img
الرؤيا الأخيرة ليوسف الصديق
img
Print pagePDF pageEmail page

الرؤيا الأخيرة ليوسف الصديق

مسرحية شعرية

الشخصيات

الريان:  الملك (فرعون مصر).

يوسف:  يوسف بن يعقوب (الصديق).

فاتوراب:  كبير سقاة الملك (ورفيق يوسف في السجن).

عاموراس:  كبير الخبازين بقصر الملك (ورفيق يوسف في السجن).

الجنرال لال: قائد الجيش (ويعرفه العامة ب”لال الأصفر”).

ماني:  أحد كبار ضباط الجيش، وهو كذلك “ذوّاق” طعام الملك وشرابه.

فوطى فارع:  كاهن أون.

فيلون الطيبي:  أمين الحسبة.

كامي:  رئيس الحرس الملكي الخاص.

شادي:  القاضي المختص بتحقيق شكاوى الناس المرفوعة إلى البهو الأبيض بقصر الملك.

ماجي شابو:  آمر بيت الحسبة بالصحراء الشرقية (وهو أحد مرءوسي فيلون).

شيفون: ضابط يعمل عينًا لحساب لال على الملك.

تابي – جابي – حابي – خابي:  من كبار الضباط في الجيش، وهم أعضاء في المجلس اللاليّ الأعلى الذي يرأسه الجنرال لال، ويضم كذلك نائبه ماني).

الفصل الأول

الحكمة والرخاء

المشهد الأول

(المنظر: سجن كبير واسع تبدو حيطانه من الصخر الأصم، وفي وسط الحائط المواجه باب كبير مغلق. وفي أعلى الحائط الأيمن كوَّة صغيرة أقرب إلى السقف بها عيدان من الحديد.

وفي السجن عشرة من المسجونين يجلس أغلبهم في الناحية اليسرى بينما يوسف جالس على ركبته كهيئة المصلي في التشهد ينظر إلى أعلى، حيث الكوة يسقط منها ضوء على وجه يوسف، بينما الضوء في السجن شاحب لا يكاد يظهر المسجونين إلا أشباحًا.

ثم يزيد الضوء قليلاً حين يفتح السجان باب السجن، وفي يده قصعة متوسطة الحجم فيها وجبة اليوم، فتشرئب إليه  أعناق المسجونين ما عدا يوسف الذي ظل يتمتم بكلمات غير مسموعة، وعيناه للكوة المفتوحة أعلى الحائط).

السجان: فاتوراب ساقي الملك الريانْ

فاتوراب: هأنذا..

السجان: عاموراس خباز القصر الملكي العامرْ

عاموراس: هأنذا..

السجان: أشَّر مأمور السجن على 

طلبكما بالرفضْ

وإليكم نص التأشيرةْ

(يقرأ من ورقه معه):

“لا تفريق بشأن طعام المسجونينْ

الناسُ سواسيةٌ في السجنْ

القصعةُ واحدة للكلِّ بلا تمييزْ”

(يرفع رأسه عن الورقة ويتقدم مقدمًا للمسجونين قصعة يحملها)

مفهوم?

يا حضرات المسجونين – القصعةْ..

طعام اليومْ

(ويضع القصعة على الأرض، فيهجم المسجونون ويتحلقون حولها إلا يوسف، ينظر السجان إلى يوسف المشغول بدعائه، ثم يوجه الكلام إلى جماعة المسجونين):

لا تنسوا أن تَدْعوا يوسف.. فإذا لم يأتِ

فإياكم أن تنسوا إبقاء نصيبهْ

فَهْوَ دَوَامًا مشغولٌ بدعائهْ..

(الجميع مشغولون بالأكل في نهم، بينما يوجه أحد المسجونين كلامه ليوسف):

يوسف.. يوسفْ..

تعالَ، وكُلْ

(لا يلتفت يوسف إليه، ويبدأ في رفع صوته بالدعاء):

يا خالقَ هذا الكونِ

الطف بي في كل قَضاءْ

وامنحني القوةَ حتى أصمدْ

وامنحني من عزتك العزَّةَ

حتى لا أحِنيَ رأسِي إلا لكْ

لا تجعل للشيطانِ إليَّ سبيلا

واملأ نفسي من برهانِك نورًا

حتى لا تتغيم في عينيَّ الرؤيةْ

يا مالك هذا الملكْ

يا من تمنحهُ من ترضى وتشاءْ

يا من تنزعه ممن تقضي وتشاءْ

يا ربَّ العزةِ

يا جاعلها للمؤمنِ خيرَ عطاءْ

يا من أذْلَلْت جبابرةَ الأرضِ

اجعلني في الأرض عزيزًا

فالمحنةُ تُسْتدفع بكْ

والمنّةُ تُسْتجلب مِنكْ

منك الخلقُ

وإن الخلقَ يصير إليكْ

مسجون 1: أرأيتمْ?

يدعو بدعاءٍ لم نَعْهَدْهْ

مسجون 2: يتحدث ألفاظًا لم نسمعها من قبلْ

خالق هذا الكونْ!!

رب العزةْ!!

مالك هذا الملكْ!!

مسجون 3: يا أبله، مالك هذا الملكِ!!

هو الملك الريانْ

يوسف يدعو الملك الريَّانَ

ويرجُو أن يفرج عَنْهْ

مسجون 2: لستُ بأبلهْ

بل أنت الغِرُّ الساذجْ

لو كان يريد الملك الريانَ ويضرعَ لهْ

لتحدث بالصوت المرفوع العالي

حتى يسمع حراسُ السجنْ

لكن الصوتَ خفيضٌ

لا نسمعه نحن بغيرِ صعوبةْ

مسجون 1: هذا حقٌّ..

وهنالِك شيء آخرْ

(موجهًا نظره إلى المسجون رقم 3):

لو قصدَ الملك الريانَ

فكيف يقول بصوت خاشعْ:

يا خالق هذا الكونْ

يا ربَّ العزةْ?

فاتوراب (ساقي الملك):

يوسف هذا في طيبتهِ لم نشهدْ مثلَهْ

عاموراس (خباز الملك):

هذا رجلٌ ليس كأهلِ الأرضْ

القصعةُ دلَّتنا.. وتدلُّ عليهْ

مسجون5: القصعةْ??!!

عاموراس: عفةُ نفسٍ

ورضا لم يعرفْ أبدًا طعمًا

أرأيتمُ عندَ حضور السجانِ

بقصعتنا كل صباحْ?

مسجون 6: والقصعة قد ملئت أشياءً

تشبه شكل الأكْلْ

مسجون7: ونحن هنا عشرةْ

والقصعةُ جُعِلت للعشرةْ

مع أنّ القصعةَ لا تكفي إلا لاثنينْ

مسجون 4: ولذلك حين نحسُّ بها

ننقلبُ وحوشًا مسعورةْ

(يضحك الجميع بصوت مسموع)

عاموراس: إلا يوسفَ..

فهو المشغولُ دوامًا بدعاءٍ

عن كلِّ طعام وشرابْ

فاتوراب (ساقي الملك):

نأكل ما نأكلُ وهو الغائبُ في دنيا غير الدنيا

لا يتنبهُ

والأيدي تعمل طالعةً نازلةً في القصعةِ

لا تتوقفْ..

سجين 1: لا نُبْقِي في القصعة من أجلهْ

إلا ما لا يشبع طفلاً

عاموراس: لا تنس الأمسْ

لم نبق له في القصعةِ شيئًا

فاتوراب: كنت أظنُّ الأمرَ سيُفْضي لشجارٍ

أو شكوى لرئيس السجنْ

لكن الرجل التزم الصمتْ

بل نظرَ إلينا وتبسمْ

أقسمُ بالتمساحِ الأعظمْ

هذا رجل ليس كأهل الأرضْ

عاموراس: ما هذا يا فاتورابْ

التمساحُ الأعظمُ لا يصلح أن يُتَّخذَ إلهًا

بل فلتقسمْ بإلهي الشمسِ الكبرى

الشمسُ إلهي

مانحةُ الكون الدفءْ

مانحة الزرع نماءْ

فاتوراب: مالي والشمس الكبرى والصغرى

يا رأسَ الخبازين بقصر الملك الريانْ

ألِئَنَّ الشمس كمثل رغيفٍ أبيضْ

يرسل ضوءًا

تتخذ الشمس إلهًا

يا “عامو” إنَّا في الأرضِ

ولسنا بسماءْ

والتمساح إلهي

رمز القوة في أرض النهرْ

في العيد الماضي…

ألقتْ بنْتي بسوارٍ من ذهبٍ لَهْ

حتى يَرضى عنها

وليرزقَها الزوجَ الصالحْ

مسجون رقم 1: يا خيبةُ حُطِّي

ما هذا?

لا التمساحُ ولا الشمسُ

إلهٌ يجدرُ أن يُعْبَدْ

(ثم يرفع رأسه إلى أعلى وبصوت فيه مسحة من شاعرية ومناجاة):

النهرُ هو المعبودُ الأوحدْ

فالوطن الغالي هِبةُ النهرْ

إن كان التمساح قويًا

فالنهر الخالد أقوى بكثيرْ

والنهر إلهي في قدرتهِ

أن يضربَ بالتمساح العاتي

رأسَ الصخر فيجعل منه فُتَاتًا

وإلهي النهرُ بكرمٍ فياضٍ

يحتضن التمساح ويؤويهْ

بل يطعمه من أعشابٍ

أو طيرٍ أو سمكٍ

وكذا يسقيهْ

مسجون 2: هذا رائعْ..

فالشمس إذنْ…

مسجون 1: لا تصلحُ أيضًا أن تعبدْ

إن كانت شمسك رمزَ الدفءِ

فإن السحبَ تُغطيها وتجلِّلُها

هل تسطيعُ الشمسُ لها دَفعًا??!

يا سادةْ:

إن النهر هو المعبودُ

ولا معبودَ سواهْ

من غير النهر يكون الوطن قِفارًا لا تُسْكنْ

من غيرِ النهرِ

يموت الزرعُ

يجف الضرعُ

يصير الوطن صحارى وقبورًا سوداءْ

(مسجون رقم 4 موجهًا حديثه إلى فاتوراب “ساقي الملك”):

لكني أسألك سؤالاً

أنت رئيسُ سقاةِ الملكِ

وتعرف كل خباياهُ

أيّ إله يعبدْ??

قلْ..

الشمسَ أم النهرَ أم التمساحْ?

(يقف يوسف ويتجه إليهم..):

– يا سادةْ:

“أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ

أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ?

 مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ

إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا

أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ

مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ

إِنِ الُحكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ

أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ

ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ”

سجين 1: أرباب متفرقونْ?

سجين 2: الله الواحدْ?

سجين 3: القهارْ?

سجين 4: لا حكم لغير اللهْ?

سجين 5: لا نعبد إلا إياهْ?

سجين 6: الدين القيمْ?

فاتوراب: أإله واحدْ

خير من آلهة متعددةٍ? كيفْ?

يوسف: لو كان هنالك فتيانٌ عشرةْ

كلٌّ منهم ذو قوةْ

وهنالِكَ رجلٌ فردْ

أقوى منهم مجتمعينْ

من تعتقدون الأجدرُ بالتقديرْ?

العشرةُ أم ذاك الواحدْ?

(الجميع في صوت واحد):

بلْ ذاك الواحد طبعًا

مسجون 8: لكنَّا لا نشهدُ هذا الربَّ الواحدَ

يا يوسفْ

بل نشهدُ ما نعبدُه رأي العينْ

تمساحًا أو شمسًا أو نهرًا

أو بشرًا..

يوسف: هل كلُّ المشهود يمثِّلُ قيمةْ?

هل كلُّ المشهودِ هو الأقوى والأبقى?

إنْ كانت هذي وجهتكم

فاستمعوا يرحمكم ربي:

تشهدُ في الصحراء سرابًا

فتهرول كي تشرب منهْ

لكنك لا تحظى منهُ

بقطرةْ

هل هذا المشهود بعينك ذو قيمةْ?

هل ما شاهدتَ يطابق موجودًا فعلاً?

فاتوراب: الواقع لا..

يوسف: من منكم شهد العاصفةَ?

لا واحد منا يشهدُها

لكنْ هل يمكنُ أن ننكر للعاصفةِ

وللريح وجودًا?

طبعًا لا..

عاموراس: لكن يا يوسفْ

آثارُ العاصفة نراها..

في شكل سيولٍ جارفةٍ

في هدمِ بيوتٍ..

في تحطيمِ الشجرِ

في تسيير السحبِ..

يوسف: لله المثل الأعلى

وتعالى عن تشبيه ونظيرْ

وأقولُ:

العاصفة نراها في آثارٍ

تبعثها..

سيلٍ جارفْ

بيتٍ أنقاضْ

شجرٍ مقلوعٍ

سحبٍ مدفوعةْ..

والله – بلا تشبيه أو تمثيلٍ

تشهده – عز وجل – بمخلوقاتهْ

في أرضٍ بسط مداها..

وسماءٍ رفع علاها..

في النهر الدافق يُحيي الأرضَ الجدباءْ

في الشجر الأخضرِ

في الشمس سراجًا

والقمرِ اللألاءْ..

والتمساح – يا من تعبد تمساحًا

يَفْنى ويموتْ

والنهرُ يفيضُ وينطلقُ

والنهر يفور ويزبدْ

ويجف إذا انقطع المطرُ

والشمس تغيب إذا حل الليلُ

وتأتي السحب نهارًا فتعوق ضياها

لكنَّ اللَّهَ الواحد حيٌّ لا يفْنَى

قيومٌ لا تأخذهُ

سنة من نومْ

مسجون5: لكني يا يوسف لا أشهدهُ

أرني إياه وأومنُ بهْ

يوسف: وأعيدُ القولَ.. أقولْ:

عدم الرؤية لا يعني عدم وجودْ

وكذلك ما تشهده العينانِ

من الجائز ألا يعني أن هنالكَ

موجودًا للمرئيّ..

مسجون 2: ولنفرض جدلاً ذاكْ

يبقى أن نسألك أين اللهْ?

في أي مكانٍ يوجدْ?

يوسف: اللهُ تعالى في كل مكانٍ موجودْ

لكنْ جلَّ عن التحديدِ

بمكانٍ وزمانْ

(أصوات مختلطة):

لم نفهمْ.. لا نفهمْ..

يوسف: صبرًا صبرًا يا سادةْ

فلنأخذْ هذا المثل الواضحْ

اللبنُ:

يستخلصُ منه السمنْ

صوت: هذا حقّ

يوسف: فالسمن إذنْ

موجودٌ في كل اللبنِ، وغير مشاهَدْ

صوت: هذا حقّ

يوسف: لكنْ بالنظرِ الظاهرِ

لا سمنَ هنالك في اللبنِ

صوت: هذا حقّ..

يوسف: مَع أن السمنَ بذرات اللبن جميعًا

ليس بجزء دون الآخرْ

وكذلك ربي..

وله المثل الأعلى

وتعالى عن تشبيه ومماثلةٍ

موجود في كل مكانْ

وكذلك ليس له في الكون مكانْ

بل تبدو عظمته في خلقهْ

(موسيقى خفيفة تستمر قرابة دقيقتين يستمر خلالها الحوار بين يوسف والمسجونين، ولكنه حوار غير مسموع.. فنشاهد حركات الشفاه وإشارات الأيدي.. وتخف الموسيقى تدريجيًا…)

فاتوراب: آمنت بربك يا يوسفْ

(أصوات مختلطة):

– وأنا آمنت كذلكْ..

– الواحدْ.. القهارْ

– لن نعبد إلا إياهْ

عاموراس: اسمي يا يوسف عاموراسْ

قد كنت رئيس الخبازين بقصر الملك الريانْ

وأنا في السجن ضحيةُ “ماني” الشريرِ وكذبهْ

يوسف: ماني? من ماني?

عاموراس: ذواقُ طعام الملك الريانْ

قدم تقريرًا للملك بأني أختلسُ دقيق المخبزْ

يوسف: ولماذا يكذبُ في تقريرهْ?

عاموراس: ماني هذا شرير بالطبْعْ

يجد المتعةَ في آلام الغيرِ

ويستعذبُ تعذيب الناسْ

يوسف: والملك الريان أما حقَّقَ

حتى لا يأخذ بالظن بريئًا?

عاموراس: كان شهودُ الزورِ جميعًا ضدِّي

من أنصار الكافر ماني

فاتوراب: وأنا رأسُ سقاةِ الملكِ

“فاتورابْ”

متهمٌ بالإهمال الفاحشْ

وضحية ماني أيضًا

يوسف: إهمالْ?!

إهمالٌ فيمَ?!

فاتوراب: كنت أصبُّ الخمرَ

بكأس الملكِ

فسهوتُ عن الكأسِ للحظةْ

إذ مَثُلَ أمامي طيفُ ابني المتوفَّى في العام الماضي

فامتلأت كأس الملكِ

إلى أن فاضت فوقَ ثيابهْ

صرخ الملك الريانُ وثارْ

“هذا إهمال لا يجزيه غير السجنْ

فيهب الضابط ماني مدعيًا

أني كنت أشاغل بالغمزات وبالنظرِ

جارية تمشي في بهو القصرِ..

فغفلت عن الكأسِ وفاضتْ

يوسف: كان على الملك الريان استجوابُ

الجارية المعنيَّةْ

هذا من مقتضيات العدلْ

فاتوراب: سُئِلتْ.. وأجابتْ..

أن الضابط ماني صادقْ..

يوسف: جارية تكذِب!! ولماذا?!

فاتوراب: واحدةٌ ممن يعمل لحساب الذواقة ماني

يوسف: ماني.. ماني!!

هل هو ذو قُدراتٍ

ومواهبَ تجعل منه الشخصَ

النافذَ ذا السلطانْ?

عاموراس: لا مريةَ في ذلكَ

فَهْو شجاعٌ.. وقوي البنيةْ

وكذلك أمهرُ من سدَّدَ سهمًا..

فاتوراب: وهو كذلكَ أخبرُ خبراءِ الدولةِ

في الأطعمةِ

وكذلك كلِّ الأشربةِ

عاموراس: والملك الريانْ

لا يطعَمُ أيَّ طعامٍ

أو يشرب أي شرابٍ

إلا بعد تذوقِ ماني وموافقتهْ

يوسف: عجبًا!!

كل طعام وشرابْ??

فاتوراب: طبعًا غير الفاكهةِ

وخصوصًا فاكهةَ التفاحْ

عاموراس: والملك شغوفٌ جدًا بالتفاحْ

فاتوراب: يا يوسف نبئني عن رؤيايَ

بحق اللهْ

فأنا من يومين رأيت بنومي

أني في قاعة قصر الملك الذهبيةْ

ألبس في حضرتهِ

حلةَ قصبٍ تأخذ بالأبصارْ

فجلستُ إليهِ

وأخذت قطوفًا من عنبٍ

أعصرُها واحدة واحدةً

في كأس الملك الذهبيةِ

حتى امتلأتْ

وتناولها مني الملك سعيدًا

عاموراس: وأنا يا يوسفُ من خمسِ ليالٍ

شاهدتُ بنومي

أني أحملُ طبقًا من خبزٍ

وأسيرُ بهِ

في أرض قاحلة خاليةٍ من كل حياةْ

وبُعَيْدَ دقائقَ

هبطت أسرابُ من طيرٍ

– لا تسألني من أين أتتْ

فأنا لا أعلمُ من أين أتتْ

في صحراء لا زرعَ بها أو ماءْ

وانقضَّتْ فوقَ الطبق المحمولِ على رأسي

وكأنَّ ذراعيَّ مسمَّرَتانِ

فلم أسطع أن أطردها

أكلتْ كلَّ الخبزْ

لم تتركْ من خبزِي شيئًا

– وكما جاءت

لا أدري أينَ تولتْ وتخفتْ

هذي كانت رؤيايَ البشعةْ

من خمس ليالٍ.. يا يوسفْ

فاتوراب وعاموراس في نفس واحد:

“نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمحْسِنِينَ”

يوسف: ” لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ

إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ

قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا

ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي”

الرجلان: ننشدك بحق الله الواحدْ

“نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمحْسِنِينَ”

يوسف (ناظرًا لفاتوراب):

“أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا”

(وناظرًا لعاموراس):

“وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ

فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ”

عاموراس (في فزع واضطراب):

لكنْ…

أو ليس هنالِكَ…

تعبير آخر محتملٌ??

إني أفزعُ إِذْ…

يوسف (رافعًا يده في هيئة اعتراض):

لا حيلة للعبد إذا ما حُمّ قضاؤهْ

“قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَان”

(يتجه الخباز إلى ركن السجن الأيسر، ويجلس دافنًا رأسه في كفيه مجهشًا بالبكاء، ويتجه إليه بعض المسجونين يحاولون مواساته، بينما يقترب الساقي من يوسف، وقد بدا البشر على وجهه.. يدخل السجان بعد قليل، وفي يده ورقة، تتطلع إليه العيون وهو يقرأ بصوت مسموع):

– فاتوراب كابي حتمسْ

فاتوراب (وهو يقترب منه في لهفة):

– أنا هو.. هأنذا..

السجان: عفو ملكي سامٍ

(ويستأنف القراءة في الورقة …)

“نحن الريانَ مليك بلاد النهرْ

نظرًا لسوابق فاتوراب رئيس سقاتي الخاصْ

وهي جميعًا تنطق بالإخلاصْ

نأمرُ بالعفو وفورًا

عما اقترف أخيرًا

فاتوراب يصيح في فرح:

حمدًا لله.. حمدًا للهِ الواحدْ

(يوسف يضع يده على كتفه وعلى وجهه ابتسامة هادئة):

– “اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ”

اذكرني عند الملك الريانْ

أخبره بأن هنالك في السجنِ

بريئًا يدعى يوسفْ

مظلومًا ما اقترفت ذنبًا كفَّاهْ

فاتوراب: لن أنسى أبدًا يا يوسفْ

لن أنسى أبدًا يا صديقْ

(يخرج مع الحارس …)

ستار

المشهد الثاني

(القاعة الكبرى: قاعة العرش في قصر الملك الريان. الملك جالس على كرسي العرش، يقف عن يمينه قائد جيشه القائد “لال”، وعلى يساره يقف الضابط “ماني” ذواقة الملك. وأمام الملك من الناحية اليمنى “فوطى فارع” كاهن “أونَ”، وأمام الملك من ناحية اليسار يقف “فيلون” أمين الحسبة، و”كامي” قائد الحرس الملكي، وثلاثة من كبار السحرة. وفي أقصى اليسار صقر مغمى العينين يقف على عارضة خشبية مثبتة في قائم، وفي إحدى رجليه سلسلة تربطه بالعارضة.

أما “فاتوراب” – ساقي الملك – الذي أفرج عنه، فقد جثا على ركبته اليسرى أمام الملك من الناحية اليمنى، وفي يسراه إبريق، وفي يمناه كأس فارغة ناوله إياها الملك بعد أن شرب ما فيها).

فاتوراب (وهو يهم بملء كأس ثانية):

كأسًا أخرى يا مولايْ?

الملك (رافعًا كفه):

هذا يكفي

فاتوراب: يا مولايَ..

نعمت وسدتْ

كأسًا أخرى يا مولايْ

الملك (وعلى وجهه آثار من الهم والضيق):

قلت: كفاني..

نفسي لا تقبل كأسًا أخرى

(ينهض الملك في تثاقل، ويتجه ناحية الصقر مملسًا بيمناه على ظهره، ثم يعود ويجلس على كرسي العرش ويواصل كلامه):

نفسي لا تقبل نقطة خمرْ

ثمة أشياءٌ تشغلها

وتزيد همومي..

آهٍ منها تلك الرؤيا..

.. أغرب رؤيا أشهدها بمنامي

(ناظرًا إلى الكاهن)

ولذلك أحضرتك يا فُوطى فارعْ

يا كاهنَ أونْ

(ناظرًا إلى الثلاثة السحرة)

وكذلك أنتم يا صفوة سحرة أرض النهرْ

وأقص عليكم رؤياي كأني أشهدها الآنْ

“إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ

يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ

وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ

وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ

يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ

إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ”

فوطى فارع: يا مولايَ..

أضغاث أحلامْ”

رؤياك – ودمتَ

لا تعدو أضغاثَ الأحلامْ

الملك (ناظرًا للسحرة):

نقباءَ السحرةِ في أرض النهرِ

ما قولكمُ في الرؤيا?

السحرة جميعًا: “أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ

وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ”

فاتوراب: يا مولايْ

في السجن حكيم يدعي يوسفْ

ذو شأنٍ في تفسير الأحلامْ

الملك: يوسف.. يوسفْ??

آه.. من قالوا عنه يراود فتيات البلدِ?

فتنةْ.. رجل فاتنْ

رجل يخشى من فتنتهِ

أن تهتك حرماتِ الناسْ

فاتوراب: يا مولايَ..

– دمتَ .. وسدتْ

هذا موضوع آخرْ..

من يدري??

قد..

لكن هو أَخبرُ من شاهدتُ

بتفسير الأحلامْ

مولايْ..

أرسلني أسألهُ

وآتيك بتأويلِ الرؤيا

الملك: لك هذا..

(يغادر فاتوراب قاعة العرش إلى الخارج)

الملك (محدثًا نفسه بصوت مسموع لمن حوله):

آمل أن يرجع فاتورابُ

بتأويل للرؤيا يسعدني

لال                : يا مولاي – دمت وسدتْ

إني أعتقد بصحة رأي السيد فوطى فارعْ

 كاهن أونْ

وكذلك نقباء السحرةْ

رؤياكم يا مولاي – ودمت وسدتْ

لا تعدو أضغاثَ الأحلامْ

الملك (ضاحكًا):

– ما شأن العسكرِ يا “لال” بتأويل الأحلامْ?

إنك قائد جيش الدولةْ

رجل لا تعرف غير السيفِ وغير الرمحِ

ونقعَ الحربْ

أما التأويل فعلم لا يعرفهُ

غير السحرةِ والكهنةِ والحكماءْ

(ناظرًا إلى ماني..)

فلنسمع رأيك يا ماني

ماني: يا مولايَ

– عظمت وسدتْ

والرأيُ .. رأي جلالتكمْ

رأيي هو رأي الموجودين – لا يختلفُ

الرؤيا من أضغاث الأحلامْ

لا تعني شيئًا في واقع حاضرنا والمستقبل

الملك مقهقًا…

حتى ماني أيضًا يبدي في رؤياي الرأيْ

يا ماني، مختصٌّ أنت بذوق طعامي

ماني: والحرب كذلك يا مولايْ

الملك: والحرب كذلك يا ماني…

لكن لا تقدر أن تزعُمَ

أنك في تفسير الأحلام خبيرْ

(يضحك الملك ويضحك الجميع مسايرة له)

وعلى كلٍّ

بعد قليلٍ

يحضر فاتورابُ بتأويل الرؤيا

(يظهر الضيق على وجه لال وماني)

لال                : يا مولايَ

هناكَ كثيرون يقولونَ

بأن المنسوبَ ليوسف حقٌّ…

تهم تخدش أخلاقهْ

ماني: هذا يا مولايَ…

انتشر وشاعْ

لال                :  سدت ودمتْ

يا مولايْ..

ودخولُ المتهمين هنا

قد يخدش سمعةَ قصركمُ العامرْ

(يظهر الاشمئناط على وجه الملك)

حارس: فاتوراب.. يا مولايْ..

الملك: فليدخلْ..

(يدخل فاتوراب مهرولاً ويركع بين يدي الملك فيبادره الملك في لهفة..).

هيهْ..

هل جئت بتأويل الرؤيا من يوسفْ

فاتوراب: جئت بهِ..

تأويل فيه الصدقُ وفيه الحقْ..

لال                : (في تبرم بينه وبين نفسه)

صدقٌ.. حقٌّ… حقٌّ .. صدقْ!!

شيء يدعو للغثيانْ

(ثم موجهًا كلامه إلى فاتوراب في لهجة ساخرة):

هل تحقيق الرؤيا سيتم قريبًا في المستقبلْ

أم أن وقائعها حدثت في الماضي الغابرْ

فاتوراب: طبعًا في المستقبلْ

… في المستقبلْ

في المستبقل ستكونُ

الرؤيا رؤيةْ

(ثم ناظرًا إلى أعلى وبصوت خاشع):

والرجل الطيب يوسفُ..

