img
إلا القصة يا مولاي! [3]
img
Print pagePDF pageEmail page

همسًا في أذن القذافي

إلا القصة يا مولاي! [3]

 

من محاسن الإسلام وركائزه القوية أنه جعل معيار التفضيل بين الناس هو العمل، وبذلك خاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس جميعا يوم فتح مكة فقال: (أيها الناس: لقد أذهب الله عنكم عُبَّية (حالة) الجاهلية، وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: برٌّتقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، ( يأيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)(الحجرات: آية 13).

ويؤكد القرآن الكريم عبثية الاعتماد على الأنساب والتفاخر بها، ويوضح معيارية العمل في الجزاء، فيقول تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ* فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)(المؤمنون: آيات 101-103).

فلا عجب أن يتسع المجتمع الإسلامي لأبي بكر “العربي” وصهيب “الرومي” وبلال “الحبشي” وسلمان “الفارسي”، وعن الأخير يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- “سلمان منا أهل البيت”، لأن الإسلام أصبح هو “الجنسية” الجديدة، والنسب الذي لا تنقطع وشائجه، ورحم الله من قال:

أبي الإسلام لا أب لي سواهُ       إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ

سيد قطب هندي!.. فارسي!!..

 وفي المجموعة القصصية!! التي كتبها “معمر محمد عبد السلام أبو منيار القذافي” –  “زعيم” الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى.. تلك التي جعل عنوانها “القرية القرية” الأرض الأرض.. انتحار رائد الفضاء.. مع قصص أخرى” يصب جام تهكمه واستهزائه على حسن البنا، وأبي الأعلى المودودي، وسيد قطب الذي يقول عنه في (قصته!!)، “دعاء الجمعة الآخرة”: السيد قطب زادًا الفارسي من أصل هندي وجنسيته مصرية.. إلخ(1) ص105.

ولكن علام استند القذافي في هذه النسبة؟ وأقول إن الرجل استند على مقولة لسيد قطب نفسه، فيذكر أبو الحسن الندوي(2)، أنه التقى بسيد قطب في مصر سنة 1951م، فأخبره أنه يرغب في زيارة الهند، وقال “إن جدنا السادس كان هنديًا، وهو الفقير عبد الله، ولا تزال السحنة الهندية موروثة في أسرتنا”، وإن ذهب الأستاذ محمد قطب إلى أن شقيقه لم يقل لأبي الحسن الندوي هذه العبارة إلا على سبيل المداعبة أو المجاملة(3).

ولو كنت مكان الأستاذ محمد قطب، ما نفيت ذلك أبدًا، وما وقفت عند هذه المسألة لأن نسبنا الحقيقي، وجنسيتنا الحقيقية الأصيلة هي (الجنسية الإسلامية) وخصوصًا أن الجد السادس قد مضى عليه قرابة خمسة قرون.

ومن الواضح أن كاتبنا القذافي لم يذكر هذا الأصل الهندي لسيد قطب إلا على سبيل التهكم والاستهزاء، يدل على ذلك ويقطع به إضافته كلمة (زادًا) و كلمة (الفارسي).. وياليت القذافي قيم الشهيد سيط قطب تقييما موضوعيًا ناظرًا إلى أدبه وفكره، ولكن يشاء الله أن يكشف القذافي مستوره بنفسه، فيقول في (القصة!!) نفسها بالحروف الواحد”..أما التعويذة الأخرى فهي مجرد قراءة كتاب في ظلال القرآن، وليس القرآن نفسه، وحسب شرح “الإخوان المسلمون” هو أن القرآن كتاب واحد فقط، أما ظلال القرآن فهي عشرة”. ص107

