img
اللغة العربية والاستعباد اللغوي
img
Print pagePDF pageEmail page

اللغة العربية والاستعباد اللغوي

إن اللغة العربية الفصحى بالنسبة للأمة العربية تعتبر أهم من أية لغة أخرى بالنسبة للأمة التي تتكلم بها، ويرجع ذلك لتفرد اللغة العربية بعدد من السمات والملامح، يجعل منها لغة فائقة جديرة بالمكانة العليا بين لغات العالم.

1 ـ فهي لغة القرآن الكريم: اللغة التي نزل بها جبريل ـ عليه السلام ـ على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على مدى ثلاثة وعشرين عامًا، لم يخترم منها حرف واحد، ولم ينل التحريف منها كلمة واحدة؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد تعهد بحفظه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) – الحجر 9 – وهذه الحماية الإلهية تمتد إلى اللغة العربية الفصحى؛ لأنها وعاء القرآن، ولا حفظ “للمحتوى” إلا إذا حُفظ الوعاء الذي يحويه.

والقرآن الكريم هو الكتاب المنزل الوحيد الذي ظل حتى الآن مكتوبًا باللغة التي نزل بها. وهذه السمة تجعل للغة العربية مكانة روحية جليلة ـ لا في نفوس العرب فحسب ـ بل نفوس المسلمين جميعًا.

2 ـ وهي لغة قومية: جمعت العرب من قديم في وحدة لغوية متماسكة، فكانت هي لغة التفاهم والتجارة، والأدب، والشعر، والسفارات، ولم يحل ما بين اللهجات من فروق، من التقاء الجميع على هذه اللغة القومية المشتركة.

3 ـ وهي لغة تراثية: بمعنى أنها كانت ـ وما زالت ـ الوعاء الأمين الذي حفظ التراث العربي والإسلامي، وصانه من الضياع، يستوي في ذلك العلوم الإنسانية، والعلوم التجريبية، بل إنها حفظت من الضياع كثيرًا من شرائح التراث اليوناني الذي ترجم إلى اللغة العربية، وضاعت أصوله اليونانية، فترجمه علماء اليونان بعد ذلك من العربيةإلى اليونانية.

4 ـ وهي لغة قادرة: أي أن فيها من الملامح والإمكانات الذاتية ما حرمت منه أو من بعضه اللغات الحية. وهي في هذه الخصائص تتفوق على اللغات السامية جميعًا، وسنعرض لذلك أو لبعضه فيما بعد .

***

وهذه “التفرديات” في اللغة العربية كانت ـ وما زالت ـ من الأسباب الرئيسية التي دفعت أعداء الإسلام من الصليبيين والملاحدة، ومن والاهم من المصريين والعرب إلى محاولة تخريب اللغة العربية، وهدمها بالدعوة إلى إحلال العامية محل الفصحى، واستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، وإلغاء النحو، وتسكين أواخر الكلمات … إلخ.

***

 ومن ناحية أخرى كان من المفروض أن يكون أبناء العربية خصوصًا العلماء، والمعلمين، والمثقفين على مستوى “عظمة العربية وجلالها” فيحافظوا على مكانتها، ويعملوا ـ بأقصى طاقاتهم وإمكاناتهم ـ على إنمائها ونشرها، وتكوين الأجيال الجديرة بالحفاظ على هذه الأمانة. ولكننا ـ للأسف نجد مظاهر متعددة لهبوط مستوى اللغة العربية. ولكننا للأسف نرى ظاهرة مؤسفة وهي تسلسل كثير من الكلمات الأجنبية إلى لغة وسائل الإعلام، وخصوصًا في الإذاعة والتلفاز.

 ولو كانت هذه الكلمات تمثل مصطلحات علمية لقلنا ربما رجع السبب إلى المجمع اللغوي الذي لم يرتجم أو يعرب هذه المصطلحات ولكن المؤسف حقًا أنها كلمات عادية من لغة التعامل، ولها في العربية مقابل وأكثر من مقابل، ولا أستطيع أن أفسر ذلك إلا بأنه من رواسب “عقدة الخواجة” وأن وراءه شعورًا بالنقص، أو الإفلاس اللغوي مما دفع المتحدث إلى أن يفزع إلى توظيف بعض الكلمات الأجنبية للتغطية عليه ولإيهام الآخرين بأهمية ذاته.

 ومن مشاهداتي القليلة للتلفاز المصري – وكان الموضوع “المكتبات الجامعية”- انقل العبارات الآتية التي جاءت على لسان ضيف الحلقة وهو دكتور أستاذ كبير جدًّا: “.. والمكتبات الجامعية عندنا دلوقتي حاجة تكسف. فرى بور Very Poor، تسألني عن الحل أقولك الحل فري إيزي Very Easy“. وفي برنامج عن السياحة في التلفازالمصري كان ضيفه شخصية فنية كبيرة التقطت منه العبارات الآتية: “… والعريش بيتش Beach بالذات كل شيء فيه Blue.. سما .. وميه”.

 وقلت لنفسي لا حول ولا قوة إلا بالله أخلت لغتنا من الكلمات الآتية: فقيرة جدًّا.. الحل سهل للغاية ـ المستوى ـ الشاطئ الأزرق والزرقة، والزرقاء حتى يلجأ مفكرونا إلى الاقتراض من اللغة الإنجليزية؟ وأكرر القول بأنها بقايا عقدة الخواجة والشعور بالنقص والإفلاس اللغوي.

 وفي الصحف كثيرًا ما نقرأ الكلمات الآتية:

وهي النطق العربي لكلمات أجنبية ريبورتاج ـ Reportage بدلاً من تحقيق صحفي أو تحقيق مصور، مانشيت Manchette بدلاً من العنوان الكبير، فيتو Veto بدلاً من حق النقض، كامب Camp بدلاً من مخيم، كاميرا Camera بدلاً من آلة التصوير.

ويكثر مثل ذلك في الإعلانات المنشورة في الصحف، وقد يكون الإعلان من أوله إلى آخره باللغة الإنجليزية في صحيفة عربية لا يقرؤها الأجانب.

 ومثل هذه الكلمات الأجنبية في الإعلانات التلفازية أكثر من أن تحصى وقد يكون الإعلان كله أحيانا باللغة الإنجليزية مع أنه يخاطب عربًا لا أجانب، وهذه الإعلانات تكون مخدومة فنيًا وجماليًا مما يدفع الأطفال إلى حفظها والحرص عليها.

 وللأسف وصل التقليد الأعمى إلى القرية المصرية فحلت كلمة “بوتيك” محل “دكان” أو محل وقد رأيت صاحب محل صغير لبيع الأدوات الصحية البسيطة في إحدى قرى الدقهلية، وقد كتب عليه “بوتيك سنو وايت” فسألته عن معنى هذا العنوان فأجاب: مش عارف، لكن حلو.. ملعوب …. ابني شافه في البندر فنقله.

 إن الأمة التي تحترم نفسها، وتحرص على تحقيق هويتها يجب عليها أن تحترم لغتها ولا تسمح بمثل هذا الاستعباد اللغوي ولننظر إلى الفرنسيين الذين يرفضون بشدة استخدام لغة غير الفرنسية في الخطاب، والتعامل , بل فرضت الدولة عقوبات على من يفعل ذلك، ولا تسمح بالترخيص لأي محل، أوشركة، أو مؤسسة لا تحمل اسمًا فرنسيًا.

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img