدريس أنني كنت أذهب بمفردي ليوم أو يومين ، وأستأذن ناظر المدرسة في السماح لي بالتدريس ، حتى أحبني التلاميذ وأحببتهم .

        تخرجت في الكلية سنة 1957 م . والتخرج يعقبه تعييني مدرسا في إحدى مدارس وزارة التربية والتعليم بالمرحلة الإعدادية . وجاء أول تعييني في المدرسة التجريبية التابعة لمعهد التربية بالأسكندرية . ولكني فوجئت بإيقاف التعيين لسبب لا أدريه حتى الآن . وجاء تعييني بعد ذلك في إدارة المنصورة التعليمية ، وكنت حريصا على أن أكون بمدرسة بالمنزلة مسقط رأسي ، ولكن لم يكن هناك في إعدادية المنزلة أماكن خالية فقبلت التعيين بمدرسة الجمالية الإعدادية ، وهي لا تبعد عن المنزلة أكثر من ثلاثة أميال     

       وأديت مهمتي بأقصى جهدي مدفوعا بحب الإخلاص في العمل ، وحب التدريس في ذاته . ثم حانت الفرصة بعد بضعة أشهر ونقلت إلى المنزلة الإعدادية للبنات ….وهي ملحقة بالمدرسة الأم … ( مدرسة المنزلة الإعدادية الأميرية للبنين ) واعتبرت هذه المدرسة الملحقة كأنها بيتي الثاني .

                                                **********

       لقد سبقني إلى التدريس في مدرسة المنزلة الإعدادية زميلان عزيزان على نفسي ، كانا أسبق مني في دار العلوم ، وأسبق مني في التخرج ، وهما الأستاذ طه قورة ،  والأستاذ عبد الفتاح حجازي ، وهما أستاذان ضليعان في اللغة العربية ، وكل منهما ذو خلق ودين . وقد أفدت منهما إفادة طيبة طالبين ومدرسين ، ويتسم كل منهما بالتواضع وسعة الصدر ، والحرص على جمال العشرة .  

         أما الثالث فهو الأستاذ عبد المجيد صبح ، وهو من خريجي الأزهر ، وأعتقد أن المنزلة لم  تحظ   بمثله أستاذا وعالما وخطيبا . ولا ينسى جمهور المنزلة دروسه وخطبة الجمعة في ” مسجد شلباية ” . كان على قدرة فائقة في تبسيط مسائل الفقه ، وربط هذه المسائل بواقع الحياة . وكان جميل السمت ، أنيق الملبس ، لا يشق له غبار في الإلقاء … يستوي في ذلك المحاضرات والدروس وخطب الجمعة .

         وكان ناظر المدرسة الأم ، ومدرسة البنات الملحقة اسمه على ما أذكر ” عبد الحميد ” ، وكان ــ سامحه الله ــ متعنتا في تصرفاته ، بيني وبينه جفاء حاد ، مما دفعني إلى مهاجمته في اجتماع عام للمدرسين .

                                                **********

        وفي هذه الفترة انتسبت لكلية الحقوق بجامعة القاهرة ، وذلك لعدة أسباب أهمها :

  • كراهيتي للنظام الحاكم الذي كان يستبد بمقدرات الشعب ، وينتهك حرماته ، وكنت حريصا على معرفة التصرف القانوني الذي آخذه إذا ما تعرضت لظلم الظالمين .
  • حرصي على استكمال الدراسات القانونية ، وأحصل على شهادة الدكتوراة في القانون والشريعة .
  • أن القانون والشريعة والأدب تضرب كلها في أرضية واحدة ؛ فكلها علوم إنسانية نافعة .

      وأعود لسبب الجفاء بيني وبين الناظر عبد الحميد فأقول إنه الحصول على ” اجازة رسمية ” لأداء الامتحان في كلية الحقوق . فحاول الناظر أن يضع أمامي العقبات ، فبلغ كبار المسئولين في منطقة المنصورة التعليمية ، وترتب على هذا خصم 15 يوما من مرتبي . مما دفعني إلى مهاجمته في اجتماع عام للمدرسين .    

