img
إلا القصة يا مولاي! [6]
img
Print pagePDF pageEmail page

همسًا في أذن القذافي

إلا القصة يا مولاي! [6]

 

من البدهيات النقدية أن من حق الأديب أن يختار من الموضوعات ما يشاء، ويري كثيرون من علماء النفس أن اختيار موضوعات معينة، وتكرار موضوع بذاته يكون له دلالة على شخصية الفنان(1).

وهذه مسألة تحتاج إلى تفصيل لا يتسع له المقام، إلا أن الذي يهمنا هنا أن نقرر أنه – في مجال الفن – ليس هناك موضوع خيرًا من موضوع، ولكن معيار التفضيل يعتمد على طريقة المعالجة “فالفن هو الذي يهب الموضوع”باطنية”خصبة , تجعل منه شيئا حيا , يعمر بالوجدان ,وينبض بالحيوية، ونحن نشعر حين نكون بإزاء بعض الأعمال الممتازة التي حققها كبار الفنانين أن المحسوس قد أخذ يكشف لنا عن سره الميتافيزيقي، أو عمقه الوجودي، إن المحسوس يكف – حين يندرج في عالم الفنان- عن أن يكون مجرد شيء لكي يصبح عاطفة مرئية”(2).

ولا خلاف في أن القصة – مهما كانت موغلة في الخيال- تعتمد على أسس من الواقع والمنطقية، لأن الإنسان لا يستطيع أن يتخيل إلا ما له وجود من عناصر الوجود، وتواصل معه بحواسه الخمس، ويصدق ذلك على الأحلام أيضًا، ويبقى حظ “الخيال” في عملية “تصنيع” عناصر هذا الواقع، وخلق الوشائج والعلائق بينها، ومن ثم كان من اللازم أن تكون “مادة” القصة – بكل جزئياتها سليمة صحيحة، لا تصطدم بقواعد العلم والحقائق والنواميس الكونية، والمواريث الدينية.

وكتابة القصة القصيرة ليست بالسهولة التي يعتقدها كثير من الأدباء أ, المتأدبين، ففي القصة القصيرة يتحتم أن تتركز حياة بأكملها، وتزدحم في بضع دقائق، وذلك على العكس من الرواية، وهذا الحتم بالضرورة أن تُختار هذه الدقائق – ما دامت أنها دقائق فحسب- بعناية فائقة.

وليس الفرق بينهما فرقا في الطول، وإنما هو فرق في الطبيعة الفنية لكل منهما، والقصة لا تأخذ هذه التسمية لأنها صغيرة الحجم، وإنما هي كذلك لأنها عولجت علاجًا خاصًا،  وهو أنها تناولت موضوعها على أساس رأسي لا أفقي، وفجرت طاقات الموقف الواحد بالتركيز على نقاط التحول فيه(3).

مع المجموعة القذافية..

وقد أشرنا من قبل إلى أننا أطلقنا تسمية “المجموعة القصصية” على كتاب القذافي الذي ضم اثنى عشر عملا – من باب التسامح الشديد جدًا، والدقة – بعد الذي قدمناه في الحلقات السابقة من إضاءات- تقتضي أن نطلق عليها “المجموعة الإبداعية” أو “القذافية” وهي تضم بين دفتيها اثنى عشر “عملا” أو نصًا” ولا أقول قصة.

ومجموعة القذافي – ككل- تائهة النسب، ومن الصعب جدًا إقناع الناس بأنها قصص، حتى النقاد الذين أطلقوا البخور وسبحوا وهللوا أخذتهم الحيرة، إلى أي جنس أدبي ينسبون هذه النصوص(4): فأحمد الفقيه يري “أن شكل القصة القصيرة هو الشكل الذي توفر لأغلب هذه النصوص، والباقي يمثل كل منه ما يسمي بالنص المفتوح”.(ص11)

