img
رسائل النبي صلى الله عليه وسلم للملوك والرؤساء
img
Print pagePDF pageEmail page

رسائل النبي صلى الله عليه وسلم للملوك والرؤساء

كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أميًّا، بعث في أمة أمية، وقد جاء في القرآن الكريم(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة: 2).

 يقول صاحب المنار (9/ 225): “بعث الله محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أميًّا ـ أي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يُنْقل لنا أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ بعث نبيًّا أميًّا غيره، فهو وصف خاص لا يشارك محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه أحد من النبيين. والأمية آية من أكبر آيات نبوته: فإنه جاء بعد النبوة بأعلى العلوم النافعة، وهي ما يُصلح ما فسد من عقائد البشر، وأخلاقهم، وآدابهم، وأعمالهم، وأحكامهم، وعمل بها فكان لها من التأثير في العالم ما لم يكن، ولن يكون لغيره من خلق الله”.

**********

 فالأمية كانت متفشية في بلاد العرب فلم يكن هناك من يكتب العربية، حينما جاء الإسلام إلا سبعة عشر إنسانًا ذكرهم ابن عبد ربه في العقد الفريد على سبيل الحصر. وإن رفع غيره العدد إلى الضعف أو أكثر.

 كتّاب النبي صلى الله عليه وسلم

 وذكر الجهشياري في كتاب “الوزراء والكتاب” أسماء ثمانية كانوا يكتبون للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تلقيًّا منه ـ أي الوحي أو الرسائل أو المغانم ـ وهم: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وخالد بن سعيد، ومعاوية بن أبي سفيان، ومعيقيب بن أبي فاطمة حليف بني أسد الذي كان يكتب مغانم الرسول، وعبد الله بن أبي السرح.

 وذكر الجهيشاري أسماء أخرى لرجال كتبوا في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هم: المغيرة بن شعبة، والحصين بن نمير، وكانا يكتبان ما بين الناس، وعبد الله بن الأرقم، والعلاء بن عقبة، وكانا يكتبان بين القوم في قبائلهم ـ ومياههم، وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء، وحنظلة بن الربيع الذي كان خليفة كل كاتب من كتاب النبي إذا غاب عن عمله.

 وهذا يعني أنه كان للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتَّاب معروفون على سبيل الحصر، كما أنهم عرفوا نظام “الكاتب الاحتياطي” الذي يسد مسدّ من يغيب، وما ذكره الجهشياري،

 يدل على أنّ الكتاب أيام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانوا نوعين:

النوع الأول: الكتاب المباشرون: وهم الذين يتلقون، من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مباشرة فيكتبون له الوحي، والرسائل.

والنوع الثاني: كتاب الدولة: وهم يسجلون ما يحتاج إلى تسجيل من غنائم الحروب وأنصبةالناس وحاجات قومهم ، وما شابه ذلك.

 وأقل من هؤلاء بكثير النساء اللائي يكتبن، وقد ذكر البلاذري في “فتوح البلدان منهن: الشفاء بنت عبد الله التي كانت كاتبة في الجاهلية، وحفصة بنت عمر، وأم كلثوم بنت عقبة، أما أم سلمة زوجة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكانت تقرأ ولا تكتب.

 وهناك توجيه طيب رائع من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نراه في حديث زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ قال: أمرني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن أتعلم له كتاب يهود (أي لغتهم قراءة وكتابة) قال: إني والله ما آمن يهود على كتاب. قال زيد: فما مرّ بي نصف شهر حتى تعلمته له، فلما تعلمته، كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم ” رواه الترمذي .

 وبذلك فوّت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على اليهود ما يحرصون عليه من التحريف والمغالطة، إذ كانوا لا يكتبون إليه إلا بلغتهم التي لا يعرفها أحد من المسلمين، مع أن كثيرين منهم كانوا يعرفون العربية جيدًا، ومنهم شعراء ينظمون بالعربية، وبعد ذلك كان زيد بن ثابت يقوم بدور المترجم قراءة وكتابة. وفي هذا الحديث توجيه للمسلمين على مدار العصور بأهمية تعلم اللغات الأجنبية وخصوصًا لغة الأعداء.

رسائل النبي تحقيق لعالمية الإسلام

وأهم هذه الرسائل:

1 ـ رسالته إلى قيصر ملك الروم، وحملها دحية بن خليفة الكلبي.

2 ـ رسالته إلى كسرى ملك فارس، وحملها عبد الله بن حذافة السهمي.

3 ـ رسالته إلى المقوقس عظيم القبط بمصر، وحملها حاطب بن أبي بلتعة.

4 ـ رسالته إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام، وحملها شجاع بن وهب الأسدي.

5 ـ رسالته إلى هوذة بن علي الحنفي، وإلى ثمامة بن أثال: رئيس اليمامة، وحملها سليط بن عمرو العامري.