وكلام الكاتب العقيد يجزم بأنه لم يقرأ تفسير الشهيد سيد قطب “في ظلال القرآن”.. بل لم يقرأ صفحات أو صفحة واحدة منه، استغفر الله..بل لم يفتح – أقول لم يفتح جزءًا واحدًا من  أجزائه، ولو فعل لاكتشف أنه ليس هناك تفسير منفصل اسمه “في ظلال القرآن”. ومن ثم يكون من المستحيل على أي عقل بشري أو عقل إلكتروني أن يقرأ تفسير سيد قطب من غير أن يقرأ القرآن، لأنه رحمه الله لم يعرضه بطريقة “المتن الفوقي المنفصل” وتحته الشرح أو الحواشي” ,ولكن طريقته فيه أن يعرض مجموعة من الآيات متكاملة متتالية في صفحة مستقلة أو أكثر، ثم يقدم لها بما يربط بين أجزائها، ويوضح بإجمال مقاصدها وأهدافها ومناسبتها، ثم يكون التفسير المفصل للآيات موضوعة بين أقواس، لا يفصل بينها وبين التفسير فاصل، فقراءة التفسير دون قراءة الآيات القرآنية ضرب من المستحيل، ومن ثم يسقط ما قاله القذافي “إمكان قراءة ظلال القرآن بدون القرآن نفسه”، ولكن يبقى لكلامه هذا قيمة لأنه يمثل إدانة صارخة صريحة بأنه لم يقرأ كلمة واحدة من تفسير سيد قطب، بل لم يفتحه ويلقي نظرة واحدة على بعض صفحاته، ولو حاول قراءة هذا التفسير بنية طيبة وعقل متفتح لآمن بما قاله عالم قدير جليل: الكتاب تفسير كامل للحياة في ضوء القرآن وهدى الإسلام، عاش مؤلفه في ظلال الذكر الحكيم – كما يفهم من تسميته- يتذوق حلاوة القرآن، ويعبر عن مشاعره تعبيرًا صادقًا، انتهى فيه إلى أن الإنسانية اليوم في شقائها بالمذاهب الهدامة، وصراعها الدامي من حين لآخر، لا خلاص لها إلا بالإسلام(4).

تيمية.. وابن تيمية

ويستمرئ القذافي الاستهزاء بالفقهاء والعلماء، فيقول “.. وبالرجوع إلى كتب تيمية وابن كثير ويكن وحواء وسيد قطب زادًا واللوري والمودودي..”.

واعتقدت أن كلمة (ابن) سقطت من الطباعة، ولكني اكتشفت أن القذافي قد أسقطها عمدًا إسرافًا منه في الاستهزاء، وأن مسلكه هذا يمثل طريقة من  طرائقه في التهكم لا في (أدبه) فحسب، ولكن في خطبه كذلك (5).

ويعود القذافي إلى مواصلة منظومته في سب السلف وخصوصا ابن تيمية فمن كتبهم “حكم الدين في اللحية والتدخين- وفقه أهل السنة في استعمال الشامبو والحنة- والكناش في دخول الجنة ببلاش- وكتب ابن تيمية التي تشرح لكم حكمة الأكل بثلاث أصابع، والأكل وأنت متكئ، وحكمة الأكل في قصعة العود، أو قصعة الحديد. ص 108.

وهذا الكلام الساقط يقطع أيضًا بأن “الكاتب القذافي لم يقرأ كلمة واحدة لابن تيمية (661-728)، ولم يقرأ شيئا ذا بال عن ابن تيمية، وإلا لعرف أن له مئات من الكتب في التفسير والفقه والتوحيد والسياسة الشرعية(6)، وأنه عاش إمامًا مجاهدًا، وامتحن بالسجن فلم يهن، ولم يلن، وكان على علمه يقول: “ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير، ثم أسأل الله الفهم وأقول: يا معلم آدم، وإبراهيم علمني”(7).

وابن كثير كذلك لا ينجو من غضب القذافي ونقمته، ويناله باستهزائه وتهكمه، وطلاب المدارس والمعاهد يعرفون أن تفسير ابن كثير هو أصح التفاسير بالمأثور، أو من أصحها على الأقل، وأنه يتسم بالدقة في الإسناد، وبساطة العبارة والوضوح في الفكرة(8)، ويصل القارئ في تفسيره برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته – رضي الله عنهم- وهذه هي عقدة القذافي التي هيجته وتهيجه دائمًا.

نَعَمْ: على الصحابة يتهكم!!

ممن صب عليهم القذافي سياط استهزائه وتهكمه: “أم أيمن” و”خبيب بن عدي” و”خالد ابن الوليد” وإني لأجد من تمام الفائدة أن ألقي الضوء على الواقعة التي ارتبطت بكل منهم، فأثارت الكاتب معمر، وهيجت موهبته في الاستهزاء.