أما خليفة التليسي فيُفهم من “عرضه” أنها جميعًا قصص (12) ويري “أمين حجازي” أن كتابات أو إبداعات القذافي في مجموعته تعد انتصارًا للقصة القصيرة (ص13)، ولكن يبدو من حديثه بعد ذلك كأنه قد رجع عن هذا الرأي فيقول: “.. لا يكون مفيدًا لهذا العمل “مجموعة القذافي” أن ينعت بالنعوت المبالغ فيها، فنحن لسنا أمام عمل لكاتب متفرغ، بقدر ما نحن أمام نصوص كتبت في لحظات معينة لرجل له في التاريخ حضوره.. إن مجافاة الشروط الفنية  التي فاتته في بعض النصوص هي محصلة طبيعية للجنس الأدبي الذي يعبر به صاحبها، ونعني به جنس المقالة، ويعلم الذين تابعوا دراسة الأعمال الأدبية أن الذي يكتب أكثر من جنس لا بد أن يدمغ أعماله جنس من الأجناس..”. (ص 14)

ومؤدى هذا الرأي الأخير أن أعمال القذافي “القصصية تغلب عليها طوابع المقال .. لأنه يرى أن المقال هو فن القذافي الأول، ثم يعود الكاتب سيرته الأولى، وكأنه قد رجع عن رأيه هذا الأخير، فيقول: “إن المجموعة تنطوي على مكسب كبير لجنس القصة”.(ص15)

ونرى الدكتور صالح أبا إصبع (5): يصف (المدينة) بأنها مقالة (ص53، 58)، ويري أن النصوص الآتية مقالات – لا قصص: “ملعونة عائلة يعقوب – أفطروا لرؤيته- دعاء الجمعة الآخرة- انتهت الجمعة دون دعاء- المسحراتي ظهرًا(ص55،56).

كما أن القذافي نفسه يصف نص (دعاء الجمعة الآخرة) بأنه مقال –  لا قصة(6)، وإن كان هناك من النقاد الحواريين من يصفه بأنه قصة، وهؤلاء يبدو أنهم ملكيون أكثر من الملك.

النسب الضائع

أعمال القذافي الاثنا عشر – أو أغلبها –.. يصعب.. بل يستحيل نسبتها إلى جنس أدبي معين حتى يحاسبها الناقد على أساس هويتها الفنية وقواعد الجنس الأدبي الذي تنتسب إليه، ومن هنا جاء الحرج الذي وقع فيه النقاد وخصوصًا الحواريين منهم، فلجأ بعضهم إلى “التخلص المضحك” وإن حاول أن يكسوا تخلصه بغلالة علمية: فأحمد الرفاعي يصف هذه الأعمال – كما أشرنا من قبل –  بأنها “أبعد من أدوات القياس وأكبر من مسارب القواعد”(7).

أما أحمد الفقيه –  كما أشرنا سابقا- فيرى أن بعض هذه الأعمال جاء فيما يسميه الاصطلاح الحديث ” النص المفتوح”، وهو النص الذي يحاول أن يسقط الحواجز أو الحدود بين ما هو قصيدة أو قصة أو لوحة أو مقالة فنية أو صورة قلمية.

وما قاله الفقيه صحيح إلى أبعد حد، ولكنه جانب التوفيق عندما حاول أن يعلل اتجاه القذافي إلى هذا “الجنس المفتوح” بأنه لا يحب أن يرهن نفسه لقالب أو نمط أو نموذج مسبق، وإنما يسعى دومًا في الأدب والإبداع – كما في الفكر والسياسة إلى فتح آفاق جديدة، تفضي إلى آفاق أخرى مؤمنا بهاجس الابتكار على الدوام”.

وتعليل الفقيه السابق ينقضه ما ذهب إليه الفقيه نفسه في توصيفه لنصي القذافي(8)، “ألفرار إلى جهنم” و”الموت” بأنها قصتان راقيتان، أي أنهما ينتسبان إلى جنس أدبي محدد، وهو جنس “القصة القصيرة” , وهذا يعني – اعتمادًا على ما ذهب إليه الفقيه- أن القذافي يتردد في أعماله الأدبية- بين شعورين ومسلكين متناقضين:

– فأحيانًا يحب أن يرهن نفسه لقالب معين.

– وأحيانًا لا يحب أن يرهن نفسه لقالب معين.

