img
الشاعر محمود عبد السلام إمام في فلسطينياته
img
Print pagePDF pageEmail page

الشاعر محمود عبد السلام إمام

في فلسطينياته

بعيدًا عن عبثيات الحداثيين، وما يتمتعون به من انفلات فكرى، وجفاف وجدانى، وخيال مريض، يبقى الشعر بمفهومه السديد، نبضًا جماليًا صادقًا عن الإنسان، أملاً، وألمًا، وكفاحًا ونضالاً، ومعايشة للواقع فى ماضيه وحاضره، واستشهادًا برؤية إيمانية للمستقبل.

 وبهذا المفهوم السوى للشعر يصعب – بل يستحيل – التفرقة بين ما يسمونه «موضوعية»، وما يسمونه «ذاتية»، وتتحقق للشعر رسالته فى تربية الذوق، وإشباع الروح، والنهوض بالفكر، حتى يسير المجتمع إلى ما هو أرقى وأفضل، ويترادف، ويتساوى قولنا «شاعر حقيقى» و«شاعر رسالى»، أى يعيش – بشعره – نفسه، وأمته، وفكره، وعقيدته، بطروحاته التعبيرية الجمالية.

وعلينا أن نفرق بين ما يسمى «الالتزام»، وما نسميه «الرسالية»، فالأول – فى وقتنا الحاضر بخاصة – تحول إلى «إلزام سلطوى قهار» ولا ننسى أن «لينين» كان يرى أنه «لا أدب إلا أدب الحزب، وإلا كان نقضًا للالتزام العقدى».

ولا ننسى أن «باسترناك» بعد أن كتب روايته المشهورة «دكتور زيفاجو» التى يمجد فيها الحرية، والقيم الإنسانية، طرد من الحزب الشيوعى، ومن اتحاد الكتاب السوفييت، أما «الرسالية» فليست إضافة لأدب الأديب المسلم، بل هى فى نفسه ونسيجه الفنى، ونخاعه الأدبى، فيستحيل – كما ألمحنا – أن يتخلى عنها ويبقى أديبًا.

**********

ومن الشعراء الرساليين الذين عشت شعرهم، وسعدت به الشاعر الشاب «محمود عبد السلام إمام عطية» المدرس بمدرسة الحوامدية الثانوية بالجيزة، والذى بدأ نظم الشعر وهو طالب فى المرحلة الثانوية، ويعلن الشاعر عن أبعاده الرسالية فى همزية طويلة، فهو يرفض شعر الصراخ والصياح العبثى، شعر «الطرطشة العاطفية»، كما يسميه الدكتور محمد مندور (رحمه الله) فهو يخاطب هذا اللون الشعرى قائلاً:

وخـدعـتنى  فظننت أنك نافعى
هل كان منك سوى صراخ عاجز
عند اشتداد الخطب؟ لا لا لم يكن
فـتـولَّ عـنى لا أريد نوائحا..
فـبـكَ  استعانتْ نفسى الخرقاءُ
هـل  كان منك تناصرٌ وولاء؟!
فـعـلام  يبقى بى لك الإصغاء؟
مـا فـى نواحِك يا قريضُ غَناء

أما الشعر الذى يريده الشاعر، ويحرص عليه، وعلى معايشته، فيخاطبه الشاعر قائلاً:

كـن  لـى الـضياء فقد تمادت ظلمةٌ
واقـبـسْ  ضـيـاءك من كتاب نير
واسلك خطى «حسانَ» و«ابن رواحة»
كـن لـى الـسـلاح فقد أتى الأعداءُ
لـمـا أطـل تـولـت الـظـلـماءُ
فـهـمـا وحـزبـهـما هم الشعراء

فالإسلام، وتاريخه النقى الصافى هما «مرجعية» هذا الشاعر الرسالى، وبأسلوب المفارقة، وبتصوير ابتكارى رائع، يعرض الشاعر حاضر أمتنا الكسير المهيض فى واقعها الأدبى، وواقعها الاجتماعى والسياسى:

يا شعر هذا العصر أنت كأمتى
فِِـرَق ضـعاف للتدابر سعيهم
وقصائد  حَيرى، فلا حقًا جلت
أعيى ذويها الهازلين غموضها
إن كـان أعيا وهمُها شعراءها
مُـزقْـتَ أشلاءً، وما الأشلاء؟
ومـذاهـب شـتى رماها الداء
كـلا، ولا زان الـقصيدَ رواء
وضـلالها، والختْل.. والإزراء
مـاذا جـنـى الـنُقاد والقراء

وفى نهاية قصيدته يطالب الشعر بأن يؤدى رسالته العظمى فى شحن النفوس بالإيمان والحماسة، والدعوة للجهاد وتخليص الأرض من الغاصبين:

أيـن  الجهاد وأين وحدة أمة
أين  اليقين يقود ركبَ حياتنا
أين الهدى سارت عليه قلوبنا
قـامت  فقادت والورى فُرقاء
أيـن  الـتقى ورجاله الأمناء
سـعـيًا فخافت بأسَنا الأعداء

