img
سبعون عاما في حضن اللغة العريبة الحلقة 11
img
Print pagePDF pageEmail page

         سبعون عاما في حضن اللغة العريبة

الحلقة الحادية عشرة

أساتذتي في دار العلوم 

       إنه من قبيل الوفاء والاعتراف بالجميل أن أستهل حديثي عن دار العلوم بذكر أساتذتي الذين زودوني بكل نافع ومفيد في مجال الشريعة والأدب والنقد واللغة ، لا لأشخاصهم ، ولكن تقديرا للعلم قبل أي اعتبار. مؤمنا بقول الشاعر علي بن عبد العزيز الجرجاني :

وما كل برق لاح لي يستفزنــــي   =   ولا كل أهل الأرض أرضاه مُنعِمــا

ولم أقض حق العلم إن كان كلمـا   =   بدا طمع صيرتُه لِيَ سُلمـــــــــــــا

ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي   =   لأخدم من لاقيْتُ لكن لأُخْدَمَــــــــا

أأشقى به غرسا وأجنيه ذلـــــــة   =    إذن فابتياع الجهل قد كان أحزما

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم   =   ولو عظموه في النفوس تعظمــــا

ولكن أذلوه جهارا ودنســـــــــوا   =   مُحيـَّاهُ بالأطماع حتى تجهمـــــــا

**********

    إن دار العلوم شدت إليها الأنظار ، واعترف كبار المفكرين بفضلها وقيمتها ، وقد سقنا في حلقة سابقة رأي الإمام محمد عبده إذ قال في معرض حديثه عن “دار العلوم”: “إن باحثًا مدققًا إذا أراد أن يعرف أين تموت اللغة العربية؟ وأين تحيا؟ لوجدها تموت في كل مكان، ووجدها تحيا في هذا المكان”.

    وفي هذا السياق نعرض بعض أبيات القصيدة الرائعة التي نظمها أمير الشعراء أحمد شوقي ، وأنشدت في الاحتفال الخمسيني لدار العلوم بمسرح حديقة الأزبكية في يوليو سنة 1927 م :

أنت كالشمس رفرفا ، والسماكيـ   =   ـن رِواقا ، وكالمجرة صحنـــــا

لو تسترتِ كنتِ كالكعبة الغــــــر   =   اء ذيلا من الجلال وردنــــــــــا

إن تكن للثواب والبــــــــــر دارا   =   أنت للحق والمراشد مغنـــــــــى

قد بلغت الكمال في نصف قــرن   =   كيف إن تمت الملاوة قرنــــــــا؟

لا تعُدِّي السنين إن ذكر العلــــــ   =   ـم ؛ فما تعلمين للعلم سنـــــــــــا

سوف تفنى في ساحتيك الليالي   =   وهْو باق على المدى ليس يفنى

يا عكاظا حوى الشباب فصاحـا   =   قُرشيين في المجامع لُسْنــــــــــا

بثهم في كنانة الله نـــــــــــــورا   =    من ظلام على البصائر أخنـــــى

    وفي هذه المناسبة أنشد الشاعر الأستاذ علي الجارم قصيدة طويلة منها الأبيات التالية :

إيه دار العلوم كنت بمــصر ٍ   =   في ظلام الدجى ضياء الشهاب

في زمان من كان يمسك فيه   =   قلما عُد أكتب الكتَّـــــــــــــاب

أنت أم الأشبال إن غاب ليث   =   صال للحق بعده ليث غــــــاب

……………………………    =    ……………………………..

لك دارَ العلوم في كل نفس    =    أثر القيْن في صِقال الجـِــراب

حسب مُطريك أن كل نجيب   =    نفحة من رجالك الأنجــــــــاب

أنت كالنيل كلما مس جدبا     =    هزه بالنماء والإخصـــــــــاب

كِيمِياء العقول أنت تصوغـ    =    ـين نضارا من النحاس المذاب

**********

        وفي الصفحات الآتية أتحدث عن أساتذتي في دار العلوم مع ملاحظة آمرين :

الأول : هو أن من أعرض لهم هم بعض الأساتذة وليسوا كل من كان لي الحظ في تلقي دروسهم .

والثاني : هو أن ما أقدمه ليس ترجمة للشخصية ، ولكنه إنطباع نفسي أكثر منه دراسة علمية.