وثمة دلالة أخرى لكلام الفقيه تتلخص في أن القذافي استوعب – بل تعمق- كل المذاهب الأدبية في الإبداع، ومن ثم نراه يختار منها ما يشاء، وهذا إغراق في المبالغة والمجاملة يرفضه الواقع.

وأعمال القذافي – كما ذكرنا من قبل- لا علاقة لها- في أغلبها بالقصة، ولا بالحد الأدنى من الفن القصصي حتى بمفهومه الحكائي البدائي.

ويأخذنا العجز إذا حاولنا إرجاع كل عمل منها على حدة إلى جنس محدد من الأجناس الأدبية كالمقال والخطبة والرسالة والخاطرة، فهذه الأجناس لها تقنياتها وأصولها، وتتطلب انتظامًا فكريًا، وارتباطًا شعوريًا، ومقدمات تقود إلى نتائج منطقية، وتلاحما بين الجزئيات يبتعد بها عن التناقض.

فإذا ما قال واحد من حملة القماقم – لماذا هذه القيود وتلك القواعد الصارمة.. إن الفن حرية “والقواعد تئد الفن، والإبداع انطلاق وتحرر” قلنا له: “هي كلمة باطل أريد بها باطل، فلا أدب بلا قواعد، ولا حياة بلا نظام وضوابط، ولا حرية بلا قيود، وإلا لتحولت الحياة إلى مستنقع من الفوضى والفساد والنتن والدماء”.

ومن ثم تسقط مقولة أحمد الرفاعي التي حكم بها على أعمال القذافي بأنها: “أبعد من أدوات القياس، وأكبر من مسارب القواعد، حينما رآه يمرق من قواعد الفن القصصي، وينسلخ من ضوابطه، وأعتقد أن شخصية القذافي- الزعيم الحاكم- لا الأديب الكاتب- هي التي فازت بهذا الحكم “اللانقدي”.

المدينة.. والقرية.. والأرض

أول أعمال القذافي بعنوان “المدينة” (5-20).

والثاني بعنوان “القرية.. القرية” (23-28).

أما الثالث فعنوانه “الأرض.. الأرض”.(29-33).

وإذا جاز لنا أن نستخدم “المصطلحات النحوية” قلنا إن العنوان الأول يمثل ما يسمى “بأسلوب التحذير” أما الثاني والثالث فيمثلان ما يسمى بأسلوب الإغراء.

والأعمال الثلاثة تدور حول محور فكري أساسي واحد هو: الإزراء بالمدينة، وتحقيرها وهجائها بأبشع ما يمكن أن يتصوره إنسان، أما القرية فلها توقيرها وتبجيلها والثناء عليها والرفع من شأنها، والدعوة إلى استثمار الأرض في الزراعة.. ولا شيء غير الزراعة.

ومن المستحيل-كما قلت- الحكم على أي من هذه الأعمال بأنه قصة، ومن الصعب أن ندرجه تحت فن نثري محدد الملامح، والمعالم كالمقال، والخطبة، والرسالة، ولكن كلا منها لا يعدو كونه “تداعيات فكرية” لا يعوقها عائق، كالأحاديث التي تطرح في المجالس الحرة والديوانيات، حيث تتمتع الأفكار بسيولة لا ضوابط لها، وتكثر الاستطرادات والمقدمات التي تتمطط وتتكرر حتى تستغرق صلب الموضوع ذاته، وتكون الاستخلاصات والنتائج عديمة المنطقية، فاقدة المعقولية.

وهذه السيولة الفكرية التي لا يضبطها ضابط، ولا يحكمها معيار كانت مصحوبة بانفعال.. بل كانت مسوقة بانفعال حاد متأجج، بل إن هذا “الانفعال” كان هو البطل الحقيقي لهذه الأعمال، وعليه تقع مسئولية “أخطاء المادة”(9).

والمقصود بأخطاء المادة : الأخطاء العلمية والتاريخية والدينية، فهذا الانفعال المستبد الحاد لا يمكِّنُ صاحبه من أن يرجع إلى بعض كتب التاريخ والاجتماع والقواعد والسنن النفسية والكونية في تطور الأمم حتى لا يقع في مثل قوله: “المدينة من قديم الزمان – ما بالك الآن- هي كابوس الحياة، وليست بهجتها كما يُظن”.(ص5)

وهي غلطة علمية تاريخية فادحة، فقد كانت المدينة من قديم الزمان – هي معيار تقدم الدولة، بل إن الدولة قديما بدأت مدنا كبيرة، وعرفت اليونان قديما ما يسمى بدولة المدينة (City State) كدولة أسبرطة، ودولة أثينا(10)، كما أن المدن الحديثة – وخصوصًا العواصم هي رمز ازدهار الدول وتقدمها .