أحسست كأن النور يفيض بكلماتهْ

فيحول جدرانَ السجن إلى روض ناضرْ

وكأن الكلماتِ تنزَّلُ من أفقٍ علوي صافٍ

فتسيل حروفًا من شفتيهْ

… ما كنتَ تُؤَوِّلُ رؤيا يا يوسفْ

بل كنت تفجر ينبوعًا من نورٍ في كلماتْ

الملك (في لهفة):

فاتورابْ.. فاتورابْ ..

قص عليَّ بماذا أوّل رؤيايْ

فاتوراب: “قال: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِين دَأَبًا

فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ

إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ

يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ

إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ”

الملك (وقد ظهر الفزع على وجهه):

ثم ماذا? ثم ماذا?

فاتوراب: ثم يأتي بعد ذلك عامٌ

فيه يغاث الناسُ

وفيه يعصرونْ

الملك: سبع سنين مخصبةٌ

يغنَى فيها الناسْ

ثم تليها سبع قاحلةٌ

تأكل ما ادخر الناسْ

ويليها فرج وغَنَاء ورخاءْ?

فاتوراب: هذا حق يا مولايْ..

هذا ما يعني يوسف في تأويل الرؤيا

الملك: هذا تأويل يشرحُ صدري

هذا تأويل يقطع أن الرجل خبيرْ

بل أخبرُ من أوَّلَ أحلامًا دونَ منازِعْ

فليحضرْ يوسف حالاً

هذا أمر بالإفراج وعفوي عنهْ

فاتوراب: يا مولايَ.. هنالكَ.. يا… يا مولايْ

الملك (مستغربًا): ماذا?

لال (وهو يحاول أن يكتم غيظه وضيقه متكلفًا الابتسام):

يا مولايَ – دمت وسدتْ

يوسف هذا دجالٌ

ساءت سمعتهُ

عند الناس جميعًا

 كم راود نسوان البلدة يا مولايْ

هذا أمر ثبت عليهْ

ولْيُسْأَلْنَ..

ماني: ولنحن حريصونَ على سمعةِ

قصركمُ العامرْ

(يظهر الغضب والضيق على وجه الملك، ويشير بيمناه لماني ليسكت مشيحًا بوجهه عنه، موجهًا كلامه إلى فاتوراب)

الملك: فليحضر يوسف حالاً يا فاتورابْ

فليحضر حالاً

أصدرت الأمر بعفوي عنهْ

فاتوراب: يا مولايْ..

حين تحدثت ليوسفَ

أن أتوسط عند جلالتكمْ

في شأن الإفراج أجابْ:

أرفض أن أخرج من سجني

إلا إن ثبت نقائي من كل التهمِِ

وبداية تبرئتي

أن يسأل ربكَ

كل صواحب زوجة فوطيفار “زليخا”

اللائي قطعن أيديَهنَّ

“إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ”

الملك (وقد انبسط وجهه):

يا فاتورابْ

بشره بخير لن ينقطع مسارهْ

كان نقيب السجنِ

يبلغني فيما يرفعه من تقريراتٍ

أشياء طيبةً

من سيرة يوسفَ في السجنْ

والأمسِ فقطْ

قمت بتكليف أمين الحسبة فيلونْ

بسؤال النسوةِ

فلنسمعْ ثمرة ما وصل إليهْ:

فيلون: سألتهنَّ (مشيرًا إلى كامي) ومعي كامي قائد حرس جلالتكمْ:

“مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ

يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ?

قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ

مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ”

الملك: وزليخا زوجة فوطيفارْ

ماذا قالتْ?

كامي: “قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ

الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ

أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ

وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ”

الملك: يا فاتورابْ

بلغه براءتهُ

قل يا يوسفُْ

قد ثبت بأنك أنقى من أنداء الفجرِ

وأطهرُ من أمواج البحرِ

“ائْتُونِي بِهِ

أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي”

لن آوي لفراشي حتى يحضرْ

(يقوم الملك، ويرفع يده):

رفع المجلس (يهم الجميع بالانصراف)

فلتبق معي يا فوطى فارعْ…

ولتبق معي يا فيلونْ .. وكذلك كامي قائد حرسي

(يبقى الثلاثة مع الملك.. ثم فترة صمت إلى أن انصرف الجميع، ويستأنف الملك كلامه):

أرأيت ملامح لال الليلة يا فيلونْ?

والله كأني ألمح في عينيه الشر شرارًا

فيلون: وخصوصًا حين ذكرت جلالتكم يوسفْ

… كانت عيناه تنمان على حقدٍ أسودْ..

الملك: عجبًا!!

هل يعرف لال يوسف يا فيلونْ?

فيلون: لا أعتقدُ

يا مولايْ

الملك: فلماذا ينفي لالٌ

عن يوسف كل فضيلةْ?

كامي: هذا شيء لا يستغرب يا مولايْ

ممن عاش على حب الشرِّ

وكُرْهِ الخيرْ

(يهز الملك رأسه في أسى)

فيلون: وهنالك يا مولاي جديدْ

الملك: جديد فيمَ?

فيلون: أقوالٌ تكثر بين الناسْ

عن ظلم يقع عليهمْ

من لال الأصفرِ

ورجالهْ

الملك: فلماذا تسكت عن ذلك?!

أنت أمين الحسبةِ..

مسؤول عن رفع الظلمْ

أرني كتب المظلومين.. شكاواهم..

فيلون: لم يكتب أحد أية شكوى

لكن الأقوال تَكاثرُ

في كل نواحي العاصمةِ

عن ظلم عات يقع على الناسِ

من اللاليينْ

الملك: ولماذا لا يكتب من ظُلم شكاةً

يودِعُها في بيت الحسبةْ

وتحقق صحة ما فيها

فيلون: يا مولاي: الخوفُ

الخوف من العاقبةِ

إذا ما عرف القائد لالُ

اسم المظلوم الشاكي

فالمظلوم يحس بأن حمايته مفقودةْ

وعيون اللاليين تحيط الآن ببيت الحسبةْ

الملك (ينهض غاضبًا):

لا يا فيلونْ

فلتعلنْ أن البهو الأبيضَ في قصري

يستقبل كل شكاة مكتوبةْ

ويحقق فيها

ويحق الحقَّ ويبطل صولاتِ الباطلْ

ويظل اسم الشاكي سرًا

لا يعرفه إلا القاضي

ويعين باسمي القاضي “شادي”

مختصًا بشكاوى البهوِ الأبيضِ

لمباشرة التحقيقِ

وإنصافِ المظلومينْ

كل تقارير القاضي تُرفع لكْ

وتتابع كل الحالاتْ

ولتعلن ذلك في كل الأملاءِ

بوصفك مسؤول الحسبةْ

أحد الحراس: فاتوراب ويوسف يا مولايْ..

الملك (وقد بدا السرور على وجهه):

فليدخلا..

(يمد يديه ليوسف مرحبًا به)

يا مرحى بالرجل الصالحْ

يا بشرانا يا صديقْ

“إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ”

ولأنت بكل الإجلال قمينْ

نقلوا لي من أحوالك في السجنِ

وقائع تشرح صدري

وعرفناك الآن بريئًا

مما زَوَّرَ أعداءُ الحقِّ

ونسوانُ السوءْ

يوسف: سامحهن اللهُ

وعنهن عفا

الملك: يا يوسفُ

مملكة النهر تأملُ

أن تنعم في ظلك بالخيرِ

وتقوى اللهْ

يوسف: اللهْ??

أتقول: اللهْ??

لا تمساحَ .. ولا شمسَ ولا نهرْ..

أتقولُ: اللهْ??!

الملك: اللهْ..

الله المعبودُ..

ولا معبودَ سواهْ

يوسف: كيف عرفتَ.. وكيف هُديتْ?

الملك: فاتورابْ..

نقل إلينا فاتورابُ

أريج رسالتك العظمى

آمنَ بالله وآمنتُ

وكذلك فيلونُ

وكاهنُ أونْ فوطى فارِعْ

وأنا أفتح مملكتي لكْ

فلتدعُ الناسَ إلى المعبود الواحدْ

(موجهًا خطابه إلى فيلون):

يا فيلون، آمنتَ معي بالله الواحدْ

فلتبقَ مع الصديق ظهيرًا

عاونه بحقٍّ في نشرِ الدين الحقّ

(موجهًا كلامه إلى كامي)

يا كامي..

آمنت بصدق بالله الواحدْ

عاون يوسف واشدد أزرهْ

في غرس القيم العليا بقلوب الناس ولا تخذلْهُ

ولا تغفلْ عن أعدائهْ

(يحني كامي رأسه في هدوء)

يوسف: أبقاك الله على الحق حريصًا

وحمًى للمظلومين المطحونين من الناسْ

الملك: يا يوسفُ

أنت الآن لدينا جدُّ مكينْ..

خيرُ أمينْ

ما رأيك في أن أجعلكَ

وزيرًا للحربِ وقائد جيشِ الشعبْ

وأعزلَ لالَ الأصفرْ

فلقد جافاه الناسُ

وجافى الناسْ

يوسف: يا أبقاك الله لشعبِ

النهرِ مليكًا..

أنا لم أُخلقْ لا للسيف ولا للرمحْ

فاجعلني مسؤولَ خزائنِ مال الدولةِ

ما يُجبى.. ما يودع فيها

وكذلك ما ينفق منها

سأكون بإذن الله حفيظًا وأمينًا

الملك: يا بارك فيك اللهُ

يا يوسفُ يا صديقْ..

يوسف: سأكون بإذن الله طعامًا للجائعْ

سأكون شرابًا للظامئْ

سأكون الزاد لركبٍ يسري في الليل الحالكْ

سأكون بإذن اللهِ

البلسمَ للجرحى والمسحوقينْ

فليمنحني الله القدرةَ

حتى أضطلعَ بأمرِ الناسْ

الملك: يا بُشرانا يا يوسفُ بكْ

يا يوسف لك مني أعظم لقب في الدولةْ

(صفنات فعنيح)

يا يوسف إنك صفنات فعنيح الصديقْ

لك مني طوق الذهب الملكيّ

(يحضر أحد رجال الحاشية الطوق ويضعه الملك حول عنق يوسف)

لك مني يا يوسف خاتم مُلكي الثاني

يا يوسفُ

إنك أنت الثاني بَعْدي في مملكتي

(يخلع الملك أحد خاتميه ويضعه في إصبع يوسف)

لك مني أيضًا حلة ماسٍ وقصبْ

(يحضر أحد رجال الحاشية الحلة البراقة، وهي أشبه ما تكون بالعباءة، ينهض الملك ويضعها على كتفي يوسف)

لكن هديتنا الكبرى هي “أسناتْ”

(ويشير إلى الكاهن) بنت الكاهن فوطى فَارِعْ

الكاهن فوطى: يا يوسفْ

يسعدني.. ويشرفني

أن تصبح زوجًا

لأحب بناتي “أسناتْ”

الملك (باسمًا): أجمل من ولدت أمٌّ

في أرض النهرْ

الكاهن: لأصدق من حملت أرض النهرْ

الملك (في ضحك مسموع): وأفتن من حملت أرض النهرْ

يوسف: ويتمُّ العقد على شرع اللهْ

الله الواحدْ..

الملك والكاهن في نفس واحد:

الله الواحدْ

الملك: والآنْ..

يا يوسف في أي سنين الرؤيا

نحن نعيشْ?

يوسف: أولى سنوات الخصب السبعْ

سنوات رخاءٍ

لا تبقى أكثر من سبعْ

الملك: والعملُ??!

يوسف: فليؤمرْ كل الناسِ

بحفظ الخُمْس فقطْ

من قمح الموسم في سنبلهِ

حتى لا يعروَهُ السوسُ

وفي سنوات القحط السبعِ

سيجد الناسُ طعامًا فيما ادخروا

فيلون: لكنْ.. بَعْد القحطْ?

يوسف: سيأتي الفرجُ بإذن اللهْ

أعوامٌ تخصب فيها الأرضُ

ويعصرُ فيها الناسْ

فوطى فارع: هل ثمةَ شيءٌ آخرْ

يجب علينا في حال اليُسر وحال العسْرْ?

يوسف: لا مرية في ذلك يا صهري الغالي..

فعلينا في حالِ اليسر وحال العسرْ..

في منشطنا.. في مكرهِنا..

ألا تجدب منا الأنفسُ

مهما أجدبت الأرضْ

فإذا ما انتشر الحب وساد الودُّ

وأُشربت الأنفس حب الخيرْ

عوضْنا من خصبِ الروحِ وريّ القلْبْ

عن جدب الأرض الماحقْ

كي لا يذبلَ فينا الإيمانُ

وينقضَّ البنيانْ

الجميع: لا إله إلا اللهْ

ولا معبود سواهْ

ستار

المشهد الثالث

(في نهاية الشهر الأخير من العام السابع من سنوات الجدب، في دار التموين الكبرى: بهو واسع به بعض المقاعد، ودكة طويلة في ركنه الأيسر، وفي البهو مئات من أكياس القمح والشعير. وفي الركن الأيمن باب واجهته تواجه خلفية المسرح يقف أمامه عدد كبير من الناس، لا يرى إلا بعضهم، وإن سمع لهم لغط وأصوات مختلطة.

وعلى جانب الباب يقف حارسان “بلا سلاح غير السيف المغمد” وموظف أمامه ما يشبه الأوراق على منضدة، وريشة، ودواة، وهو مشغول بأوراقه.

يوسف وفيلون يجلس كل منهما على كرسي، وأمامهما أكياس القمح والشعير).

الحارس1: كل منكم بمكانهْ

صفًا واحدًا.. صفًا واحدًا

كل منكمْ:

من قمح وشعيرٍ

يأخذ حظهْ

الحارس2: لن يحرمَ أحدٌ أبدًا

(يسمع من خلف المسرح صوت رجل يقول):

لكنْ قالوا: إن القمح يقارب ينفدْ

رجل ثان: يا صديق أغثنا

إن القحط شديدْ

رجل ثالث: يا يوسفُ.. يا صديقْ

مات الزرعُ

وجف الضرعُ

وشبح الموتِ يلوحْ

رجل رابع: يا صديقْ

آخر شاةٍ عندي

ماتت جوعًا أمْسْ

لا نملكُ في منزلِنا إلا قدحَ شعيرْ

خامس: أبنائي يا يوسف سبعةْ

أكبرهم في العام العاشر من عمرهْ

امنحنا من فضلِكَ

– يا أبقاك اللهْ

سادس: يا صديق أغثنا

يا صديق أغثنا

(ينهض يوسف ويتجه نحو الباب مواجهًا الناس):

أيامٌ وسيأتي فرجُ اللهِ

بإذن اللهْ

لو صدقت رؤيايَ

لكانت هذي آخر أيام القحطْ

وإلى أن تنفرج الأزمةْ

لن يُحْرم أحْدٌ منكم فضلاً

لكن لا يسرف أيٌّ منكمْ.. اعتدلوا

اقتصدوا فالوسطية شرع اللهْ

رجل: نقتصدْ?!

نعتدلْ?!

ماذا تعني يا صديقْ?

يوسف: النصفُ هو العدلْ

نصف طعامٍ

نصف شرابٍ

حتى تنقشع المحنةْ

(ناظرًا إلى أحد عماله)

فلتعطِ لكلٍّ نصفَ المعهودِ من القمحِ

ونصفَ المعهودِ شعيرًا

فيلون: وتسجلُ أسماء الكل بدقةْ

(يبدأ العامل في تسليم كل رجل كيس قمح، وكيس شعير، بينما العامل الآخر الجالس على المنضدة يسجل أسماء المتسلمين)

فيلون  (موجهًا كلامه ليوسف):

سيدَنَا الصديقْ

جاء من البدوِ مئاتٌ وألوفْ

أغلبهم من أرض الكنعانيينْ

أعطيناهم.. أعطيناهمْ

وفدت منهم أعداد أكثر من صحراءِ الوطن الشرقيةْ

أعطيناهم.. أخذوا

زادوا .. أعطيناهمْ

ما زالوا حتى الآن يزيدون ونعطيهمْ

ذلك طبعًا ضايقَ كل الناسِ

بأرض النهرْ

ولذلك طالب بعض الناسِ

بألا يرزق بدوْ

قالوا:

الأرض لنا..

والزرع لنا

فلماذا يرزق منه غريبْ

يوسف (وقد بدا على وجهه الحزن):

لا يمنع بدوٌ أو حضرٌ

فالرزق من الله تعالى

والجوعُ إذا ما ساد بأرضٍ

ماتتْ فيها القيمُ العليا

البطنُ الخاوي.. يا فيلونْ

قد يجعل مِنْ صاحبِهِ

إنسانًا مذبوح القيمِ

البطن الخاوي – يا فيلونُ

كفيل أن يلتهم نخاعَ العقلْ

فإذا اجتمع لجوع البطنِ

وفقر العقلِ

خواءُ الروحِ

غدا الإنسان كوحش كاسرْ

فلْيعطَ البدوُ وغيرُهمُ

من رزق الله كأي مواطنْ

(يظل العامل يسلم الناس الأكياس إلى أن تنفد.. ينظر إلى فيلون)

العامل: آخر كيسينْ

ما عاد هنالك أكياسْ

فيلون: لا شيءْ?

العامل: لا شيءْ

فيلون (متوجهًا بجدية إلى الصديق الذي كان شاردًا بنظره، وقد ظهر الحزن على وجهه بوضوح):

يا صديق..

نفد الحَبّ..

ما عاد هنالك حبٌّ

في دار التموينْ

يوسف: نفد الحبّ?

ما عاد هنالك حبّ??

فيلون (ينظر في الأوراق على المنضدة التي جلس إليها العامل الذي يسجل الأسماء)

ما زال هناك ألوفٌ

ينتظرون نصيبهمُ..

من قمح وشعيرْ

يوسف: يا عجبًا

وزَّعنا ضعفي ما كان يوزعْ

كيف إذن لم يكف الناسْ?

العامل: يا مولاي الصديقَ

البدو هم السببُ

يوسف: لا بل إني قد قدرت البدوَ

وحظَّ البدو شعيرًا أو قمحًا

بل إني احتطتُ وزدت الضعفْ

(يسير يوسف في بطء ناحية مقدمة المسرح وقد شغله التفكير العميق، والأسى يغشى وجهه)

يا رباهُ .. يا رباهْ

فأين تسرب قمح الناسْ?

من ذا نهب شعير الناسْ?

من ذا سرق طعامَ الشعبِ العاني المطحونْ?

(يجلس يوسف وهو يهز رأسه أسى وحزنًا، وقد أمسك لحيته بيسراه.. يدخل رجل يرتدي الملابس المدنية ويسلم فيلون عددًا من الأوراق.. يلتهم فيلون الورقة الأولى بعينيه… ويصرخ):

آه الآن انكشفَ السِّرّ

سرُّ الأزمةِ

سرُّ النكبةْ (يرفع يمناه بالورق)

… تقرير من بعض رجالي..

يوسف (في لهفة):

تقريرْ?

ماذا فيهْ?

اقرأهُ.. اقرأه يا فيلونْ

فيلون: تقريرٌ من “ماجي شابو”

آمر بيت الحسبة بالصحراء الشرقيةِ

من مملكةِ النهرِ المحروسةْ

فيه يقولْ:

الموضوع: طعام الشعبِ إلى أينَ??!

… ولقد ألقينا القبضَ على قائدِ قافلةٍ

من ألفِ بعير بحمولةِ قمح وشعيرْ

غير العسل وغير السمنِ، وغير التمرْ

وغير ملابسَ قطنيةْ

كانت هذي القافلة مهربةً

لبلاد أخرى لتباع بثمنٍ فادحْ..

كلُّ الأكياس عليها خاتمُ

بيتِ التموين بمملكةِ النهرْ

في استجواب الرجل أجابَ

بأن القافلة لحساب القائد لالِ الأعظمْ

يوسف: لال الأصفرْ?

فيلون (رافعًا عينيه عن التقرير ومخاطبًا يوسف):

قائد قوات الجيشْ

هو لال الأصفرُ في أفواه الناسْ

ولال الأعظمُ في نظر اللاليينَ

ومَنْ سايَرَهُمْ

يوسف: لكن كيف تمكن من تجميع حمولة قافلةٍ

قافلةٍ من ألف بعيرْ?!

فيلون: في التقرير جواب شافٍ

(يشرع في القراءة من الورقة الثانية)

وعلمنا أن رجال اللاليينْ

كانوا – تحت ستار ظلام الليلْ

يسطون على ما حصل عليهِ

الجوعى والفقراءْ

من بيت التموينْ

والناس يخافون الشكوى

من لال واللاليينْ

وكذلك تخذوا أنصارًا عملاءْ

يتنكر لك كلٌّ منهم في عدة شخصياتٍ

ذاتِ أسام مختلفةْ

وثياب خَلَقٍ مختلفةْ

لينال الحصة من قمح وشعيرٍ

عدة مراتْ

وتُجمَّعُ آلافُ الأكياسْ

وتصدّر في شكل قوافلَ

للصحراوين الشرقية والغربيةْ

وبلاد أخرى

ليباع هناك الصاع القمحُ

بصاع من فضةْ

يوسف: سحقًا لهمُ: صاع القمح بصاع من فضةْ?

فيلون (مواصلاً القراءة):

وتباع الكيلة من قمح أحيانًا

ومقابلها قدح من ذهب إِبريزْ

يوسف: هذا أغرب ما أسمعْ

فيلون (ناظرًا إلى يوسف):

فلتتكرم يا صديقُ

وتستمع الباقي (مواصلاً القراءة)

بعد استجواب الرجل وإقراره

وإحاطة بعض رجالي بالقافلةِ

لتمنع من أن تمضي في السيرْ

هجم عليهم خمسون من الفرسانِ المهرةْ

قتلوا اثنينِ

وخطفوا الرجل المقبوضَ عليهْ

ومضوا بالقافلة كومض البرقْ

فتتبعنا القتلة والقافلةَ

ولكن…

كانوا أسرع منا

وبذلك أفلت ألفُ بعيرٍ

بطعام الجوعى والمحتاجينْ

وكذلك أفلت من يدنا

أي دليل إدانةْ

هذا..

وأحيطكمُ علمًا

أن الرجل المقبوضَ عليه

اعترف بأن القافلة للال واللاليينْ

لكن خطفهمُ الرجلَ

أضاع دليل إدانتهم من أيدينا

حتى أصبحت التهمةُ

– وهي حقيقةْ

قولاً لا يستند لأي دليلْ

يوسف: لال يفعل هذا?!

فيلون: بل هذا يعتبر ضئيلاً بالنسبة لهْ

(بعد صمت وتفكير)

لكن سؤالاً يتعقبني

لا أجد جوابًا لهْ:

“لالٌ” من أغنى

بل أغنى رجل في المملكة جميعًا

لم لا يقنعُ ويكف يديهْ?

يوسف (وعلى فمه ابتسامة خفيفة)

لال يا فيلون مريضْ

فيلون (باستغراب):

لال مريضْ?

لال قوي البنيانِ

حديد الصحةِ

يا صديقْ..

يوسف: أنا لا أعني مرض الجسمِ

ولكن…

أعني مرض الروحْ

فيلون: مرض الروحْ..?!!

يوسف (هازًا رأسه باسمًا):

لال مريض يا فيلونُ

بمرض الحوتْ

فيلون: مرض الحوتْ?!!

يوسف: مرض الطمع المسعور المتعطشْ

مرض النهم الضارب في أعماق القلبِ

وأعماق الروحْ

“كالحوت لا يرويه شيء يطعمهُ

يصبح ظمآن وفي الماء فمهْ”

أفهمتْ?!!

فيلون: ليس تمامًا يا صديقْ

يوسف: ليس هنالك أظمأ من حوتٍ

يا فيلونْ..

مأواه الماءْ

والماء حياتهْ

والماء شرابهْ

ويظل يعب من الماء فلا يروى

بل يزداد تحرقه للماءْ..

(بعد صمت قصير)

وليس هنالك أخطرُ

من أن يمرض بالحوتيةِ..

مرضِ الحوتِ

قائد جيشٍ

أو عاهل شعبٍ

أو مسؤول ذو شأن في موقعِهِ

فيلون: لكنا نعلم أن المال لإشباع الحاجاتْ

وحاجات الإنسان لها قدر معلومْ

ماذا يفعل لال بعدئذٍ

بالفائض من تلك الأموالْ?

يوسف: يا فيلونْ..

جمع المال لذاتهْ

– أشبع أو لم يشبع حاجةْ

هذا الجمع لذائذ كبرى

متع عظمى..

في نظر اللاليين الحوتيينْ

أفهمتْ?

متعة لال وعصابتِهِ

في النظر إلى المال لذاتهْ

أشبع حاجات أو لم يُشبعْ

(بعد لحظات من الصمت)…

هيه..

تقرير أمين الحسبة بالصحراء الشرقيةِ:

– ماجي شابو

هل ترفعه للملك الريانْ?

فيلون: أرفعه.. هذا أحسنْ

(بعد لحظات من الصمت والإطراق والتفكير)

لكن.. ما قيمتُهُ..

ودليل التجريم الفذ هربْ?

أعني قائد قافلة القمح المنهوبْ

يوسف: لا.. لم يهربْ

قل هُرِّبْ

خطفوه بقوةْ

هربوا بهْ

فيلون: وكذلك قافلة القمحْ

يوسف: وجريمة قتل اثنين بلا ذنبٍ

غير أداء الواجبْ

فيلون: لكن الملك العادلَ

لا يفصل في الأمر بحكمٍ

إلا إن كان هنالكَ

ما يقطع بالتجريم بلا أدنى شبهةْ

يوسف: ذاك هو العدل بعينهْ

تبقى قيمة رفع التقرير إلى الملكِ

أن يأخذ حِذرهْ..

أن يتحصن بالحَذَرِ الواقي

من غدرِ الأصفرِ ورجالهْ

فيلون: وهنالك أشياءٌ أخرى

يعرفها الملك الريانْ

ويحيط بها خُبْرًا

يوسف: أشياء أخرى?

فيلون: أشياء أخرى ارتكبت ضد الشعبْ

وخصوصًا..

فقراء الناس ومطحونيهم

يوسف: فلماذا يسكت عن ذلكْ?

فيلون: نفس الأسباب المذكورةْ:

ليس هنالك أي دليل قاطعْ

لالُ ذكي في الشرِّ

ذكاءً لم أشهد مثلهْ

يضرب ضربته في إتقان وبراعةْ

لا تترك أثرًا قد يفضي

للتدليل على جرمهْ

يفلت كالزئبقِ

في لمح البصرِ

يذوب كشبح لا يُمسَكْ

وكذاك رجالهْ

كل رجالهْ

يوسف: إن الله ليملي للظالمِ

يستدرجُهُ..

فيظن العالَمَ رهن إشارتِهِ

يتكبرُ..

يطغى..

يختالُ..

يستعذب ظلم الناسِ

فتكون العاقبة السوءُ

إذ يبطش ربكَ

بطش عزيز مقتدر بهْ

حينئذٍ..

لا ينفع ندمٌ أو حسرةْ

(تدريجيًا يعلو لغط الناس في الخارج. وتأتي الكلمات مختلطة متداخلة من أصوات فردية متعددة)

صوت: إني جائعْ..

– ولدي جائعْ..

– يا صديقُ نكاد نموتْ

– نفد المال ونفد الأكلُ

– ما في بيتي حبة قمحٍ

– الغوثَ .. الغوثَ

– يا صديقْ..

(ثم تنتظم الأصوات في نشيد جماعي حزين من الرجال والنساء)

الغوث الغوث.. يا صديقْ

القمح القمح.. يا صديقْ

قد مات الزرعُ

وجف الضرعُ

وساد الجوع .. يا صديقْ

ما عدنا نملك غير الحزنِ

وغير الألمِ

وغير دموعٍ يا صديقْ

الغوث الغوث يا صديقْ

القوتَ القوت يا صديقْ

الشعب يموت يا صديقْ

الجوع يمزق أحشانا

والدمع يقرِّح أجفانَا

الأرض غدت جدبًا وخرابْ

والماء غدا حلمًا وسرابْ

هل نأكل بدل الخبز ترابْ?

أدركنا يا ابن الصديقينْ

يا صديقْ..

فلأنت مكين أنت أمينْ

يا صديقْ..