     

أساتذة الدار :

     وقد قلت في مطلع المقال ” إنه من قبيل الوفاء والاعتراف بالجميل أن أستهل حديثي عن دار العلوم بذكر أساتذتي الذين زودوني بكل نافع ومفيد … ” .

    فمن الأساتذة الأجلاء الدكتور :

1- الأستاذ عمر الدسوقي :

   درس لنا مادة الأدب الحديث في السنة النهائية من دار العلوم ، وكان كتابه  الذي قرره علينا عنوانه ” في الأدب الحديث ” . وكان معتدا بنفسه إلى أقصى حد ، فكان من ظرفه أن يخلل محاضرته بالحديث عن نفسه وجهوده الأدبية ، وأنه أول من كتب كتابا متكاملا في الأدب الحديث .

   وأذكر أنني تقدمت إليه ببحث عنوانه ” الرمانسية في شعر علي محمود طه “ ، فأعجب به إعجابا كبيرا ، وكان مما قاله لي ” إن هذا البحث يصلح أن يكون رسالة ماجستير ” .

   وأذكر أنني جلست أمامه في اختبار مسابقة الالتحاق بالكلية لأداء الامتحان الشفوي ، وكان معه الدكتور تمام حسان ، كان يطلب مني أن أسمعه نصوصا من كل عصر ، وكنت بحمد الله أحفظ الكثير جدا من الشعر ، وأذكر أنه طلب مني أن أسمعه مطولة أو معلقة عبيد بن الأبرص ” وتعد أصعب المعلقات لكثرة ما فيها من أعلام جغرافية ، مثل قوله في مطلع المطولة :

أقفـرَ من أهلهِ مَلْحــــوبُ   =   فالقُطبيَّــات فالذَّنـــــــوبُ

فَراكِـسٌ فثُعَالٍبــــــــــاتٌ   =   فَـذاتَ فَـرقَـينِ فالقَـلِيـــبُ

فَعَـرْدةٌ ، فَقَفــا حِـبِـــــــرٍّ   =   لَيسَ بِها مِنهُــمُ عَـريـــبُ

وبُدِّلَتْ مِنْ أهْلِها وُحوشًا   =   وغًـيَّرتْ حالَها الخُطُــوبُ

   وطلب مني أن أسمعه أبياتا لمتمم بن نويرة في رثاء أخيه مالك فأنشدت :

لقد لامني عند القبور على البكا   =   رفيقي لتذراف الدموع السوافك

فقال أتبكي كل قبر رايتــــــــــه   =   لقبر ثوى بين اللوى فالدكـــــادك

فقلت له إن الشجا يبعث الشجـا   =   ذروني فهذا كله قبر مـــــــــــالك

   وأذكر أنني نطقت كلمة تذراف بكسر التاء ، فقال : ” لا بد أن تفتح التاء ، لأن وزن تفعال المكسور التاء ليس فيه من العربية إلا كلمتان هما : ( تِلقاء ــ وتِبيان ) ” .

   ومن لطفه وخلقه الطيب أنه كان إذا طلب مني أن أسمعه نصا قال : ” أسمِع الدكتور تمام ” مع فارق السن الكبير بينهما .

     وأذكر أن الأستاذ عمر الدسوقي قال لطلاب السنة النهائية : ” دخل دار العلوم هذا العام طالب اسمه جابر قميحة ، يحفظ حمل بعير من الشعر ، ومثله من النثر ” ، وأعوذ بالله من الغرور حين أذكر هذا ، وأذكر باعتزاز أن ترتيبي كان الأول على دفعة المتقدمين للالتحاق بدار العلوم ، وقد وجدت تشجيعا طيبا من الأستاذ عمر الدسوقي رحمه الله .

                                                  **********

2 ــ” محمد ضياء الدين الريس “

 يرحمه الله ؛ فقد كان بحق عالما معلما عظيما : إنه الدكتور محمد ضياء الدين الريس ابن المطرية دقهلية الذي كان يدرس لنا مادة ” التاريخ الحديث ” ، في السنة النهائية من كلية دار العلوم سنة 1956 – 1957 . وكان منهجه في تدريس هذه المادة يجمع بين حرارة الإيمان ، والتوهج العقلي ، و الانتظام الفكري ، والقدرة الفائقة على التصدي للمفتريات التاريخية التي يثيرها أعداء الحق والإسلام ، و كذلك أكاذيب من ساروا علي درب المستشرقين والمبشرين والصليبيين بحجة التجديد الديني والفكري .