وقد بدأت “الدولة الإسلامية” بهجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، ثم انطلقت “دولة المدينة”، في امتداد حميد لتدك دولتي الفرس والروم، وتصل إلى حدودها المعروفة الآن.

ومن مدينة القاهرة خرجت جيوش الحق لتدك التتار والصليبيين في عين جالوت وحطين 0وتاريخ المدن الإسلامية الكبرى كبغداد ودمشق والكوفة والبصرة وقرطبة وما أدته هذه المدن للإسلام والعربية والأدب والإنسانية من خدمات معروف لا يستطيع أحد إنكاره.

ومن عجب أن يبدأ القذافي مجموعته في أول سطر منها بهذه الغلطة العلمية التاريخية ثم يؤكد هذا الخطأ بالمزيد والمزيد كما سنرى.

بين الفارابي.. والقذافي

وإذا كنا نأخذ على أصحاب “اليوتوبيات” أي “المدن” الفاضلة ابتداء من أفلاطون (427-347ق.م) ومرورًا بالفارابي (260-339هـ) (874-950م)، إسرافهم الشديد في تصور بل تخيل مدن مثالية لا يمكن أن توجد إلا في الخيال المجرد، فإن الكاتب العقيد ينخرط في سلك هؤلاء الغلاة المسرفين , ولكن بصورة مضادة: هم يتخيلون المثالي الأفضل، وهو يتخيل الهابط الساقط الأدنى، والجامع الوافي بين هؤلاء جميعا هو الغلو والإسراف(11).

وإذا كان الفارابي قد تخيل المدينة الفاضلة أو المثالية ورسم ملامحها التي تأثر فيها – إلى حد كبير- بأفلاطون، فإنه قد تصور وجود ما سماه “بمضادات المدينة الفاضلة” في نظامها، وفي صفات الذين يعيشون فيها والذين يتولونها..” (12).

وهو يقسم المدن المضادة للمدينة الفاضلة أربعة أنواع:

       المدينة الجاهلة.

       والمدينة الفاسقة: وهي التي يسلك أهلها مسلك أهل المدن الجاهلة مع أنهم يعرفون الآراء الفاضلة.

       والمدينة المبدلًّة: وهي التي كانت فاضلة ثم تبدلت.

       والمدينة الضالة.

وهو يطيل الكلام في المدينة الجاهلة (أو الجاهلية) , فهي اسم جامع لعدد من المدن التي تجهل حقيقة السعادة، وتميل إلى الأوجه المختلفة من السعادة الظاهرة، ومن هذه المدن الفرعية:

1-   المدينة الضرورية: التي همُّ أهلها الحصول على المأكل والمشرب والملبس.

2-   المدينة البدالة (التجارية): ويكون غاية أهلها جمع الثروة، ومع ذلك لا ينتفعون بها انتفاعًا صحيحًا.

3-   مدينة الخسة والشقوة: ومقصد أهلها اللذات البدنية , واللهو واللعب والعبث.

4-   مدينة الوجاهة: التي يقصد أهلها أن يكونوا مشهورين ممدوحين بين الأمم وعند أنفسهم.

5-   مدينة التغلب: ومقصدهم التسلط على غيرهم، ولذتهم محصورة في ذلك.

6-   المدينة الجِماعية( الإباحية) التي يريد أهلها أن يعيشوا على هواهم يفعلون ما يريدون(13).

الجهل والفسق والضلال وضياع القيم والخسة والحرص على ضرورات الحياة والمتع الحسية والبهيمية الجنسية، والجشع والطمع حرصًا على جمع الثروة، وحب التسلط والسيادة والسيطرة على الآخرين، والحرص على المظهرية والشهرة على كل المستويات.