وأم أيمن بركة: كانت حاضنة محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد أن ماتت أمه وهو في السادسة من عمره، أعتقها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين تزوج خديجة فتزوجها عبيد بن زيد الخزرجي، فولدت له أيمن، واستشهد زوجها في غزوة حنين، ثم تزوجت زيد ابن حارثة فولدت له أسامة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يناديها إلا بـ”يا أمه” -أي يا أمي- ويشير إليها ويقول “هذه بقية أهل بيتي”.

ويورد محمد بن سعد خبر هجرتها مسندًا موثقا بالنص التالي: لما هاجرت أم أيمن أمست بالمنصرف دون الروحاء، فعطشت وليس معها ماء,وهي صائمة ,فجهدها العطش , فدلي عليهامن السماء دلو من ماء برشاء (حبل) أبيض، فأخذته فشربت منه حتى رويت، فكانت تقول: ما أصابني بعد ذلك عطش، ولقد تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر، فما عطشت بعد تلك الشربة، وإن كنت لأصوم في اليوم الحار فما أعطش(9) 0 هذا ما أورده محمد بن سعد مسندًا موثقا، فماذا قال القذافي متهافتا مستهزئا؟ يقول في “قصته!!” التي عنوانها “وانتهت الجمعة دون دعاء”.. “أم أيمن كادت تموت عطشًا بين مكة والمدينة وهي صائمة، فنزل عليها حساء من شربة بالمَعْد نُوس، ودلو ماء معدني ماركة أفيان، ولم تعطش طيلة عمرها بعد أن شربت من ماء أفيان..ص123.

أما خبيب بن عدي فكان فقيهًا حافظًا، بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع خمسة من الصحابة استجابة لرهط من قبيلتي “عَضَل والقارة” فغدروا بوفد الرسول عند بئر الرجيع، قتلوا منهم ثلاثة، وأسروا ثلاثة منهم خبيب، وفي هؤلاء نزل قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ  مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ)(البقرة: 207)، وبيع خبيب لأحد الكفار ليقتله بأبيه الذي قتله المسلمون في إحدى الغزوات، وحبس خبيب حتى اليوم الموعود لقتله على ملأ من الكفار، قالت ماوية مولاة حجير بن إبي إهاب مشترى خبيب “كان خبيب عندي، حبس في بيتي، فلقد طلعت عليه يومًا، وإن في يده لقطفًا من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه، وما  أعْلم في أرض الله عنبًا يؤكل..” (10).

ويقول الكاتب “معمر محمد عبد السلام أبو منيار القذافي” “.. وهل العنب الذي كان يسقط على خبيب بن عدي وهو أسير عند المشركين في مكة كان من الزهرة أم عطارد، لأن مكة لا عنب بها ؟..”ص122.

وخالد بن الوليد..

ويمضي القذافي في استكمال منظومته الهجائية التهكمية الاستهانية الاستهزائية “العظمى” فيقول بالحرف الواحد ” .. وأن خالد بن الوليد حاصر حصنا منيعًا للروم، وطلب منهم التسليم، فقالوا له: ” لا نسلم حتى تشرب السم”، فشرب قدحين من السم “السقرطوي القاتل”(11)، ولم يوجعه حتى مصران واحد من مصارينه…” ص 123.

وحتى لا نزيد من غضب الكاتب العقيد وهياجه، سنترك ولو مؤقتا الكتب القديمة – كتب التراث- التي يصر العقيد على تسميتها بالكتب الصفراء، ونقف وقفة متأنية مع خبر خالد ابن الوليد- رضي الله عنه- بأقلام كتاب محدثين لهم وزنهم ومكانهم في الفكر الإسلامي والغربي.

كتب العقاد في كتابه عن خالد(12).. وغير بعيد أنه تعود عيشة الشظف، وراض نفسه على الخشونة عمدًا في البادية ليصبر على مضانك الحرب , وشدائد الجوع والظمأ , فقد جاء

 في بعض الأحاديث أن خالدًا كان يأكل الضب، ويشتهيه، كما يأكله الأعراب ويشتهونه، وهو أغنى إنسان في مكة(13).

ويكاد الصدق والإشاعة معًا يتوافيان إلى دلالة واحدة في تربية هذا البطل المنذور للبطولة والعبقرية، فأكله – الضب- التي سبق ذكرها واحدة – وغيرها أكلات مسومات- يبدو لنا أنها مخترعة أو محرفة- ولكن اختراعها وتحريفها يدلان – لا محالة- على شيء، وهو اشتهار خالد بترويض بنيته على تجرع الغصص التي يتقزز منها الناس، ويخافون منه الهلاك.