     أنا أكتب هذا المقال وكأني أنظر إلي أستاذنا العظيم وهو جالس على منصة التدريس في المدرج الكبير يجذب قلوبنا وعقولنا بصوته الهادئ ، ونبره العميق .

   وتقول سيرته … وهي ما يسمى بصحيفة أحواله :

– من ابرز اساتذة التاريخ الاسلامى في مصر في عهده .

– ولد في 17 من يناير 1912 ، حفظ القرآن الكريم كاملا ، حصل على دبلوم دار العلوم العليا 1935 وكان ترتيبه الاول ، واختير ضمن بعثة دار العلوم لدراسة التاريخ بانجلترا 1938 ، ونجح في امتحان جامعة لندن الخاص 1939 ، كما نجح في امتحان شهادة الأدب المتوسط في التاريـخ و الأدب  الانجليزى  والترجمة و الفلسفة الأدبية 1941 ، نال شهادة البكالوريوس مع مرتبة الشرف من جامعة لندن في التاريخ و العلوم السياسية ، و اذنت له الجامعة بالتقدم للدكتوراه مباشرة ، وأتم رسالته 1945 ، و كان موضوعها { فكرة الدولة كما تصورها النظريات السياسية  الاسلامية } .

– حصل على درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة ، وعين مدرسا للتاريخ الاسلامى بكلية دار العلوم

– من أبرز كتبه ( كتاب النظريات الاسلامية – عبد الملك ابن مروان موحد الدول العربية – في التاريخ الإسلامى الحديث – الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية – الإسلام و الخلافة في العصر الحديث … )

– رقي حتى وصل إلى رئيس قسم التاريخ الإسلامى بكلية دار العلوم .

–    –  كان الدكتور أحمد هيكل زير الثقافة الأسبق واحدا من تلاميذه .

 ـ توفى في 26 من ابريل 1977

**********

 

     و يطول بنا المسار لو قدمنا كل الحجج التي فند بها المفتريات والأكاذيب ، و نكتفي في هذا المجال بخلاصة مركزة لما نقض به كتاب” الإسلام وأصول الحكم “ لعلي عبد الرازق .

لقد أصدر استاذنا الدكتور الريس كتابه” النظريات السياسية الإسلامية ” سنة 1952 ، فند فيه آراء علي عبد الرازق. وفي سنة 1976 أصدر كتابا بعنوان ” الإسلام والخلافة في العصر الحديث ” نقد فيه الكتاب السابق ، و الجديد أنه شكك فيه بأدلة قوية أن يكون الكتاب من تأليف الشيخ علي . ومن هذه الأدلة :

ــ لم يعرف عن الشيخ قط أنه كان باحثا، أو مفكرا سياسيا ،أو حتى مشتغلا بالسياسة .

ــ لا يعقل أن يقصد قاض شرعي مسلم من عائلة محافظة الهجوم علي الإسلام ،    وينكر ما فيه من سياسة و حكم ، وجهاد وقضاء .

ــ لا يعقل أن يكون هذا الشيخ الأزهري قد تعلم قي الأزهر ما يورده في كتابه ” من أحاديث عن ” قيصر ” و” عيسي ” و” متي ” و” الإصحاح” و” الإنجيل” .

ــ يتكلم الكتاب عن المسلمين بضمير الغائب . ككقوله : ذلك الزعم بين المسلمين … غير مألوف في لغة المسلمين … الخلافة في لسان المسلمين … الخ .

ــ الكتاب يدافع عن المرتدين ، و ينتقد أبا بكر . 

ــ شهادة الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية في أحد كتبه ، وهو كعلي عبد الرازق ينتسب إلى حزب الأحرار الدستوريين ، يقول الشيخ بخيت ” … علمنا   من كثيرين ممن يترددون على المؤلف أن الكتاب ليس له فيه إلا وضع اسمه عليه فقط ، فهو منسوب إليه فقط ليجعله واضعوه ــ من غير المسلمين ــ ضحية هذا العار ” .

ــ قدم الدكتور الريس كتابه الذي اصدره سنة 1952 وهو ” النظريات السياسية الإسلامية ” قدمه لعلى عبد الرازق وطلب منه الرد على ما جاء فيه من تفنيد لكتاب ” الإسلام وأصول الحكم ” . ولم يرد علي عبد الرازق .