هذه هي أهم ملامح المدن أو المدينة المضادة – كما تخيلها الفارابي- وهي في ملامحها تقف مع المدينة الفاضلة على طرف نقيض، وتكاد “مدينة” القذافي التي رسمها في أول “نص” من نصوص “مجموعته” تتفق في ملامحها مع مدينة الفارابي”المضادة” للمدينة الفاضلة.

مدينة القذافي

إن المدينة في نظر الكاتب “معمر محمد عبد السلام أبو منيار القذافي” شر خالص، وهي ليست شرًا عاديًا، ولكنها أحط أنواع الشر وأخسه وأخطره.

وأعتقدت ابتداء أنه يقصد مدينة معينة على المستوى الليبي أو العربي أو الأجنبي، ولكني ذهلت حينما رأيته يصرح بأنه يقصد بحكمه هذا.. كل مدينة.. أيَّ مدينة في العالم”. 0ص14)

فمن ملامح المدينة.. كل مدينة:

1-   النفاق والمظهرية الكاذبة.

2-   انعدام التواصل والمحبة والروح الاجتماعية.

3-   الجشع والطمع والنفعية.

4-   انعدام الشعور بالمسئولية.

5-   التقليد الغبي والاستهلاك اللعين.

6-   اختلاط المحارم بالحلائل (كذا) دون اكتراث.

7-   محاربة العمل والإنتاج.

8-   الكسل والضياع.

9-   التبلد واللامبالاة، وانعدام الإنسانية.

10-    القذارة والتعاسة، وانخفاض المستوى المعيشي.

11-    الصراع الشرس المرعب.

12-    انعدام الإحساس بالجمال.

13-    تعاسة الأطفال وتخلفهم وضعفهم جسميًا وعقليًا.

ويصل انفعال الكاتب وهياجه وثورته على المدينة (كل مدينة) إلى أقصى مداه , فيصف المدينة بأنها غثيان ودوخان وغياهب وسكْر وانتحار، وجنون وخوف من الجنون، وأهل المدينة ديدان وجرذان عدميون.. شرهون.(ص24).

وعقدة “المدينة” تلاحق الكاتب العقيد في بعض أعماله اللاحقة مثل (الفرار إلى جهنم) ص39، فنراه يخاطب سكان المدينة بقوله: “أنفاسكم تلاحقني كالكلاب المسعورة، ويسيل لعابها في شوارع مدينتكم”. ص48

إن أي “خيال” مهما كانت قدراته وإمكاناته لا يمكن أن “يتخيل” وجود مدينة على سطح الأرض، أو على سطح كوكب آخر “تتمتع” بهذه الصفات، ولكن دعك من هذا الآن، ولنسأل الكاتب العقيد عن السبب أو الأسباب التي تجعل من المدينة مسخا مرذولا بهذه الصورة؟

ويضع القذافي أيدينا على مكمن الداء، ومصدر البلاء: إنه ” وجود المصالح والمرافق والمؤسسات الحكومية” إي والله!! وصدقني أيها القارئ، فهو يرى:

– أن إنشاء جهاز المطافئ جعل الناس يفقدون شعورهم بضرورة إطفاء الحرائق بأنفسهم(ص13).

– وإنشاء شرطة الآداب جعل الناس لا يهتمون بحماية الأعراض(ص14).

– ودور الحضانة والرعاية والمراجيح وحدائق الأطفال، ورياض الأطفال، وحتى المدارس، ما هي إلا تحايل على أولئك المخلوقين الأبرياء (أي الأطفال) للتخلص منهم بطريقة عصرية للوأد(ص19).

وإذا كانت هذه هي أسباب الداء – وقد أدركها القذافي بوعيه العجيب- فمن السهل إذن- إزالة هذه الأسباب، وتحقيق الشفاء، وذلك لا يحتاج إلا “قرارًا سياديًا” يصدره زعيم الجماهيرية بإلغاء أجهزة الشرطة والمطافئ والمحاكم والمدارس والحدائق العامة.