ففي اليواقيت للقطب الشعراني أنه حاصر قوما من الكفار في حصن لهم، فقالوا: تزعم أن دين الإسلام حق؟ فأرنا آية لنسلم.

فقالوا احملوا إلي السم القاتل، فأتوه به، فأخذه وقال: بسم الله، وشربه فلم يضره، وتردد مثل ذلك في كتاب الإصابة، فروى من مصادر شتى – أنه لما قدم الحيرة أتي بسم، فوضعه في راحته ثم سمى وشربه، ولم يؤثر فيه.

وقد سمعنا نيتشه – بشير السوبر مان في العصر الحديث- يقول: “إن السم الذي لا يميتني يزيدني قوة”، فهذه بنية بطل نشأت للمجد على هذا الغرار”(14).

والذي نخرج به كلام العقاد يتلخص فيما يأتي:-

1- أن خالد بن الوليد – على يساره وثراء أهله- تربي- باختياره- تربية الخشونة والصلابة، وروض نفسه على شظف العيش، ومرارة الحرب، وخشونة الحياة.

2- أن مسألة تعاطيه السم جاءت في أكثر من مرجع قديم، وأنها تتفق مع ما درب عليه خالد نفسه من خشونة وصلابة وقدرة على الصبر والمواجهة.

3- أن الخبر – حتى لو كان موضوعًا أو محرفا – تبقى له الدلالة التي لا تنكر، وهي قدرة خالد على القيام بما يعجز عنه كثير من القادة والأبطال، فهو القائد المنتصر دائمًا، فلم يهزم في موقعة واحدة خاضها، وكثيرًا ما انتصر بالسمعة والرعب، وأعداء الإسلام يعرفون هذه القدرات الفذة فيه، حتى اعتقد أحد قادة الروم – واسمه جورج- أن قوة خالد ترجع لسبب غيبي وضحه في سؤاله لخالد:

– أحق أن الله أنزل على نبيكم سيفا من السماء، فأعطاكه فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟ فلما أجاب خالد بالنفي سأله جورج، فبم سميت سيف الله؟ قال خالد: تابعنا نبينا، فقال: أنت سيف من سيوف الله، سله الله على المشركين، ودعا لي بالنصر، فسميت سيف الله، فأنا من أشد المسلمين على المشركين(15).

وإذا كانت الرياضة والدربة وحملْ النفس على ركوب الصعاب عاملا من عوامل تحمّل ما لا يتحمله الآخرون، فإن هناك عاملا أقوى وهو “الطاقة الروحية” التي ترتبط بالإرادة القوية والعزيمة الحاسمة، وقد يؤيد هذا الحكم أن خالدًا كان يبدأ دائمًا بالتسمية “بسم الله” قبل إقدامه على شرب السم.

وأثر “الطاقة الروحية” في قوة التحمل، وإحراز النصر أمر لا يمكن إنكاره، وفي مجتمعاتنا الحاضرة أشخاص يعدون بالمئات والآلاف يتحملون من السم – دون أن يؤذيهم- أضعاف ما يروي أن ابن الوليد طعمه أو تجرعه، وليسوا من الصحابة أو التابعين(16).

أوْ هيَ الكرامةُ.. يا قذافي..

المعجزة – كما هو معروف- لا تكون إلا للأنبياء، وهي أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم عن المعارضة أي لا يستطيع أحد أن يعارضه أي يأتي بمثله.

والكرامة كالمعجزة في خروجها عن العادة والمألوف، ولكن يجريها الله – سبحانه وتعالى على يد بعض المؤمنين الصالحين من عباده إكرامًا لهم، ولكن قد يجري مثل هذا العمل الخارق على يد غير مؤمن أو غير ذي عمل صالح، وفي هذه الحال يسمي العمل استدراجًا لا كرامة.

وكرامات الأولياء حق بالإجماع، وبالأدلة كقصة أصحاب الكهف، وقصة مريم، ورأى أهل السنة والجماعة هو الإيمان بما جاء من كراماتهم وصح عن الثقات من رواياتهم(17).

فلماذا لا يكون نزول الماء على أم أيمن، وإنعام الله على خبيب بالعنب في غير أوانه وغير مكانه… واحتساء خالد السم دون أن يؤثر فيه.. لماذا لا تكون هذه الحالات الثلاث من قبيل الكرامة إكرامًا من الله لثلاثة من أوليائه، وهو القائل: (أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ* لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (يونس: 62-64).