القوت القوت .. يا صديقْ

الشعب يموت.. يا صديقْ

القوت القوت .. يا صديقْ

الشعب يموت.. يا صديقْ

………          ……….

………          ……….

(يخف صوت المجموعة تدريجيًا بتكرار السطرين الأخيرين، ويظهر التأثر الشديد على وجه يوسف، ويتجه فيلون والعمال ناحية الباب لتهدئة الناس.

وتمتلئ عينا يوسف بالدموع، ويشحب الضوء في قاعة التموين ما عدا الضوء المسلط على وجه يوسف.

يجثو يوسف على ركبته اليسرى ويثني رجله اليمنى ويرفع يديه في دعاء وضراعة والدموع تغطي وجهه).

يوسف: رباه .. رباهُ

الكرب اشتدّ

والفقر امتدّ

وإنك أنت الفرد الصمدْ

رباهُ.. يا رباهْ

من أجل شيوخٍ ركَّعْ

من أجل جياع رضَّعْ

من أجل بهائمَ

ما عادت ترتعْ

من أجلِ قلوبٍ مفجوعَةْ

من أجل نفوس موجوعةْ

من أجل جفون باتت تدمى

حوِّلْ بؤساهم نُعمى

واملأْ من نورِكَ أنفسهم

كي لا تَعمى

رباه.. يااا رباااه

أحيِ الأرض الميتةَ

بالغيث المدرارْ

وأظل حياتهمُ بالرحمةِ

ليل نهارْ..

يا رحمن.. يا منانُ

يا غفارْ

(يدخل أحد الحراس …)

يا مولايَ الصديقَ..

رسولٌ من دار الحسبة في الصحراء الشرقيةِ

يوسف: فليدخلْ

(يدخل رجل يبدو عليه أثر السفر الطويل يحني رأسه تجلة ليوسف ويهتف فرحًا)

الرجل: بشرى.. بشرى يا سيدَنا الصديقْ

هَطَلَ المطر بصحراء الوطن الشرقيةِ

ليلةَ أمسِ الأوَّلْ..

مدرارًا يهطلْ..

وتركت سماء الصحراءِ

تغطيها سحب حبلى سوداءْ

يوسف: يا حمدًا لله المنَّانْ

(يدخل الحارس ويعلن…)

يا مولاي الصديقْ

رسول من دارِ الحسبةِ في الصحراءِ الغربيةْ

يوسف: فليدخلْ

(ناظرًا إلى الحارس …)

أدخلْ أيَّ رسول يأتي..

لا تستأذنْ

(يدخل الرسول وقد بدا على وجهه الإعياء وآثار السفر الطويل)

يا بشرانا يا مولايْ

الغيثُ هَمَى بالصحراء الغربيةِ

من يومينْ

وتركتُ الأرض هنالكَ

والغيثُ كأفواه القِرَبِ

يوسف: حمدًا لله المنَّانْ

(يدخل الحارس ومعه رجل تبدو عليه كذلك مظاهر السفر الطويل)

الرجل: يا مولاي الصديقْ..

الوالي بجنوب النهر يهنئكم ويقولُ:

بشائرُ فيضانٍ بدأت تترى

وأحلَّ الله الفرح محل الحزنْ

يوسف (فرحًا):

سبحانك ربي:

يا رزاقُ.. يا رحمنُ.. يا منانْ

فليعلن في الناسِ

بأن سنين القحط تزولْ

والأرضَ العطشى يرويها غيثُ اللهْ

وغدًا تكسى ثوبًا أخضرْ

يا عمال الحسبة فلتنتشروا في الناسْ

قولوا للناس: غياثُ الله هَمَى

قولوا للناسِ: الخيرُ من الله أَتَى

بشراكم يا شعبَ النهرْ

سبحانك ربي يا رزاقْ

سبحانك ربي يا رحمنْ

سبحانك ربي يا منانْ

(يبدو الإعياء الشديد على وجه يوسف على الرغم من أمارات السعادة الظاهرة عليه)

فيلون: يا سيدنا الصديقْ

ما ذقتَ النوم لأيامْ

الإعياءُ على وجهك بادٍ

يوسف: يا فيلونُ..

وكيف أذوق النومَ

وبطنُ الجائع عاصفةٌ تصرخُ في أذني

يا فيلونُ:

وكيف أذوق النومَ وثمةَ أطفالٌ

لا يجدون الرضعة في ثديِ الأمّ

فيلون: يا صديقُ..

قد يقلق ولداك وزوجك لغيابكْ

ولبدن الإنسان عليه حقوقْ

ولأهل الإنسان عليه حقوقْ

فلتذهب للبيت الآن تبيتُ هناكَ

وألقاك صباحًا في دار التموينْ

يوسف: لكني راعٍ

وحقوق الناس عليَّ أهمّ..

يا ويل الراعي إن أغفلَ

أو نام هنيئًا عن حق الناسْ

فيلون: ياهْ…

الوقت مضى

والليل قضى..

لم يبق عن الفجر الصادق إلا ساعةْ

يوسف: يا فيلونْ

فلتذهب أنت إلى بيتكَ

فإذا أشرقت الشمس فعدْ

لنباشر نظر أمور الناسِ

وأمر الأرضِ

وأمر الزرعِ..

وأمر الماءِ.. وأمر القوتْ

في عام يعصر فيه الناسُ

ويجنون ثمار الأرضْ

من بعد جفاف ومُحولْ

ذكرني يا فيلونُ..

بأن نعلن في الناسِ

بأنهمُ معفون لخمسِ سنينْ

من دفع خراج وعشورٍ

أو أي ضريبةْ

فيلون: هل تذهب يا صديقُ

إلى بيتك لتنامْ?

يوسف: لا..

ما عاد هنالك وقتٌ

وسأضطجع الآن هنا..

تكفيني ساعةُ نوم واحدةٌ

(ينصرف فيلون والعمال.. يضطجع يوسف على الدكة واضعًا يده تحت رأسه.. موسيقا وترية هادئة لمدة دقيقة، ويوسف يبدأ في الاستغراق في النوم للإيحاء بأن هناك رؤيا تبدأ.. ويسدل الستار تدريجيًّا.. وفي بطء شديد مع انتهاء الموسيقى، والإعتام التدريجي للمسرح).

الفصل الثاني: الانقلاب الأصفر

المشهد الأول

(الملك الريان على كرسيه بقاعة العرش بزي يختلف تمامًا عن زيه الفرعوني في الفصل السابق، وهو أشبه ما يكون بالزي العصري في وقتنا الحاضر، وفي القاعة بعض رجال حرسه وكان أقرب الواقفين منه الضابط “ماني” ذواقة الملك، وعلى وجه الملك مسحه من الحزن والغضب، يقف الملك في تباطؤ، ويتناول تفاحة من طبق أمامه، ويأخذ قطعة صغيرة من باطنها ويتجه إلى صقره الشاهين المغمَّى الواقف على عارضة مثبتة في قائم ناحية اليسار. وفي هذه اللحظة يدخل “كامي” قائد الحرس الخاص للملك ويهتف بعد أن يحيي الملك التحية العسكرية المعروفة في وقتنا الحاضر، وهو في زي عسكري).

القائد: لال قائد جيش الملك الأعظمْ

(يهز الملك رأسه ويشير بيده دليلاً على الموافقة على دخوله، يخرج كامي لحظة ليعود بالقائد لال، وهو في ملابس عسكرية كالمعروفة في وقتنا الحاضر.. والملك يعود فيجلس على كرسي العرش وهو ما زال متجهم الوجه):

لال                  : طاب مساؤك يا مولايْ

الملك: طاب مساؤك يا لالْ..

(وبعد فترة صمت قصيرة وعينا لال معلقتان بالملك)

يا لال من خمس سنين عينتكَ

قائد جيش الشعب بدولتنا مملكة النهرْ

لذكائك في تصريف أمور الحربْ

وولائك للقصر العامرْ

وشجاعتك المشهود لها من كل الناسْ

لال                : (محنيًا رأسه في شبه ركوع، وقد انبسطت أساريره)

يا مولاي..

دمت لنا ولأرض النهرِ

وعاشت دولتنا بالنصرةِ

في ظلِّ الملك الأعظمْ

وأنا من صنع أياديكمْ

الملك: يا لالْ

إني استدعيتُكَ حتى أسألَ عن أمرٍ

يشغلني ويقض منامي

لال                  : إني رهن إشارتكم يا مولاي الأعظمْ

الملك: يا لال.. مملكة النهر – كما تعلم – قامتْ

وتعيش على أسس الحرية والعدلْ..

لال                  : لجلالتكم كل الفضلْ

وإني يا مولاي أقولُ..

الملك: يا لالُ هنالك أمرٌ يدعو للدهشةْ

كل الناس على علم أني قد خصصت البهوَ

الشرقيَّ الأبيضْ

كي يودع فيه المظلومون شكاواهم

(تعلو نبرة الملك وتظهر أمارات الغضب على وجهه..)

لكن فجأةْ..

كادَ البهوُ الأبيضُ يخلُو من أيِّ شكاةْ

مع أنا نتحقق من صحة ما يشكو الشاكي

ونحق الحقَّ

وننصف من حرم الحقّ

وسياستنا أن نقتص من الظالم أيًا كانْ

فبماذا يا لالُ تفسر عدم حضور الناسِ

إلى البهو الأبيضِ

برقاع شكاواهم كالعادةْ?

لال           (وعلى وجهه ابتسامة مفتعلة): يا مولايْ

هذا أمر يسعد مولاي ويسعدنا

أما التفسيرُ فواضحْ:

عدلُ جلالة مولانا الملكِ الأعظمِ

زادَ وفاض فما عاد هنالك مظلوم أو ظالمْ

الملك: هذا تفسير حسن وصحيح لا يقبل شكًّا..

(لال يظهر على وجهه البشر بينما يواصل الملك كلامه في تجهم وغضب)

إن لم يسفك دمْ..

إن لم يسقط في البلد ضحايا

لال          (في اضطراب):

د م م. م.. ضحايا?

دمت مفدّى يا مولايْ

أي دماءٍ?!

أي ضحايا.. يا مولايْ?!

(الملك موجهًا الكلام لرئيس حراسه):

فليحضر شادي.. قاضي البهوِ الأبيضْ

(يدخل رجل مهيب.. أبيض اللحية.. يبدو على وجهه أمارات الحكمة والرزانة ومعه ملف فيه أوراق…)

الملك: اقرأ ما عندك يا شادي

اقرأ آخر تقرير مرفوع من دار الحسبةْ

(شادي يُخرج من بين أوراقه التقرير ويبدأ في القراءة)

شادي: باسمِ العدلِ.. وباسم الحقْ

هذا تقريرٌ من دار الحسبةْ:

الموضوع: قتلى تسعةُ في شارع “ومض النورْ”

التفصيل: في شارع ومض النور القاطِعِ

للشارع رقم ثلاثٍ حيثُ البهوُ الأبيضْ

في وقتِ شروقِ الشمسِ من اليوم الثاني

من هذا الشهرْ:

وَجَدَ رجالي تسعة قتلى

بجوارهمُ بعض رقاع لا تقرأُ

جللها الدمْ

لكن ثلاثًا منها.. بالجهد المضني

أمكنَ أن يقرأها كاتب بيت الحسبةِ

نص الأولى:

يا مولايَ أغثني

لال الأصفر صادر بيتي

والثانية تقولْ:

حرماتي انتهكت يا مولايْ

فرجالُ الأصفرِ عند الفجرِ

بدعوى حفظ الأمنِ

اعتقلوا بنتي العذراءَ

ورفضوا أخذي كبديلٍ عنها

قالوا لي: “إنك رجل طيبْ

.. سَلْم أنت فلست بخطرٍ

أما بنتك فتمثل تهديدًا للعرشِ

ملحوظة: بنتي حسناءٌ خارقة الحسنْ

لكن ولدت بكماء صماءْ..

والثالثة من سطرينِ:

لال الأصفر.. لال الأصفرُ

يا مولايْ..

(وعجزنا عن أن نقرأ باقي السطر فقد رمجه الدم)

أما آخر سطر فيقول:

… ونقودي وحليَّ الزوجةِ..

حاشية أكتبها بعد وقوع الأحداث المذكورةِ:

بعد تحرٍّ في المنطقةِ

كانت آخرُ معلوماتي كالآتي:

أدركَ كلُّ الناس بأن الموتَ

يكون مصير الشاكي للبهوِ الأبيضْ

ولذلك آثر كل الناس تحمل عبء الظلمِ

وإِصرَ القهرِ

على القتلِ البشع المنكودِ

وتيتيم الأطفالِ

وترميل الزوجاتْ

يا مولايْ

دمت نصيرًا للمظلومْ

التوقيع

فيلون الطيبي..

الملك: ما قولك يا لالُ الأصفرُ

يا .. لاَ.. لَ ال.. أعظمُ??

هَهْ.. ما رأيكْ??

أَوَتُنكر أنك أنت المسؤولُ الأولُ عن أمن الوطنِ?

لال                  : يا مولاي.. إ إ إ .. هذا من تدبيرِ

الحقدة من أعدائي..

حسدوني.. في نعمةِ حبِّكَ لي

لولائي للعرشْ

هل يعقل يا مولايَ..

أن تُجمع كل شكاوى المظلومينَ

على تجريمي.. وكذلك تجريم رجالي?

أَوَلَيس هنالك من يظلم إلا نحنُ?

أَوَكُلُّ الناس عدول إلا لال ورجالهْ?

الملك: ما المانع في هذا?

هذا يمكن أن يُتَصوّرْ..

إلا إن كان هناك دليل يدفعُهُ

لال                  : يا مولاي عظمتَ وسُدتْ

ولنفرض جدلاً صحة هذا يا مولايْ

أعني صحة هذا الإجماعِ القاطعِ

أي أني ورجالي قمنا بجريمة قتل التسعةِ

منعًا لوصول شكاواهم للبهو الأبيضْ

هل يعقل أن نترك هذي الأوراقَ

بأيدي المقتولينْ

وإنا نعلم – أي يُفرضُ أنَّا نعلم – أنا نقتلهمْ

كي نمنعها أن تصلَ إليكمْ..

القتل – كما هو معروف – مسألة صعبةْ

أما نزعُ الشكوى من كف المقتولِ

فيستغرقَ لحظةْ

أمر سهل.. جدًا سهلْ..

الملك: يا لال: ما قدمت كلام واه يسهل نقضهْ

وإليك أدلةَ هذا النقضْ

الأول: أن المجرم قد يلجأ للإبقاء على

هذي الرقع ذكاءً منهُ

حتى يحتج بمثل دليلكْ..

والثاني: أن المجرم في الشارعِ..

.. أو أي مكان مفتوحٍ..

يغدو مضطربًا عجلان فلا يتقن جُرمهْ

والثالث: أن المجرم – يا لالُ الأصفر – يعتقدُ

بأن دم القتلى قد أتلفَ ورق شكاواهمْ

وأخيرًا – يا لال الأصفر.. يا قائد قوات الجيشِ

المجرم .. مهما أوتي من حُنكةْ

قد ينسى شيئًا أو عن عمدِ يُغفلهُ

هذا الشيء – على صِغرهْ

قد يكشف وجه جريمتِهِ

ويقود إلى معرفةِ القاتلْ

لال                  : يا مولايْ..

أقسمُ أني جِدَّ بريءٍ مما حدثَ

الملك: ورجالُكْ?

لال                  : ورجالي أيضًا يا مولايْ..

والمسألة – على أشنع فرض – فيها شكٌّ

والشك لصالح من يُتهمُ

لا صالح من يُلقي التهمةْ

الملك: يا لال..

إني لا آخذُ أحدًا بالظنِّ

لكن ثمة تقريرٌ ثان مرفوعٌ

من فيلونَ أمينِ الحسبةْ

فلتسمعْه لأسمعَ رأيكَ

فيما كِتُبَ:

(يشير الملك إلى شادي الذي يبدأ في القراءة، بينما يظهر الاضطراب على وجه لال)

شادي: تقرير ثانٍ مرفوع لجلالة عاهلنا الأعظمْ

الموضوع: قتل التسعةِ غدرًا

التفصيل: في اليوم الثاني من هذا الشهرِ

وفي وقت شروق الشمسْ..

شاهد أحد المارة في طرف الجهةِ

اليسرى من شارع ومض النورْ..

شاهد أحد الضباطِ بكامل زيهْ..

الزيِّ الأصفرِ.. زي الجيشْ..

يجري.. مبتعدًا.. متجهًا.. نحو شوارعَ

فرعيةْ..

وبيده مدفعه الرشاشْ

بعد صراخٍ أعقبه صمت مُطبقْ

ملحوظة: طلب الشاهد في إلحاح ألا يذكرَ

في التحقيِق اسمهْ

لال (في اضطراب شديد …):

يا مولاي.. هل يعقل أنْ..

الملك (في غضب شديد):

اقرأ يا شادي التقرير الثالثْ..

(شادي يودع التقرير الثاني ضمن أوراقه ويخرج الثالث، ويبدأ في قراءته)

شادي: الموضوع:

شاهدة أخرى للإثباتْ

في حادثة القتلى التسعةْ

التفصيلُ:

في العاشرة صباح اليوم الثاني من هذا الشهرْ

حضر إلى دار الحسبةِ

سيدة تدعى “زاهيرا راعي فاحْ”

وأصرت أن تلقاني شخصيًا

متخطية مرءوسيَّ جميعًا

فأذنت لها..

قالت بينا كانتْ عائدة من بيت ابنتها

وجدت هذا الخنجر ملقى في الركنِ

الأيمنِ من شارع ومض النورْ

تذييل أول: الخنجر رفق التقريرْ

موضوع في حِرز مغلقْ

تذييل ثانٍ: الخنجر موسوم بعلامةِ

حرس الجنرال لال الخاصّ

التوقيع

فيلون أمين الحسبةْ

لال           (في اضطراب شديد …)

يا مولاي.. يا مولاي.. الْ.. الْ..

الملك (مقاطعًا في غضب شديد):

يا لالْ… يا قائد لالْ

هل عندك تفسير يهضمه العقل لتلكَ

الواقعة الثابتة ثبوت الشمسْ?

لال                  : (محاولاً تجميع أعصابه)

يا مولايْ..

نحن جنودكَ..

دام سعودكْ..

هذان التقريران – على فرض الصحةِ

في كل المحتويات.. يعتبران دليل براءتنا

من هذي التهمةْ

الملك: ماذا قلتَ? دليل براءتكمْ?!

لال                  : يا مولايْ..

لو أن المسألة بتدبير مني أو أحدِ رجالي

ما تم التنفيذ بزيٍّ رسمِيٍّ

ما لبس الجندي أو الضابط زيًا رسميًا

بل لتخفَّى في زيِّ الناسْ

زي السوقة والدهماءْ

ولما حمل الخنجرَ..

خِنجرنا الموسوم برسم الحرس الرسميِّ

لقائد جيش الشعبْ

الملك: يا لالُ

إن دفاعك هذا مقبولٌ

لو نظر إلى المسألة بنظر سطحيّ

فالقاعدة المتبعة في الإجرامْ

أن يتخفى المجرم في زي غير الزي الأصليِّ

وأن يتشكل في شكل مختلف عما كان عليهْ

هذا منطق كل أثيم عاديِّ التفكيرْ

فإذا ما كان المجرم من نوع محترفٍ

وافي العقل رفيع الخبرةْ..

ارتكب جريمته بالزي العاديِّ

وبالسمتِ المعهودِ

بلا تغيير في الشكل ولا تبديلْ

فإذا ما جُوبه بالتهمةِ

دافع مثل دفاعِكَ:

“هل يعقل أن أرتكب جريمتي بزيِّ رسميٍّ?!

أنا لست غبيًا حتى لا أتخفى أو أتنكر في

شكل آخرْ..”

والمجرمُ في تلك الحال ذكيٌّ

وخبير يعرف أسلوب رجالِ

الأمن إذا ما بحثوا عن مجرمْ

فهمُ يعتمدون على فرض تقليديٍّ مستهلكْ:

وخلاصة هذا الفرضِ:

المجرم يتنكر في زي آخر.. في سمت آخرْ

قد يصبغ شعرهْ.. قد يخفي وجههْ..

قد… قد…

ولذلك يتجه البحث عن المجرم في السمتِ

الأصلي – من وجهة نظر رجال الأمنْ

(وبنبرة فيها سخرية) وأنا أومنُ أومنُ … ب.. ذكاء القائدِ

لال الأعظم.. و… ذكاءِ رجالهْ..

لال                  : يا مولايَ..

جلالتكم تعني أني ورجالي..

الملك: أنا لا أتهم الآنْ

ذلك لا يمكن أن يصبح حقِّي..

من يملك هذا الحق قضاة عَدَلَةْ

وسينبلج الصبحُ لذي عينينْ..

والحقّ…

(يدخل كامي رئيس الحرس الملكي ليعلن)

كامي: مولايْ..

فيلون أمين الحسبة بالبابِ

ويأملُ أن يَمثُل بين يديكمْ

الآنْ

الملك: فليدخل يا تيمونْ

فيلون  (يدخل مفزوعًا متجهم الوجه)

طاب مساؤك يا مولايْ..

وقع الساعة حدث مؤسفْ

الملك: الساعةْ? ماذا?

أمزيد من قتلى..

عند البهو الأبيضِ

وبأيديهم رقع شكاوى?

فيلون.. (ناظرًا إلى لال):

لا.. لا يا مولايْ..

الملك: قل يا فيلونْ

ماذا حدثْ?

ليس هنالك سر يخفى

فيلون: زاهيرا راعي فاح

الملك: زاهيرا راعي فاح??

فيلون: شاهدة الإثبات العاثرةُ

على خنجر حرس القائد لالْ..

وجدت في منزلها مذبوحةْ

الملك: مذبوحةْ??

فيلون: والزوجُ كذلكْ..

وابنهما الأوحَدْ

الملك (غاضبًا وبصوت هائجٍ)

فاض الكيلُ.. وطفَّ الصاعْ

لال (في ارتعاش واضطراب شديد):

يا مولايْ..

أقسم أني ورجالي..

الملك: لا داعيَ للقسم الكاذبْ

لال                  : الكااااذبْ?!

الملك: أو حتى الصادقْ

فالأمر كما قلتُ وما زلتُ أقولُ:

بأيدٍ عادلةٍ رهن التحقيقْ

والعدل سيأخذ مجراهُ

في حزم يأخذ.. مجراهُ

والناس أمام القانونِ سواءْ

السوقةُ والدهماءْ

كالقادةِ والأمراءْ

الكل كأسنان المشطِ

بلا تفريقْ

ستار

المشهد الثاني

(مجموعة الضباط اللاليين في اجتماع عاجل، وهم ستة ضباط بما فيهم رئيسهم القائد لال ونائبه ماني – وهو عين اللاليين على الملك، وبقية الضباط هم: تابي، وجابي، وحابي، وخابي.. وهم جميعًا بملابس عسكرية حديثة)

لال                  : هذا ما دار بنصهْ

أنقله لكمُ بالتفصيلْ

حتى يتأكد لكمُ أن اللاليين – وأنا أولهمْ –

قد أضحوا في حلْق الخطرِ

آهٍ.. قد كنت أمام الملك كفأرٍ محشورٍ

في عنقِ زجاجةْ

والتُّهم توالى وتوالى وتشير إلينا

ماني حضر الموقفَ

واستمع وشاهد ما دارْ

ماني  (ضاحكَا): يا قائد لالٌ لا تنسَ

بأن حضوري غير حضوركَ..

أنتَ حضرت لكي تتلقى سيل التهمِ

لكنَّ حضوري قد كان بصفتي الرسميةِ:

“ماني ذواق القصرِ الملكيّ”

(بعد لحظة صمت)

… لكن يا قائد لالُ

لماذا تنظر للمستقبل من منظارٍ أسودْ

لا تتشاءمْ يا قائدُ

قد تنصلحُ الأحوالْ

لال                 : يا ماني..

لا داعيَ للتهوينِ من الخطرِ

فالتهوينُ من الخطر يعد حماقةْ..

يا ماني

كان تصرفك الطائش سببَ النكبةْ

ماني: نكبةْ??!

لال                 : قد تنزل هذي اللحظةَ

أو هذي الساعةَ

أو هذي الليلةْ

وحياتي وحياتكمُ ستكون الثمنَ

إذا لم نضرب ضربتنا في حزمٍ

وبأقصى سرعةْ

الضابط تابي: ياه.. يا قائدُ

كن متفائلْ

ما زال الأمر بأيدينا..

لم يخرج منها..

ماني (موجهًا كلامه للال)

لكنك يا قائدُ..

صاحب فكرة قتل الشاكين إذا اتجهوا للبهو الأبيضْ

لال                 : أنا لا أكذب هذا صحّ

ماني: وكذلك: لا تنسَ بأنك قلتَ:

يكون القاتلُ منا نحن الستةَ

حفظًا للسرية كاملةً

فتطوعت أنا بسماحة نفسٍ

وبمدفعيَ الرشاشِ قتلتُ التسعة في بضع ثوانٍ

لال                 : أنا لا أعترض على ذلكْ

لكن أعترض على طيشكَ..

ماني: طيشي??!!

لال                 : إذ أصررت على تنفيذ الخطةِ

بالزي الضباطيِّ الأصفرْ

قلت: “تنكر يا ماني في زي الناسِ”

فكان جوابك: “لا يتنكر إلا الجبناءْ”

“يا ماني، أن تتنكر هذا من تكتيك الخطةْ

لا يرتبط بجبن أو يرتبط بجرأةْ”

لكنك لم تسمع لكلامي

فرآك الرجلُ الهارب من أيدينا حتى الآنْ

هذا غير امرأةٍ عثرت بالخنجرْ

خنجرِ حرسي الخاصّ..

ماني: الرجل سنصل إليه قريبًا

والمرأة قد ذبحت بالأمس وأسرتُها

قل لي أين الخطر الداهمُ يا قائدْ?

لال                 : يا ماني.. قتْلُ المرأةِ – إن لم يشعلْ

نار الخطر فقد سعَّرَها

حتى ارتفع لهيبُ النارِ..

ولم يبق هنالك إلا أن نُلقَى فيها

وإذا لم نسرع بالعمل الحاسمِ

فانتظروا الموت قريبًا جدًا

جابي (الضابط) فلنقتحم القصر الملكيَّ

ونقتل فيه الملك وحشمَهْ

لال                 : نزحفُ.. نقتحمُ.. عَالْ

بالزيِّ العادي لكل الناسْ?

أم بالزي الرسمي الأصفرْ?

حابي الضابط: بالزي الرسميِّ.. طبعًا الرسميّ

ليكون العمل يمثل ثورة جيش الشعبِ

لال                  : .. على مَلكِ الشعبْ..

ههْ?!

هل صدقتم أنفسكمْ?

ملك الشعبْ.. هذا صحّ

فجميع الناس يحبونَهْ..

أما جيش الشعب فأمر غير مسلَّمْ

أمر ينكره الشعبُ.. كل الشعبْ

الناس يحبون الملكَ

بقدر الكره البالغ للون الأصفرِ

للضباط بصفة خاصةْ

فإذا ما الناس رأونا نقتحم القصرَ

ونقتل فيه الملك الريانْ

أصبح في حكم المتأكد أنا نحن قتلنا التسعةْ

والمرأة شاهدة الإثباتْ

وكذاك الزوج وولدهما الأوحدْ

ويترجم كره الناس لنا في صورة ثورةْ

ثورة شعب هب ذيادًا عن ملك محبوبْ

ودفاعًا عن حرمات منتهكةْ

ضد الجيش النفعي المتعجرفْ

بل قد ينهضُ من قلب الجيشِ..

من يتحدانا ويقاومنا

والشعبُ معهْ

خابي (الضابط): لا داعي للزي الرسمي إذنْ..

فلنزحف بالزي العادي

زي الناسِ.. كلِّ الناسِ

كأنا ثوارٌ من قلب الشعبْ

لال (ضاحكًا في سخرية): قطعًا ينشكف الأمرُ

لأنا إن نفعل فسنهجم بسلاح الجيشْ

يعني: لن يصعب أن يكتشف الناس الأمرْ

وسيعلم كل الناس بأنا جيش يتنكر في

زي الناس لجبن ولهدف غير نبيلْ

تابي (الضابط): يا قائد هذا فرض محتملُ

لكن ثمة فرضًا عكسيًا لا يُنكرْ..