ــ رفض على عبد الرازق أن يعيد طبع كتابه بعد أن ألحت عليه ” دار الهلال ” في إعادة طبعه

ويخلص الدكتور الريس ــ رحمه الله ــ إلى ترجيح أن يكون المؤلف الأصلي لهذا الكتاب أحد المستشرقين الإنجليز .

**********

    ولا أنسى أنه قبض عليه خطأ في عهد الوزار السعدية في أواخر الأربعينيات ، والسبب أنهم وجدوا ورقة في جيب عبدالمجيد حسن ( الذي قتل النقراشي باشا رئيس الوزراء) ،وهذه الورقة مكتوب فيها كلمة واحدة هي ” ضياء ” ، فألقت الحكومة القبض على كل من يحمل اسم ” ضياء ” ، وكان منهم أستاذنا ، مع أن اسمه الكامل ” محمد ضياء الدين الريس ” . وأودع معتقل الطور .

   ولا انسى أنه في حديثه عن الدولة الإسلامية ــ بعد خروجه من المعتقل ــ قال : ” لقد اعتقلوني مع عدد كبير من الإخوان ، وفي المعتقل رأيت فيهم الدولة الإسلامية مصغرة ، فالعلاقة بينهم تقوم في المعتقل على النظام ، والتعاون ، والإيثار، والحب العميق … كان الواحد منهم يزوره أهله في المعتقل يحملون إليه صفيحة كبيرة جدا وقد غصت بما فيها من كعك ، فيوزعها على الإخوان ، ولا يُبقي لنفسه إلا كعكة واحدة، مما يذكرني بقوله تعالى : “مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا” . (الفتح 29)

                                 ********** 

    واعترافا بفضل عالمنا الجليل كذلك أكمل هذه الصورة بما ذكره الدكتور محمد عمارة ــ أكرمه الله ــ في كتاب صدر له سنة 1985 باسم ” معركة الإسلام وأصول الحكم “ . وألحق به  كتابا آخر سنة 1995 باسم ” الإسلام بين التنوير والتزوير “ . و في فصل طويل كامل ” ص 38 ــ ص 96 ” تحت عنوان ” علمنة الإسلام والعمران ” فضح كتاب علي عبد الرازق بمعلومات و بيانات جديدة موثقة ، خرج منها بترجيح تأليف طه حسين للكتاب ، أو قسمه الثاني بأبوابه الثلاثة على الأقل .

     رحم الله أستاذنا المعلم العظيم الدكتور محمد ضياء الدين الريس ، لما قدمه من مجهود للإسلام والحق والفكر السليم .    وأطال الله في عمر الأخ العزيز الأستاذ الدكتور محمد عمارة ألذى سار على الدرب ، وقدم من الجديد الرصين كثيرا وكثيرا .

                                 ********** 

       3 ــ الدكتور أحمد الحوفي :

 تلقيت على يديه دروس الأدب الجاهلي في ثلاثة كتب رائعة هي ” الحياة العربية من الشعر الجاهلي ” و ” الغزل في الشعر الجاهلي ” و ” المرأة في الشعر الجاهلي ” .

          وقد استطاع أستاذنا الدكتور أحمد الحوفي بالشعر الجاهلي أن يرسم تضاريس المجتمع الجاهلي من النواحي الاجتماعية في السلم والحرب ، والحياة الدينية ، والقيم الخلقية ، والأبعاد النفسية ، بل التضاريس الجغرافية . أي أنه بهذه الأسفار الثلاثة استطاع أن يرسم صورة متكاملة للمجتمع الجاهلي اعتمادا على المعروض من هذا الشعر .

         وقد تعرض بالنقض لكثير من المفتريات التي حُملت على الشعر الجاهلي ، كما صحح كثيرا من المفاهيم الغالطة ، وكثير منها بلغ حد التواتر . والخلاصة أن هذا العطاء لم يسبقه إليه أحد ، كما لم يدرك مثله أحد .

        والرجل كان ذا خلق عظيم ، مؤمنا قوي الإيمان ، واسع الصدر لمناقشات الطلاب ، وكان بنبراته الهادئة العميقة يشدنا إليه شدا ، وكان يعاملنا معاملة الآباء لأبنائه .  

      وكان دائم العطاء في المجالات الأخرى وخصوصا الإسلاميات .