                                                  **********

      وأذكر أنني  ــ  بقدر ما أستطيع ــ غرست في نفوس التلميذات حب الأدب والشعر ، وأذكر كذلك أنني قرأت عليهن قصيدتي الملحمية   ” على قبر أخي ” ، وبلغ من تأثر التلميذات أن كثيرات منهن غلبته الدموع ، وكان في صحف الحائط مجال طيب لتنمية الملكة الأدبية عند التلميذات . ونوردالقصيدة  كاملة في نهاية الحلقة .

       كنت ــ كما ذكرت ــ أعتبر هذه المدرسة كأنها بيتي ، وعرفت عني هذه الغيرة ، فلم يجرؤ شاب من الرقعاء أن يقترب من هذه المدرسة ، بل كنت أصحب بعض التلميذات ــ حماية لهن ــ وأنا عائد إلى منزلنا في المنزلة . وعشت مشبعا بمبادئ الإخوان المسلمين ، كما حرصت على أن أكمل دراستي الأدبية العليا ، بجانب دراستي في القانون ، وهذا يتطلب مني أن أنتقل إلى القاهرة ، وساعدني أستاذنا الدكتور عبد الحميد الدواخلي في أن أعمل معارا بالمدرسة الفرنسية ( مدرسة الليسيه )  بشارع يوسف الجندي بباب اللوق  بالقاهرة .

       كان الوسط راقيا بكل معنى الكلمة إذا ما نظرنا إلى التلميذات والمدرسين . ومن المدرسين زميلي الأستاذ التهامي الطويل ( وكان خطاطا بارعا ) ، والأستاذ الصديق محمد الفاتح الحسيني . وهو مدرس ضليع في مادته ، موفق في إدارة الأمور ، يحب زملاءه ، ويحبه زملاؤه .

         كان مشرف اللغة العربية هو الأستاذ محمد جبر رحمه الله ، أما الدكتور الدواخلي فكان  المستشار الشرقي لهذه المدرسة . وكان هناك صراع خفي بينهما ترتب عليه أن ألغيت إعارتي من المدرسة بسبب علاقتي بالدكتور الدواخلي .

         ولا أخفي أنني شعرت بصدمة بسبب إلغاء إعارتي ، وكان مدير المدرسة الفرنسي اسمه  ” مسيو سبانا ” .  يميل إلى الاستاذ محمد جبر . بعد إلغاء إعارتي حاولت العودة إلى المدرسة مرة أخرى موسطا الأستاذ محمود صفوت ابن شقيق محافظ القاهرة أنذاك . وكانت ابنته إحدى تلميذاتي اللأئي تعتززن بي ، ولكن دون جدوى .

         جلست إلى نفسي أهمس إليها ” سبحان الله وله في ذلك حكم ” . فكانت مسيرة تخرجي : الجمالية ، والمنزلة ، والقاهرة . وبعد ذلك لا يوجد مكان يستوعبني . وقيل لي أنت في انتظار ترقية إلى المرحلة الثانوية ، وسيكون ذلك قريبا بإذن الله ، والله مع الصابرين .

**********

         والدروس التى خرجت بها من هذه المرحلة بتنقلاتها الثلاثة أستطيع أن ألخصها فيما يأتي :

  • على الإنسان أن يحدد ما يريد تحقيقه في مسيرته طالت أو قصرت .
  • الإقبال على العمل بحب يسهل على الإنسان ما يلقاه فيه من مصاعب وعقبات.
  • على الإنسان أن يؤمن بأن العمر نهزة ، ومن ثم عليه أن يشغله بما يعود عليه بالنفع ، وخصوصا في مجال الفكر والدراسة .

وهذا ما أخذت نفسي به وجعلني أتغلب على أغلب ما يعترض حياتي ، فالحياة ليست بالسنين ولكنها بالعمل . وصدق من قال : ” إننا يجب أن نحرص على أن نزيد السنين حياة ، لا أن نزيد الحياة سنين ” .