من يدري?

قد لا يكتشف الناس الأمرْ

لال                 : أنا لم أغفل هذا الفرض فذاك أمرُّ

إذا لم ينكشف الأمرُ

يظن الناس بأن هنالك بعض المرتزقةِ

وجههم أعداء الوطن لقتل الملكِ

وقلب نظام الحكمْ

فيهبون بشكل أضرى يُفدون الملك المحبوبْ

فإذا كنا عشرة آلافٍ

واجهنا من طبقات الشعب مئات ألوفْ

حابي: ماذا لو دُس له السمُّ بأكل أو بشرابْ

خابي: (هاتفًا في بهجة) ماني.. آه.. ماني.. ماني البطلُ

يا عجبًا نغفل عن ماني

ماني ذواق الملك

لا أحدًا غيرك يصلح أن يضطلع بهذا الأمرْ

ماني: وأموت أنا..

بنفس السمّْ

الجميع (في نفس واحد)

أنت تموتْ?

وبنفس السمّْ?

ماني: طبعًا فأنا ذواق طعام الملكِ

وأنا ذواق شراب الملكِ

أتناول شيئًا من كلٍّ قبل جلالتِهِ

حتى يأمن ألا سُمّْ

لال                 : مهما كان الأمر أقولْ:

ما زال السم وسيلتنَا المثلى

في أن نتخلص منْهُ

ماني: يا جنرال لالْ

المثلى أو غير المثلى

غير مهمّْ..

لكن المشكل يتمثل في من يضع السمَّ

بأكل الملك أو بشرابهْ..

واضحْ??

(أصوات مختلطة):

طبعًا ماني..

ليس هنالك غيرك ماني

بطل الأبطالِ أخونا ماني

ماني: بطل الأبطالِ المرحومْ

ههْ?!

أضع السم لهُ

فيبادرني كالعادةِ:

“ذق يا ماني.. ذق يا ماني”

في تلك اللحظةْ

الطاعة كالرفض تمامًا

تعني موتي دون جدالْ

لال (ضاحكًا): لكن ثمة فرقًا لم يلفت نظركَ

بين الطاعة والرفضْ

ماني: صبرًا.. ما فاتتني أبدًا يا قائد لالْ

الطاعة تعني موتي في الحالْ

لكن الرفضَ يؤجل موتي يومًا أو يومينْ

لال                 : بل قل شهرًا أو شهرينْ

ماني: لحين تمام التحقيقِ وصدور الحكمْ

تابي: يا سادةْ:

شيء يؤسف حقًا أن نهدر هذا الوقتَ

بلا ثمنٍ..

وكأنا لا يتهددنا خطر ماحقْ

فذروني أسألُ

هل نحن رجالٌ أم أشباهْ?

هل نحن جنودٌ أم نحن فقدنا روحَ الجنديةْ??

ونسينا أنا ضحينا في الحربِ بعدةٍ آلافٍ

وخرجنا بهزائم منكرةٍ

شخص واحدْ?

وسنجني النصرَ

ونصبح نحن الحكام لأرض النهرِ.. وللأبدِ?

ماني: هذا أجملُ ما قد قيلْ

يا تابي.. فلتتفضل.. ولتتقدمْ

مشكورًا لتؤدي هذا العمل الرائعْ

تابي: لكني لا أملك ذلكْ

فلأنت الذواق الأوحدْ

ماني: لا تحملْ همًا

ستكون مكاني بعد الغدْ

تابي (وقد ظهر عليه الاضطراب الشديد):

ك … ك… ك… كيفَ? كيفْ?

ماني: سأقدمُ طلبًا للملكِ

وفيه أقول بأني ما عدت قديرًا أن أتذوقْ

ولنزلة برد عاتيةٍ

ضعفت عندي القدرة في التمييزْ

حتى ما عدت أميز بين الحلو وبين الحريفْ

لال (مبتسمًا): سيقول الملكُ:

“ومن لي بخبير مثلك يا ماني”?

ماني: سأجيب على الفورِ بسرعةْ

يا مولاي – ودمتْ

في الجيش بديل خيرٌ مني

قد ورث الذوق طعامًا وشرابًا

بل مشموماتٍ عن أجدادهْ

هيه ما رأيكْ?

تابي (باضطراب):

بصراحةْ..

أنا لا أصلح أبدًا كبديل لأخي ماني

أ.. أ.. أ… أنا لا أصلحْ

ماني: أرأيتمْ?

كل منا يحرص أن يجني الثمرةْ

ويريد الثمرة ناضجة دانية دون عناءْ

يا سادةْ:

الثمرة حتى تنضج تحتاج غذاءْ

من منكم يقبل أن يصبح للأرض سمادًا?

من منكم يرضى أن يصبح للثمر غذاءْ?

(الكل يسكت.. ويحاول بعضهم أن يشغل نفسه ببعض الأوراق…)

من منكم يأتي ليكون بديلي “ذواق الملكِ”?

– وأنا أكفل تعيينَهْ –

كي يضع السم ويأكل منهْ?

(سكوت مطبق)

لال                 : فلنعرض عن هذي الخطةْ

ولنبحث عن خططٍ أخرى

في ضوء الفرص المحتملةْ

(يدخل أحد الضباط من عيون لال على الملك)

لال                 : ما آخر أخبارك يا شينونْ?

شينون: في فجر اليوم القادمِ

سيقوم الملك برحلةِ صيدٍ

في أحراش “رباشو” العليا

لال (في بهجة ظاهرة): الآنَ.. الآن فقط نجحت خطتنا

شكرًا.. شكرًا يا ماني

ماني: ماني? ماني? ماذا يفعل ماني?

لال                 : فرجت يا ماني..

ستؤدي العمل على أكمل وجهْ

ماني: ماذا?

لال                 : وتعيشْ..

ماني: لم أفهمْ

لال                 : ستدس السمَّ ولن تلمسه شفتاكْ

ماني: ولساني?

لال                 : ولسانكْ

ماني: لم أفهمْ

لال                  : يا ماني ما زالت تنقصك الخبرةْ

لا أدري كيف يفوتك أن الملكَ

إذا قام برحلة صيدٍ

لا يأكل في الرحلةِ غير التفاحْ

لا يأكل لحمًا أو خبزًا أو أرزًا أو شيئًا مطبوخًا

التفاح فحسب طعامُ مليكك في الرِّحْلاتْ

ماني: لم أفهم ماذا تعني..!!

لال                 : الآن ستفهمْ:

المعروف أنك لا تتذوق شيئًا من هذا التفاح

لن يأمرك الملك بأن تقضم قضمةْ

ولأن التفاحة مغلقةٌ

لا يخطر في الذهن بأن التفاحة مسمومةْ

ماني: أضع السم بتفاحةْ?

هل أفلقها وأرش الباطن بالسمّْ?

وأقوم بلصق الشطرينِ

وأقدمُها للملك ليأكلها?

أم ماذا يا قائد لالْ?

لال (ضاحكًا): آه… تحبُو

تحبو يا ماني في ميدان التخطيطْ

ما زالت تنقصك الخبرات الكبرى للمتآمرْ

ماني: أحبو? خبراتْ?

هل حتى أغدو كالخبراءِ

أسلم عنقي للمشنقةِ

بحمقي وغبائي??!!

لال                 : يا ماني.. التحقين.. التحقينْ

تحقين التفاحة أعني

وتكون الإبرة جدّ رفيعةْ

ودقيقةْ

فإذا ما تم التحقين سيسري السمُّ

إلى باطنها

والسطح الظاهر منها لن يخدشْ

ماني: يا قائد لالْ

من عجب أنك تفرض أن الملك سيأكلُ

واحدة لا أكثرْ

مع أن الملك شغوف بالتفاحْ

يأكل خمسًا أو ستًا في المرةْ

لال                 : هذا معروفٌ لي

لا أجهلُهُ

وعملت حسابهْ

ماني: ما معنى هذا..?

هل أحقن ستًا أو سبعًا?

لال                 : بل واحدة.. ناضجة.. لامعةً

لافتة للنظرِ

واحدة لا غيرْ..

ماني: افرض أن الملك تناول كل التفاحَ

وترك المسمومةْ

لال                 : لا بأسَ..

تُقدَّم في مرات أخرى.. في وجباتٍ أخرى

في نفس الرحلةْ

ماني: (يفكر في عمق والعيون كلها معلقة به، ثم يصيح فجأة…)

لكن ثمة شيء فاتكَ يا قائدْ..

ماذا أفعل لو أن جلالته أمر بأن أقضم قضمةْ?

لال                 : يا ماني هذا لم يحدثْ

وأقول كذلك لن يحدثْ

فجلالته لا يفعل ذلك في الرحلاتْ

ماني: لكن لو حدثَ?

خابي: طبعًا ترفضْ..

لال (في غضب): يرفض ماذا يا خابي?

هذا أمر يصدر من ملك لا من سوقةْ

فعلى ماني أن يصدع بالأمرْ

ماني: أصدع بالأمر.. وأصبح ذكرى

.. مثلاً أعلى للتضحيةِ..

فلماذا..?

لال (مقاطعًا): صبرًا ماني..

بل تقضمها.. وتعيش..

ماني: المسمومةْ??

لال                 : المسمومةْ..

تقضم جزءًا سطحيًا منها

لا تتعمق بنيوبك في التفاحةْ

فالخطر القاتل في الوسطِ..

وسط التفاحةِ

في الجزء المحقونْ

(تختلط أصوات الإعجاب بين العبارات الآتية)

عاش القائد لالُ

أبو التفكيرِ..

أبو التخطيطِ..

أبو التدبيرِ..

جابي: يا سادةْ

إنا للأسف نسينا يوسفْ

سيكون الخطر الأكبر بعد الملكِ

تابي: نقتلهُ

حابي: نسجنهُ

لن يوجد من يدفع عنهُ

بعد هلاك الملكْ

لال                 : بل سيكون هناك الشعبْ

أن يقتل يوسف بعد الملكِ

– مهما كان التدبير حكيمًا –

يدفع كل الدهماء إلى القولِ

بأن “اللاليين” وهم أعداءُ

الشعب – قتلوا الملكَ

وقتلوا يوسفْ

ماني (مقاطعًا لال): لكن يا “لال الأعظم” يوسفُ..

لال                 : صبرًا ماني…

أنا لم أكملْ..

قتل الصديق يؤكد ظنَّ الناسِ

بأن الملك اغتيلْ..

وينفي ما نزعمهُ

من أن الموت أتاه طبيعيًا

فيكون الطوفانُ

وقد لا نصمدُ..

بل لن نصمدْ

تابي: لكنْ..

هل نترك يوسف ينشر في الناس سمومًا

تُدْعَى بالعدلِ..

وبالتوحيدِ..

وبالشورى..

وإلى آخره من تخريفاتٍ وهُراءْ?

جابي (ناظرًا إلى تابي):

اسمع يا تابي

فلنترك هذا الرأي الآنْ

ما رأي المجلس في أن نفجع يوسف في

زوجته أسنات بنت الكاهن فوطى?

خابي: أو في ولديه:

أفرايم ومنَسَّى

حابي: أو نأخذ أحدهما كرهينةْ

حتى يستسلم لمطالبنا

ماني (موجهًا كلامه للال الذي كان مطرقًا برأسه، وقد بدا على وجهه أمارات الضيق والامتعاض):

ما رأي القائد لال الأعظمْ?

لال                 : ما زلتم تَحبُون.. وتحْبُونْ..

في ميدان أكبر منكمْ

بكثير – حقًا – أكبر منكمْ

الجميع (في أصوات مختلطة):

نحبو…?

نحبو?

في ميدانٍ أكبر منا?

كيف? .. كيف..?

لال                 : يا سادة..

حبُّ الناسِ لأسناتِ ابنةِ فُوطى

زوجة يوسفْ

وكذلك حبُّ الناس لولديهِ

أفرايم ومنسى

ينبع من حب الناس ليوسفْ:

عاطفة حَرَّى لا تتجزأْ

ماني: ما الحل إذنْ?

قولك هذا ليس بحلْ..

بل يجعل حيرتنا أعتى

لال                  : يا ماني

لا تهرب من حقِّ مُرٍّ

لا نسطيعُ مواجهتهْ

وخلاصتهُ:

يوسف وكذلك أسرتُهُ

الشعبُ يعيشهمُ حبًا

والناس على استعداد كاملْ

أن يفدوا كلاً منهم بالأرواحْ

ولذلك كان دهاء العاقلِ

خير سلاح في هذا الموقفْ

والداهية الناضج من

وزع ضرباتِهْ

واختار الزمن الأنسبْ

فلكل زمان ضربتُهُ

ولكل زمان أسلوبهْ

تابي: ماذا يعني هذا

في موقفنا من يوسفْ?

لال               (مستمرًا في حديثه غير ملتفت لتابي):

وسيبقى الصديقُ

أمينًا وحفيظًا

لخزائن بيت المالْ

حتى أنضجَ تدبيري..

فتكون الضربة في الزمن الأنسبْ

(يتقدم إلى المسرح مواجهًا النظارة وهو يضغط على أسنانه بشدة)

وسيأتي يوُمك يا يوسفْ

وسيأتي يومك يا يوسفْ

المشهد الثالث

(المنظر: شوارع العاصمة، والناس يذهبون ويجيئون من فئات مختلفة بشكل عادي.. وفجأة تسمع من الإذاعة مارشات عسكرية.. ويبدأ الناس في سيرهم ويتجهون بأنظارهم ناحية صوت الإذاعة.. ثم تتوقف المارشات، ويسمع صوت المذيع)

– يا أمة النهر العظمى

بعد قليل تستمعون للالِ الأعظمِ

يلقي كلمةْ

بعد قليل لال الأعظمُ يلقي كلمةْ

(مارشات عسكرية من جديد.. ويبدأ الجمهور يتوقف في مجموعات صغيرة.. ويدور لغط وحوار بين أفراد كل مجموعة ويخف صوت المارشات العسكرية أثناء الحوار…)

مواطن 1: لال الأصفر يتحدث للناس لأول مرةْ!!!

مواطن 2: يظهر أن هنالك أمرًا جللاً

مواطن 1: أمرًا جللاً?

مواطن 2: أعني كارثةً وقعتْ..

(مجموعة أخرى فيها شاب ورجل عجوز)

الشاب: لا يعقل هذا..

لال الأصفر لا يمكن أن يحملَ وجهًا للخيرْ

الشيخ: يا ولدي لا تحكم بالظن على الناسِ

فمن يدري…?

الشاب: يا عمي هذا الرجل لئيم المظهر والمخبرْ

ثالث: يا مولانا..

جُرْمُ اللاليين يدل عليهمْ

(تتوقف المارشات، وينصت الناس باهتمام لصوت المذيع…)

– يا أمة أرض النهر العظمى

فلتستمعوا لبيان القائد لال الأعظمْ

(يبدأ لال حديثه بصوت متهدج يبدو فيه التأثر، وتعلو نبرته وتقوى بعد ذلك تدريجيًا…)

يا أمة أرضِ النهر العظمى

يا صانعة المجد ورائدةً في كل مجالْ

يا من علمت الأجيالَ

وفقْتِ الأمم علومًا وفنونًا

يحزنني أن أنعى للشعب الطيبِ

خير مليك في تاريخ الشعبْ

(يتحول صمت الناس إلى أصوات مختلطة من صرخات وآهات وكلمات غير مفهومة، وهمهمات، ثم يعود الصمت تدريجيًا، ويبقى لال مستمرًا في خطابه دون انقطاع …).

مات الملك حبيبُ الشعبِ

نصيرُ الشعبِ

ملاذُ الشعبْ

وافته منيته وهو برحلة صيدٍ

في أحراش رباشو العليا

واأسفاهْ

سكت القلب الذهبيُّ الأبوي إلى الأبدِ

ولأن وليَّ العهد صغير السنّْ

ولأن الوطن يهدده الأعداء دوامًا

في الداخل والخارجْ

ولأنا نخشى أن ينتهز الأعداء الفرصةَ

فرصةَ موت الملك المحبوبْ

فيدوسوا أرض الوطنِ

وينتهكوا حرماتهْ

قررنا أن يتولى حكم الوطن الغالي

مجلس ضباط من ستة:

هم كالآتي:

لال الأعظم: رأس المجلسْ

والباقي أعضاء المجلسِ:

جنرال ماني: ذواق الملك المرحومْ

جنرال تابي: قائد آليات الجيشْ

جنرال جابي: مسؤول مشاة الجيشْ

جنرال حابي: مسؤول التموين بجيش الشعبْ

جنرال خابي: أستاذ الحرب الكيماويةْ

عاش الشعب ومجلسه الحاكمْ

(تعود المارشات العسكرية ثم تخف تدريجيًا، والناس يروحون ويجيئون في اضطراب، وقد بدا على وجوههم الحزن والأسى.. وتدور بينهم الحوارات الآتية):

رجل 1: واحزناهْ..

لكني لا أدري واللهِ

هل أحزن من أجل ممات الملك المحبوبْ

أم أحزن للوطن المنكوبْ

إذ يحكمه لال وعصابتهْ?

رجل 2: اليوم بداية عهد الظلمْ

رجل 3: لا.. ليس بدايةْ

بل ذاك استمرار دائمْ

للظلمِ العاتي لا ينقطعُ

فالظلم على لال وعصابته ليس جديدًا

رجل 4: لكن ثمة فرقٌ بين الظلم المستترِ

وظلم علني مشروعْ

رجل 2: هل ثمة ظلم مشروعْ

رجل 4: مشروع طبعًا من وجهة نظر اللاليينْ

ظلمٌ يستند لتشريعات وقوانينْ

ويصاغ قواعد ولوائحْ

ولكي يقبله الناس ويقتنعوا

يسنده فقهاءُ العارْ

وكتاب السلطان الشيطانِ

بتفسيراتٍ

وبتأويلاتٍ

وبتبريراتْ

(وينتقل الحوار إلى جماعة أخرى…)

الأول               : لكن أصحيح مات الملك بشكل طبعي فجأةْ?

الشك يخامرني واللهِ

الثاني: وأنا أعتقدُ بموت الملك قتيلاً

… مات شهيدًا …

الثالث: لا تستبعدْ..

لال واللاليون بطبعهمُ غدارون وخونةْ

الرابع: من أجل الحكم وأجل المالْ

يلغون القيم العليا والأخلاقْ

الأول             : عليا?

يا سيدُ…

ليس هنالك في معجم لال وعصابتِهِ

أية قيم.. عليا.. أو وسطى…

أو حتى سفلى..

الحد الأدنى من أخلاق السوقة حرموا منهْ

(حوار بين جماعة ثالثة)

رقم 1: هل يسكت شعب النهر على هذا?

رقم 2: وهنالك ما يدعو حقًا للدهشةْ:

القول بأن ولي العهد صغير السن وغير رشيدٍ

هذا صحّْ…

لكن الصديق رشيدٌ

وأمينٌ

وحفيظٌ

وعليمْ

رقم 3: والملك بحق كان يجل مقامهْ

رقم 4: ويرى فيه الأمل الوافي

رقم 1: أنقذ أمة أرض النهر من الجوع القاتلِ

في سنوات الجدبْ

فلماذا لم يتولَّ زمام الحكمِ

وليس هنالك خيرٌ منهْ?

رقم 2: وله في أعماق الناسِ

رصيد من حب لا ينفدْ

رقم 3: بل قل ولماذا لم يخترْ

عضوًا في المجلسْ?

رقم 4: هذا أيسرُ ما كان يجبْ

رقم 1: لو حدثَ لرفض الصديقْ

ما اجتمع الطهر مع الخبثِ

لا تجمع كفٌّ بين الماءِ وبين النارْ

رقم 2: يوسف ماء رقراق طاهرُ

يروي العطشى..

يحيي الأرض القاحلة الميتةْ

رقم 1: أما لالٌ وعصابتهُ

فنارٌ تأكلْ

تتسعر دومًا

بوقود من مال الشعب وأعراض الناسْ

(مارشات عسكرية.. يصمت الناس كأن على رءوسهم الطير.. ويسمع صوت المذيع..)

المذيع: يا أمة أرض النهر العظمى..

يسعدنا لال الأعظمُ

ببيان ثانٍ بعد دقيقةْ..

(مارش عسكري ثم المذيع)

المذيع: وإليكم يا سادة لال الأعظمْ

لال                 : يا أمة أرض النهر العظمى

انتهز الأعداء الفرصةْ

فرصة موت الملك المحبوبْ

وأعدوا العدة والجندْ

وحشودًا لا تحصى عددًا

كيما ينقضّوا بالغدرِ

على الوطن الغالي

والشيء المؤسف حقًا

أن هنالك طابورًا خامسْ

ما فتئ يشيع المفترياتِ

وينشر بين الناس سمومهْ

وينال من الجيش وقوادِه

وهمُ رمز الأمة في سلم أو حربْ

ولذلك قرر مجلسنا

في جلسته عصر اليومْ:

قرار أول: يحظر أن ينطق فردٌ

أكثر من كلماتٍ مئةٍ في اليوم الواحدْ

قرار ثانٍ: الكلمة إن زادت عن مئة ٍ

يدفع بمقابلها درهمْ..

لكن لا يسمح للفرد بأكثر من

عشرة آلاف الكلمةِ في الشهرْ

والثالث مما قررنا: يصلب حيًا من خالف ذلكَ

وتجاوز عشرة آلاف الكلمة في الشهرْ

عاش الشعب ومجلسه الحاكمْ

(مارشات عسكرية ويزيد اللغط بين الناس، وتبدو منهم إشارات وحركات تدلل على الغضب والحزن والرفض…)

مواطن 1:… هذا أبشع ألوان الظلمْ..

مواطن 2: بدأ اللاليون مسلسل قهر لن ينتهي

مواطن 3: بل في يدنا أن ينتهي بأقصى سرعةْ

… لو أن الشعب تحدى الظالمَ

ما قامت في الأرض مظالمْ

مواطن 1: لكني لم أفهم هل يضع اللاليونَ

رقيبًا يتبع كل مواطنْ

ليسجلَ ما ينطق بهْ

(مارش عسكري… ينصت الناس ثم يأتي صوت المذيع):

يا أمتنا العظمى

هذا آخر ما جاء إلينا من لال الأعظمْ:

باسم الشعب وباسم اللاليينْ

نعلن للأمة ما يأتي:

يتساءل كل الناسِ

وكيف يتم التسجيلْ

وإليكم كلَّ التفصيلْ

سيسلم قسمُ الشرطةِ

للشخص الساكن في دائرتهْ

عدَّادًا يدعى “التَّسْجليونْ”

تمنحه الدولة مجانًا

ويعلق في عنق الشخص بإحكامٍ

حتى يحصي كل الكلماتْ

فإذا ما وصل الشخص إلى مئة الكلمة في اليومْ

أنذره جهاز التسجليون بصوت وبضوءْ

والكلمة إن زادت عن مئةٍ

يحسبها التسجليون بدرهمْ

والمفتاح بقسم الشرطة محفوظْ

لا يمكن فتح التسجليون بغيرهْ

وعلى كل منكم أن يتجه لقسم الشرطةِ

في آخر يوم في الشهرِ

كي يكشف عن عدادهْ

ويسدد ثمن الكلمات الزائدة على المئةِ

لكن في كل الحالاتِ

يُصلب حيًا من يتجاوز عشرة آلاف الكلمة في الشهرْ

وسيعفى من حَمْلِ جهاز التسجليونِ

رجالُ الجيشْ

ورجال الشرطةِ

ورجال الرتب العليا بمصالحنا المختلفةْ

هذا…

وهنالك من باب الكرمِ وباب الرحمةِ

قررنا الآتي:

يُعفى من حمل جهاز التسجليونِ

الصمُّ البكم من الناسْ

يعفى من حمل جهاز التسجليونْ

أطفالُ الأمة ممن لم يتجاوزْ

عامين من العمرْ

لا يحتسب على شخصٍ

ما قد يصدر عنه من الآهاتِ

أو الأناتِ

أو الصرخاتْ

مما لا يحمل معنى غير التعبيرِ

عن الإحساس بحزن أو فرحْ

عاش الشعب ومجلسه الحاكمْ

(مارشات عسكرية.. ويزيد اللغط بين الناس)

مواطن 1: لا حول ولا قوة إلا باللهْ

مواطن 2: هذا يعني أن تبقى أعناق الأمةِ

في الأطواق إلى الأبدِ

مواطن 3: أطواقٌ تدعى “التسجليونْ”

لا يخلعها إلا الموتْ

مواطن 4: لكن ما الحكمة من ذلك يا لال الأصفرْ?

(مارشات عسكرية ثم صوت المذيع…)

يا شعبَ الوطنِ الأعظمْ:

لال الأعظم يسعدكم بحديثٍ آخرْ

لال                 : يا أمة أرض النهرْ

يا أمة أمجاد التاريخْ

يا وطن العِلم ووطن النورِ

وأرض النصرْ

قال الحكماءُ:

“إن كان كلام الإنسان يقدر بالفضةِ

فسكوتُ الإنسان يقدَّرُ بالذهبِ”

وليعلم كل مواطنْ

أن المصلحة العليا كانت رائدَنا

فيما قررنا

فالصمتُ فضيلةْ

والثرثرة ضياع للوقت وإهدار للطاقةْ

مما يضعف من إنتاج قوى الشعب العاملِ

في شتى جبهات الإنتاجْ

هذا…

والثرثرة تمكن للطابور الخامسِ

أن يلتقط المعلوماتِ من الأفواهِ

لينقلها لعدو الأمةْ

يا شعبَ الوطن المنصورْ

قد يعترض المعترضونَ

بما يدعى “كبْتا” أو “حجْرًا”

مفروضًا كالقيد على حق التعبيرْ

فليعلم أعداءُ الأمةِ

في الداخل والخارجْ

أنا قد أطلقنا حق التعبيرِ

بدون قيود أو تحديد أو

إحصاء من قنوات شرعيةْ

تتلخص فيما يأتي:

الضحكاتْ

والآهاتْ

والصرخاتْ

هذا غير استخدام الأيدي والأعينْ

بإشارات أو غمزاتْ

هذا…

ولقد أنفقتُ من العمرِ سنينًا عددًا

في استخلاص عصارة فكري

من أجل الأمةْ

وتبلور فكري هذا في فلسفةٍ

صيغت في هذي الكتبِ:

“الصمت الأبيضْ”

“الصمتُ الثوريُّ الباني”

“الصمت الذهبيُّ ينادِي”

ولفائدة الأمةِ

أصدرتُ أوامرنا

أن يُعطى الحق لكل مواطنْ

أن يقتني الكتب المذكورة مجانًا

بتسلمها من قسم الشرطة في دائرتهْ

رفق جهاز التسجليونْ

هل ثمة ما يدعى حريةْ

أزهى من تلك الحريةْ?

لا تستمعوا للأعداءْ

عاش الشعب وعاش القادةْ

(مارشات عسكرية تخف تدريجيًا ويسمع الحوار التالي)

مواطن 1: ما هذا الكرم الفياضْ?

مواطن 2: لال الأصفر يمنح شعب النهرِ

حقوقًا إنسانيةْ

ما عرفتها أمم قبلُ

مواطن 3: حق الضحكةِ

حق الآهةِ

حق الصرخةِ

حق الغمزةْ

هل هذي حرية تعبيرٍ

يا لال الأصفرْ?

مواطن 4: هل يهدف لال الأصفر واللاليونَ

إلى أن ننسى شكل النطقِ

فنصبح صُمًا بكمًا كالأنعامْ?

مواطن 1: أي واللهْ

وبذلك يعفى من يبلغ هذي الدرجةَ

من حمل جهاز التسجليونْ

مواطن 2: من يدري?!

قد نصبح شعبًا يوصله الصمتُ

أو الآهات أو الصرخاتُ

إلى حالِ جنونٍ منكودْ

مواطن 3: ستعودُ سنين الجدبِ

ولكن في شكل آخرْ..

.. جدب العقلِ..

وجدب النفسِ

وجدب الروحْ

مواطن 4: ما عادَ لَها إلا يوسفْ

مواطن 1: يا يوسف أدركنا

يا من أنقذ أمتنا في الماضي

من جدبٍ مُهلكْ

أنقذنا من جدب العقلِ

وجدب النفسِ..

وجدب الروحِ..