6 ـ رسالته إلى النجاشي ملك الحبشة، وحملها عمرو بن أمية الضمري.

7 ـ رسالته إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين، وحملها العلاء بن الحضرمي.

 وتشترك كل هذه الرسائل في مضمون محوري واحد، وهو الدعوة إلى الإسلام، وقد جاءت هذه الدعوة في أساليب متعددة، وصور مختلفة تراعى شخصية المرسل إليه، ومكانته السياسية والاجتماعية، والدينية. ولكن ـ بجانب هذه الفكرة المحورية ـ كان هناك مضامين أخرى فرعية مشتركة بين هذه الكتب جميعًا، أو أغلبها، وإن ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالمضمون الرئيسي. ومن هذه المضامين المشتركة:

1 ـ في الإسلام السلامة ، أما من امتنع عن الإسلام أثم.

2 ـ محمد هو رسول الله المبعوث للناس كافة.

3 ـ الممتنع عن الإسلام لا يحمل إثم بقائه على الكفر فحسب، ولكن إثم رعاياه كذلك؛ لأنهم يتبعونه ضلالة أو هداية، والناس على دين ملوكهم.

4 ـ الاستشهاد بآية أو آيات من القرآن الكريم مناسبة للمقام، ومتعلقة بطبيعة المرسل إليه.

 فكل هذه الرسائل كانت الفكرة الأساسية التي تحملها هي الدعوة إلى الإسلام، ثم هي تمزج في تضاعيفها بين الترغيب في اعتناق الدين الجديد، والترهيب المجمل من نتيجة المخالفة برفض اعتناق الإسلام وهو الدين الخاتم الذي جاء به محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبعوثًا للناس كافة. ونعرض فيما يأتي نصوص بعض هذه الرسائل:

**********

رسالته إلى هرقل ملك الروم:

بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعدك فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلِم تسلم، أَسْلِمْ يؤتك اللهُ أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأَرِّيسيِّين و (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). والأريسيون هم الفلاحون من رعاياه يتحمل إثمهم؛ لأنهم يتبعونه وينقادون إليه.

**********

ورسالته إلى كسرى ملك الفرس:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أدعوك بدعاية االله عز وجل، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيًّا، ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس.

**********

ورسالته إلى المقوقس عظيم القبط في مصر:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى المقوس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

وجاء في صبح الأعشى: ذكر الواقدي أن كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المقوقس كان بخط أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وأن فيه:

من محمد رسول الله إلى صاحب مصر: أما بعج: فإن الله أرسلني رسولاً، وأنزل علي قرآنًا، وأمرني بالإعذار والإنذار، ومقاتلة الكفار حتى يدينوا بديني، ويدخل الناس في ملتي، وقد دعوتك إلى الإقرار بوحدانيته، فإن فعلت سعدت، وإن أبيت شقيت والسلام”.

**********

رسالته إلى النجاشي ملك الحبشة:

بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلمٌ أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله، وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملتْ بعيسى، حملته من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده، ونفخه، وإني أدعوك إلى الهل وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني، وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرًا ونفرًا معه من المسلمين، فأقْرِهم (أي أكرمهم) ودع التجبر، وإني أدعوك وجنودك إلى الله ـ عز وجل ـ وقد بلغتُ ونصحتُ، فاقبلوا نصحي، والسلام على من اتبع الهدى.

*********

ملامح فارقة:

ورسائل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد قدمنا بعضها ـ بينها سمات وملامح فارقة لا يخطئها النظر:

1 ـ فبعضها يأتي موجزًا في سطرين أو ثلاثة، ويدعو إلى الإسلام مباشرة، دون تفصيل كرسالته إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، ونصها:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله وصدق، وإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك.

2 ـ في رسالة واحدة فقط وهي الموجهة إلى المنذر بن ساوى، يذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ملامح المسلم، فالمسلم ـ على حد قوله عليه الصلاة والسلام، من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا

3 ـ وانفردت رسالته إلى النجداشي عن رسائله كلها بأمرين هما: ذكر بعض أسماء الله الحسنى: الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وشرح طبيعة المسيح عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ فهو “روح الله، وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، حملته من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده ونفخه”.