ووفاء من الشاعر محمود عبد السلام للأصول الشعرية العربية نراه يحمل حملة شعواء – بسخرية وتهكم – على الحداثة، فمن قصيدة طويلة يقول فى مطلعها:

ولو كانت «الضاد» قعبًا، فهاتِ         ولا تسقنى فى كئوس الحداثة

ويختم قصيدته بالدعوة إلى التصدى للحداثة، هذا الغريب الوافد:

ومن طأطأ الرأس للكاسرات          من الطير لا يبُقِ إلا بُغاثَه

ومن  يتقَفَّ  سرابَ  الغواةِ          يجد  ريّه فى الفلاة لهاثَه

**********

 وتفوز فلسطين – مأساة ونضالاً وشعبًا، وقيادة وشهداء بالحظ الأوفى من شعر الشاعر، فمن هذه القصائد:

فلسطين اصرخى – سيشدو الحجر.. هكذا أنت فلسطين.. طبت ياسين حيًا – فزت يا رنتيسى.. وكل أولئك يستحق دراسة نقدية مستقلة.

 فى قصيدة «فلسطين اصرخى» نرى الشاعر «محمود عبد السلام» متمكنًا من لغته، ثائر الفكر والوجدان على مظاهر السقوط، والضعف والاهتراء التى تعيشها أمتنا الآن، ومن ثم جاء الصراخ لا بمفهومه البكائى الاستغاثى، ذى النبرة العالية، ولكن بمفهومه الاحتجاجى العملى التكليفى، فهو يعنى التصدى للعدو الغاصب بأسلحته الفتاكة، وقسوته الوحشية:

فلسطين اصرخى فى وجه وغْد
يـبث  الرعب منك بكل صُقع
فـدبـابـاتـه فـيـنـا عوادٍ
فـيـفتك  بالبراءة كالضوارى
غـليظِ  القلب يُصليك المحاتفْ
وتـزجى  الشرَّ أسلحةٌ قواصف
وآلـيـاتـه فـيـنـا زواحف
ويـجـتث النضارة كالعواصف

 كما أن «الصراخ» يعنى فى نظر الشاعر التصدى لمن خانوا شعوبهم من المنافقين والظالمين المستبدين، كما يعنى الصراخ إثارة شعوب الأرض المظلومة المسحوقة، لأن «مأساة فلسطين» إنما هى مفردة من مآس تعيشها شعوب كثيرة فى أنحاء الأرض، وفى النهاية نرى الشاعر ببراعة عفوية يخلص إلى أنه يعنى بالصراخ الجهاد

أُحـل  لـكـل مظلوم صراخٌ
وصـارف  كـل عدوان جهاد
إلى أن يصرف العدوانَ صارف
يـرد الـحـق ليس له مرادف

**********

ولما وقعت عيناى على هذا العنوان «سيثور الحجر» اعتقدت أننى سأقرأ قصيدة عن «انتفاضة الحجارة»، وجهاد الأطفال الصغار الذين تصدوا للصهاينة، وأسلحتهم الفتاكة بالحجارة، وهى أفكار عالجتها قصائد كثيرة على نهج متقارب، وبآليات وأفكار جزئية متشابهة، ولكنى وجدت جديدًا فى هذه القصيدة يتمثل فى مظهرين أساسيين:

الأول: فكرى، وهو استصحاب «التاريخ الحجرى» – إن صح هذا التعبير – فالشاعر استغرق قصيدته فى عرض مكان «الحجر» فى فترات تاريخية متعددة، فمن الحجر تماثيل تحكى تاريخ حكومات وأمم، وعلى الحجر سجل تاريخها كتابة، وحجارة السجيل التى هى قضت – بقوة الله – على حملة أبرهة، وأصحاب الفيل، ومن الحجر تفجر الماء فى سيناء أيام موسى (عليه السلام)، وبصخرة كبيرة حاول اليهود اغتيال النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى غير ذلك من الأحداث التاريخية المرتبطة بالحجر، ويختم الشاعر قصيدته بالبيتين الآتيين مخاطبًا أبناء فلسطين:

فاصغوا إلى صوت هذى العظات          وسيروا إلى نور هذى العبرْ

إذا  كان  فى  القدس  أنَّ الشجر          فعما  قليل  سيشدو  الحجر

ويقصد الشاعر أن أبناء فلسطين سينتصرون على اليهود بالحجارة بعد أن خربها اليهود، واقتلعوا الأشجار، ونسفوا البيوت، ونهبوا الأرض.