وظلم الحكام اللعنةْ

مواطن 2: يا يوسف أدركنا

المواطنون: 1، 2، 3، 4 (في نفس واحد)

يا يوسف أدركنا

ما عاد لها إلا أنتْ

(إنشاد جماعي للمجموعات المختلفة على المسرح، وهي ترفع أيديها، وأبصارها متطلعة إلى الأفق تناشد وتناجي يوسف الذي لا يظهر على المسرح…).

يا يوسف أقدم أدركنا

يا يوسف لا تبعد عنا

يا يوسفُ إنا قد هُنَّا

والحاكم أخرس ألسُنَنَا

والقهر يغشِّى أعيننا

والحر غريب في وطنهْ

والشعب غريق في شَجَنِهْ

يبكي أطلال الحريةْ

ودماء القيم النبويةْ

فتعالَ بربك أدركنا

يا يوسف لا تبعد عنا

وتعال بربك أنقذنا

من لال الظلم وعصبتهِ

ورقابتهم.. ورقابته

فالظلم الملعون يسودُ

ولأنت الأمل المنشودُ

والنصر بعدلِك معقودُ

يا يوسف أقدم أدركنا

وتعال بربك أنقذنا

يا يوسف أقدم أدركنا

وتعال بربك أنقذنا

يا يوسف لا تبعدْ.. عنا

(يخف الإنشاد تدريجيًا مع إسدال الستار)

ستار

المشهد الرابع

(المنظر قاعة الاجتماعات العسكرية الكبرى، وقد عقد اللاليون فيها اجتماعًا، يتصدر الاجتماع السداسي لال الأصفر.. وعند باب القاعة يقف حارسان ومع كل منهما مدفع رشاش، وأمام كل واحد من الستة أوراق وقلم. وهم جميعًا يلبسون الملابس العسكرية الحديثة)

لال                  : يا حضراتْ..

هذا آخر تقرير يصل إليّ من استخبارات الدولةِ

بعد ممات الملك الريانْ

تابي: قطعًا فيه بشارةُ خيرْ

لال                  : بل فيه نذيرٌ أسودْ

وأمورٌ مقلقةٌ للغايةْ

التقرير يقول: “الناس صحيح قد رضخُوا لأوامرنا..”

جابي: ورأيت الناس جميعًا بالتسجليونْ

وأنا بطريقي كي ألقاكمْ..

لال                 : هذا صحّْ

الطاعة عند الناس جميعًا ملموسةْ

لا ينكرها ذو عينينْ

لكنَّ الأعماق تمورُ بنارٍ

قد ينفجرُ لظاها في أية لحظةْ

ماني: من ثم علينا أن نتسلح بالحذر الدائمْ

لال                 : (وهو ينظر في أوراق أمامه)

التقرير يقول: “هَزِئَ الناسُ

بما كتب الفقهاءُ اللاليونَ وكتّابُ السلطةِ

تبريرًا لقرارات المجلسْ

وتجرَّأَ بعضُ الناسِ على حُرمةِ كتبي

“الصمت الأبيض” و”الصمت الثوري الباني”

و”الصمت الذهبي ينادي”

شيء مذهلْ

… رجل سوقي ربط كتابي الأول في رِجْلَي كلبٍ ضالّ

والثاني في عنق الكلبْ

والثالث بعجيزتِهِ

ومشى الكلب ينوء بأسفاري

لا يدري ماذا يفعلُ

لكن – فجأه – (هذا ما ذكر التقرير)

.. انقضت كل كلاب الحي على الكلبِ

والتهمت.. كتبي في لحظاتْ

لم تترك إلا أغلفةَ الكتبِ

حابي: ولماذا أغلفة الكتبِ?

لال                 : كي تتشرب مرقَ اللحمْ

الجميع في نفس واحد:

مرقَ اللحمْ??!!

لال                 : التقريرُ يقول:

“قد كان الرجل ذكيًا للغايةْ

فسقى أوراقَ الكتبِ بمرقٍ ودهونْ

مما جعل كلابَ الحي تظن الكتبَ

طعامًا دسمًا فالتهمتها..

خابي: طبعًا ضحك الناسْ

لال (ناظرًا لخابي):

بل سخروا

(ثم ناظرًا في التقرير)

“هتف الهاتف منهم: (ذلك مكتوب في التقرير)

“فكرُكَ يا لالُ الكلبُ

طعامُ لكلابِ الأرضْ”

وهنالك أيضًا من قال:

أفكارُ اللاليين تعيشُ بأمعاءِ كلابِ الحيّْ

وستخرج فضلاتٍ.. أوساخًا من..”.

والباقي لن أقرأُه..

كلمات لا تصدر إلا من إنسان قذرٍ

جابي: فلماذا لم يُلق رجالُ الأمن القبضَ

على من فعلَ وقالَ..

ويُلقوا في السجن إلى الأبدِ?

لال                 : (مبتسمًا في تعالٍ وكبرياءْ):

القبض?.. السجن إلى الأبدِ?

يا جابي إنك رجل طيبْ…

قُبِضَ عليهم..

وهمُ الآن بأمعاء كلاب السجن طعامٌ طيبْ..

أغرقناهم مرقًا ودهونًا

كانوا مأدبةً لكلابِ السجنِ عظيمةْ

تابي: هذا صحّْ..

من جنس العمل يكون جزاءُ المجرمْ

لال                 : والآن علينا أن ننظرَ…

(يدخل أحد الحراس ويعلن..)

الصديق.. يوسف بالباب يريد ال..

(الجميع في نفس واحد مبهورين…): يوسف??!!

(تتداخل الأصوات  وتختلط…)

يدخل…

لا… لا.. يدخل..

يدخل.. ولماذا?

بل دعه…

الجلسة مغلقة.. لا يدخل..

(لال ضاربًا على المنضدة بيده..)

بل يدخلُ..

ويعاملُ خيرَ معاملةٍ

(ينظر إليه الجميع باستغراب مما ينم على استهجانهم لهذا التصرف)

(يدخل يوسف مسرعًا في حلة إفرنجية حديثة كزي الوزراء في عصرنا.. ويصيح في غضب)

ما هذا يا سادةْ??!

من أعطاكم هذي السلطةَ

لتذلوا خلق اللهِ

ويعيشوا في درْك أسفلَ من درك الحيوانْ?

لال                 : يا يوسف مات الملك الريانُ

فهل يعقل أن يتركَ وطن النهر بلا حاكمْ?!

يوسف: مات الملك الريان.. فُجَاءةْ

في رحلة صيد مات فجاءةْ!!

شيء عجبٌ!!

لال                 : ما هذا يا يوسف.. يا صديقْ??

هل تنكر أن العمرَ كتابٌ لا يتقدم ثانيةً أو يتأخرْ?

هل تنكر قدرةَ خالقنا أن يهلك فردًا

أو أفرادًا

أو حتى كل الأحياء في غمضةِ عينٍ

أنَّى شاءَ وأيَّانَ يريدْ?

يوسف: ما شاءَ اللهْ

وفقيه أيضًا يا قائدْ?

في غمضة عين يقضي الملكُ..

هذا حقٌّ

لكن مسمومًا يا قائدْ

الجميع: مسمومًا? كيفْ?

يوسف (ناظرًا لماني):

فليسأل ذوَّاق الملكِ

أمهرُ حاقنْ

ماني (في اضطراب شديد وهو واقف وقد تخلى عن مقعده):

ماذا تعني يا صديقْ?

هل يعقل أن أحقن أكبر تفاحةْ?

يوسف: من أدراك بأن المحقونة تفاحةْ?

قل لي:

من أدراك كذلك أنَّ المحقونة بالسم هي الكبرى?

قد صدق عليك المثل القائلْ

“ويكاد الجاني يهتف خذني”

ماني: لا.. الواقع أني.. أني..

يوسف: أنك ماذا يا … ماني?

(ويزيد صوته ارتفاعًا وحدة..)

ماني.. أنك ماذا.. يا.. ماني?

(يزيد اضطراب ماني.. وينظر إلى لال فيسرع لال بالتدخل…)

لال                 : يا يوسف.. لا شاهدَ يثبت ما تزعمْ

يوسف: (وقد اتجهت كل الأنظار إليه)

بل عندي الشاهدُ يا سادةْ

(الجميع ما عدا لال وماني)

الشاهدُ? الشاهد منْ?

يوسف: بل قولوا:

“ما” لا “منْ”?

فالشاهدُ حيوانٌ أعجمْ

صقرٌ لا يتكلم يا سادةْ

لكن شهادته كانت أبلغُ

من نطقِ الإنسانْ

لال                 : هل تأخذ بشهادة صقرٍ

لا ينطق أو يعقلْ?

يوسف: لما ماتَ غدا أصدق شاهدْ

لال                 : أفيؤخذ بشهادة ميتْ?

يوسف: لولا الموتُ لما صحَّت منه شهادةْ

(اختلاط وتداخل في الأصوات الصادرة من اللاليين)

– ما هذا?

– ألغاز في ألغازْ

– يا يوسف يكفيك أحاجٍ..

– لا وقت لهذا الهزل المرفوضْ

يوسف: ما أنا بالهازل والملغزْ..

أكل الملك الناضجة الكبرى

من تفاحٍ قدَّمه ماني في طبق. لم تمض دقيقةْ

حتى ترك التفاح، وهرول لتفقد أعلاف الخيلِ

… – كما يزعم –

.. وأسائل نفسي وأسائلكم:

.. هل عُيِّنَ ماني ذواقًا لطعام الملكِ

أم ذواقًا لطعام الخيل الملكيِّ

من تبن أو فول أو برسيمْ?

ماني: (في غضب) هذا – يا يوسف – شرُّ إهانةْ

أنا لا يمكن أن أقبل هذا..

وأضيف إلى ذلكَ..

يوسف (مقاطعًا): دعنا من هذا الآنْ..

لنعود إلى أصل الموضوعْ

أكل الملك وقدم للصقر الشاهين شريحةْ

كانت هي كل الباقي من كل التفاحةْ

جزءٌ في حجم العقلة من إصبع.. جزءٌ من وسط التفاحةْ

(وفي صوت متهدج) رحم الله الملك الريانْ

ورحم الله الصقر الشاهينَ

قَضَى من بعد الملك بخمس دقائقْ

قال الناس: الطائر أكثر إخلاصًا ووفاءً

من إنسانْ..

ظنوا الشاهين قضى حزنًا وأسًى

من أجل الملك الريانْ

لكن الواقع أن الصقر قضى مسمومًا

ماني: هذا كذبٌ لا يُعقلْ

يوسف: يوسف لا يكذب يا ماني

ودليلُ الصدقِ بقية وسط التفاحةِ

في قاع المنقارْ..

منقار الصقرِ الميتْ

ماني (في اضطراب)

بقية وسط التفاحةْ?

أين .. أين هيَ?

(يوسف يخرج من جيبه لفافة صغيرة في حجم عقلة الإصبع، ويرفعها في وجه ماني)

ها هِي ذي..

لو كنتَ بريئًا فلتأكلها

(ترتفع حدة صوته)

كلْها.. كلْها.. يا ماني..

يا أبرعَ من يحقنُ تفاحًا

(يزداد اضطراب ماني وارتعاشه.. وينظر إلى لال وزملائه نظرات المستجير)

يا يوسف.. ترغب في قتلي?

يوسف: أنا أكره للدم أن يسفكَ

حتى لو كانَ دمًا كذبًا

أنا أجنحُ – يعلم ربي – نحوَ العفوِ

وأكظم غيظي

وأُوَالِي الإحسانَ إلى من حَمَلَ عليَّ

وآذاني

وليسأل من ألقوني بغيابةِ

جب الصحراءِ

لو كنتُ أريد القتل لسلَّطتُ

الشعب عليكمْ

لال                 : هل تأخذ بالظن وأنتَ الداعي

أن يتثبت كل الناسْ

ولا يتهموا غيرهمُ إلا بدليل قاطعْ?

يوسف: أجزم أن الشاهينَ

قضى من سم التفاحةْ

إذ لم يأكل شيئًا غير جزيءٍ

من جزء قدمه الملك المرحوم لصقرهْ

والملك الطيب مات بُعيد تناوله التفاحةْ

ورأينا ماني – وهْوَ الذواقةُ

يرفض أن يأكل هذا الجزء المتروكَ

من التفاحةْ

يا سادةُ.. يا قادة هذا الوطنِ المسكينْ

فنحن أمام ثلاثِ قرائن تجعل ظن الناس رجيحًا

ماني (الذي بدأ يتجه إلى مقعده، ويستجمع بعض أعصابه)

– ظنهمُ فيمَ..?

يوسف: ظنهم أن الملك الريان قضى

بالسم اللاليِّ الملعونْ

لال                 : ورأيك أنتْ?

يوسف: رأيي أن الناس على حقٍّ

فيما ظنوا..

لكن القاضي لا يحكم مستندًا

لشعور نفسيٍّ

أو ظن حتى لو كان رجيحًا

لال                 : فلماذا لا تقترح التشريحْ..

تشريح الجثمان الملكيّْ??!

ذلك شيء يمكن حتى بعد الدفنْ.. أََِ.. أَِ.. أَِ

.. دفن الجثةْ..

ونقر بأنا نحن القتلة لو ظهرتْ

آثار السم بجثمان الملك الريانْ

(ويواصل ولكن بنبرة أهدأ)

والسمُّ – كما تعلم – يبقى في جثمانِ

المسموم ولا يفنى حتى يتحلل هذا الجثمانْ

يوسف (ساخرًا):

– يا قائدُ..

من حقك أن تتكلم في ثقة واطمئنانْ

فسموم اللاليين – كما تعلم – لا تظهرُ

في التشريحْ..

لكن فلتعلمْ..

وليعلم كل اللاليينَ

بأن المجرم إن أفلت فالله له بالمرصادِ

ولن يفلت من يده أبدًا

لال                   (وقد بدا الاشمئزاز والضيق على وجهه):

شكرًا يا يوسف يا صديقْ..

تصحبك سلامةْ..

يوسف (في غضب): لا.. أنا لم أُنْهِ كلامي بَعْدْ

بل لم أبدأ فيما جئت لأجلهْ

لال (في لهجة هادئة): مهما كان الأمر فمرحى بك

أنت وزير المال وبيت المالِ

مكانك محفوظ عند الكلّْ

وسؤال المجلس عن سببِ

حضوركَ هذي الساعةْ?

يوسف (منفعلاً بصوت عال): جئت الساعة كيما أسألَ:

أيان استعبدتم خلق اللهِ

وهم قد ولدوا أحرارًا?

والأعناقُ مطوقة بالتسجليون لماذا?

والألسنُ مخرسة لا تنطق إلا مئةً

من كلمات في اليوم.. لماذا?

لال                 : يا يوسف.. هذا تشريعٌ

من أجل الشعبِ، ومصلحة الشعبْ

يوسف: أم من أجل المصلحة اللالية يا قائدْ?

إن كانت مصلحة الشعب هي الهدفَ

فلماذا استثناء رجال الشرطةِ والجيشِ

وأصحاب الرتب العليا?

لال                 : طبعًا.. مصلحة الأمةْ…

تصريف مصالح هذا الشعبِ

– كما تعلم – تتطلب أن يتكلمَ

من نُصَّ على استثنائهمُ

طولَ اليومْ

يوسف: فلماذا لم يستثن الفقهاءُ

ويستثن الوعاظُ

ويستثن الطلاب ومن يعمل بالتدريسِ

وغيرهمُ ممن نجد القول بضاعتهم ووسيلتهمْ

في الإرشاد وفي التوجيه وفي التربيةِ

وفي التعليم وفي التدريبْ?

وأكاد أقولُ:

فلماذا لم يستثن الشعبُ..

كل الشعبْ?!

لال           (في اضطراب): الواقع أن .. أنّ

يوسف: الواقعُ أنكمُ تخشون الكلمةْ

لكن فليعلم كل اللاليينَ

بأن الشعب إذا منع الكلمةَ

أصبح بركانًا صامتْ

… طوفانًا من حممٍ مكتومةْ

فإذا ما اشتد الضغطُ

وزاد الكربُ

انفجر البركانُ الصامتُ

يردي ويحطم أعداء الكلمةْ

لال          (في غضب): بل نحن قديرون على استخدامِ

القوة حتى نمنع عبث السوقةِ

بالأمنْ..

يوسف: السوقةْ..??

يا لال: الشعب برمتهِ

لا سُوقته أو عِلْيتهِ…

القوة ليست حلاً ينقذكم من أيدي الشعبْ

القوة قد تأتي بنتائج عكسيةْ

يا لال إذا غلقت البركان بآلاف من أبوابِ

الفولاذ فقد يخفى ذلك مظهره .. فوهتهْ

لكن الجذوة في الداخل باقية لا تخمدْ

فإذا ما جاء اليومُ الموعودُ

انفجر البركان بثورانٍ أعتى وأمرّْ

لال                   (ساخرًا): يا يوسفُ هذا شعر وخيالْ

وسياسة أمر الناس لها تخطيط آخرُ

قد يفسده الشِّعْرْ…

أما السوقة.. أما البركانْ…

و… ثورته… فلتعلم يا يوسفُ

أنا عِشنا طول العمر بميدان الحرب.. نَرُوعُ رؤاها

.. نقتاتُ لَظَاها.. ونُخِيفُ الخوفْ

فبراكين الدنيا.. لا ترهبنا.. يا.. يوسفْ

يوسف: إن كان صحيحًا ما تذكرهُ

فلماذا تهجر ميدان الحربِ

لميدان لم يخلق لكَ

أو تخلق لهْ?

لال                 : يا يوسفْ..

من رضع الحرب وجابه نار الميدانِ

يكون – ولا مرية – أقدر من كل الناسِ

على تسيير أمورِ الناسْ

يوسف: آهٍ..

وهنا الأكذوبة يا قائدْ

من هذا المنطلق الفاسدْ

تنهار الأمم ولو كانت كبرى

لال                 : المنطق في صفِّي يا يوسفُ

والمثل يقولْ:

من قدرَ على الأصعبِ

كان على الأسهل أقدرْ

يوسف: هذا تبرير أو تقنين للأكذوبةْ

وبها قدمت دليلاً أنك لا تقدرُ

أن تحكمَ شعبًا

يا جنرالُ:

سياسة أمر الناسِ..

معاش الناسِ

رغيف الناسِ

شراب الناسِ

لباس الناسِ

سلام الناسِ

إنارة فكر الناسِ

بناء علائق حب وسلام بين الناسِ

أمور لا يحكمها إلا أهل العزمِ

من العقلاءْ..

لا يمكن أن يضطلع بها

إلا أصحاب عقول وقلوب من ذهبٍ إبريزْ

ماني: أنت تهوِّنُ من شأن الحربِ

وجيش الشعبْ

يوسف: الحربْ?

الحرب نهيرٌ في بحر أكبرَ

يدعى بسياسة أمر الأمةْ

لال                 : هذا حكم ممن قد يسمع بالحربِ

ولكن ما خاض لظى معركة قبلُ

وما أطلقَ مدفعْ

خابي: حكمٌ من غير المتخصصْ

لال                 : مرفوض عقلاً بل شرعًا

فلتحصر نفسك فيما قد مارست أمورهْ:

المال وبيت المال.. وعشت وزيرهْ

يوسف: هذا حكم ممن لم يحكم شعبًا

من شخص ما ساس أمور الناسِ:

.. مناحيها المختلفة من زرع أو عملٍ..

أو تعليم أو تموينْ..

حكم من غير المتخصص بشؤون الحكمِ

مرفوض عقلاً.. بل شرعًا

تابي: هل تنكر أن الحرب خطيرةْ?

أخطر ما هدد ويهدد أمن الشعبْ?

يوسف: فلماذا تهجر ميدان الحربِ

إلى ساح السلمْ?

ولماذا تترك ما هو أعتى وأمرُّ

إلى ما هو أيسر وأرقْ?

لماذا غادرتم نار الحرب إلى كرسي الحكمْ?

وأخيرًا أسأل يا لالُ:

لماذا ألغيتم مجلس تمثيل الشعب? لماذا?

لال                 : توحيدًا للأمة في الصف وفي الهدفِ..

توفيرًا للوقت المهدر يا يوسفْ

الوحدة يا يوسفُ مطلوبةْ

تركيز الأصوات بستة أصواتٍ

خيرٌ من تفتيت الأصوات إلى مئتينِ

هم أعضاء المجلسِ

مجلس تمثيل الشعبْ

يوسف: الشورى جوهر الاستقرارْ

ومناط الخير والاستقلالْ

من قال بأن الشورى تفتيت للوحدةِ

وضياع للوقتْ

الشورى تمحيص ودراسةْ

الشورى أخذ وعطاءٌ بالقول وبالنظرِ

كيما يصلُ الجمع إلى الرأي الأفضلْ

وأمامك ماء النهرِ

إذا مر بمصفاة واحدةٍ

قد لا يسلم من شائبة تعلق بهْ

أما إن مر بمئتي مصفاةٍ

فسيصبح أنقى من أنداءِ الفجرْ

والرأي الفردي – ولو كان صحيحًا

يرهق أفراد الأمةْ

أما إن صدر الرأي عن المجموعِ

– ولو شيب بخطأ – أو أخفقَ

في تحقيقِ الأملِ

فنتيجته يتحملها الشعبُ بطيبٍ في الخاطرِ

فالكل شريك في عبء المسؤوليةْ

ولأَنْ أصِلَ إلى الحق الكامل في صبر وأناةٍ

خيرٌ من أن أفقدَ بالسرعةِ والخفةِ بعضَهْ

والعجلة توُرِث ندمَا

والصبر يحقق أمنًا وسلامةْ

حقًا قد أخطأ من يزعم أن الشورى مضيعةٌ للوقتْ

لال                 : يا يوسفُ

نحن نمر بفترة حرجٍ

بعد ممات الملك الريانْ

فترة حرج تتطلب حسمًا في كل قرارْ

والحسم هنا يحتاج إلى تضييق مجال الشورى

يوسف: آهٍ…

في هذا المستنقع يحيا الاستبدادْ

لال                 : استبدادٌ.. استبدادْ!!

استبدادٌ لكن عادلْ

ما دام استبدادًا يهدف لمصالح شعب النهرِ

فقل هذا استبداد عادلْ

يوسف: يا لالٌ..

هل يجمع إنسان في نفس واحدةٍ

بين العلم وبين الجهلْ?

هل يجمع إنسان في نفس واحدةٍ

بين الإيمانِ وبين الكفرْ?

لال                 : الواقع.. الواقعُ..

يوسف: الواقع لا … لا يمكنْ

لو صحَّ الجمع هنا

فصحيح أن يجمع إنسان ما بين العدل والاستبدادْ

لال                 : يا يوسف صدقنا

إنّا لا نحرصُ أن نبقى في الحكم إلى الأبدِ

بل نبقى مرحلة الحرج التالية لموت الملكِ

أي سنوات لا تتعدى الخمسْ

وبعيد السنواتِ الخمسِ

تعود الشورى

ويعود المجلسُ.. مجلس تمثيل الشعبْ

ماني: هيه .. أرضيتْ??

أعتقد بأنك يا صديق رضيتْ..

يوسف: هذي حجة كل العسكرِ

في كلِّ زمان ومكانْ

يثبون على دست الحكمِ

بدعوى خطر يتهدد أمن الشعبْ

فإذا ما أبدى الشعب تذمُّرَهُ

وعدوه بأن الماء يعود لمجراه خلال العامِ

أو العامينْ

وتمر الأعوام تليها الأعوامْ

فيزيد تمسك حكام العسكر بالحكمِ

وعُسَيْلة كرسي الحكمْ

لال                 : يا يوسف بل ثمة خطرٌ

يتهدد أمن الشعب.. وُجُود الشعبْ

فجيوش الأعداء تكاثف عند حدود الوطنِ

تهدده ليل نهارْ

يوسف: هذا الواقع يا “لال” يدين وجودكمُ

في عاصمة الوطن ويجعل منه جريمةْ

فمكانكمُ المشروع الواجب ليس هنا

اتركْ أنت وصحبك كرسي الحكمِ..

انطلقوا لحدود الوطنِ

قودوا جندكمُ.. ذودا عن أرض الوطن الغالي

واترك أنت وصحبك للشعب الحريةَ

في أن يختارْ

لال                 : (في غضب شديد) يا يوسف كل كلامك مرفوضْ

(أصوات مختلفة من اللاليين يتداخل بعضها في بعض الآخر)

مرفوض.. مرفوض.. لا نقبله.. طبعًا مرفوضْ

                      فاصنع ما شئتْ

اصنع ما شئتْ..

(ثم يبتسم ابتسامة سخرية):

إن كنت قديرًا أن تصنع شيئًا

فالجيش لكل عدو بالمرصادْ

والجيش رهين إشارتنا

(يجلس لال على كرسيه في صدر القاعة)

يوسف: (بصوت مرتفع)

بل في إمكاني أن أصنع أشياء وأشياءْ

آهٍ.. لكن.. (بصوت هامس) تمنعني أشياءْ..

(يبتعد يوسف عن مجموعة العسكريين، بينما ينشغلُ مجلس اللاليين بالحديث والكتابة، يتقدم يوسف نحو مقدمة المسرح من الجهة اليسرى، وهو يتحدث إلى نفسه بصوت مسموع)

قد تأتي الأجيالُ وتسألْ

أصحيح يا يوسفُ..

قد كنت نبيًا صديقًا

تستلهم روح اللهِ

وتسلك نهج الحق طريقًا?

فلماذا يا يوسفُ

لَمْ تشعلها نارًا ضد السلطةْ

ولقد أدركت بأن وجود السلطة باطلْ

باطلْ

باطلْ

لال                 : أنت تخرفْ

ليس بباطلْ

ماني: قولك زورْ

خابي: حكمك كاذبْ

يوسف: (يوسف لا يلتفت إليهم ويواصل كلامه)

فالبصراء يقودهُمُ العميانْ

والصالح محكوم بالطالحْ

والعسكرُ .. منسرْ

والعالِم يزجره الجاهلْ

والكلمةُ.. – يا للكلمةِ

جفَّتْ في حلق القائلْ

ما عاد الشعب يقولْ

فالتسجليونُ يسجِّلْ

والسوط يمزق وينكّلْ

فلماذا يا يوسف.. يا صديقْ

.. إن كنت بحق صديقْ..

إن كنت الصادق والمصدوقْ

فلماذا لم تشعلها نارًا ضد الباطلِ?

والحكم المنكود السافلْ?

لال                 : تشعلها نارًا?!

تابي (ساخرًا): أية نار يا يوسفْ?

(يوسف يصمت للحظات ولا يلتفت إليهم، بينما يتهامس بعضهم، وينشغل آخرون بأوراقهم، ويمضي يوسف في حديثه):

يوسف: رباهُ..

يا حسرة قلبي من ذي غفلةْ

أن يتحكم في ذكراي فيحكم بالنظر العاجلِ

حكمًا غالطْ..

تتلقاه الآذان بلا تحقيقْ

ويسير مع الأيامِ إلى الأجيالْ

ينقله الجيل عن الجيلْ

وأنا منه براءٌ

مثل الذئب المتهم بسفك دمي

خابي (ساخرًا): فلماذا تتقاعدُ أو تتثاقلُ

عن إشعال النار المزعومةِ?

ماني: ضد القائد لال الأعظمِ

واللاليينْ

تابي (ساخرًا): هل يصلح أن يجتمع الوصفانْ

في شخص واحدْ?

أعني “صديق” و”جبانْ”?

يوسف (ناظرًا إلى تابي وماني)

قد علم الله بأني ما كنت جبانًا

حتى أتقاعد أو أتثاقلَ

عن نجدة ملهوفْ

أو أقتحم أي مخوفْ

فالأعمار كما شاء الله وقدرْ

والأجل بحكم اللهِ

كتاب محتومٌ

لا يتقدم ثانيةً أو يتأخرْ

لال                   (ساخرًا وبصوت مرتفع):

ههْ..

ما دمت البطل المغوارْ

لا تخشى الموت ولا الأخطارْ

فتقدمْ..

لا تتراجعْ..