وفي حياة المسلمين، بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذه الكرامات الكثير، وبعيدًا عن “الكتب الصفراء” التي لا يطيقها، “العقيد الكاتب القصاص” نرى من الكتّاب المحدثين أصحاب الكتب “البيضاء” من يعرض بعض هذه الكرامات ويبدي إيمانه بها، ومن هؤلاء عباس محمود العقاد(18)، فقد عرض ما نقل من أن عمر بن الخطاب كان يخطب الجمعة , وفجأة قطع خطبته وصاح: “يا سارية بن حصن الجبل الجبل”، وكان سارية على رأس جيش يقاتل الأعداء وبينه وبين عمر مئات الأميال، فسمع الصوت ومال إلى الجبل وهزم الأعداء، ويعلق العقاد قائلا: ولا داعي لنفي هذه القصة استنادًا إلى العقل أو العلم أو التجربة، فإن العقل لا يمنعها ومن علماء النفس من مارسوا التلباثي: Telepathy– أي الرؤية والشعور على البعد- وسجلوا مشاهداته، وهم ملحدون لا يؤمنون بدين.

ومنهم الدكتور محمد حسين هيكل(19)، الذي يورد قصة القائد المسلم العلاء ابن الحضرمي وجيشه في عهد أبي بكر – رضي الله عنه- فقد سلك العلاء بجيشه مفاوز الدهناء، فلما جن الليل أمر الناس بالنزول حتى لا يضلوا في تية الصحراء، فنفذوا أمره، وفجأة نفرت الإبل بما تحمله من ماء وزاد، وهذا يعني تعرضهم للهلاك جوعًا وعطشًا، فأصابهم حزن عظيم.. وخفف عنهم العلاء بخطبة ختمها بقوله: “.. فأبشروا فوالله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم”.

وصلى الناس الفجر، وأخذوا في الدعاء، فلما بزغت الشمس رأوا على البعد سرابًا.. فلما قصدوه وجدوه ماء فشربوا، واغتسلوا، ونالوا ما شاءوا، وتعالى النهار، فإذا إبلهم تعود إليهم من كل صوب وتبرك، وعاد أبو هريرة وصاحب له من أعرف العرب بهذه المنطقة إلى المكان فلم يجدافيه أي أثر للماء، وقال الذي له علم بهذا المكان إنه لم ير فيه ماء ناقعا قبل اليوم.

ويبدى هيكل مسايرته لقول من قال “إنما كان ذلك من آيات الله، وإن الماء إنما كان مَنّّا من الله…”.

 

ولكن الكاتب القصاص “معمر القذافي” مازال مصرًا على إنكاره واستهزائه بأم أيمن وخبيب وخالد بن الوليد – رضي الله عنهم- وما زال في منظومته “القصصية” الاستهزائية بقية، ومازال في جعبتنا ما يدفعها ويزهقها (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء: 18).

 

الهوامش:

(1) وقد درج حواريو القذافي على وصف سيد قطب دائمًا بالهندي أو الفارسي، أو هما معًا ( انظر في مجلة الثقافة العربية (الليبية) العدد 9سبتمبر 1995م، مقالة بعنوان “أبعد من أدوات القياس، أكبر مسارب القواعد” ص 10-12).

(2) في كتاب له عنوانه (مذكرات سائح في الشرق العربي) 153، (مؤسسة الرسالة ببيروت- 1975م)

(3) عبد الله الخباص: سيد قطب الأديب الناقد 79 (مكتبة المنار- الزرقاء- الأردن وانظر: د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، “سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد” ص 30 (دار القلم – دمشق-: ط(1) – 1991م).

(4) مناع قطان: مباحث في علوم القرآن 422 (دار المريخ-الرياض- ط(16).

