img
الحضارة الإسلامية تعمير وتنوير – 3
img
Print pagePDF pageEmail page

الحضارة الإسلامية تعمير وتنوير

(3) من (4)

وفي سفره الضخم “قصة الحضارة” يعترف “ديورانت” بعمق تأثير الحضارة الإسلامية في الغرب في كل مناحي الحياة، وبصور متسعة متعددة، فقد تلقت أوروبا من بلاد الإسلام الطعام، والشراب، والعقاقير، والأدوية، والأسلحة، وشارات الدروع ونقوشها، والتحف، والمصنوعات، والسلع التجارية، وكثيرًا من الصناعات، والتشريعات، والأساليب البحرية، وكثيرًا من الأسماء مثل Lemon (ليمون) Sugar (سكر)، Syrup (شراب)، Elixir (الأكسير)،Admiral (أمير البحار).. والعلماء العرب هم الذين احتفظوا بما كان عند اليونان من علوم الرياضة، والطبيعة، والكيمياء، والفلك، والطب، وارتقوا بها، ونقلوا هذا التراث اليوناني بعد أن أضافوا إليه من عندهم ثروة عظيمة جديدة إلى أوروبا.

ولا تزال المصطلحات العلمية العربية تملأ اللغات الأوروبية، منها ـ على سبيل المثالAlgebra (الجبر)، Zero، Cipher (للصفر)، و Elenbic (للأنبيق) Almanac (للتقويم) وهي مشتقة من لفظ المناخ. وظل أطباء العرب يحملون لواء الطب في العالم خمسمائة عام كاملة.

وأبراج الكنائس المسيحية المستدقة، وأبراج نواقيسها مدينة بالشيء الكثير إلى مآذن المساتجد.. ولقد أخذ صناع الحديد والزجاج في البندقية، ومجلد والكتب في إيطاليا وصانعو الدروع والسلاح في أسبانيا، أخذ كل هؤلاء فنونهم عن الصناع المسلمين.

وكان النساجون في جميع أنحاء أوروبا تقريبًا يتطلعون إلى بلاد الإسلام ليأخذوا منها النماذج والرسوم، وحتى الحدائق نفسها قد تأثرت ـ إلى حد بعيد ـ بالحدائق الفارسية.

وقد جاء هذا التأثير إلى بلاد الغرب عن طريق التجارة، والحروب الصليبية، وعن آلاف الكتب التي ترجمت عن اللغة العربية إلى اللاتينية، وعن الزيارات التي قام بها العلماء أمثال جربرت Gerbert، وميخائل اسكت Micheal Scot، وأدلارد Adelard إلى البلاد الإسلامية، ومن الشباب المسيحيين الذين أرسلهم آباؤهم الأسبان إلى بلاط الأمراء المسلمين ليتربوا فيها، ويتعلموا الفروسية، ومن الاتصال الدائم بين المسيحيين والمسلمين في بلاد الشام، ومصر، وصقلية، وأسبانيا. وكان كل تقدم للمسيحيين في أسبانيا تتبعه موجة من آداب المسلمين، وعلومهم، وفلسفتهم، وفنونهم تنتقل إلى البلاد المسيحية، وعلى سبيل المثال نرى أن استيلاء المسيحيين على طليطلة في عام 1085م قد زاد معلومات المسيحيين الفلكية، وأبقى على الاعتقاد بكروية الأرض.

وكان للإسلام والحضارة الإسلامية أثر كبير جدًّا في القارة الهندية التي كانت مهدًا  للحضارة              والفلسفة والعلوم الرياضية في عهد من العهود، ثم أمعنت في الوثنية والميثولوجية الهندية، والنظام الطبقي الجائر والتزمت. كتب جواهر لال نهرو: إن دخول الغزاة الذين جاءوا من شمال غرب الهند، ودخول الإسلام له أهمية كبيرة في تاريخ الهند، إنه قد فضح الفساد الذي كان قد انتشر في المجتمع الهندوكي، إنه قد أظهر انقسام الطبقات، وحب الاعتزال عن العالم الذي كانت تعيش فيه الهند، إن نظرية الأخوة الإسلامية والمساواة التي كان المسلمون يؤمنون بها، ويعيشون فيها، أثرت في أذهان الهندوس تأثيرًا عميقًا، وكان أكثر خضوعًا لهذا التأثير الذين حرم عليهم المجتمع الهندي المساواة والتمتع بالحقوق الإنسانية.