واجه نار اللاليينْ

يوسف (في تأثر بالغ): أخشى والله الفتنةْ

لا تغشى من ظَلَموا خاصّةْ

أخشى – والله – على الحاملِ

تلقي ما حملت إذ ما تفزعْ

وعلى أم مرضعةٍ

تذهل عما تُرضعْ

وعلى فلاحٍ

يستنشق عبقَ الأرضِ ويزرعْ

وعلى شيخٍ بَكّاءٍ أوَّابْ

يتنسم نور الخالق في المحرابْ

أخشى – والله – على طفلٍ

يسقط في المعمعة العمياءِ السوداءْ

وتدوس الأقدامُ الرعناءُ

حقيبةَ مدرستهْ

ويذوب على شفتيه نداه الصارخْ

“كتبي..

كراساتي

أقلامي..

ألواني.. تدهسها الأقدامْ”

(في صوت خفيض حزين)

ثم الصمت الأسودُ

ودماء الطفل الورديةُ

كفنت الأوراق المنثورةَ

والأقلامْ

(ينظر إلى اللاليين وينطلق بصوت أعلى وأقوى)

أخشى الفتنة أخشاها

أن تحرق حقلاً

وسنابلَهُ

أن تأكل دوحًا

وبلابلَهُ

فيكون دمارٌ وخرابُ

فيكون دمارُ وخرابُ

(يقهقه اللاليون…)

حابي (ساخرًا): وتكون رياح وسحابُ.

خابي (ساخرًا): ويكون شتاءٌ وضبابُ

جابي (ساخرًا): ويكون خيالٌ وخبالُ

لال          (في تحد): وهراء لا معنى لهْ..

هه.. جَرِّدْ يا يوسف سيفكْ…

بارزنا من أجل الحق المزعومْ

تابي: بارزنا فردًا فردًا

يوسف: (مشيحًا بوجهه عن اللاليين)

يا وطني..

يا أرض النهرْ

عفوًا ما جئت لأزرع سيفًا

لكن جئت لفتح قلوب الناسِ

وأستل الحقد الأسودَ منها

ثم لأحرثها..

كيما أزرعها الحُبَّ الصافيَ والإيمانْ

آهٍ…

لا حول ولا قوة إلا باللهْ..

(بعد لحظات من الصمت واللاليون يتهامسون)

لكنْ…

يبقى الساكتُ – مهما خشيَ الفتنةَ

شيطانًا أخرسْ…

(يبدو على وجهه علامات من الحيرة والقلق والاضطراب)

رباهُ..

إن أنهض بالسيف ظلمت بريئًا

أو أسكت فأنا شيطانٌ

يسكتُ عن حق واضحْ

وكلا الحالين متاحٌ لا أعجزُ عنها

(يستغرق يوسف في الصمت، وتسمع ضحكات من بعض اللاليين…)

لال                 : شيء عجبُ

حابي: لا يمكن أن يهضمه عقلْ

تابي: المرءُ إذا لم يستسلم للواقعِ

ينهضُ ويقاتلْ

لال          (موجهًا كلامه ليوسف):

وزعمت بأنك لن تستسلمْ

لن تسكت عن حق ال”شعبْ”

وتناقض نفسك حين تقولْ:

لن أزرعَ أو أرفعَ سيفًا (قهقهات من اللاليين)

(يوسف لا يبدي اهتمامًا بكلام لال، بل يشيح عنهم بوجهه وعينيه، ويقول بصوت يتدفق تهدجًا وضراعة):

يا … أللهْ..

أنقذني من إعصاراتٍ

متضاربة متطاحنة في أعماقي

أنقذني من فتنةِ نفسي يا أللهْ

يا … أللهْ..

أنقذني من نفس قد تأمرُ بالسوءْ

جنبني كل عثارْ

ارزقني الحكمة كيما لا أحتارْ

ألهمني روح القدرة حتى أختارْ

هل أغرقها في بحر دماءٍ

لا يبقي منهم ديّارًا?

أم أحني رأسي للريحِ

وأسكتُ حتى يطحنني الصمتْ

وأعيش حياة خيرًا منها الموتْ?

يا… أللهْ… يا أللهْ.. يا أللهْ..

(تسمع ضحكات من اللاليين…)

ماني: بحر من دمّْ?

شيء رائعْ

حابي: والريح العاتيةُ تدورْ?!!

حابي: والصمت الطاحن والموتْ?!!

لال                 : ها.. ها..

شعرٌ رائعْ..

يا يوسفُ

نشهد أنك أيضًا شاعرْ

(لا يلتفت إليهم يوسف الذي كان في ذلك الوقت جاثيًا على ركبتيه، مغمضًا عينيه في خشوع عميق قرابة دقيقة، ثم ينهض رافعًا يديه، وقد كسا الفرح وجهه هاتفًا)

حمدًا للهْ.. حمدًا للهْ..

ماني: يوسفُ.. يوسفُ..

يوسف: (لا يلتفت إليه ويواصل كلامه):

ألهمني ربي

أن أهجر أرض الظلمِ

إلى سعة من أرض اللهْ

كي أبني صرحًا للكلمةْ

كي أزرع شجرة خبزٍ

بالعرق الزاكي والأملِ

وسأجعل من أنداء الفجرِ

شموسًا في مجتمعٍ أخضرْ

لا يعرف لون الحقد الأصفرْ

فالشعب هو الحاكم والمحكومْ

والناس كأسنان المشطْ

لا تجد المتخم فيها والمحرومْ

أو جبارًا أو مظلومْ

لال                 : يوسف.. يوسف.. اسمعني (لا يلتفت إليه يوسف  ويواصل كلامه)

يوسف: ساعتها .. تنهار الأوثانُ

وينتصرُ الإنسانُ الإنسانْ

فأمام الكلمةِ والبرهانْ

وأمام الشجرِ الأخضرِ.. والريحانْ

ينتحرُ الظلمُ وتنصهر القضبانْ

(ينهض ماني الذي كان يجلس بجوار لال الأصفر مباشرة، وينادي، وبقية الضباط تتجه بأنظارها إلى يوسف):

– يوسفُ.. يوسفُ (يلتفت إليه يوسف ويقترب في بطء من المجلس)

يا يوسفُ..

إنك قد ألحقت بمجلسنا تجريحًا

وإهاناتٍ لا تغفرْ

وَهْوَ – كما تعلمُ

أعلى السلطاتِ ورمزُ الوطن الغالي

واسمع نص القانون اللالي الخامسِ

في البند الأول منهْ (ناظر إلى مكتوب في يده)

“القائد لال الأعظمُ

واللاليون الخمسةُ

هم أصحاب الذات العليا

في الدولةْ

من مس صيان ذواتهمُ

ارتكب جريمةَ غدرٍ كبرى

لا يحكم فيها إلا بالإعدامْ” (ناظرًا إلى يوسف مهدئًا من لهجته)

لكن القائد لالَ الأعظمْ

قررَ بسماحة نفسٍ

أن يصفح عنكَ

ويعفو عما اقترف لسانُكَ

مشترطًا أن تبقى في منصبك وزيرًا

وحفيظًا لخزائن أرض النهرْ

فليس هنالكَ

من هو أجدرُ منك بهذا المنصبْ

(يوسف لا يرد، ويهم بالانصراف وقد ظهر على وجهه أمارات الأسى والغضب والامتعاض، بينما يواصل ماني كلامه في شيء من الحدة…):

يوسفُ.. يوسفُ..

تسمعني?

فلتبق – كما كنتَ

أمينًا وحفيظًا..

فلتبق وزيرًا ترعى بيت المالْ

يوسفُ.. يوسفُ..

(يخرج يوسف فينظر الجنرال لال إلى نائبه ماني نظرة ذات معنى، ويشير بيده قائلاً):

نفذ يا ماني

.. الخطة رقم ثلاثٍ بعد المئةْ

ماني: أمرك يا قائدنا الأعلى

أمرك يا قائد لال الأعظمْ

(يهم المجلس اللالي بالنهوض، وكل من أعضائه يجمع أوراقه)

ستار

المشهد الخامس

(المكان بهو ضخم به ثلاث خزائن ضخمة جدًا هي الخزائن التي يحتفظ فيها يوسف بأموال الشعب، وخلفها حائط ضخم يحصن خلفيتها.

يدخل “ماني” نائب لال الأصفر، ومعه ضابط آخر يبدو أنه مساعده وثلاثة من الجنود بملابسهم الصفراء، وثلاثة عمال يحملون أجهزة وحقيبة بها أدوات)

ماني: هيهْ.. هل شاهَدَكُم أحد حين دخلتمْ?

العامل 1: أبدًا.. وتمكنا في لحظات من تقليد المفتاحِ

الخاص بباب الديوانْ

كانت مسألة للغاية سهلةْ

العامل 2: بقي علينا أن نعرف شكل مفاتيح خزائنِ

بيت المالْ

هات عجين التشكيلْ

(يناوله العامل الثالث قطعة عجين يضعها في ثقب مفتاح الخزانة الأولى، ويستقبل العامل الأول العجينة المشكَّلة في شكل مفتاح على صينية عريضة، وتتكرر العملية مع الخزانتين الأُخريين. وخلال هذا العمل كان ماني يستعجلهم…):

– هيا وبسرعةْ.. هيا وبسرعةْ..

(وأخذ خلال ذلك أيضًا يوزع أوامره):

ماني للجندي الأول: اذهب أنت وقفْ

في رأس الشارع، وتظاهر أنكَ

حارسُهُ

للجندي الثاني: وانظر أنت بخفة صقر وبراعتهِ

من نافذتي هذا الركنْ

للجندي الثالث: كن أنت معي حتى تسمع مني

أمرًا آخرْ

(يبدأ العمال في تشغيل جهاز مربع الشكل يضعون فيه قطع العجين لتخرج مفاتيح كبيرة من الصلب، وفي أثناء ذلك يخلع “ماني” غطاء رأسه العسكري “الكاب”، ويضعه على منضدة بجوار الخزائن، ويتوجه ماني بحديثه لمساعده):

ماني (وعلى وجهه ابتسامة عريضة):

هذي آخر ليلة شرف للصديقْ

مساعده (الضابط): بعد الليلة لن يدعوه بالصديقْ

ماني: ها نحن نقلم أظفارك يا يوسفْ

في الصبح يقول الناسْ:

ما عاد أمينًا وحفيظًا من ينهبُ مال خزائننا

المساعد: ويقولون كذلك ما كان جديرًا باللقب:

لقب الصديق من كان بظاهره رحمةْ

أما باطنه فعذابْ

ماني: هذا ما أتوقع يحدثْ

المساعد: لكن يا فندم ما نسرقُ من هذا المالْ..

ماني “ثائرًا”: لا.. احذر أن تخطئ في القولْ

زن كلماتك قبل النطق بها

إنا “نأخذ” لا نسرقْ

وننفذ أمر قيادتنا.. أمرَ القائد لال الأعظمْ

هل تنفيذ الأمر خيانة.? سرقة..? نصبٌ?

تنفيذ الأمر عبادةْ

والطاعة روح الجنديةْ..

المساعد: لكن يا فندم ثمة ما يختلج بصدري

شيءٌ من حرج يعني..

نحن الليلة نسرق أموالَ الدولةِ.. أموال الشعبْ

ماني: ماذا?! .. نسرقُ?

المساعد: آسفْ.. أعني نأخذُ

ما نأخذ من هذي الأموال.. يئول لمنْ?

ماني: طبعًا للجنرال الأعظم.. لال الأعظمِ

واللاليين الخمسةِ

وأنا منهم واحدْ

شرف أعتزُّ به أبدًا

(المساعد في تلعثم): لكن و… و… و… ما الحكمة في هذا

يا فندم? ما الحكمة في نقل المال.. مال

الأمة في الليل الدامس من مأمنها بخزائنها

للقائد لال واللاليينْ?

ماني: الحكمة أوضح من شمس الصيفْ

الحكمة إحراج الصديق وذلك باستخدامِ

ضياع المال سلاحًا يشهر في وجههْ

حتى ينصرف عن الغوغاءِ

ويصدع بالأمر اللالي العالي

دون نقاشْ

المساعد: مفهوم هذا يا فندمْ

أنا أفهم هذي الحكمةَ

إذ ليس سؤال عن حكمة سرقة هذا المالْ

ماني: سرقةْ!! سرقةْ!! أية سرقةْ??

المساعد: آسف جدًا

أنا لا أسأل عن حكمة أخذ المالْ

إن سؤالي عن حكمة أيلولة هذا المالْ

للال الأعظم واللاليينْ

فسؤال عن “حكمة أيلولة”.. “حكمة صيرورةْ”

لا عن حكمة أخذْ

ماني: (وقد بدا على وجهه أمارات الغضب الشديد):

ما هذا.. ما هذا..  ما هذا يا محترمُ?

أين ولاؤك يا هذا?

حكمة لال العليا أكبر من أن يدركها أمثالك أو أمثالي

فلتصمت.. هذا خير لكْ.. ولأبنائكْ

(ينتهي العمال من عملهم، ويتوقف صوت الآلة، ويتقدمون بالمفاتيح الثلاثة في صينية)

العامل 1: ها هي ذي.. صورة طِبق الأصلْ

صغناها بمهارةْ

ماني: شطار حقًا شطارْ

وبرافو.. ألف برافو

(يمسك العمال الثلاثة كل بمفتاح، ويتجه إلى إحدى الخزائن مديرًا المفتاح في مكانه في الباب، ولكن الأبواب لا تنفتح.. وماني يستعجلعهم):

– هيا .. هيا .. وبسرعةْ

(يتصبب العمال عرقًا وهم يحاولون بجدية فتح أبواب الخزانات دون فائدة…)

العامل الأول: ما هذا?! لم تستعص علينا أبوابٌ

من قبلْ

ماني: قطعًا ثمة خطأ منكم في تقليد الأصلْ..

خطأ في التصنيعْ

العامل 2: ليس هنالك أدنى خطأٍ

العامل 3: لو كان هنالك أدنى خطأ ما دار المفتاحْ..

ألسنة الأقفال تمامًا قد فتحت.. ونشدُّ

الأبواب فلا تفتحْ..

شيء عجبٌ

العامل 1: شيء لم يحدث معنا من قبلْ

ماني: ما العمل إذنْ?

الأمر اللالي الأعلى لا نخرج إلا بالأموالْ

(بدأ العامل الثاني ينقر على الأبواب، وعلى الجدران الجانبية للخزائن بظهر إصبعه الوسطى، وبعد كل نقرة يضع أذنه على الخزانة بينما العاملان الآخران يفحصان الجدران الجانبية)

عامل 2: أنقر ما أنقر لكن لا أسمع للصوت صدى

ذاك يدل على أن الباطن متخمْ

مملوء بالذهب وبالمالْ

مساعد الضباط (ساخرًا):

ما فائدة الباطن حتى لو جمع كنوز الدنيا

ما دامت كل الأبواب مغلقةْ?

العامل الأول(صارخًا):

شيء عجبٌ لم أشهد من قبل مثيلاً لهْ

الجميع وهم يتجهون إليه: ماذا?!! ماذا??

العامل 1: في الجنب الأيسر من كل خزانة دائرة تحمل أرقامًا

من صفر حتى تسعةْ

العامل 3: أرقام سريةْ

ماني ونائبه في نفس واحد: أرقام سريةْ?

العامل 3: تتحكمُ في فتح الأبوابْ

العامل 2: لا تنفتح الأبواب بدون معالجة الرقمِ

المضبوطْ

ماني: حاول.. حاول.. ابذل أقصى ما يمكن بذلهْ

لن نخرجَ من غير الأموالْ

(ينفرد كل عامل بخزانة محاولاً جمع الأرقام المطلوبة، لكن يظهر على وجوههم أمارات الخيبة والإخفاق)

العامل 1: لا يمكنْ..

فتح الباب الواحد يحتاج إلى يومين ليمكنَ

توفيق الأرقامْ

ماني: (هائجًا) يومين هذا لا يمكن أبدًا

والأمر اللالي الأعلى أن تنتهي مهمتنا قبل الفجرْ

العمال الثلاثة في نفس واحد:

هذا لا يمكن يا فندمْ

هذا لا يمكنْ..

الضابط (في ثورة): لا يمكنْ.. لا يمكنْ!!

أين مهارتكم وشطارتكمْ??

يظهر أنكمُ شطارُ كلامٍ لا غيرْ

عامل 1: لم يبق طريق إلا كسر الأبوابِ، وهذا سهلْ

ماني: كسر الأبواب? عالْ!!

هل نحن لصوص حتى نكسر تلك الأبوابْ?!

إنا أصحاب رسالةْ

أصحاب مهمةْ

يلزمنا الإخلاص للال الأعظمِ

أن نضطلع بها بتفانٍ كامل.. وأمانةْ

مساعد ماني: ما رأيك لو أنا غيّرنا الخطة للعكسْ

أي قمنا بالعمل العكسيّْ??

ماني: العمل العكسيُّ? ماذا تعني بالعمل العكسيّْ?

المساعد: إن نعجزْ عن قد قميص من قُبُلٍ

فلنفعل ذلك من دبرٍ

ماني: لم أفهمْ

المساعد: نفحتها من خلف لا من قدامْ

من هذا الحائط لا من أبوابْ

ماني: هذا هذرٌ

الحائط من فولاذ يا سيدْ..

المساعد: بل هذا أسهل يا فندمْ

بالأكسوجين وبالشعلةِ

نحدث في الحائط نقبًا..

نسحب منه الأموالْ

ماني: لا يمكنْ..

سهلٌ أن يكتشف الصديق الثغراتْ

فيثير الغوغاء علينا

والناس – كما تعلم – لا ينفون له قولاً

أو يعصون له أمرًا

المساعد: لم أكمل عرضي يا فندمْ

بعد تمام مهمتنا

سيقوم العمال بلحم الثغرات كأن لم يحدث شيءْ

ماني (في فرح) ها.. هذا صحّْ

غابت عني حقًا..!!

مشروع رائعْ..

وبرافو.. ألف برافو..

تستاهل ترقيةْ..

سأكلم لال الأعظم في ذلكْ

(يتجه بنظره إلى العمال الذين كانوا يستمعون إلى المساعد في بهجة وسرور)

هيا.. هيا.. وبأقصى ما يمكن من سرعةْ

(يبدأ العمال في تشغيل شعلة الأكسوجين، ويقطعون من حائط الفولاذ ثلاث قطع مربعة.. ويبدأ العمال بسحب الأموال، والذهب، والجواهر من الخزائن ويملئون بها الحقائب التي أحضروها)

المساعد: قد تم العمل على أحسن ما نتمنى

ماني: لا.. قد بقي أهم الأعمالْ

سد الثغرات المفتوحةِ

بالأجزاء المقتطعةْ

ويقوم العمالُ بلحم الأجزاء بإتقانْ

(يقوم العمال بلحام القطع التي فصلوها مستخدمين شعلة الأكسوجين إلى أن ينتهوا تمامًا من العمل)

العامل 1: تمام.. خلاص يا فندمْ

(ينشغل العمال والجنود بحمل الحقائب والصرر، وتظهر أمارات السعادة على وجوه الجميع.. يتقدم ماني إلى مقدمة المسرح وقد بدا البشر على وجهه)

ماني: والآن.. ما عدت بصديق يا يوسفْ

أصبحت رهين إشارتنا..

ستطيع أوامر لال الأعظمْ

لن تذكر كلمة “لا” بمواجهتهْ

فإذا ما خالفت له .. أمرًا

فستشنق أو تسجن طول العمرِ

بتهمة سرقة أو تبديد المال العامْ

(يتجه بنظره إلى العمال والجنود)

هيا.. هيا وبسرعةْ

(يغادر الجميع المكان وينسى ماني “كابه” العسكري على المنضدة كما هو)

(موسيقى خفيفة لمدة دقيقتين وتزيد الإضاءة تدريجيًا في المسرح إشارة إلى طلوع الصباح، ثم يدخل يوسف وفيلون ومعهما جنديان والجميع بزي عصري..)

يوسف: لا حول ولا قوة إلا باللهْ

قد قدر ألا يفلح ظالمْ

فإذا ما شاءت حكمتُهُ

أن يهلك قريةْ

أمر المترف فيها

أن يفسق فيها

فيحق القول عليها

فيدمرها تدميرًا

وهو القائل (عز وجلَّ):

“إنِّي حرمتُ الظلمَ على نفسي”

(يتجه بنظره إلى فيلون):

قل لي يا فيلونْ

هل أحصيت المصلوبينْ

والمسجونين بظلمٍ هذا الأسبوعْ?!

فيلون: أحصيتُ الحالاتِ جميعًا يا صديقْ

ذلك جوهر عملي

فأنا المسؤول عن الحسبةِ

– وكما تعلم – رفع الظلم مهمتي الأولى

يوسف: أو تخفيف الأثر السيئِ

للظلمِ إذا ما تعجز عن رفعهْ

(ما لا يدرك كله لا يترك جُلُّهْ)

فالمسجون من الممكن تعويضهْ

أما المصلوب المظلوم فلا نملكُ

أن نُرجع فيه الروحْ

لكن بالمال وبالعطف.. يواسى أبناؤهْ..

إخوته.. أبواهْ

فيلون: أبقاك الله نصيرًا للمظلومينْ

ولشعب النهر المسكينْ

يوسف: اقرأ يا فيلون الكشفْ

فيلون: بادئ ذي بدء الصلبْ:

صلب اثنان من الطلابْ

والتهمة جاوز كل عشرة آلاف الكلمة في الشهرْ

أحكام السجنْ:

الحكم بحبسٍ أبديٍّ.. طول العمر على عمال خمسةْ

والتهمة: جمهرة لتحدي الحكم اللاليِّ الأعظمْ

وهنالك ثانية التهم: كتبوا منشورًا يطلبُ

إلغاء “التسجليونْ”

وزع بين الغوغاء وبين الطلبةْ

مما هدد أمن الدولةْ

والحكم الثاني بالسجن بخمسة أعوامٍ

لاثنين وألفٍ من طبقات مختلفةْ

رفضوا دفع الكلمات الزائدة على مئة الكلمة يوميًا

يوسف (في أسى ظاهر): إنا لله وإنا إليه راجعونْ

فلنعمل ما يمكن عملهْ

ونواسي أسر الشهداءْ

ونعين المسجونين الفقراءْ

وأبناء ضحايا الحكم اللاليِّ الظالمْ

أعطيك المال الآنْ

وتفعل ذلك سرًا

حتى لا يعلم عملاء القائد لال الأصفرْ

فيلون: سمعًا.. سمعًا يا مولايْ

يوسف: اكتبْ:

المصلوبان من الطلابِ

لأهل الواحد فلتدفع عشرة آلافْ

والمسجونون مدى العمر لأهل الواحدِ

آلافًا خمسةْ

والمسجونون لخمس سنينْ

ألفان لأهل الواحد منهمْ

فيلون: أبقاك الله نصيرًا للمظلومينْ

(ينهض يوسف ويفتح باب الخزانة الأولى بإدارة المفتاح في بابها، وتوفيق الأرقام حتى تعطي الرقم المطلوب فيصاب بالفزع والاستغراب،  ويصيح):

رباه!!.. ما هذا?.. خاويةٌ

ليس بداخلها مالْ..

خاويةٌ ليس بها ذهبْ!!

(يهرول إليه فيلون وينظر باهتمام إلى الخزانة ويمرر يديه فيها للتأكد، ويهرول يوسف للخزانة ويفتحها بنفس الطريقة)

– والثانية كذلكْ

لا حول ولا قوة إلا باللهْ

(يسرع فيلون ويفعل كما فعل مع الخزانة الأولى، ويهرول يوسف ويصيح بعد فتح الثالثة)

– يالله سرقوا الثالثة كذلكَ

ياللهْ!!

ماذا حدثَ?? ماذا حدثَ??

الأبواب سليمةْ

والأرقام السرية لا يعرفها غيري!!

(يمد يديه في الخزانة الأولى ويمررها على الجدران)

– لا شيء هنالك غير طبيعي

ماذا حدث إذنْ??

(يمد يمناه ويعمقها ويمررها على باطن الجدار الخلفي للخزانة.. ويصيح):

– أمر عجبٌ!!

(يسرع إلى الثانية، ويفعل نفس الشيء ويصيح):

– أمر لا يعقل أبدًا..

(ويفعل ذلك مع الثالثة ويصيح):

– لا يمكن أن يحدث ذلك!!

فيلون: ماذا.. ماذا يا مولاي??

يوسف: ثمة جزء خشن الملمسْ

(يجري إلى الحائط الخلفي للخزائن ويتبعه فيلون والحارسان)

– آه.. الآن انكشف الستْرْ

من هذا المجرم يا ربي

من نقب الحائط من خلفٍ?

فيلون: ياه في الحائط آثار من نقب عولج في إتقان بارعْ

يوسف: سحبت أموال الأمة من خلف الحائطِ

لا حول ولا قوة إلا باللهْ

(يتقدم خطوات إلى الأمام ويقول في صوت متهدج وعيناه إلى أعلى):

من يفعل ذلك يا ربي?!

رباه!! الناس بأرض النهرِ

قلوبهمُ تخفق بالحب وبالإخلاص لعبدك يوسفْ

هل يعقل أن يفعلها شخص من هذا الشعبِ

المظلومْ?

إن المظلوم كسير القلب فلا يجرمْ

.. قد يثأر ممن نهب الحق.. نعمْ

قد ينهض في اليوم المحتومِ

كما الإعصار يمزق كل الظلمةْ

لكن يثأر ممن عاشَ أمينًا وحفيظًا

يرعاه ويسهر من أجلِهْ

لا.. لا.. لا..

فيلون: يا صديقْ..

هذي الفعلة تمت في إتقانٍ

مما ينبي بالدربة والخبرةْ

هذا عمل أكبر من أن يأتيه شخص واحدْ

عمل يحتاج جهازًا متخصصْ

والواقع أن..

(يقع نظره صدفة على كاب ماني فيصيح…):

– يا مولاي .. يا صديقْ..

كاب أصفر.. كاب أصفرْ

(يمسك به الصديق وفيلون في وقت واحد ويقولان في نفس واحد)

هذا الكاب لماني..

يوسف: كابك يا ماني..

يا ذيل القائد لال الأصفرْ

حمدًا للهْ..

حصحص نور الحق الآنْ

فعلوها..

دبرها لال الأصفر واللاليونْ

دبرها لال الأصفر واللاليونْ

نهبوا المال وعاثوا في الأرض فسادًا

(هامسًا لنفسه):

يا يوسف ما عاد هنالك إلا الهجرةْ

قد آن أوان الهجرة يا يوسفْ)

(ينظر إلى الخزائن وفيلون يحاول إغلاقها بالمفاتيح):

لا تغلقها يا فيلونْ

هل تحبس فيها – يا فيلون – هواءْ?

الفتح كما الإغلاق سواءْ

لا.. ليس سواءْ..

افتحها.. أطلق ما فيها يتنفسُ

حتى لو كان هواءْ

فهواء خزائن بيت المالِ

ليحمل ذكرى أيد تودعُ

ذهبًا تودعُ

مالاً تودعُ

بنقاء وبطهر تودعْ

لا تسحب مما تودع إلا للخير وللتشييدْ

وأخيرًا – يا للعارْ

إن هواء خزائن بيت المالِ

ليحمل آخر ذكرى..

ذكرى أيدٍ لوثها الغدرُ

أيد بنيوب ملعونةْ

تقطر بالعار وبالعفنِ

تقطر بالسم وبالدمّْ

(يترك فيلون أبواب الخزائن مفتوحة، ولكنه يأخذ المفاتيح الثلاثة ويقدمها ليوسف…)

يوسف يهز رأسه ويبتسم:

– اتركها بأماكنها يا فيلون (يذهب فيلون ويضع كل مفتاح في بابه)

ما قيمتها لخزائن لا يسرح فيها غير هواءْ

(يهم الجمع بالانصراف وفي مقدمتم يوسف وهو يردد بينه وبين نفسه):

يا يوسف ما عاد هنالك غير الهجرةْ

قد آن أوان الهجرة يا يوسفْ

ستار

الفصل الثالث: الهجرة

(المنظر: ميدان واسع تمتد منه شوارع جانبية، وفي صدر الميدان مبنى ضخم مكتوب عليه بخط كبير على لافتة سوداء (مصلحة الهجرة). تظهر للمشاهدين الحجرة الرئيسة من المبنى في شكل مكتب ضخم، والحيطان غاصة بأرفف الملفات.