هذا والقذافي يلح على الإزراء بسيد قطب في كل خطبه وملتقياته، وهو يتولى كبر ذلك في الوقت الذي تشتد فيه الحملات الضارية في بعض البلاد العربية على هذا المجاهد العالم الشهيد، وبين يديّ خمسة كتب صدرت متتالية في طبعات فاخرة جدًا، وتباع بسعر رمزي، وأنقل للقارئ سطورًا قليلة من إحدهما: يأخذ الكاتب –  من وجهة نظره- على سيد قطب  “تكفيره للأمة، وطعنه على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعطيله لصفات الله – عز وجل- وقوله بخلق القرآن، وأن الله لا يتكلم، وإنما قوله مجرد إرادة، وقوله بالحلول، ووحدة الوجود والجبر، وقوله إن الروح أزلية، وقوله بالاشتراكية الغالية، وبموادة أعداء الله، وقوله عن مساجد المسلمين إنها معابد جاهلية، وتهوينه من معجزات الرسول -صلى الله عليه وسلم- ورده لأخبار الآحاد، بل للمتواترات من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغير هذا من الضلالات..”ص15.

وقد نهض الأستاذ محمد قطب يدحض – بإيجاز شديد- هذه التهم في تقديمه لكتاب شقيفقه الشهيد: مقومات التصور الإسلامي 7-14 (دار الشروق –  القاهرة- ط(4)، 1414، 1993.

(5) فهو يقول في خطاب ألقاه في 19/2/1978م، “ولم يقل النبي تمسكوا بشيء آخر: لا بكتب حنبل، ولا الشافعي ولا المالكي..” ص 46، من هذا الخطاب الذي طبع في 47 صفحة من القطع الصغير بعنوان: “خطاب الثائر المسلم معمر القذافي: ذكرى المولد النبوي الشريف” 12 من ربيع الأول سنة 1387 من وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

(6) راجع كتاب “العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية” ص 26-67 لمحمد بن أحمد عبد الهادي، تحقيق محمد حامد الفقي (مكتبة المؤيد-الرياض-د.ت)

(7) السابق 26.

(8) انظر: “مناهل العرفان في علوم القرآن” لمحمد عبد العظيم الزرقاني- 2/30 (عيسى اليابي الحبي- القاهرة د.ت) وانظر “مباحث علوم القرآن” ص 291 د. صبحي الصالح (دار العلم للملايين بيروت ط(12)- 1981م.

(9) انظر “الطبقات الكبرى” لمحمد بن سعد، 223-225 (دار صادر – بيروت- د.ت).

(10) عبد السلام هارون “تهذيب سيرة ابن هشام”، (141).

(11) ربما أراد القذافي “السقراطي” نسبة إلى “سقراط” الذي حكم عليه بالموت بأن يشرب السم

(12) عبقرية خالد (دار الكتاب العربي – بيروت لبنان-ط(30) 1969م).

(13)  السابق 29.

(14) السابق 33.

(15) العقاد: السابق – 11- وانظر: محمد الصادق عرجون في “خالد بن الوليد” – 24-241- (مكتبة الكليات الأزهرية- القاهرة ط(2) (1378-1967).

(16) في قرية بالجيرة بصعيد مصر اسمها (أبو رواش) –  إن لم تخني الذاكرة- يعمل أغلب سكانها في صيد الثعابين السامة، وتربيتها بالآلاف في صناديق زجاجية لاستخراج السم منها وبيعه لمصانع الأدوية، وهم يطمعون أنفسهم عن طريق الجلد بمسات من السم تزيد تدريجيًا بمرور أشهر أو سنوات حتى يبلغ أحدهم حد الحصانة، فلا يؤثر فيه سم الثعابين إذ لدغ.

ولا يخلو مجتمع من مجتمعاتنا الحاضرة من أشخاص لا يضارون بأكل الزجاج والنار والمسامير والحجارة، وقد عرض “التلفاز” عشرات من هذه الحالات.

(17) انظر: شرح العقيدة الطحاوية: ص 558، 562، لابن أبي العز الحنفي (المكتب الإسلامي 1393).

وكذلك: “أصول الدين” للإمام أبي منصور عبد القاهر البغدادي التميمي- ص 170 (مطبعة الدولة – استانبول 1928م).

وكذلك كتاب التعريفات: لعلي الشريف الجرحاني ص 193، (كتبة لبنان – بيروت).

(18) في كتابه “عبقرية عمر”  ص 395 من العبقريات  الإسلامية (1) دار الكتاب اللبناني – بيروت- 1974 وانظر القصة كاملة في كتاب ابن الجوزي “مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب” ص 72- دار الكتب العلمية – بيروت- (د.ت).

(19) كتابه “الصديق أبو بكر” 162-163 (دار المعارف القاهرة –  ط (6).

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img