ويقول: ن. س. مهتا (N.C. mehta) في كتابه (Indian Civilization and Islam): إن الإسلام قد حمل إلى الهند مشعلاً من نور قد انجلت به الظلمات التي كانت تغشى الحياة الإنسانية في عصر مالت فيه المدنيات القديمة إلى الانحطاط والتدلي، وأصبحت الغايات الفاضلة معتقدات فكرية. لقد كانت فتوح عالم الأفكار أوسع وأعظم منها في حقل السياسة، شأنه في الأقطار الأخرى. لقد كان من سوء الحظ أن ظل تاريخ الإسلام في هذا القطر مرتبطًا بالحكومة، فبقيت حقيقة الإسلام في حجاب، وبقيت هباته وأياديه الجميلة مختفية عن الأنظار.

وأعجب من ذلك ما ذكره الباحث الهندي المعروف: ك. م. بانكار K.M.Panikar، وهو يتحدث عن تأثير عقيدة التوحيد الإسلامية في عقلية الشعب الهندي، ودياناته، فيقرر أن تأثير الإسلام في الديانة الهندوكية كان عميقًا في العهد الإسلامي، ففكرة عبادة الله عند الهنادك مدينة للإسلام، فقادة الفكر والدين في هذا العصر ـ وإن سموا آلهتهم بأسماء شتى ـ قد دعوا إلى عبادة الله، وصرحوا بأن الله واحد، وهو يستحق العبادة، ومنه تطلب النجاة والسعادة.

وفي كتاب ألفه بالعبرية: نفتالى (Naphtali Wieder) وترجم للإنجليزية باسم Islamic Influences on The Jewish Worship (تأثير الإسلام في العبادات اليهودية)، وقد أثبت الكاتب أن اليهود تعلموا من المسلمين في لغتهم، وأدبهم وحكمتهم، ولم يأخذ المسلمون عنهم شيئًا.

وعندما كانت الحضارة الإسلامية في أسبانيا ساطعة جدًّا، وخصوصًا في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، كانت مراكز الثقافة في الغرب أبراجًا يسكنها ـ كما يقول لوبون ـ “سنيورات” متوحشون، يفخرون بأنهم لا يقرأون.

وأكثر رجال النصرانية معرفة كانوا من الرهبان المساكين الجاهلين الذين يقضون أوقاتهم في أديارهم ليكشطوا كتب الأقدمين النفيسة بخشوع، وذلك كيما يكون عندهم من رقوق ما هو ضروري لنسخ كتب العبادة.

وكان تعذيب الجسم يعد “مثالية” روحية وأخلاقية، وينقل التاريخ أن الراهب ماكاريوسMakarius نام ستة أشهر في مستنقع ليقرض جسمه العاري ذباب سام، وكان يحمل دائمًا قنطارًا من حديد، وكان صاحبه يوسيبيس Eusebius يحمل نحو قنطارين من حديد. وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح، وقد عبد الراهب يوحنا St. Jhon ثلاث سنين قائمًا على رجل واحدة، ولم ينم، ولم يقعد طول هذه المدة، فإذا تعب جدًّا أسند ظهره إلى صخرة.

وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائمًا، إنما يتسترون بشعرهم الطويل، ويمشون على أيديهم، وأرجلهم كالأنعام، وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع، والآبار النازحة والمقابر، ويأكل كثيرًا من الكلأ والحشيش، وكانوا يعدون طهارة الجسد منافية لنقاء الروح، ويتأثمون من غسل الأعضاء وأهدى الناس عندهم وأتقاهم أبعدهم عن الطهارة، وأوغلهم في النجاسات والدنس. يقول الراهب اتهينس: أن الراهب “أنتوني” لم يقترف إثم غسل الرجلين طول عمره، والراهب لم يمس الماء وجهه، ولا رجله خمسين سنة.

وقد قال الراهب الإسكندري بعد زمن متلهفًا: واأسفاه!! لقد  كنا في زمن بعد غسل الوجه فيه حرامًا، فإذا بنا الآن ندخل الحمامات، وكان الرهبان يتجولون في البلاد، ويختطفون الأطفال، ويهربونهم إلى الصحراء والآديار، وينتزعون الصبيان من حجور أمهاتهم، ويربونهم تربية رهبانية، والحكومة لا تملك من الأمر شيئًا، والجمهور والدهماء يؤيدونهم، ويحبذون الذين يهجرون آباءهم وأمهاتهم، ويختارون الرهبانية، ويهتفون باسمهم. وعرف الرهبان ومشاهير التاريخ النصراني بالمهارة في التهريب، حتى روي أن الأمهات كن يسترن أولادهن في البيوت، إذا رأين الراهب امبروز Ambrose، وأصبح الآباء والأولياء لا يملكون من أولادهم شيئًا، وانتقل نفوذهم وولايتهم إلى الرهبان والقسوس.