والضابط المسؤول واقف يرتب في عصبية بعض الأوراق، وهو يرتدي بنطلونه الأصفر وقميصًا أزرق بكم كامل. أما الجاكت الأصفر الرسمي فمعلق على المشجب، وشرطي النظام واقف في انتظار الأوامر – والمواطنون بملابس مختلفة يسيرون هنا وهناك، وكذلك ثلاثة من رجال الشرطة، وهم يمرون في تباطؤ، ودون انتظام في الشارع الفرعي في أقصى اليسار..)

الضابط (لشرطي النظام): افتح أذنيك وعينيكَ

واحرص كل الحرص على أن يلزم كل دورَهْ

وافتح عينيك لما قد يحمل بعض الناسْ

ممن يقفون هنا في الصف.. من يدري?

قد يحمل أحد قنبلة في يده أو في دوسيه الأوراقْ

أو حتى في داخل “ساندوتش الفولْ”

الشرطي: حاضر يا فندمْ

الضابط: وتأكد من تركيب جهاز “التسجليون”ْ

الشرطي: حاضر يا فندمْ

الضابط: وتأكد من تركيب جهاز “التسجليونْ”

في رقبة كل مواطنْ

(يمر رجل في سن الشيخوخة، ضعيف النظر يبدو عليه السذاجة، ويلبس جلبابًا بلديًا مخططًا وطاقية، وفي يده جرنال قديم. يقف أمام مكتب الضابط – الذي لم يكن قد ارتدى الجاكت الأصفر الرسمي، ويهم بفرد الجرنال، ويتجه إلى الضابط بحديثه)

الرجل: قل لي يا ولدي: هل أخرجتمْ

أول دفعةْ?

الضابط: دفعةْ?! أخرجنا دفعاتٍ لا تحصَى

لكن بشروط معروفةْ

الرجل: دفعات لا تحصى?!

الساعة يا ولدي الثامنة صباحًا..

فمتى كانت أول عجنةْ?

الضابط: عجنة? أية عجنةْ?

ما هذا التخريف الأبلهْ…

(يعيد النظر والتقليب – وهو ما زال واقفًا – في أوراقه هو يتمتم)

عجنة.. وعجين.. ودقيقٌ أسمرْ

ودقيق فاخر.. لبخ.. لبخ.. لا يمكن أن ينتهي

الرجل: يا للهْ.. فلأحتل مكاني

فأنا أول من في الصف.. وسآخذ خبزي

من أول لوح يخرج من نار الفرنْ

الضابط: (يترك أوراقه وينظر إلى الرجل)

ماذا تبغي يا محترمُ?!

(تظهرت البشاشة على وجهه وهو يفرد جرناله ويقدم للضابط جنيهًا. ويقول بصوت مبتهج)

الرجل: عشرين رغيفًا.. عشرين.. للسكان:

شوشو هانم، ست تفيدة.. ومحمد أفندي..

وحصانة بيهْ.. وأنا لي فيها اثنانْ…

فأنا البواب المغلوبُ على أمرهْ

الضابط: يا سيدنا.. يا بوابْ..

ليست هذي طابونةْ..

ليس هنا خبز أو فرنْ..

أو فران.. أو عجان.. أو خبازْ..

هذي سموها “مصلحة الهجرةْ”

الرجل: لكنك منذ قليل قلت: أخرجنا عدة دفعاتْ!!

الضابط : يا أبله.. دفعات أناس للهجرةْ

لا دفعاتٍ من ألواح تحمل خُبْزًا..

مفهومْ!!

الرجل: لا.. وحياتِكْ

الضابط: أوه.. دع هذا

افهمني هذا الديوان العالي

يدعى “مصلحة الهجرة”

الرجل: ما معنى هذا? مصلحة تُصلح بين الزوجينْ?

بالأمس سمعت الواعظ في درس المغربِ

 يشرح للناسْ:

من حق الزوج إذا مالت زوجته وتعصَّتْ

أن “يهجرها” في المضجعِ من باب التأديبِ

أو التأنيبْ

هل تأتي المصلحة.. مصلحة الهجرة.. كي تصلح بين الزوجينْ

وتجمع بينهما في المضجعْ?

(يبدو على وجه الضابط أمارات الغيظ والغضب، فيقول بصوت حاد فيه سخرية):

الضابط: ما شاء اللهْ.. ما شاء اللهْ!!

ما هذا العلم الخارقْ

يا سيد مصلحة البوابين العليا?

مصلحة الهجرة.. وافهمني.. في عرضك حاولْ

أن تفهمني تمنح للراغب في

أن يهجر وطنهْ.. بلد النهرْ.. تأشيرة هجرةْ

الرجل: ولماذا يهجر إنسان وطنهْ?

الضابط:.. واللهِ يُسأل في ذلكَ

من يطلب تأشيرة هجرةْ

الرجل: لكني أجهل عنوانَهْ… عنوان الطالبِِ للهجرةْ

الضابط (بصوت فيه غضب وعصبية…):

خلاصْ.. يا عالَمْ…. خلاص اتركني

لا تسألهُ..

الرجل: لكن قد “يزعل” إن لم أسألهُ

قد يفهم أني لا أهتم بأمرهْ

الضابط: (وهو يكاد ينفجر غيظًا)

يا رجل… يا أبله… تسأل منْ?

الرجل: أسأل من يرغب في الهجرة عن سبب الهجرةْ

الضابط: ولماذا تسأله يا أحمقْ?

الرجل: بالله عليك.. أأنا الأحمق حين أنفذُ

ما تأمر بهْ?

أو لست القائل من لحظاتٍ:

 “اسأل عن ذلك من يبغي الهجرةْ?”

الضابط: يا ألطاف اللهْ!!

خلاص.. اذهب واسألهُ

الرجل: لكني لا أعرفه حتى أسأَلَهُ

الضابط: خلاص.. خلاص.. لا تتعب نفسكَ

لا تسألهُ

الرجل: لا أسأل منْ?

الضابط: الراغبَ في الهجرةْ

الرجل: من هو? قل لي حتى لا أسألَهُ

الضابط: أنا لا أعرفه حتى تسألَهُ

 أو لا تسألهُ

الرجل: هل أنت المسؤول عن المصلحةِ

 مصلحةِ الهجرةْ?

الضابط: أي واللهْ

أنا المسؤول عن المصلحةِ

مصلحةِ الهجرةْ

الرجل: إن كان رئيس المصلحة لا يعرف أسماء الناسْ

أعني.. من يرغب في الهجرةْ..

فالمرءوسُ ترى: هل يعرف أم يجهل تلكَ

الأسماءْ?

الضابط: يجهلها أيضًا..?

الرجل:.. عالْ.. سوّى بينكما الجهلُ إذنْ

فلماذا كان هو المرءوسُ

وأنت الريسْ?

الضابط:  يعلمها… مبسوطْ? مرءوسي يعلمُها… يعلم

كل الأسماءْ… يعلمها… ارتحتْ??

الرجل: عالْ.. فيفوقك في العلم إذنْ!!

فلماذا أنت الريس وهو المرءوسْ?

“العالم أولى بالتقديم من الجاهلْ”

ذلك ما قال الواعظ ليلة أمسٍ في المسجدْ

الضابط: خلاص.. هو الريسْ

الرجل: فلماذا لا تترك هذا المكتب لهْ?

الضابط (في غضب شديد، وهو يضرب المكتب بقبضة يده)

لن أتركه.. لن أتركهُ..

الرجل: لكن.. تلك مخالفة للقانونْ…

الضابط: تلك مخالفة للقانون.. ألف مخالفة للقانونْ

أعلن ذاك لكل الناس… مبسوطْ?

الرجل: لكنك من لحظات قدْ…

الضابط (هائجًا ثائرًا….)

اخرس… اخرس يا بواب الكلبْ

من سلطك عليَّ اليوم. قل لي ماذا تبغي?

الرجل: أبغي خبزًا..

الضابط: لا نصنع خبزًا

هذي “مصلحة الهجرةِ”

لا فران.. ولا فرنَ.. ولا طابونةَ يا سيدْ

الرجل: لا حول ولا قوة إلا باللهْ

فلماذا لا تكتب لافتةً تُظهر أن المبنى

“مصلحة الهجرةْ”

الضابط: (مشيرًا بسبابته إلى أعلى)

يا سيد فلتنظر… أعلى

انظر: لافتة ضخمة: “مصلحة الهجرة”

الرجل: لا فائدة من النظر لأعلى أو أسفلْ

فأنا أميٌّ لا أقرأ أو أكتبْ

الضابط: (في سخرية)

ما شاء اللهْ… ما شاء اللهْ!!

الرجل: (وهو يهم بالانصراف)

لو كنتم عقلاء.. لوضعتم لافتتينِ..

واحدة يقرؤها المتعلمُ

والأخرى للأميين البسطاء من أمثالي

(يصفر جهاز التسجليون وتضيء لمبته الحمراء بصورة متقطعة، تتفق مع الصفارة: إي إي – إي إي إ.. دلالة على انتهاء مئة الكلمة اليومية فيصرخ الرجل في وجه الضابط..)

مبسوط? منك للهْ.. استنفدتُ رصيدَ

اليوم من الكلماتْ..

مئة الكلمة.. – آهٍ – راحتْ

في شربة ماء.. ما زلنا في ساعة صبحٍ

والكلمة بعد المئة بدرهمْ..

ماذا أفعل.. لن أتكلم بعد الآنْ..

لن أتكلم بعد الآنْ

(يتنفس الضابط الصعداء ويرتدي الجاكت الأصفر ذا النجوم والناس يمرون ذهابًا وجيئة، وفي عنق كل منهم جهاز التسجليون وهو عبارة عن طوق مركب به مصباح صغير، وإيريال قصير، ويتوقف بعضهم، يتحدث بالإشارات توفيرًا لرصيدهم من الكلام، ويدخل يوسف الصديق وهو يرتدي ملابس عصرية يقف أمام الضابط موجهًا إليه الكلام)

يوسف: من فضلك خذ كل بياناتي..

أبغي تصريحًا بالهجرة

الضابط (يفتح أمامه دفترًا ضخمًا ويمسك بقلمه استعدادًا لكتابة البيانات)

اسمك بالكاملْ?

الرجل: يوسف يعقوبْ

الضابط: منْ?

يوسف: يوسف يعقوبْ

الضابط: واسم الشهرةِ? 

لقب الشهرةْ?

يوسف: الصديقْ

الضابط: ياهْ

الصديق يهاجرْ?

يوسف: لا يدفعني للهجرةِ

إلا أني صديقْ

الضابط: يا عجبًا!!

ولماذا تهجر أرضًا

كانت لك أمًا

واحتضنتكْ?

يوسف: ما عادت هذي الأرضُ

بأم تحتضنُ..

الضابط: هل فقدت أرض النهر أمومتها?

يوسف: ما فقدت لكن سُلِبتْ

قد سُلبتْ روحُ أمومتها

بل كلُّ مشاعرها

حتى صارت أرضَ الضيقِ

وأرض الظلمِ

وأرض الإفكْ

الضابط: يا يوسفُ

تلك مشاعرُ جوَّانيةْ…

إحساسٌ ذاتيٌّ

لا يتعدى منطقة الوهم أو الظنّْ

يوسف: بل هذا إحساس الناس جميعًا…

صوت الواقعِ في هذي الأرضْ

الضابط: صوت الواقعْ?

لا أفهمْ

يوسف: الواقعُ في هذي الأرضِ يقولْ..

بلسان الحال يقولْ:

“إن كنت بحق صديقًا

فاهجرْ

لا تبقَ بأرض لا تتسعُ

لصديقينْ..

أرض لا تتسع لغير اثنينِ:

الظالم والمظلومْ

الضابط: عجبًا..

مع أن خزائن هذي الأرضِ

– على ما أذكرُ

كنت عليها خير حفيظْ

وعليم أنت بما فيها

يوسف: هذا حق لا مريةَ فيهْ

الضابط: والحلم تحققَ:

حلم البقرات السبعِ

سمانًا وعجافًا

وسنابلَ سبعٍ خضرٍ

وسنابل أتلفها اليبسُ

…. و…?

يوسف: وأغيث الناسْ

وكذا عصروا

كل الحلم تحققْ

حمدًا للهِ

فكل الحلم تحققْ

الضابط: فلماذا أنت مهاجرْ?

يوسف: الواقع أنَّ..

الضابط: آه.. فهمتْ

آه منها.. تلك الأنثى!!!

لم تستغفرْ

فبسبب زليخا العارِ تهاجرْ?

يوسف: لا.. بل بالحق أقرتْ

واعترفت

وأخيرًا..

تابت.. وأنابتْ

لكن الذنب خطيئتُهُ

الضابط: تعني الجنرال لال العادلْ?

يوسف: أعني الجنرال لال ال (عادلَ)

في نظركْ

الضابط: هل مزَّق قُمصانًا لنساءٍ

من دبرٍ?

يوسف:  لا.. بل صلبَ الكلمةْ

الضابط: الكلمة تصلبْ?

يوسف: في هذي الأرض المسكينةِ

 تشنق كلمات الحق وتسحلْ

وكلاب الأرض تجرّر أحشاها

وتمص دماها..

وأخيرًا…

يحملها العسكر كي تُصلبْ

مَيِّتَةً تصلبْ

كي تأكل منها الحشراتُ

وسباع الطيرِ

الضابط: لم أفهمْ…

يوسف: لن تفهمْ

لن تفهمْ

يا للعارْ..!!

حق التعبير هنا

ببطاقة تموينْ

للفرد بوطني ألا ينطق في اليومِ الواحدِ

أكثر من كلمات مئةٍ

والباقي يحصى بالعدادْ

… والكلمة تحسب في العداد بدرهمْ

والعداد يسجلُ

فلكل مواطنْ

أن يتكلم بالمجانِ من الكلماتِ

ثلاثة آلافٍ في الشهرْ

فإذا جاوزها

يصلب حيًا حتى الموتْ

الضابط: عجبًا!!

ماذا في ذلك يا صديقْ?

“قانون صدر لنفع الشعبْ”

هذا ما قال الجنرال لالْ:

لالُ الأعظمْ?

يوسف: ههْ.!!

نفْعُ الشعبْ?!

ما نفع الشعب بأن تخرس ألسنتُهْ?!

إن الأفواه إذا كُتِمتْ

تتولى الأيدي سلطانَ الكلمةْ

الضابط: أيدٍٍ تتكلمْ?!

يوسف: بإشارات تتكلمُ

أيامًا أو أشهرْ

(بصوت مرتفع، ولهجة أشد):

فإذا بلغ السيل زباهْ

واشتد الكربُ

وفاض لظاهْ

تصبح أيدي الناسِ

بديلاً للأفواهْ

تعبيرًا عن كلماتٍ أو رغباتْ

الضابط (ساخرًا):

شيء عجب!!

ماذا تفعل هذي الأيدي?

يوسف: ساعتها..

سيكون هنالك بركانٌ

يتضرم في الأعماقْ

والأيدي ستكون المنفذْ

تتولى عنه التعبيرْ

الضابط: (ساخرًا):

فبأي لغات العالم تتكلم هذي الأيدي?

يوسف: تتكلم نقمًا

وترش الأرضَ حميمًا ودمًا

لا يسمعُ إلا الغليانْ

لا تبصر إلا النيرانْ

آه.. رباهْ

ذلك ما أخشاه على وطني أرض النهرْ

الضابط: لم أفهمْ

يوسف: لن تفهم أبدًا

 ما دمت بهذا الزي الأصفرْ

وعلى كتفيك نجوم وأهلّةْ

الضابط: حتى هذي لم أفهمها

يوسف: لا تهدر وقتكَ…

لن تفهمْ

الضابط: ومتى أفهمْ?

يوسف: لو أسقطت الزي الأصفرَ والأنجمْ…

الضابط: عن جسمي?

يوسف: عن قلبكْ

الضابط: هل للقلب لباس حتى يسقطْ?

يوسف: أقنعة وملابس لا تحصى

الضابط: والزي الأمثلْ?

يوسف: “ولباسُ التقوى ذلك خيرْ”

الضابط: ياه!! يا ليتك تُفهِمني

 فكلامك ساحرْ

يوسف: آه!! يا ليتك تَفهَمني..

حتى لا تغدو مخدورًا

… غافلْ

الضابط: لن نصل لشيءْ

لنعد لاستكمال بياناتِكْ

(يسمح صراخ نسائي مفاجئ من الشارع الأيسر الجانبي، فيلتفت الجميع ناحية الصوت، ويزداد الصراخ علوًا واقترابًا، تظهر امرأة تتوالى صرخاتها في عصبية، وهي تمسك بخناق رجل طويل القامة، نحيل الجسم، شاحب الوجه، طويل الشاربين، ورجل شرطة يسوقه أمامه، ويحاول في نفس الوقت أن يرفع يديها عنه، ولكنها تتشبث به، وترفع يمناها وتلطمه أحيانًا، فيضطر الشرطي إلى مواصلة السير وإن حاول بين الحين والآخر الفصل بين المرأة والرجل.

يضطرب الصف ويخرج منه بعض الواقفين في آخره متتبعين الثلاثة، لاستطلاع حقيقة الأمر، ويخف الصراخ بدخول الجميع الشارع الفرعي الأيمن. ويعود الذين خرجوا من الصف ليأخذوا مكانهم من جديد. وأحدهم يضرب كفًا بكف، هازًا رأسه. يمنة ويسره تعبيرًا عن الأسى والأسف، فيسأله الشرطي المكلف بتنظيم الصف):

– قل لي يا هذا..

ما خبر المرأةِ والرجلِ?

(يلتفت كل من في الصف – ما عدا يوسف – إلى الخلف حيث الشرطي والرجل. يرفع الرجل يده ويرسم بسبابته، وإبهامه على جانبي شفتيه شاربًا في الهواء، فيصيح الشرطي):

– آه.. أفهمْ

زوج المرأة .. ماذا فَعَلَ?

(فيرفع الرجل يديه إلى شحمتي أذنيه ويجذبها إلى أسفل، وكذلك يفعل بالنسبة إلى صدره وذراعيه)

الشرطي: آه.. هذي أفهمها أيضًا

سرق الزوج حليَّ الزوجةْ.. فلماذا?

(يقلب الرجل كفه اليسرى ويشم ظهرها مرتين)

الشرطي: (بصوت أكثر ارتفاعًا، وهو يضرب كفًا بكف)

قاتله اللهْ

يسرق ذهب الزوجةِ

من أجل الشمّْ?

لعن الله الهروينْ..

والكوكايينْ

والزفت الثالث والرابعْ..

(يصرخ الضابط في عصيبة):

– ما شاء الله..

صارت سوقًا يا شرطي..

عامل ريسْ

واقف ترغي

تلت وتعجنْ (متحدثًا إلى نفسه)

يومٌ نحسٌ من أولهْ..

(يفيق الشرطي إلى نفسه ويعيد النظام إلى الصف)

الضابط: (موجهًا الكلام إلى يوسف)

يوسف هيَّا

لنعد لاستكمال بياناتكْ

(ناظرًا إلى ورق أمامه)

الاسم يوسف يعقوبْ

لقب الشهرةْ:

الصديقْ

(رافعًا رأسه إلى يوسف)

والعملُ?

يوسف: قد كنت أمينًا

وحفيظًا وخبيرًا

بخزائن هذي الأرضْ

الضابط: المركز طيبْ

المنصب عالٍ

ما سبب الهجرة يا يوسفْ?

ولماذا لا تبقى في منصبك العالي?

يوسف: لن أبقى في أرضٍ

فيها يحتقر الرأيْ..

ويذوي الوعيْ

والعسكر فيها المنسرُ

هم أرباب الأمرِ

وأصحاب النهيْ

الضابط: لكنْ..

مصلحة الوطن العليا

تتطلب أن تبقى

لتدير خزائنهُ

فلأنت حفيظٌ

أنت عليمْ

يوسف:  ما عاد بهذي الأرض خزائنْ

إلا أشكالاً أضحت خاليةً

من مال كانت تحويهِ

الضابط. آه.. تعني زادت نفقاتُ الدولةِ

فتلاشى المالْ..

في كل بلاد الدنيا يحدث هذا

فالدولة تستورد آلات الزرعِ

وآلات التصنيعِ

وآلات التعليمِ

وآلات التجريبْ

يوسف: وآلات القتلِ وآلاتِ التعذيبْ

.. بل أغلب هذا المال بحقٍّ

قد ضاع بلا إنفاقْ..

الضابط: آهٍ.. ما زال هناك لصوصٌ

كسروا الأبوابَ

وسرقوا المالْ?

يوسف: الأبواب سليمةْ

لكن نقبوا الحيطان الخلفيةْ

وبأيدٍ ماهرة سحبوا المالْ

كل المالْ

الضابط: عجبًا..!! والحرس الليليُّ?

قطعًا كانوا في النوم يغطونْ?

جريمةُ إهمالٍ كبرى!!

يوسف: لو ناموا ما نقب الحائطْ…

ما تمت سرقة أموال الدولةْ

الضابط: لم أفهمْ

يوسف: أحيانًا يغدو النوم عبادةْ

الضابط: واليقظةْ?!

يوسف: إفسادًا في الأرضْ

الضابط: هل ذلك حقْ?

ذلك عكس المعهود كما نعرفْ

يوسف: لا تنسَ!!

قدمتُ وقلت “أحيانًا”

“أحيانًا يغدو النوم عبادةْ”

الضابط: لم أفهمْ

يوسف: لن تفهمَ

(نبهتك)

ما دمت أسيرًا

في هذا الزي “الصفراوي”

الضابط: ياهْ!!

عدنا من حيث بدأنا

يوسف:: أنت العائدُ

الضابط: ماذا?

يوسف: وأنا الثابتُ في خط لا يتعرجْ

الضابط: من فضلكَ

فلتستكمل كل بياناتكْ..

(فجأة يظهر بائع صحف يصرخ، صرخات هستيرية غير مبينة وهو يحمل الصحف بيسراه، ويرفع كيسًا من البلاستيك بيمناه ويوالي صرخاته، فيحدث بعض الاضطراب في الصف، لكن الشرطي المسؤول يعيد إليه النظام، وإن تعلقت عيون الواقفين ببائع الجرائد وبالشرطي الآخر الذي يقف مع بائع الصحف على رأس الشارع الأيسر الفرعي):

الشرطي الآخر: كيسُ بلاستكْ?

كيس بلاستيكْ?!!

هات صحيفةْ..

(يأخذ صحيفة وينقد بائع الصحف قطعة من العملة، ويشير البائع بيده في هيئة من يقطع لحمًا بالسكين، ويتناوله ويضعه في كيس البلاستيك، ثم ينصرف مكررًا صرخاته، إعلانًا عن صحفه وهو يرفع كيس البلاستك بيمناه. ينظر الشرطي في الصحيفة، ويصيح في دهشة):

– ياه.. أغرب خبرٍ هذا العامْ!!

(ينفصل خمسة من آخر الصف، ويتحلقون حوله بينما تتجه أنظار الباقين إليه. ويبدأ في القراءة)

– الزوجة تقطع رأس الزوجْ

وتقسم جسد الزوج شرائحَ

في أكياس بلاستكْ

الزوجة تضع الأكياس جميعًا في الثلاجةْ

(تعلو أصوات مختلطة من الآهات والضحكات والصراخ، ولكن يعود النظام والصمت حين يضرب الضابط مكتبه بيده صارخًا):

– يكفي هذا (موجهًا كلامه ليوسف)

– ومتى ستهاجرْ?

يوسف: الآنْ.. الساعةْ.. اللحظةْ

الضابط: لكن قميصك من دبر مقدودْ

يوسف: أعلم هذا

ذكرى تحتل كياني

كي لا أنسى

الضابط عجبًا: أزليخا تعني?

يوسف: لا.. هذي ماتتْ

من لحظة أن ذهب الوحش الراقدُ

في فتنتها

فصددت وقلت “معاذ اللهْ”

بل أعني ذكرى كيف انتصر الإنسان على نفسهْ

الضابط: بقميص مقدودْ??!

يوسف: وبشرف لا يقبل أن يخدشْ

الضابط: وإلى أي مكان تهجرْ?

تلك قوائم كل بلاد المعمورةِ

مغلقة الأبوابِ

استكفتْ

ريكا العظمى

ريكا الوسطى

استكفت

“شافا العليا”? “شافا الصغرى”

دولة نيرا…??

كل بلاد المعمورة مغلقةٌ

استكفتْ

هيهْ!!

أومازلت مصرًا

أن تمنح تأشيرة هجرةْ?

يوسف: لن أتراجعْ..

الضابط: فإلى أي مكان تبغي التأشيرةْ?

يوسف: للجبِّ…

ترجع للجبِّ

كفعل الإخوة بكَ

من باب الحقد وباب الغيرةْ?

يوسف: أنا المختار بحريةْ

أختار لنفسي هذي المرةْ

الضابط:  قد لا يلتقطك السيَّارة هذه المرةْ

يوسف: غيرُ مهمّْ

بل لو جاء السيارة كي يلتقطوني

لأبيتْ

لكن قل لي:

قلت بلاد الدنيا اسكتفت

ما عاد هنالك بلدٌ في الدنيا مفتوح الصدرِ

لمن رامَ الهجرةْ

الضابط: هذا حق.. كل بلاد الدنيا مغلقة الأبوابِ

استكفتْ..

يوسف: فلماذا تبقون على ما يدعى مصلحة الهجرةْ?

ولماذا لا يصدر إعلان عام للناسْ

“ما عاد هنالك هجرةْ..

نعلنكم كل بلاد الدنيا مغلقة الأبوابِ

استكفتْ”

فطوابير الناسِ

وكتابة طلباتٍ

واستجواباتٍ

وإجاباتٍ

مهلكة للوقت وللمال، وللطاقاتْ..

الضابط: يا يوسف لو أغلقنا مصلحة الهجرةْ

ظن الناس بأن الدولة ضد الحريةْ

ضد الحق الثابت في دستور الأمةْ

حرية كل رعايا الوطن الغالي

في العمل بأي مكانْ

يوسف: لكنَّ سلوككم هذا يعتبر خداعًا…

إيهامًا أن هنالك ماءً

وطعامًا وشرابْ

والحق يقول بأن الأمر سرابْ

الضابط: لا تنس كذلك أن هنالك في مصلحة الهجرةِ

ألف موظفْ

يوسف: أغلبهم حلل صفراءْ?

الضابط: (مبتسمًا وفي هدوء)

أغلبهم حلل صفراءْ

يوسف: ذات نجومٍ وأهلَّةْ?

الضابط: ذات نجوم وأهلَّةْ?

لو أغلقت المصلحة.. مصلحة الهجرةْ

لغدا هذا العدد الضخم بلا عملٍ

يوسف: لكن الواقع أنهم الآن بلا عملٍ

الضابط: يا يوسف لا تعترضنَّ

فتلك سياسة رأس الدولةْ

يا يوسف أمر الجنرال لال لا يُنقَضْ

يوسف (بابتسامة سخرية):

حقًا.. لا يُنقضُ.. لكنَ يَنقَضّْ

(يدخل من جانب المسرح مواطن يرتدي زي ميكانيكي وفي يده بعض الأوراق، ويحاول أن يقف وسط الصف الذي زاد طوله فيصرخ المواطن الواقف في آخر الصف):

– يا هذا.. خذ دوركْ..

ليس مكانك هذا

– قف بعدي.. قف بعدي..

(يحدث هرج وضجة بين الواقفين تدل على اعتراضهم على هذا المخل بالنظام، ويصيحون بأصوات متداخلة)

– ليس بإمكانك هذا..

قف في الآخر.. قف في الآخرْ

(يقول الرجل في صوت مستجدٍ ضارع وهو يرفع ورقة من الأوراق التي يحملها):

– يا ناسْ..

إني في استعجال من أمري..

يومان ويفلت مني العقدْ

…عقدٌ

للعمل برغدان الحرةْ

فالتأشيرة لازمة حتى أرحلْ

واليوم خميس وغدًا جمعةْ

(يعود صياح الناس):

– قف في الآخر.. قف في الآخرْ

كل منا وله ظرف يشبه ظرفَكْ

(يتدخل رجل الأمن.. ويجذبه من يده، ويوقفه آخر الصف.. وهو يصيح):

– يا ناس والله حرامْ

هذا والله حرامْ

(يوسف يشخص ببصره إلى أعلى وينطلق متحدثًا بصوت متأن عميق كأنما يتحدث إلى مخلوقات علوية غير مرئية):

يا ويل الوطن الطيبِ.. وطن النهرِ

إذا جانبه الفلاَّحُ

وغادره العاملُ

ورجال الفكرْ

ووراء الكل أراضٍ هددها العقمْ

وعيون تتحرق للفجرْ

قرحها سهر ليال حبلى بالألم وباليتمْ

الضابط: يوسف.. يوسفُ..