والعجيب أن يذكر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذلك في كتابه إلى النجاشي، وربما كان أولى به رجل كالمقوقس “عظيم القبط” حتى يبعث فيه حسه الديني. فهو زعيم ديني قبل كل شيء، ولكن معرفة الواقع التاريخي آنذاك تجعلنا نؤمن بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اختصاصه رسالته للنجاشي بذكر المسيح، وكيفية ولادته ـ كان على حق، فقبل هجرة النبي إلى المدينة بعدة أعوام هاجر جعفر بن أبي طالب، وعشرات من المسلمين إلى الحبشة، وأرسلت قريش إلى الحبشة أفرادا وراء “الفارين الخارجين” لمحاولة إرجاعهم إلى مكة، أو على الأقل محاولة تأليب النجاشي عليهم، فلم يجدوا سبيلاً يتسللون منه إلى قلب النجاشي إلا طبيعة المسيح، ورأى المسلمين فيه “هو سيء من وجهة نظر الكفار مما قد يغضب النجاشي” وشرح المسلمون “الفارون” وجهة نظر الإسلام في خلق المسيح، ومكانته عند المسلمين، فخابت مؤامرة الكفار، وعامل النجاشي المسلمين معاملة طيبة.

وقد أراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإعادة ذكر هذه المسألة في رسالته ـ تأييدًا لما ذكره المسلمون، وتأكيدًا له، وكسبًا لمشاعر هذا الملك العظيم، وقد تحقق ما أراد، فأرسل إليه النجاشي كتابًا يعلن فيه أنه أسلم على يد جعفر بن أبي طالب، ويعبر عن إيمانه بما ذكره الرسول في طبيعة المسيح عليه السلام.

4 ـ كما انفردت رسالة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى النجاشي بذكر “مطلب خاص” هو أن يحسن النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب ومن معه من المهاجرين إلى الحبشة، فهم في دار غربة فارون بدينهم من الشرك والظلم والعدوان.

5 ـ وأكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بعض هذه الكتب مسئولية الحكام عن ضلال الرعية، وكان هذا التأكيد صريحًا قارعًا شديد اللهجة في رسائل ثلاث، وهي رسائله إلىكسرى الفرس، وهرقل الروم، والمقوس عظيم القبط في مصر، فالأولان هما أوسع حكام الأرض نفوذًا، والثالث هو صاحب الهيمنة الدينية على أقباط مصر، ففي كتابه إلى قيصر الروم “فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين” وفي كتابه إلى كسرى الفرس “… فإن أبيت فعليك إثم المجوس..” وفي كتابه إلى المقوقس “.. فإن توليت فإنا عليك إثم القبط.

ولكن هذه الفروق التي ذكرناها بين الرسائل آنفًا لا تبتعد، بل هي ترتبط بالفكرة المحورية الرئيسية في هذه الرسائل، وهي الدعوة إلى الإسلام.

*********

الآثار … وردود الفعل …

وقد كان تأثير هذه الرسائل مختلفًا:

1 ـ فيروى أن هرقل بعد أن قرأ رسالة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاد إلى حمص دار ملكه، ونزل قصره العظيم بها، وأغلق الأبواب، وأمر مناديّا ينادي: ألا إن هرقل قد آمن بمحمد واتبعه، فأقبلت الأجناد في سلاحها، وطافت بقصره تريد قتله، فأرسل إليهم: ” إني أردت اختبار صلابتكم في دينكم “، فرضوا عنه.

وهناك رواية أخرى خلاصتها أنه كتب كتابًا وأرسله مع دحية الكلبي إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول فيه: “إني مسلم، ولكني مغلوب” فلما قرأه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “كذب عدو الله، ليس بمسلم”.

2 ـ وأما كسرى أبرويز: فإنه مزق الرسالة، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ “مزق الله ملكه”. فسلط الله عليه ابنه شيرويه فقتله.

3 ـ وقبَّل المقوس رسالة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأهدى إليه ضمن ما أهدى مارية القبطية، فتسرَاها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنجب منها ابنه الذكر الوحيد إبارهيم الذي مات رضيعًا، وماتت مارية مسلمة سنة 16 هـ.

4 ـ وأما الحارث بن أبي شمر الغساني، فأنه لما أتته الرسالة قال: أنا سائر إليه “يعني محاربًا” فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: باد ملكه.

5 ـ وأما هوذة بن علي فبعث يطلب من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يجعل له الأمر من بعده حتى يسلم، وإلا قصده وحاربه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفنيه، فمات بعد قليل.

6 ـ وأما النجاشي فإنه آمن برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واتبعه ابنه في ستين من الحبشة، فغرقوا في البحر، وبعث إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يزوجه بأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وكانت مهاجرة بالحبشة مع زوجها عبد الله بن جحش، فتنصر هناك، فزوجه إياها، وقام النجاشي بصداقها أربعمائة دينار من عنده.

7 ـ وأما المنذر بن ساوى فإنه أسلم، وأسلم معه أهل البحرين.

ولكننا نستطيع أن نقول إن التأثير كان إيجابيًا إلى حد بعيد، والذين لم يسلموا في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسلموا في حياة خلفائه.