وفي الوقت الذي كان الأطباء العرب يعالجون الأمراض النفسية بأساليب علمية، وكذلك يعالجون الجنون علاج الأمراض الطبيعية، كان الأفرنج يسمون الجنون بالمرض الإلهي، أو المرض الشيطاني؛ لأنهم كانوا يحسبونه من إصابات الأرواح والشياطين.

ويقول “بلاسكوأبانيز”.. وبينما كانت شعوب الفرنجة والجرمان يعيشون في الأكواخ، ويعتلي ملوكهم وأشرافهم قمم الصخور في القلاع المظلمة، ومن حولهم رجالهم، وهم عالة عليهم، يلبسون الزرد، ويأكلون طعام الإنسان الأول قبل التاريخ، كان العرب الأندلسيون يشيدون قصورهم القوراء، ويردون الحمامات، كما كان سراة روما يرودونها من قبل للمساجلة في مسائل الأدب، وتناشد الأشعار، وتناقل الأخبار.

ومن مظاهر العار في الحضارة الغربية حرب الأفيون Opium War وهي صفحة من أشد الصفحات سوادًا في تاريخ الحضارة الغربية، وأطلق عليها هذا الاسم؛ لأنها بدأت بقيام الجمهور الصيني في مدينة “كانتون” بإحراق سلع صدرتها بريطانيا إلى الهند، ولم تكن هذه السلعة إلا الأفيون، وكانت الحكومة البريطانية تشجع على تهريبها لأهداف سياسية وتجارية.

ومن أجل الأفيون، وحرص بريطانيا على تهريبه وترويجه قامت حربان مشهورتان: الأولى هي حرب الأفيون الأولى (1840 ـ 1842م).

أما حرب الأفيون الثانية فكانت من سنة 1857م ـ 1860م).

والشرارة التي فجرت الحرب ظهرت بقيام بعض السكارى من البحارة الإنجليز بقتل أحد الصينيين في “كانتون” ورفض “تشارلز اليوت” المشرف التجاري البريطاني في “كانتون” أن يسلم الجناة لمحاكمتهم بناء على طلب “هسو” حاكم كانتون، فحاصر السفن التجارية البريطانية، فقامت سفينتان حربيتان بريطانيتان، فاغرقتا أغلب السفن الصينية في الميناء، وأعلنت بريطانيا الحرب على الصين في نيسان (أبريل) 1840م.

وكان السبب الحقيقي هو وقوف الصين في وجه تجارة الأفيون. وانتهت الحرب بهزيمة الصين وعقد اتفاقية (شوينبي). وسلمت “هونج كونج” ومناطق أخرى للإنجليز الذين ارتكبوا مذابح بشعة ضد المدنيين، وزيادة على غرامات ضخمة فرضت على الصينيين ضربت القوات البريطانية ساحل الصين الشمالي، واحتلت مدنًا متعددة، وعلى مدى عامين كانت الخسائر الصينية فادحة، ووقعت الصين في آب (أغسطس) 1842م اتفاقية “نانكنغ” وبمقتضاها:

1 ـ تدفع الصين لبريطانيا 21 مليون دولار مقابل الأفيون المحروق.

2 ـ تنزل الصين عن “هونج كونج” لتصبح مستعمرة بريطانية.

3 ـ يعفى المواطنون البريطانيون من الخضوع للقانون الصيني.

5 ـ تمتع بريطانيا بامتياز “الدولة الأولى بالرعاية” في معاملاتها التجارية مع الصين.

6 ـ خفض الرسوم الجمركية على الواردات البريطانية إلى أقل من 5% من قيمة هذه الواردات.