 أما المظهر التجديدى الثانى، فمظهر فنى يتمثل فى «الحوار القصصى» الذى استغرق أغلب القصيدة، ودار بين الشاعر وشعره، يقول الشاعر بعد مطلع تقريرى للقصيدة جاء فى سبعة أبيات لا تخلو من غموض:

وفـى  ليلة من ليالى القمر
تـلاقيت والشعر فى موعد
فـقال  ألست تريد الرحيل
إلى أين؟ قال: بلا أين. قلتُ
وقـد بـت فيها أناجى القمر
تـعـودتـه  مع نفْح السهر
فـاعـلـم أنك تهوى السفر
فـإنى  أخاف ركوب الخطر

ويصارحه الشعر بأنهما سيمتطيان خيل الخيال، إلى عالم غريب بقصد الخروج بالعبر، والظفر بالعظات، ويسأل الشاعر الشعر «أين البشر فى هذه العوالم؟»

فـقـال شهودك إن شئت صِدْقا
فـقـلت: غريب: أكل العصور
فـقـال  الحجارة فى كل عصر
سـيـلـقاك فى كل عصر حجرْ
كعصرى الشهود الحصى والمدر؟
شـهـود  بـذاك استفاض الخبر

 ومن حقنا أن نأخذ على الشاعر الإغراق فى شحن القصيدة بكثير من الأعلام المكانية والبشرية التى بدت تزيّدا، كما أن منها ما يحتاج إلى حواش شارحة مثل: «لبيد بن أعصم»، و«عمرو بن جحاش»، وقيام يهودى بسحر النبى صلي الله عليه وسلم .

**********

ولما استشهد أبو الجهاد «أحمد ياسين» ودعه الشاعر – ولا أقول رثاه – بباقة معطرة من الأبيات، ويرى فى موته إحياء، وبعثًا، وإيقاظًا للأمة، والمجاهدين، ومن هذه الأبيات قوله:

يـا جـموع الجهاد زيدى حماسًا
هـل يـظـنـون موته لك موتًا
لـيـس رفـع الـشهيد إلا حياة
فـانـهـضى  يا جموع لبّى نداه
واهتفى: طب ياسين حيًا سنمضى
واهـتـفـى  يـا كتائب الشهداء
خـيـب  الـحـق ظـنَّةَ الجبناء
فـوق  هـذى الـحـياة والأحياء
واهـتـفـى  ليس القدس للدخلاء
فـفـلـسـطـين  منبت الأوفياء

**********

 وتأتى قصيدة الشاعر عن الشهيد عبد العزيز الرنتيسى أوفى فكرًا، وأعمر وجدانًا من قصيدته عن أحمد ياسين، وقد استهلها الشاعر بالتعبير عن الحزن الذى غمر النفوس باستشهاد الرنتيسى، وفى القصيدة تقدير وثناء على جهاد الرنتيسى، وإخوانه، ولكن غلب عليها الإسقاطات السياسية والاجتماعية التى تدين بشدة الحالة الفاسدة السيئة التى تعيشها الحكومات والشعوب التى شغلت بتفاهات الأمور عن القضايا الكبيرة، والأمور العظمى :

وعـلى الأرض بؤرتان تدورا
بؤرة للحق اصطفت فى حِمَاها
والـتـى  إبـليسٌ بها يتنزى
ن،  فـيـمتاز مفلح من تعيس
مَن  حَمَاها بالصدق لا التدليس
مـع  بوش، وكل وغد خسيس

وقد آخذ على الشاعر :

  استخدام «لن» مع «يزال» وكرر هذا الاستعمال «لن يزالوا هم حماة الحمى»، وأرى – بقدر ما قرأت – أن العرب قالوا «مازال» و «لا يزال» ولم يستخدموا «لن» لا مع المضارع، ولا مع الماضى «يزال وزال».

  وأهمس فى أذن الشاعر أن منظومته الطويلة جدًا «هكذا أنت فلسطين» يصعب جدًا أن ننسبها إلى «فن الشعر» لا فكرًا، ولا تعبيرًا، ولا تصويرًا، وقد وافقنى الشاعر على رأيى حينما حدثته عنها تليفونيًا، وآمل ألا تكون موافقته من قبيل الحياء، ومن هذه المنظومة: هكذا كنت فلسطين – كنت قبرًا للمغيرين – كل تل فيك عرنين – شامخ لا يعرف اللين – كل ركن فيك مسكون.

 وأحمد الله أننى لم أعثر فى شعر الشاعر على ما يشبه هذه المنظومة فى مستواها الهابط، وأعتقد أن العجلة لعبت دورًا كبيرًا فى هذا الهبوط، والأمل معقود بالشاعر محمود عبد السلام، وإخوانه الشعراء الشباب أن نرى منهم الطيب والجيد والأصيل بعون الله.

 الشاعر

 محمود عبد السلام إمام عطية.

 من إمبابة – جيزة – ج. مصر. ع.

 يعمل مدرسًا للغة العربية بمدرسة الحوامدية الثانوية بالجيزة.

 نظم الشعر وهو طالب فى الصف الثانى الثانوى.

 يحب الشعر الجاهلى والشعر الإسلامى.

 واسع الاطلاع فى مجال الثقافة الإسلامية بصفة خاصة، ويعتبر مرجعًا طيبًا فى علم.

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img