(يوسف يمضي في حديثه دون أن يلتفت إليه)

إذ يحدث هذا من فينا المسؤولْ

من هجر الوطن أم الوطن المهجورْ

عشُّ العصفور أم العصفورْ

أم ملك الطير النسر الجبار الكاسرْ

وصقور النسر الجبار الكاسرْ..?

يا ويل الوطن الطيبِ.. وطنِ النهرْ

وطن التاريخ الزاكي وال…

الضابط: يوسف.. يوسف!! ما هذا?

أتناجي نفسكَ?

أم تتحدث للغيب المستور المسحورْ?

كن معنا يا يوسفْ

فلأذكر آخر ما أمليتَ عليّ:

“بل لو جاء السيَّارة كي يلتقطوني لأبيتْ

يوسف: هذا صحّْ?

الضابط: والآن أواصل أسئلتي هيه..

وشرابك وطعامكَ?

يوسف: أشرب من ماء الجبّْ

وأطعم من نبتٍ

قد يظهر في جدران البئرْ

عن ماء قد ينحسر عن الجدرانْ

.. ذلك في الأيام الأولى

الضابط: ومشاعرك الإنسانيةُ

والنبويةُ

قد تفتقر إليها

أو تفقدها في هذا الجب وأنت بمعزلْ

يوسف: بل ستكون أنيسي

وعزائي

وسعادتيَ الكبرى

والحلمَ الواقعْ

الضابط: كيفْ?!

يوسف: الجب كيانٌ..

بنيانٌ

لم يستعبده هوانْ

الضابط: ولماذا…?

يوسف: لم يشهد من قبل عساكرْ

الضابط: يوسفُ..

آمل أن تعرف هذي المرةَ

أنك لن تلقى من تبيضُّ

لأجلك عيناه من الحزنِ

يوسف: ليس بإنسانٍ

من يحرص أن يبكيَ

لمصائبه الناسْ

يوسف: لكنك تحزنْ..

بل تبكي

حين تصيبُ الناسَ مصيبةْ

يوسف: أن أحزن للثكلى والبؤساءْ

ولجوع الجوْعى والفقراءْ

ولأرض النهر العطشى للأنداءْ..

أن أمسح دمع المفجوعينْ

أن أرفع إصر الظلم عن المقهورينْ

أن أطلق ألسنة المخروسينْ

أن أهتفَ “قولوا..

قولوا يرحمكم ربي

قولوا.. قولوا..

فالكلمة حق مشروعُ

والكلمة ليست منحةَ حاكمْ

والحر يشرد ويجوعُ

لكن يتكلمْ

يتألمْ…

لكن يتكلم

يحتضر وتكتم أنفاسُهْ

لكن يتكلمْ…”

هذا جوهر دعوتيَ العظمى

وعليها أحيا

وعليها ألقى ربي

الضابط: يا يوسفُ…

هذا شعر.. وخيال بارعْ

يوسف: بل إحساسٌ

ينبض بالحقِّ

وشعورٌ لا يكذب أبدًا

إن غشاه الألم العاتي

لم ييأس من نصرٍ آتِ

الضابط: ياه ثمة أمر “يستلزم منا وقفةْ..

في أول مرةْ..

أنجاك السيارة من موت شبهَ أكيدْ

هل تضمن أن يأتيك السيارة هذي المرةْ?

يوسف: في هذي المرة لا أحتاج إلى سيَّارةْ

لا أحتاج إلى قوم يدلي واردُهم دلوهْ

ليهلل فرحًا:

“يا بشرى في الجب غلامٌ”

لأُسَرَّ بضاعةْ

وأباع بثمنٍ بخسٍ..

.. بدراهم معدودةْ

لا لن يتكرر ذلك أبدًا

أنا أعلم أن البئر هنالكَ

راقدة في صحراءٍ جرداءْ

صفراءَ ولكن عادلة لا تظلمْ

فنجوم الصحراء نجوم غير نحاسيةْ

بل بيضاءٌ في ليل الكونِ

كعيون تشرق من فرحٍ بنعيمِ العدلْ

سأعيش على فِطْرٍ ينبت في جدران البئرْ

والماء بحمد اللهِ

وفيرٌ في البئر وباهرْ

وعميق عمق الجب إذا ما فاضَ

بقلب ملاك طاهرْ

الضابط: يا يوسفُ

هل ستظل تعيش على ماءٍ

وطعامك فِطرٌ

يخرج من أعلى جدران البئرْ?

هذا لا يضمن أن تبقى حيًا إلا أيامًا

يوسف: قدمتُ – بقولي – إني لا أحتاج لذلكَ

إلا أيامًا

الضابط: هيه!! ستكون حفيظًا وأمينًا

هذي المرة أيضًا?

يوسف: سأكون أمينًا وحفيظًا

هذي المرة أيضًا

لكن ليس هناك خزائنُ

ومفاتيحُ

وحرس ليليٌّ متيقظْ

سأكون أمينًا وحفيظًا

لحراسة ماء البئر المهجورةْ

أستخرجُهُ…

أستحلبهُ

وأُروِّي من أثداء البئرِ

الأرضَ العطشى المحترقةْ

سأشق بها

قنواتِ النعمة والأملِ

أيام تمضي

وبُعَيد الأيام المعدودةِ

تَخْضَرُّ الأرضُ

وتهتز.. وتربو

فإذا ما أصفر الزرع المائس فيها

فلِنُضج يتلوه حصادُ

لا صفرة عطش ومواتْ

والطير الجائع والعطشانْ

الباحث عن ظل وأمانْ

سيحط ليشربَ

أو يلتقط الحبَّ

ويُرقِّص روضتَنا النشوى

بنشيد العملِ

نشيد الأملِ

نشيد الحبْ

وستهوي أفئدة كانت جدباء إلينا

وتمد يديها ليدينا

ليقول الكل بحريةْ

من غير جهاز التسجليونْ

ويكون عمارٌ

وطعامٌ وشرابٌ

من بعد جفافٍ

وخرابْ

ويكون العدل شريعة أرضٍ

عانقها اللون الأخضرْ

أرضٌ..

صاحبها لم يتزيَّ بزيٍّ أصفرْ

الضابط: آهٍ.. هذي المرة – صدقني – أدرَكَني الفهمْ

أو – إن شئت – فبعضُ الفهمْ

يوسف: شيء عجَبُ…!! إن صح فإني جِدُّ سعيدْ

الضابط: مضمون كلامك في إيجازْ:

“صحراءٌ جرداءٌ صفراءْ

ترويها من ماء الجب التاريخيِّ المهمَلْ

تتحول بالعمل الدائبِ

والسهر الدائمِ

أرضًا خضراءَ وحدائق غُلْبَا

تنبت تينًا … زيتونًا … عنبًا

أرض بالمجهود الذاتيِّ المضنِي

تتحول من صفراءَ إلى خضراءْ

والكل يقول بحريةْ

هيه !! فهمي صحّْ?

يوسف: هذا حق.. قانون أزليٌّ لا يتخلفُ أو يختلْ

لا يتخلفُ أو يختلْ

الضابط: لا … بل قد يتخلف أو يختلْ

فكثيرًا ما تطغى الصحراء على أرضٍ زُرعتْ فتبورْ

تتحول جنتها الخضراء إلى قفر متيبسْ

أرض ميتةٍ لا تتنفسُ

أرضٍ بورْ

يوسف: (ينظر إلى أعلى، وتشخص عيناه كأنهما مشدودتان إلى شيء مجهول، وكأنه يقرأ من كتاب  يقول بصوت عميق متئد):

حين يهون الحي الأخضر في نفسهْ

حين تميع إرادتهُ بإرادتِهِ..

ويسلِّم لفحيح الظالم من حولهْ

ويجافي في بلَهٍ أصلَ جذورٍ

ضربت في أعماق الأرض سنينا وسنينَا

ويهاجر منبتًا عنها

ويريق بقية عزٍّ رفعتْ أغصانَهْ

تَنْقَضُّ عليه الديدان لتمتص نخاعهْ

والنمل الأبيض والأسود ينخر سيقانَهْ

يأكل عيدانَهْ..

يوقف خفقانَهْ

في هذي الحال المنكودةْ

الأصفر يزحف ويهيمنْ

الأصفر يزحف ويهيمنْ

والدرس الباقي للأجيالِ.. لكل الأجيالْ

من قاعدة الأخضر والأصفرْ

“إن ظهر فساد في بر أو في بحرٍ

فبما كسبت أيدي الناسْ

والناس إذا ما شاءوا تغييرًا

فبأيديهم يأتي التغييرْ

فبأيديهم أن ينتصروا

وبأيديهم أن ينكسروا”

(يظهر مجموعة من المواطنين من الشارع الأيسر الجانبي ما بين شباب وكهول وفتيات، وهم يحملون عددًا من الفانلات الحمراء هاتفين، والتسجليون في عنق كل منهم):

– أأْ إي – أأْ إي – أأ إي

(يضطرب الصف ويصفق عدد من الواقفين فيه، ويرددون الهتاف مع المظاهرة – أأ إي – وقد بدأت المظاهرة تتجه إلى الشارع الفرعي الأيمن لتغيب فيه وتختفي أصواتها تدريجيًا، ومن الشارع الفرعي الأيسر نفسه تظهر مظاهرة أخرى كالأولى تحمل رايات وفانلات بيضاء، وهي تهتف):

آآ إإ – آآ إإ

آآ إإ – آآ إإْ

(يزداد الصف اضطرابًا لخروج مجموعة منه تصفق وتتابع المظاهرة الثانية في هتافها):

آآ إإ – آآ إإ

(وتمضي المظاهرة الثانية كالأولى نحو الشارع الأيمن الفرعي، ويزيد الهرج في الصف، ويحدث اشتباك بين مشجعي الناديين في الصف، ويعلو الصراخ وتختلط الأصوات، ويحاول الشرطي المسؤول عن الطابور – بمساعدة زميله الذي كان يقف على رأس الشارع الفرعي الأيسر – أن يعيد النظام إلى الصف.. ويصرخ في المتشابكين):

فليلزم كل مطرحهُ..

ما هذا!!??

ما هذا الخبل المجنونْ?

ما بين الأحمر والأبيضْ?!

ههْ?

هل ينفعكم ناد أبيضْ

أو ينفعكم ناد أحمرْ

حين يجوع الجائع منكمْ?

(يقف الضابط ضاربًا المكتب بيده في عصبية ويصرخ في سخرية، موجهًا كلامه للشرطي):

– يا محترمُ…

يا جنرال الجنرالاتْ..

أصغ إليَّ

باشر عملكْ

لا يخرج أحد عن موقفهِ

من لا يلتزم نظام الصف اطردْهُ

سامعْ

سامع سامع يا جَنَرالْ?

الشرطي (معظمًا بيده وضاربًا برجله اليمنى بقوة في الأرض):

حاضر.. حاضر يا فندمْ

(ينشط الشرطي ويعيدُ النظام للصف ويهدأ الناس ويجلس الضابط)

الضابط: (وقد بدا على وجهه شعور  مزيج من الأسى والغضب، وهو يضرب الأوراق بيده)

واأسفاه .. واأسفاه عدت لحالتيَ الأولى

لم أفهم … لم أفهم شيئًا مما قلْتْ

يوسف: لن تفهم إلا…

الضابط: أعرفُ…

أخلع هذا الزيَّ الأصفرْ

سأقوم وأخلعهُ

فالفهم ولا زي أصفرْ

(يقوم ضابط الهجرة، ويخلع الجاكت الرسمي الأصفر ذات النجوم، ويستبدل بها “جاكيت” مدنيًا أزرق اللون، يتبسم يوسف.. ثم يضحك بصوت مسموع)

يوسف: اخلع ما شئت فلن تفهمْ

الضابط: من أجل الفهم أخذت بأمركْ

فلماذا تضحكْ?

يوسف: يا سيدْ…

الثعبان إذا ما غير جلدهْ

هل يصبح كالبلبل خلقًا وطباعًا?

هل تسمع منه فحيحًا أم تغريدًا?

الضابط: لم أفهمْ..

يوسف: لن تفهم إلا حين تحولُ

ثعبانًا يرقد في أعماقكَ

طيرًا غريدًا

يكسو صفحات الكونِ

ورودًا

ونشيدَا

الضابط: بلبلْ

وربيعٌ

وورودٌ 

ونشيدْ!!

لم أفهم.. فلتكمل كل بياناتِكْ…

(يمر شخصان من جانب المسرح فينظران باستغراب إلى الضابط الجالس وراء المكتب وهو يرتدي الجاكت الأزرق، ثم يأتي ثلاثة آخرون وتعلو وجوههم المشاعر نفسها. ويندفع الخمسة ويحتلون مقدمة الصف فيختل النظام، ويعلو الصياح وتختلط الأصوات.. وتعلو..):

– كل يلتزم نظام الصف.. نظام الصفْ..

كل يلتزم نظام الصفْ

الرجل الأول: أحتاج ثلاثًا.. فثلاث تكفيني

الثاني موجهًا كلامه للضابط: خمسًا من فضلكْ

الثالث: الدفع هنا أم في شباكٍ آخرْ?

الرابع للضابط: من فضلك خمسًا

فالأسرة عشرونْ

وإليك بطاقتنا فانظرها

عدد الأسرة عشرونْ?

الخامس: الدفع هنا أم في شباك آخرْ?

(يبذل الشرطي جهدًا كبيرًا لحفظ النظام فيعتدل الصف بعض الشيء، ولكن الخمسة الذين حضروا بآخره يتشبثون بأماكنهم في الأول أمام يوسف)

الشرطي: جئتم في الآخر.. تقفوا في الآخرْ

الأول              : في عرضِكْ

فلتتركنا بأماكننا..

الشرطي: لن يحدث هذا وأنا حيّ

الثاني: والله – وصدقني – من شهر أو أكثرْ

ما ذقت له طعمًا

الثالث: وأنا أيضًا من شهرينِ

ما شاهدت له منظرْ

الرابع للضابط: اكتب لي الكابون بخمسٍ

الضابط: خمس.. وثلاث.. وكبونٌ

ماذا تعني?

الرابع: خمس دجاجات أعني

الضابط: ماشاء اللهْ!! لا تقرأْ?

(يشير بإصبعه إلى اللافتة)

“مصلحة الهجرة” لا جمعية أو فرع من جمعيةْ

الأول: لكنك تلبس زيًا ملكيًا يشبهُ…

الثاني: ولماذا لا تلبس زيًا رسميًا

أصفر بنجوم وأهلّةْ?

الضابط: يوسف.. يا سادةْ

يوسف أجبرني أن أخلع هذا الزيّْ

(يضحك الخمسة في صوت مرتفع)

الخامس: ها ها..

هل في الدنيا من يجبرُ ضابطْ?

الأول             : لا نفهم أن يجبر مخلوق ضابطْ

مهما كانت قوة هذا المخلوقْ

الثاني: فالعصر بحق عصر اللون الأصفرْ

الضابط: اخرس واخرج أنت ومن جاء أخيرًا

من هذا الصف.. انصرفوا

(ينصرف الخمسة ويعود إلى ارتداء الزي الأصفر في عصبية.. ويتجه بالكلام إلى يوسف)

– يوسف .. خلصنا.. الساعة.. سألوني

كابون دجاجْ

من يدري!!? قد يأتي بعد قليل من يسألنا كابونًا

للعدس، أو الفول، أو الكوسة.. فلتكمل كل بياناتكْ

(يوسف يرفع وجهه إلى أعلى، وتلمع عيناه، ويتمتم بينه وبين نفسه بكلمات غير مسموعة.. ويهز رأسه في بطء.. كأنما يتحدث إلى مخلوق غير مرئي)

الضابط: يوسف.. يوسفُ..

فلتكمل كل بياناتكْ

يوسف: ما عاد هنالك داعٍ

لاستكمالِ بياناتي

لن أهجر هذي الأرضْ

الضابط: ولماذا?

يوسف: أنبأني الوحي العلويُّ

بأن البئرَ الخالدَ قد ردموها

الضابط: ولماذا?

يوسف: لإقامة إسكان فاخرْ…

للتمليكْ

(يرفع يوسف رأسه إلى أعلى وقد ظهر الأسى على وجهه ويستأنف كلامه بصوت عميق):

ردموا البئرْ…

إسكانٌ فاخر فوق البئرْ?

رباه…

خنقوا بالإسكان الفاخر كنز الماءْ?

كتموا منها الأنفاسْ

وأنا أسمع فيها نبضات القلبِ الزاكِي المِعطاءْ

رباه!!

دفنوا الماءْ

وأنا أسمع همس الصحراء الجرداءْ

كنشيج.. يستجدي ..

“أعطوني رشفة ماءٍ

يا أهل اللهِ أعطوني جرعة ماءْ

يا أهل الخير ولو نقطة ماء للهْ

أعطوني كيما أعطي الزرع الناضرْ

لا تعطوني الإسكان الفاخرْ

فالزرع الناضر يمنحكم إسكانًا فاخرْ

والإسكان الفاخر يعجز أنْ

يمنحكم زرعًا ناضرْ”

الضابط: لكن الإسكان الفاخر أحسنْ

فلتملك سكنًا أو سكنينْ

بدلاً من أن تقضيَ أيامك يلسعك البردُ

ويلهبك الحر القاسي

وتلوِّحُ وجهَك شمسُ الظهرِ القهارةْ…

فتملكْ

يوسف: إنْ أفعل فسأخسر ديني، وسأهلكْ

الضابط: ولماذا?

يوسف: إن تملُّكَ هذا الإسكان الفاخرِ

يتطلب مني أن أصبح لصًا.. ملعونًا..

فاجرْ

أن أصبح عضوًا من أعضاء الجمعيةْ..

الضابط: أية جمعيةْ?

يوسف: جمعية حراس الليلِ

وزوارِ الفجرْ

الضابط: وتنامْ?

يوسف: بل أستيقظُ..

حتى تنجح خطتنا

الضابط: خطتكمْ??

يوسف: في نقب الحائطِ

في سحب الأموال من الخلفْ

والأبواب سليمةْ

الضابط: لم أفهمْ..

(يضحك يوسف.. ويقول): لن تفهم .. لن تفهمْ

(يدق جرس الهاتف، فيرفع الضابط السماعة وينهض واقفًا، وقد بدا على وجهه علامات الاهتمام..)

الضابط: سعدتْ أيامك يا فندمْ

نحن جنودك يا جنرالْ

نحن عبيد الإحسانات اللاليةْ

نصدع بالأمرِ

وأمر جلالتكم لا يُنقضْ

لن يهرب.. يوسف? أبدًا.. لن يهرب يا جنرالْ

(يضع السماعة بيد مرتعشة، ويتجه بنظرات غاضبة إلى يوسف)

– يوسف يعقوب الصديقْ

لا هجرةْ

يوسف:  أنصرفُ? من حقي طبعًا أن أنصرفَ

الضابط: لا .. لن تقدرْ

مقبوض أنت عليكَ

بأمرِ الجنرال لال الأعظمْ

يوسف: من غير محاكمةٍ?

الضابط: بل بمحاكمةٍ..

في محكمةٍ

سَمِعَتْ ورأتْ.. كلَّ صغيرةْ

وكبيرةْ

مما قيل ودار هنا

يوسف: لم أفهمْ

الضابط: هاهاها.. انقلب الحالْ

أنت الآن – بحق – في موقعٍ

من لا يفهمُ

لكنْ

من حقك يا يوسف أن تفهمْ

لن تخلع زيًا… وستفهمْ

يوسف: لم أفهمْ..

الضابط: اسمعْ

عُقِدت محكمة القصر العليا لمحاكمتكْ

يوسف: من غير سؤال أو تحقيقٍ? من غير محققْ?

الضابط: بل كان هنالك أسئلة واستجواباتْ

وإجاباتٌ ومحققْ…

يوسف: أين التحقيقُ?

الضابط: يتمثل فيما قيل ودارْ..

كنت المسؤولَ

وأنا السائلْ

والمحكمة العليا تستمع وتشهدْ

فالجلسة نقلتْ

بالصوت وبالصورةِ …

ومباشرةً…

يوسف: لكن لم تشعرني أن هنالكَ

من يشهد أو يستمعُ

الضابط: ذلك أقرب من مفهومِ العدلِ

ولبِّ الإنسانيةْ

يوسف: لم أفهمْ

الضابط: (مقهقهًا..) ها.. ها…

لم تفهمْ!!

أشرحُ لكْ..

مجهوليتك الرقباء

أي أن تجهل أن هنالكَ

من يسمعُ أو يشهدْ..

تدفع عنك الخوفَ

وتمنع عنك الرهبةْ

فتكون طبيعيًا بجنان ثابتْ

يوسف: هل صدر الحكمْ?

الضابط: طبعًا..

قد صدرَ

وصُدِّقَ

واعتُمِدَ

يوسف: من محكمةٍ?

الضابط: يرأسها الجنرالُ العادلْ

يوسف: محكمة لم أمثلْ بين يديها

الضابط: ولماذا تمثلُ بين يديها?

يوسف: حتى تسمع مني..

 تشهدني…

أبدي رأيي بين يديها

وأدافع عن نفسي..

هذا حقي..

الضابط: ذلك يا يوسفُ

ما حدث تمامًا

ذلك فعلاً ما قد تمّْ

تركتْك المحكمة تقولُ

وأنا كنت المُستجوِبَ

طبقًا لقرار الجنرال لالِ

المرقوم بعشرينْ

أقوالك سُمعتْ

ودفاعَك أبديْتَ بحريةْ

دون مقاطعةٍ من أحدٍ

وعلى ذلك صدر الحكمْ

يوسف: الحكمُ? ما الحكمْ?

الضابط: السجنُ إلى أن تلقى الموتْ

يوسف: والتهمةُ?

الضابط: تعني التهمَ:

“الأولى: سب الجنرال لال الأعظمْ

باعث نهضة هذا الشعبِ

ومن غرس العزة في وجدانِهْ

والثانية: التدبير المتقنُ

من أجل الاستيلاء على جب الدولةْ

أما ثالثُ هذي التهمِ

فخلو خزائنِ هذا الوطنِ

بسبب الإهمال الفاحشِ

منك أمينًا وحفيظًا (لحظات من الصمت)

لكن هنالك تذييلاً

بعد الحكم وبعد التهمِ

ونصه:

“تسقط هذي التهمُ وذاك الحكمُ

إذا ما يوسف عادَ

لتولي أمر خزائن دولتنا المعمورةْ

هيه يا يوسف ما رأيكْ?

يوسف: رأيي:

السجن إليَّ أحب وأحلى

ليظل الحق هو الأعلى

لا يفنى أبدًا أو يبلَى

لا يفنى أبدًا أو يبلى

(يقتاده ثلاثة من الضباط السريين بعد أن يخرج أحدهم مسدسه ويصوبه إلى يوسف.. وهم الثلاثة الذين كانوا يقفون في الصف وراءه مباشرة يسمعون كل ما يقول متظاهرين بأنهم أفراد من الشعب جاءوا لتقديم طلبات للهجرة):

تنطفئ الأنوار في المسرح ولا يسمع إلا صوت يوسف مرددًا عبارة: السجن إليّ أحب وأحلى، ثم يظهر الضوء تدريجيًا من بيت التموين، حيث كان يوسف وما زال راقدًا على الدكة، ويبدأ في الاستيقاظ والنهوض هو بملابسه التاريخية يردد العبارة نفسها، ثم يقف ويفيق إلى نفسه، ويقول في صوت متهدج متثائب):

– يا سبحان اللهِ..

لقد كانت رؤيا..

ما أطولها رؤيا..

ما أغربها رؤيا!!

(لحظات من الصمت، ثم صائحًا بنبرة فيها قلق وحيرة..)

رؤيا? حقًا رؤيا..

لكن رؤيا العبد الصالح ليست أضغاثًا..

فبماذا أعْبر رؤياي?

(ثم بصوت أكثر ارتفاعًا وفزعًا)

رباه!

الملك العادلُ?

الصقر المسمومْ?

لال الأصفرُ?

وخزائن بيت المالِ

(يسمع طرقًا شديدًا على الباب)

– ادخلْ..

(.. يدخل فيلون وشادي قاضي البهو الأبيض، وكامي رئيس الحرس الملكي بالملابس الفرعونية التاريخية)

يوسف: آهٍ.. موعدك شروق الشمسْ

أشرقت الشمس إذنْ

عمرك تلتزم الدقة يا فيلونْ

لكن.. ما سر حضورك يا شادي?

ما سر حضورك يا كيمونْ?

فيلون: يا صديقْ..

لَّما تشرقْ شمس اليومْ

ما زلنا في وقت الفجرِ

وما غادرتك إلا من عشر دقائقْ

(تسمع ضوضاء في الخارج، وأصوات مختلطة غير مفهومة، تعلو تدريجيًا أثناء الحوارات التالية، ولا يفسرها إلا عبارات قليلة مثل “حمدًا لله”، “هذي عاقبة الظلم الفاحش، “سحق الله اللاليين” حمدًا لله انتصر الحق)

يوسف: لكن في الخارج أصوات مختلطةْ

ضوضاء وضجيج صاخبْ

فيلون: وقعت أحداث جُلَّى

كامي: ما كانت تخطر بالبالْ

يوسف: خيرًا إن شاء اللهْ

فيلون: الملك يريدك حالاً

يوسف (في لهفة): الملك العادل حيّ?

حمدًا للهْ

(ينظر الثلاثة فيلون وشادي وكامي كل منهم للآخر باستغراب، ولكن يوسف يستدرك بسرعة):

أعني ماذا حدثَ?

خيرًا إن شاء اللهْ..

فيلون: في إيجازٍ..

حين تركتك من عشر دقائقَ للبيتِ

وجدت هنالك قدام البيتِ

القاضي شادي

ورئيسَ الحرس الملكي.. كامي

صاحا أين ذهبتْ?

الملك يريدك حالاً”

هرولنا للملك العادلِ

أبلغني أن رسولاً من والي الصحراء الغربيةْ

حضر سريعًا إلى الملك بتقرير عجبٍ

فيه يقول:

في الصحراء الغربيةِ وعلى بعد ثلاثة أميالٍ

من بلدة “طافو” عاصمة الصحراءْ…

وجدت جثثٌ ستٌّ مزقها مجهولون بوحشيةْ

وكذلك وُجدت عشراتٌ من إبلٍ

تحمل قمحًا وشعيرًا شاردة في الصحراءِ

وبالتحقيق تبين أن لصوص الصحراءِ

وقطاع الطرق انقضوا، نهبوا

قافلة من ألفي جملٍ تحمل قمحًا وشعيرًا

لم يفلت منها إلا عشرات أمسكنا بعضًا منها

وكشفنا أن الأكياس.. كل الأكياس من قمح وشعيرٍ

كان عليها خاتم دار التموينْ

أما القتلى الستة أصحاب القافلةِ

فكانوا لال الأصفر ورجالَهْ:

ماني – تابي – حابي – جابي –

خابي

يوسف: فضح الله الظالم.. لم ينفعه عتوهْ

كامي: حمدًا لله ولا نشمتْ

قد يمهلُ.. لكن لا يهملْ

يوسف: والجيشُ?

فيلون: عمته الفرحةُ بالخبرِ..

شادي: والملك العادل عين كامي

ليكون القائد للجيشِ

خلفًا للقائد لال الأصفرْ

يوسف: والناسْ?

شادي: الخبر سرى في كل مكانْ

استيقظ كل الناس نشاوى

وقلوبهمُ ترقص فرحًا

يوسف: حمدًا لله وشكرًا

قل جاء الحق وزهق الباطلُ

إن الباطل كان زهوقًا

(تزداد أصوات الخارج قربًا وارتفاعًا، ويوسف يكرر العبارتين السابقتين، وينساب قوله في نشيد جماعي تختم به المسرحية):

حمدًا حمدًا للهْ

شكرًا شكرًا للهْ

قد جاء الحق وزهق الباطلُ

إن الباطل كان زهوقًا

 انتهت المسرحية الشعرية بفصولها الثلاثة

Print Friendly, PDF & Email
قصص وروايات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img