                                          **********

       هذه القصيدة تعد من بداياتي الشعرية . وأخي ــ محور القصيدة كلها ــ كان يريد أن يتزوج إحدى الفتيات في المنزلة ــ مسقط رأسنا  ــ وهي من أسرة طيبة ، ولكن أبي أصر على أن يزوجه بنت عمته ، فأصيب أخي بصدمة نفسية قاسية ، لأن الزواج كان على الرغم منه ، وإن تم برضاء العائلة كلها … وظل شقيقي مريضا بعد زواجه بعدة أشهر إلى أن لقي الله حزنا وأسى . كان ذلك سنة 1943 م . وكانت سنه آنذاك قرابة عشرين عاما ، وكنت أنا صبيا صغيرا في التاسعة من عمرى .

    

                                على قبر أخي

 

هاتف من أعمق الأعماق يهفو

كيف تغفو

إن ذاك الفجر يحلو في الندى

في غفوة البشر

حيث السَّحرْ

ينشر السِّحْر عجيبا

ينشر العطر بعيدا وقريبا

في السكون

في السهول والحزون

حيث لا ضوضاء تجتاح العيون  

حيث لا سمار تسعى للمجون

قم …

تحرك

 كيف تغفو ؟

هذه الأرواح تهفو

إنها تدعوك

إنها ترجوك

أن تلبي صوت أحمد

روح أحمد

حول هاتيك القبور

في قيام ونشور

تملأ الفجر عبيرا وعطور

قم … تحرك

كيف تغفو …

هذه الأرواح تهفو

إنها تدعوك

إنها ترجوك

                              **********

وتركت الفرش أجرد

حيث أشهد

روح أحمد

حول هاتيك القبور

في قيام ونشور

تملأ الفجر عبيرا وعطور

في حبور وسرور

فرأيت الساحة الكبرى منارة

موكب الأرواح

في غدو ورواح

في هدوء الليل والليل سكينة

وامتداد الأفق في الدنيا الحزينة

لا ترى غير النجوم

في غيوم

ونظرت الساحة الكبرى منارة

حيث هاتيك القبور

مثل هاتيك النجوم

إنها الأرواح

في غدو ورواح

تنشر الأفراح

في سرور وارتياح

وتحولتُ مشاعرْ …

كالمنائر

وتلمست المقابر

بين صوت كحفيف الأقحوان

بين أنغام حسان

وهنا روح كبير

كالمنارة

إنها روح شقيقي …

ابن أمي … روح أحمد

فترحمت عليه

وبعثت الحنين عطرا عليه

ونثرت الدموع زهرا عليه 

وتحدثت إليه :

يا شقيقي … لست أنسى

كان أمسا غائرا في العمق

مذ عهد بعيد

جد بعيد

كنتُ يا أحمد في البيت صبيا

كنتَ ذاك العهد عملاقا فتيا  

تنشد، القوة في كل مكانْ

وزمانْ …

وعلى كل لسان …

ذكر أحمد …

إسم أحمد …

قلب أحمد …

كنت يا أحمد قلبا من ذهب

في قلوب الناس للقلب رنينْ

واشتياق وحنين

كنت مرجُـوَّ الفتاة …

كل فتاة …

كانت البلدة ُطرٌّا في اتفاق

تبعث الآراء من دون نفاق

من كأحمد في علاه ؟ 

من كأحمد في مناه ؟

من كأحمد في غناه ؟

لست أنسى سمرة الوجه العتيدة

لست أنسى بسمة الشفة الفريدة

لست أنسى شامة الجبهة …

في الأفْق عنيدة

                                  **********

لست أنسى يا شقيقي

ذلك القلب الكبير … قلب أحمد

إذ هوى في الحب محطوما كسير

لست أنسى ذلك الجسم المعنَّى

يتجلى …

ناحلا كالشمس في وقت الغروب …

في شحوب

لست أنسى ذلك الوجه العتيد …

العنيد …

في ارتعاش وانتكاسْ

لست أنسى هذه الجبهة

أضحت في طروق

أنكرت كل شروق

أنكرت كل بريق

تاهت البسمة في كل متاه …

وطريق …

 كانت الأسرة طرا يا شقيقي

تنشد الأدواء للجسم العليل

بينما القلب عليلْ

قد غزاه الحب بالظمأِ الوبيل

مزق القلبَ خواءٌ وغليلْ

غير أن الأم قالت لأبي :