                                   **********

4 ــ الشاعر على الجندي :

  هو أشعر من التقينا به في دار العلوم ، وتتلمذنا على ديوانيه  :  ”  ألحان الأصيل ” و ” أغاريد السَّحَر ” ، من يراه يعتقد أنه غير عربي ، أو أوروبي الجنسية : فقد كان أحمر الوجه … أبيض الشعر . ولكنه كان يعيش شباب الكلمة ، ويُعيـِّشنا معه ، ونجد هذا الطابع يشي به عنوان ديوانيه السابقين .

        وكان حَفـَّـاظة لا يشق له غبار ، وقد رأيناه يتمتع بموهبة في الحفظ  لم نرها لأحد ، ومظهرها  أنه إذا طرحت عليه ” كلمة ” استطاع أن يسمعك كل الشعر القديم والحديث الذي وردت فيه هذه الكلمة ، كانه معجم ناطق . وقد حضرته وهو عضو في لجنة مناقشة بعض أطروحات الماجستير والدكتوراة ، فكانت مناقشته واعية شاملة ، لا تترك صغيرة ولا كبيرة في الأطروحة المقدمة إلا وعرضها بأمانة على ميزان النقد الحصيف . لذلك كانت مناقشته بمفرده لا تستغرق أقل من ساعتين .  

        وكان إذا أنشد الشعر انفعل بما يُـنشد إلى درجة البكاء أحيانا تبعا لمضمون ما ينشد .

وهو للحق نموذج لم يتكرر في دار العلوم وربما في غيرها .

**********

5 ــ الدكتور محمد غنيمي هلال :

          تلقينا علي يديه مادة الأدب المقارن ، ولأول مرة في حياتي نعرف منه مفهوم الأدب المقارن وأصوله وتطبيقاته ، بطريقة علمية وافية ، ولأول مرة نعرف منه الفرق بين ” الأدب  المقارن ”  ، و ” الأدب الموازن ” أو أدب الموازنات ، وقبله كان كثير من الأساتذة ، وكل الطلاب يخلطون بين الأدبين ، واستطاع الدكتور هلال أن يوصل إلينا معلوماته في سهولة ويسر على صعوبة المادة . وكانت كتابته خيرا من إلقائه ، فقد كان في إلقائه سريع الأداء ، وكأن علمه الغزير يدفع كلماته إلى التزاحم والتنافس . وقد ترك ثروة في الأدب المقارن ، والنقد الأدبي جعلت منه واحدا من العلماء الأفذاذ الذين تفخر بهم دار العلوم ومنها :   
1- الأدب المقارن.

2- الرومانتكية  .

3- النقد الأدبي الحديث .
                                               **********

6 ــ الدكتور محمد مبروك نافع  :

          درّس لنا مادة التاريخ ، وكان المقرر هو كتابه ” عصر ما قبل الإسلام ” . وهو كتاب طيب كشف كثيرا من خفايا ما قبل الإسلام ، في دقة وتركيز ووضوح . وكان الرجل لا يشرح محاضراته إلا بالعربية الفصحى ، وكان دمث الخلق ، تبدو طيبة القلب ونقاء الضمير في كلماته وسلوكياته ، وتعامله مع الطلاب . وكان طيبا سمحا ، يقدر مناقشات الطلاب حتى لو عارضت رؤيته ، وقد حببني في أن أسأل وأناقش ، وكان يشجعني بعبارة مازلت أتذكرها حتى الآن وهي قل ، واسأل وناقشني يا سيد قميحة ، وانقدني كما تشاء ، فإن كلامي يأتي من الأرض ، ولا ينزل علي من السماء ” .

        ولكنا في الأشهر الأخيرة رأينا وجه الرجل يكتسي سحابة من الحزن الدفين ، ثم علمنا أن ابنا من أبنائه متهم في جناية ما ، وقضيته معروضة على التحقيق . وأثناء محاضرة ذات يوم كئيب رأينا أستاذنا العظيم يسقط فوق المنصة ميتا . وبكينا عليه كثيرا ، وذهبت وفودنا لتعزية أهله في سكنه بشارع : ” نخلة مطيعي ” بمصر الجديدة . يرحمه الله .

                                                  **********

7 ــ الدكتور تمام حسان  :

        لا أنساه بقامته المديدة ووجهه الأسمر ، وهو جالس بجانب الأستاذ عمر الدسوقي في لجنة اختبار الطلاب المتقدمين لمسابقة القبول في دار العلوم سنة 1954 ، وكان الأستاذ عمر الدسوقي ــ من أدبه ــ  إذا وجه إلي سؤالا قال لي ” أسْمِع الدكتور تمام ” .