ونقرأ للقذافي ما هو أغرب من ذلك.. إنه يقول بالحرف الواحد: “ليس العيب في الناس ساكني المدينة، أبدًا، الناس هم الناس في المدينة أو القرية , يتشابهون في كل شيء تقريبا: في القيم، في الأخلاق، خاصة أبناء القوم الواحد أو الدين الواحد، العيب في طبيعة المدينة ذاتها بما تفرضه على الناس من تكيف تلقائي تدريجي..”(ص10).

يا عجبا هل الأوصاف التي خلعتَـها على المدينة من نفاق وجشع وفساد وانعدام شعور بالمسئولية.. إلخ كنتَ تقصد بها المدينة سكانًا ومجتمعا؟ أم المدينة حيطانًا وطرقًا وأشجارًا؟

أنا لن أجيب ؛ فالإجابة يعرفها جميع الناس صغيرهم وكبيرهم وعالمهم وجاهلهم.

ومرة أخرى أذكّر القذافي بما قاله في نصه “الفرار إلى جهنم” مخاطبا سكان المدينة “أنفاسكم تلاحقنى كالكلاب المسعورة، ويسيل لعابها في شوارع مدينتكم”(ص48).

ومن أقوال القذافي أيضًا ” المدينة ضد الإنتاج ؛لأن الإنتاج يتطلب جهدًا وصبرًا،  والمدينة – بطبيعة حياتها- ضد الصبر, وضد الجدية والجهد..” (ص11).

وإني لأسأل: أيعني الكاتب العقيد بهذا التوصيف المدينة سكانًا.. رجالا ونساء وأطفالا؟ أم يعني به المدينة بناء وشوارع وأشجارًا؟!

ثم ألم يسمع القذافي بمئات من مدن كبرى منتجة في العالم؟ أنا لن أذكره بمدن في أمريكا وبريطانيا وألمانيا واليابان , ولكن أذكره بمدن في مصر مثل حلوان ودمياط والمحلة الكبرى والإسكندرية وكفر الدوار.

هذه هي الرؤية القذافية للمدينة.. فماذا عن القرية من المنظور القذافي؟ هذا ما يتبين لنا في الحلقة القادمة.

 

 

(1) انظر زكريا إبراهيم “مشكلة الفن” 41 (دار مصر  للطباعة- القاهرة 1976م).

(2) السابق 344

(3) فرانك أوكونور: الصوت المنفرد The lonely Voice ص 8 ترجمة الدكتور محمود الربيعي (الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1993م).

(4) وذلك في ندوة عقدت في تونس، ونشرت في مجلة الثقافة العربية (ليبية) العدد الأول –  السنة العشرون- يناير 1995م- من ص 8-17. وذلك في مجموعته ص 103ـ ص 106.

(5) فيما مقال له بعنوان “حينما يكون السياسي كاتبًا” مجلة “الثقافة العربية” العدد 3 و4 مارس ـ أبريل 1995م. صـ 52 ـ 58.

(6) وذلك في مجموعته صـ 103، صـ 106.

(7) ص 10 من مجلة (الثفافة العربية) العدد 9 سبتمبر 1995م.

(8) وتعليقه ملحق بكتاب القذافي ـ من ص 132 ـ 143.

(9) من توجيهات أستاذتنا عبد العليم إبراهيم ـ رحمه الله ـ ونحن نتدرب على التدريس في السنة النهائية الجامعية “التدريس مادة وطريقة، فاحذرالخطأ فيالطريقة، أما الخطأ في المادة فأنه خطيئة.

(10) كانت اليونان القديمة تتكون من مئات من الوحدات السياسية، تتمتع كل منها بالاستقلال الذات،تسمى “دولةالمدينة City Stste” واختلطت نوعيات الحكمفيها من حكم الملكية والفرد المطلق إلى الحكم الديمقراطي.

انظر مادة (City stste) في (The American Heritage Dictionary ) وكذلك في (Columbia Encyclopedia).

(11) ارجع في ملامح المدينة الفاضلة عند كل من أفلاطون والفارابي إلى كتاب (تاريخالفكر العربي إلى أيام ابن خلدون) لعمر فروخ: ص 102 ـ 105، ص 365 ـ 370 (دارالعلم للملايين، بيروت ط 1983م).

(12) انظر السابق: 370.

 

(13) السابق  370 ـ 371.

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img