وبعدها، وبأسلوب التهديد حظيت الولايات المتحدة، وفرنسا على ما يقارب هذه الامتيازات. وأغرى هذا الاستسلام دول الغرب بطلب المزيد من هذه التنازلات، وخصوصًا في مجال التجارة، وكالعادة استغل البريطانيون حادثة جديدة عابرة لافتعال أزمة تمكنها من طلب مزيد من المغانم، فضرب أسطولها بالمدافع ميناء “كانتون”؛ لأن الحكومة الصينية “حكومة المانشو” رفضت الإفراج عن سفينة قراصنة كانت ترفع العلم البريطاني وتذرعت فرنسا بحجة قتل أحد مبشريها في مدينة صينية في ديسمبر 1857م، وانضمت إلى بريطانيا في الحرب التي أنزلت بالصين هزيمة شديدة وخرجت بريطانيا وفرنسا بمزيد من الامتيازات مما دفع الولايات المتحدة وروسيا القيصرية إلى مطالبة الصين بمثل ما غنمت الدولتان فكان لهما ما أرادتا وكانت هذه هي حرب الأفيون الثانية (1857م ـ 1860).

وحرب الأفيون التي استغرقت في فترتيها قرابة خمس سنين ـ تكشف عن أخلاقيات الدول الكبرى التي حملت ميراث الحضارة الغربية وهي أخلاقيات تستبيح كل وسيلة من الغدر، والكذب، والقتل، والنهب، وارتكاب المحرمات سماويًّا، وإنسانيًا في سبيل تحقيق غايتها فلا يهمهم إلا حصد المنافع، والمغانم، واحتلال الأرض، وإذلال الشعوب، وارتكاب أبشع المذابح في حق المدنيين العزل.

وتتضح وحشية الغرب في سياسة النهب، والقتل، والطرد، والتشريد في المناطق التي استولوا عليها ظلمًا، وعدوانًا: ففي “الأريزونا” بأمريكا الجنوبية تعرضت ـ وتتعرض قبائل الهنود الحمر بوادي الأمازون للطرد والإبادة من جانب الشركات الأجنبية المتعددة الجنسيات التي تزحف على أراضيهم بعد اكتشاف الاحتياطات الهائلة في من الخامات كالبوكسيت “خام الألومنيوم” والنحاس، والبترول في أراضي الصيد القبلية والاستيلاء على هذه الأراضي بدون أي تعويض لأصحابها السكان الوطنيين.

ولا ينسى التاريخ ما دار في جنوب أفريقيا على يد العنصريين البيض في جمهورية جنوب أفريقيا و “زامبيا” و “ناميبيا” والمدعمين من البيوتات المالية الاحتكارية الإنجليزية التي جمعت ثرواتها من نهب هذه الشعوب خلال قرون مضت، والمتحالفين مع أقرانهم من الإمبرياليين الأمريكيين لنهب ثروات جنوب أفريقيا من المعادن الثمينة كالماس والذهب وغيرهما.

أما عن بقايا “الهنود الحمر” في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كان هو النموذج الأول في مشوار الإبادة الطويل الذي طبق على شعوب “العالم الرابع” في “الأمريكتين” و “أستراليا” و “نيوزيلندة” أو ما يسمى “بالعالم الجديد” والمحرومين من أبسط حقوق الإنسان، تعيش هذه البقايا في مناطق تشبه “حدائق الحيوان البشرية”.

وفي كتابه “حرب قذرة” يحكي الكاتب الأسترالي: كليف تورنيل Clive Turnbull قصة إبادة السكان الأصليين لجزيرة “تسمانيا” عن آخرهم، وكان اسمها الأصلي “أرض فان ديمين” وقد تم هذا الاستئصال خلال خمسة وسبعين عامًا على أيدي أسوأ أنواع المجرمين الإنجليز الذين ضاقت بهم سجون إنجلترا في بداية القرن التاسع عشر لتتخلص منهم. وقد مات آخر هؤلاء السكان الأصليين ـ واسمه وليم لانيه ـ عام 1876م.

واتبع المستعمرون الإنجليز أقذر الوسائل للقضاء على هؤلاء المساكين، فمنهم من أطلق عليهم النار، ومنهم من هشمت رْوسهم بمؤخرات البنادق ومنهم من حطموا بالخمر والأمراض، ومنهم من ألقى في النيران الموقدة، كما اغتصبت النساء، وانزعت رجولة الذكور، ومنهم من انتزع من أرضه، وألقى به في جزر بعيدة، كل هذه الجرائم الوحشية القذرة من أجل السيطرة على الأرض وتحقيق النزوات.

وما زال للحديث بقية

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img