       وكان من حظي أن كنت واحدا من تلاميذ الدكتور تمام الذي كان يدرس لنا ” علم الأصوات العربية ” بطريقة حديثة واعية .

       وكوّنا ــ نحن الطلبة ــ جمعية باسم  ” جمعية الأدب والترجمة الإنجليزية  ” ترأسها الدكتور تما م ، وأفدنا من توجيهاته ، وطلب منا أن نترجم كتابا باسم ” الإسلام للفريد جويلم ” ، ووزعنا الكتاب بيننا فصولا وصفحات ، ووفقنا في ترجمته من الإنجليزية إلى العربية ، وكان لعلمه ووتوجيهاته الرائعة أثر كبير في تقدمنا في فن الترجمة .

      وذات يوم سألناه  ” ما الذي جعل منك عالما متمكنا من اللغة الإنجليزية ؟ ” .  فكان جوابه :  ” ألشعور بالنقص ، والحرص على بلوغ الكمال … فكنت أقرأ كل يوم عشرات الصفحات في المعاجم الإنجليزية ، وأستخرج مما قرأت الكلمات الصعبة ، وأبحث عن معناها وأحفظها حفظا جيدا ، وكلما تقدمت بي الأيام قلتْ وهبطت الكلمات الصعبة ، إلى أن حققت نتيجة طيبة جدا في معرفة الإنجليزية … اعرف المجهول جيدا حتى يصبح معلوما ، ويذلل أمامك العقبات المستقبلية في اللغة ” .

       وما زالت هذه النصيحة تعانقني وأعانقها إلى أن سافرت في بعثة دراسية للعمل بجامعة ” يل ” بمدينة ”  نيو هافن ”  بالولايات المتحدة الأمريكية . وكنت أحمل دائما معي ” نوتة صغيرة ” إذا ما سرت في شوارع المدينة ، وأسجل فيها الكلمات الصعبة من لافتات المحلات والدكاكين . وعلى أمثالنا في هذه البلاد أن يراعي دقة التعبير ، ويراعي الطوابع والعادات اللغوية في المناطق المختلفة . وأذكر أن أحد الطلاب العرب  أراد أن يترك سيارته في موقف للسيارات ، فسأل الشرطي  ( Can I bark here ?  ) فضحك الشرطي وقال (yes you can bark anywhere  ) .

      وضحك الشرطي لأن كلمة ( bark  ) معناها ينبح ، أما الكلمة المطلوبة فهي (  park) ومن عادة العرب أنهم يخففون حرف ال ( p ) ، وهي المطلوبة في هذا المقام .                          

                                                   **********

 8 ــ الدكتور أحمد هيكل :

        تلقينا عنه الأدب الأندلسي ، وكان نموذجا للنشاط الحي ، وسرعة البديهة ، والقدرة على العرض والنقاش . ومن مزاياه أنه كان قديرا على بسط المادة مهما كانت الفكرة ضئيلة ، والرجل سمح واسع الصدر ، كنا نلتقي به بعد المحاضرة لنفيد من علمه وتخصصه ، وأذكر أنني كتبت البحث المطلوب مني سنويا ، وكان بعنوان ” غرام ابن زيدون ” ، واتسع البحث لحديث نقدي طويل عن ” ولادة بنت المستكفي ” ، التى أحبها ابن زيدون ونظم فيها عشرات من القصائد ، وعقدت موازنة دقيقة بين شخصيتها ، وشخصية الفرنسية ” جورج صاند ” ، وكان البحث موضع إعجاب وتقدير من الدكتور أحمد هيكل ، مما أعطاني دفقة طيبة من الثقة بالنفس .

             

                                           **********

9 – الشيخ محمد الزفزاف :

        عالم جليل ، عرفته عن كثب ونحن نتلقى على يديه فقه القرآن والسنة ، كان متزنا في إلقائه ، هادئا في طريقته ، وإن شابها بعض العصبية .

           والشيخ الزفزاف معروف بــ ” عصاه ” ، إذ كان يسير في فناء الكلية فإذا رأى طالبة تطيل الوقوف مع أحد الطلاب رفع عليهما العصا ، وكان جميعهم يأخذون تهديده بقابلية واستلطاف ، كأنه أب في حنوه وقسوته .