ابنة العمة في حسن صبيْ …

قد تكون الغادة اليوم دواه

وشفاه

من عذاب قد ضناه

وهي لا تعلم أن القلب في غير مداها

قد عداها

لسواها

وابنة العمة لا تشفي ضناْهْ

وابنة العمة لا تمحو أساه

                                     **********

يا شقيقي….

لست أنسى يا شقيقي 

ذلك الحكم المريدْ …

ذلك القيد الحديد …

ابنة العمة في البيت الجديد

زوج أحمد

لست أنسى

صوت هاتيك الطبول

في غناء كالعويل

تطلق البشرى سرورا كالمآتمْ

كشرور ومآثم

زُفت الغادة في ليل طويل …

وثقيل

أحكم القيد على القلب الكسير

لست أنسى الدمعة الحرّى تقول :

أنكروا الحب كدين

والذي أبدع هذا الكون

يعلم في يقين

أن شرع الحب في قلبي مكينْ

يا شقيقي لست أنسى

آخر المأساة …

آخر الملهاة

كيف أنسى كل هاتيك الحياة …

بعد شهر وهْي تهْوي

وهي تذوي …

تنهب الخطو إلى ساحة قبر

وبكى الأبُّ بحرقة

وبكت أمي بحرقة

وبكى كل بعيد وقريب

عندما حل المغيب     

عند ذاك الموت للصمت العجيبْ

عند ذاك الرأس …

إذ يغدو تريبْ …

كنتُ ذاك اليوم طفلا يافعا

ألمح الدمع يخط

وأرى الكرب يحط

لست أنسى يا شقيقي …

جرح أمي …

تلطم الخد صديعة …

وهي تهوي كالصريعة 

للمصيبات المريعة

للفجيعة …

فقد أحمد …

ذاك أحمد …

مات أحمد …

لن يعود اليوم أحمد …

صاحب القلب الكبير … الكسير

وعلى مر السنين

لن يعود

خلف اليوم الآنين

خلف الهم الدفين

يحرق القلب الحزين

لست أنسى يا شقيقي …

صوت أمي كالحريق …

إذ تهيم في الفضاء

في الصباح والمساء

كيف يغدو اليوم أحمد ؟

غائبا في الترب أحمد

كان بالأمس حياة …

ثم يغدو في التراب …

كالتراب …

تخطف الأقدار ابني …

ووحيدي …

وطريفي …

وتليدي …

وظهيري وسنيدي …

ثم يغدو في التراب …

غائبا في جوف أكوام التراب …

كالتراب …

وهي لا تعلم أنهم قد قتلوك …

قبل أن تغدو دفين …

من عهود 

إذ تمزق ذلك القلب الكبير

بعد أن أضحى كسير

بعد أن أضحى أسير

في القيود …

في الحديد …

بابنة العمة في البيت الجديد

وتوليت شقيقي

وتركت الهم خِدني وشقيقي

ورأيت الساحة الكبرى … المنارة

موكب الأرواح …

فإذا الموكب يصعد …

وإذا الروح الكبير …

روح أحمد …

ينطوي في الأفق … يبعد

فترحمت عليه …

وبعثت الحنين شوقا إليه …

ونثرت الدموع زهرا عليه

وتركت الساحة الكبرى وحيدا …

وشريدا …

مثل قبر سائر …

مثل دمع مائر …

مثل قلب الحائر …

بعد أن غادرت قلبي …

فوق قبر بين هاتيك القبور

راويا قصة أحمد …

بين كل الناس …

قصة المأساة …

قصة الملهاة …

قصة القلب الكبير …

إذ حطموه … إذ دفنوه

بعد أن أضحى كسير …

بعد أن أضحى أسير …

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img