**********

المتابعات الجوابية:

وفي بعض الأحيان لا تنتهي المسألة بالرسالة والرد عليها، بل تمتد المتابعة إلى كتابة رسالة تأتي الثالثة في التريب الزمني، وتكون جوابًا أو ردًا على الرد، ونكتفي بمثال واحد لهذه“المتابعة الجوابية: جاء رد المنذر بن ساوي ملك البحرين على رسالة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن أعلن إسلامه ـ بالنص التالي:

أما بعد يا رسول الله: فإني قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه، ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود، فأحدث لي في ذلك أمرك” أي أشر عليّ بما أفعل.

فكتب إليه صلى الله عليه وسلم:

بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن عبد الله إلى المنذر بن ساوى:

سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد فإني أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح، فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطع رسلي، ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرًا، وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوتُ عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته، فعليه الجزية.

**********

 وهذه الرسائل الديوانية، أو الرسمية، أو العامة تميل في أغلبها إلى الإيجاز والمباشرية في معالجة الموضوع، وغلبة عنصر الفكر على عنصر الوجدان، وجاء الأداء التعبيري فيها بالأسلوب المرسل دون تكلف أو تصيّد بعيدًا عن السجع، والتزين اللفظي، وهي مطعمة غالبًا ببعض آيات من القرآن الكريم.

 وفيما يتعلق بالدولة الإسلامية الناشئةفي المدينة، نقرأ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عشرات من الرسائل والكتب والعهود، والوصايا، ككتاب الموادعة أو دستور المعايشة بينه وبين اليهود ومن ساكنهم في المدينة وما حولها، ومنها الرسائل والكتب التشريعية التي كان يكتبها ويوجهها إلى الأفراد، أو القبائل يعرض فيها أحكام الدين المختلفة في مجال العبادات والمعاملات وغيرها، ومنها كتب الإقطاع والغنائم، التي يُمنح بمقتضاها فرد، أو قبيلة الحق في امتلاك أرض، أو ماء أو شجر، أو ما شابه ذلك، أو احتكار الانتفاع بذلك بصفة دائمة، أو وقت محدود.

 ومنها الكتب الإدارية والتنظيمية التي تتعلق بتنظيم أمور الدولة وإدارتها في حالتي الحرب والسلم، وتصدق كذلك على كتب تولية الولاة والقادة، والتكليف بمهام محددة، ومنها كتب التجسس والاستطلاع، وهي رسائل سرية أشهرها الرسائل المتبادلة، بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعمه العباس ـ رضي الله عنه ـ الذي بقي في مكة ليكون عينًا للنبي على قريش.

 وللنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسالة خاصة أو إخوانية واحدة لم ينشئ غيرها على ما أعلم، وهي الرسالة التي كتبها إلى الصحابي الجليل معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ يعزِّيه في ابن له مات.

**********

شك في غير محله..

وفي كتابه “تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي ص 34) يشكك الأستاذ أنيس المقدسي في رسائل النبي إلى الملوك سنة 6 هـ بمقولة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن قد بلغ في تلك السنة من القوة الحربية ما يرغم قبائل العرب القريبة على الخضوع التام، فكيف يعقل أن يهتم بإخضاع كبار الملوك يومئذ وهو لا حول حربيًا له ولا طول …”.

ونرى أنه شك في غير موضعه، وليس له ما يبرره:

1 ـ فالهدف من هذه الكتب لم يكن “إخضاع كبار الملوك” ـ كما ذهب الأستاذ المقدسي، بل كان دعوة هؤلاء إلى هدي الإسلام، وليس في هذه الكتب ما يوحي بطلب النبي خضوعًا واستسلامًا وتبعية.

2 ـ والقول بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ “لم يكن له في تلك السنة حول وطول” قول غير صحيح، ففي هذا العاه رهبته قريش، وإلا لقاتلته في الحديبية، بل إنه والمسلمين ـ مع أنهم لم يكن معهم من السلاح إلا السيوف في أغمادها ـ تأهبوا لقتال قريش اعتقادًا منهم أن قريش قتلت عثمان بن عفان رسول رسول الله إليها في مكة.

3 ـ والمسلمون خلال عامين فقط (الخامس والسادس من الهجرة) استطاعوا أن يقوموا بعشرين غزوة وسرية.

4 ـ على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمين معه كانوا يعوضون بقوة الإيمانوشجاعة القلب، والتسليم بقاعدة “لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا” ما يعوضهم عن العدد والعُدَد وقوة السلاح.

5 ـ وهذه الكتب بعث بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الملوك والرؤساء، بعد أن عزل “جبهة قريش” سياسيًا، وعسكريًا، وجنى بصلح الحديبية كسوبًا سياسية كبرى.

6 ـ وأخيرًا: من يقرأ هذه الرسائل يرى أنها ذات سمات وملامح لا تختلف عن سمات الأسلوب النبوي في رسائله الأخرى.

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img