           كان وكيلا للكلية ويظهر على وجهه آثار السن ، والضعف بقده النحيف ، ولكنه كان متيقظ العقل ، قوي الحجة ، محبوبا من جميع الطلبة .

**********

10ــ الدكتور إبراهيم أنيس  :

           كان فارع القامة ، جميل السمت ، يهتم بأناقته ، وكان واحدا من عمداء الكلية ، كما كان يدرس لنا مادة فقه اللغة . ولا أنسى له موقفا إنسانيا معي ، خلاصته أن الأستاذ محمد على مصطفى كان يدرس لنا مادة ” الطرق الخاصة ” وكان لا يسمح لأي طالب يدخل قاعة المحاضرة بعد دخوله ، وبعد دخوله بعشر دقائق سمح لطالبة بالدخول . وبعدها بدقيقة حاول أحد الطلبة أن يدخل فرفض الأستاذ دخوله : وهاج قائلا : لقد تأخرت … لقد تخلفت ولن تحضر لي محاضرتي . لم يعجبني ما حدث فقمت ثائرا في وجه الأستاذ ، ”  ولماذا هذه التفرقة ياسيدي ؟! . إن هذا ليس من الإسلام في شيء ” .

          فقام الرجل غاضبا ولم يكمل المحاضرة  التي لم يكن قد مضى على بدايتها أكثر من ربع ساعة ، واتجه إلى الدكتور إبراهيم أنيس عميد الكلية ، وشكاني إليه . وفوجئنا بالعميد يحضر غاضبا ويجمعنا من جديد في قاعة الدرس وهو يقول في ثورة وغضب : يا قميحة أنت سبب الإساءة إلى النظام ، وإغضاب الأستاذ محمد مصطفى . ألا تعلم أنه أستاذي ؟ اعتبر نفسك مفصولا من الآن ، ومع ذلك ناقشته وشرحت له ما حدث ، وقلت :إن هذا ليس  سلوكا تربويا ، ولا إسلاميا ، فالمساوة بين الجميع قاعدة من قواعد الإسلام …

         وقام الرجل منتفضا ووجه إلي الكلام قائلا : على كل حال اعتبر نفسك مفصولا من الكلية ابتداء من هذه الساعة .

         ونزل مني تهديده منزل الصاعقة … وأخذت أفكر … ماذا أفعل وقد أصبح مصيري هو الشارع ، بعيدا عن الكلية التى أحببتها من أعماقي ؟؟.

        وعلمت بعد ذلك أن الدكتور أنيس ذهب إلى الأستاذ محمد على مصطفى في مكتبه

ــ وكان أنه طيب القلب جدا  ــ وقال له : خلاص يا أستاذي فصلت قميحة إلى الأبد . فاهتز الأستاذ محمد مصطفى وظهرت الدموع في عينيه . وقال : لا يا دكتور … أرجوك يا دكتور … فإنه واحد من أبنائنا ، وأنا سامحته في حقي ، فأرجو أن تسامحه في حق الكلية .

       قال الراوي : ولم يترك الأستاذ محمد مصطفى الدكتور أنيس إلا بعد أن أخذ عهدا منه على العفو عني . وأردف الراوي قائلا : هذا التخطيط كان من الدكتور أنيس الذي كان حريصا على ألا يضيع مستقبلك ، فاستغل طيبة الأستاذ محمد مصطفى إلى أن أنقذك الله من الضياع .

       واستدعاني الدكتور أنيس بعدها ، وقال لي بالحرف الواحد : دي آخر مرة يا قميحة ، ولو فعلت مثل هذا مرة ثانية فليس أمامك إلا الفصل من الكلية نهائيا .               

      

                                                  **********

      لقد تحدثت آنفا عن بعض أساتذتي وهناك آخرون لا يقلون عمن ذكرت مثل : الشيخ محمد المدني ، والأستاذ عبد السلام هارون ، والأستاذ عباس حسن ، والدكتور مصطفى زيد ، والدكتور أحمد بدوي ، والدكتور بدوي طبانة ، والدكتور إبراهيم العدوي ، والدكتور محمد حلمي  وغيرهم ، وكلهم محل تقدير واحترام وتوقير ، ولكن المجال لا يتسع لأكثر ممن ذكرت . والحمد لله رب العالمين .

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img