img
يومياتي في أمريكا: بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم (50)
img
Print pagePDF pageEmail page

يومياتي في أمريكا:

بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم

(50)

وداعا … وداعا

يا بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم  

مساء الجمعة 4 من المحرم 1403   (22  من اكتوبر   1982)   

في السادسة مساء انطلقنا أنا والأخ إبراهيم المعتاز إلى مطار جون كنيدي … ومعنا ست قطع ضخمة لا يقل وزنها في نظري عن 500 رطل … حقائب ضخمة زيادة على الكرتونة الكبيرة . إلى القاعة الضخمة الواسعة الخاصة بشركة  الــ T W A  بنيويورك … كان هناك مالايقل عن ثلاثين مكتبا لتخليص أوراق كل مسافر ،  لكل مكتب ميزانه لتقدير الرسوم المطلوبة ، إذا ما زاد الوزن عن المحدد عند الشركة .    وقفنا أنا والأخ إبراهيم والأخ عبد المنعم القطري … وقفنا أمام الميزان … أمام عجوز متهالك واعتقدنا أنه أطيب الواقفين … وبدأ الرجل يزن كل حقيبة على حدى ، ويسجل الوزن ، وبعد تسجيله البيانات المطلوبة فوجئت بأن سيادته يطالبني بفارق وزن قدرة 690 $ … وصعقنا ، نعم فقد قدرت بيني وبين نفسي ألا يزيد مقابل فارق الوزن على 100$ … صدمة عاتية حقا ، وضاعت كل مناقشتنا مع الرجل سدى .

ــ ” لا فائدة من النقاش … فلم يبق عن قيام الطائرة إلا عشرون دقيقة ” . ودفعت المبلغ ، وزحفت وكلي إعياء إلى حيث الطائرة ، وصعدت إليها والدنيا تدور صفراء شاحبة في عيني ، كنت أجر أحمالي ورائي من شدة الإعياء ، ولاحظت المضيفة حالي فطلبت مني أن أشغل ثلاثة مقاعد ، ولم أصدق وأنا ألقي بنفسي على المقعد ، حاولت أن أنام دون جدوى ، وحل موعد وجبة العشاء ، وذكرت المضيفة بأن يكون طعامي (Kocher  ) أي طعام لا يدخل فيه لحم خنزير ولا دهنه . وكان قد سبق لي أن طلبت ذلك من الشركة هاتفيا بالأمس ، وجاء العشاء مكونا من لحم الدجاج ، والخبز والحلوى ، ومعه شهادة بأن هذا الطعام ( Kocher  )  . وبعد تناول العشاء روضت نفسي على النوم دون جدوى ، فأخذت أشاهد ــ دون متابعة منتطمة ــ بعض مشاهد فيلم يعرض على ثلاث شاشات في الطائرة .

وأخذت أجتر أيام السنة الماضية التى قضيتها في أمريكا ، وأستعيد أحداثها بحلوها ومرها ، ثم يشدني واقعي إلى أحداث اليوم من صباحه إلى مسائه … ربكة الصباح في تعبئة الحقائب والكرتونة . ثم الربكة الكبرى في المساء ، ودفع هذا المبلغ الكبير الذي لم يكن يخطر على بال . وحاولت النوم من جديد ، وأخيرا رحت في نوم لا يزيد على ساعة ،  واستيقظت على حديث المضيفة  وهي تناديني : sir …sir أي: ياسيد …ياسيد. وقدمت لي كعكة صغيرة ، وكوبا من القهوة .

وشاهدت انبلاج الصباح من فوق السحاب …  للمرة الأولى في حياتي … ما أجمل هذا المشهد الساحر !!! ، وهممت أن أسجل خواطري منطوقة بجهاز التسجيل ولكني تكاسلت ؛ فلم يبق إلا القليل ونهبط في مطار لندن ، وبعد ربع ساعة حطت الطائرة بمطار لندن ، إن الحمل ثقيل علي ، هل سأتمكن من حمل هذه الأثقال في مطار لندن ؟ رباه إني مجهد … متعب … الإعياء يكاد يقتلني ، دقات قلبي تلهث ، نفسي يتلاحق ، أشعر بثقل في عينيّ ، متى ألتقي بكم أيها الأحباب في مصر ؟ إني قادم يا أم الأبناء ، إني قادم أيها الأبناء … ما أشد شوقي إليكم !!!

**********    

واليوم هو السبت 23 / 10 / 1982 . جلست في مطار لندن من التاسعة صباحا ، مكاتب الشركات المختلفة تملأ القاعة الكبرى وكلها متجاورة … الخطوط الجوية الإيرانية  ، الخطوط الجوية الإسرائيلية ، مصر للطيران ، ورأيت موظفات الخطوط الجوية الإيرانية وهن يرتدين الزي الشرعي ، وإن كان المكياج على وجوههن أخذ مكانه الملحوظ . ذهبت إلى السوق الحرة بالمطار فرأيت كل شيء مرتفع الثمن ، وجلست في مقصف ( كافيتريا ) السوق الحرة ، وتناولت قطعة من الكعك وكوبا من البيبسي ، ودفعت دولارين .

الوقت يمضي متثائبا … بطيئا إلى أبعد حد … وأثناء جلوسي في الكافيتريا ، كانت تأخذني الغفوة تلو الغفوة ، الكافيتريا تضم أقواما من كل الأجناس ، ومن كل الأقطار ، وهي واسعة الأرجاء ، والعاملون عليها أغلبهم من الهنود . مضى من الوقت أربع ساعات ونصف وأنا أنتظر، فالساعة الآن الواحدة والنصف بعد الظهر ، بقي عن قيام الطائرة قرابة ساعة ونصف ،ولا أحد في مكتب شركة مصر للطيران . يا عجبا !!! … الساعة الآن الثانية مساء ولا أحد … وفجأة سمعنا المذيعة الداخلية يعلن أن ركاب مصر للطيران عليهم أن يتجهوا مباشرة إلى البوابة رقم 7 ، وساعدني بعض الإخوة المصريين على محنة أثقالي فجروا معي بعض حقائبي ، وبعد مسيرة طويلة وصلنا إلى البوابة حيث كان هناك موظفتان : إحداهما بيضاء والأخرى سمراء … ظننت أنها مصرية ثم اكتشفت أنها هندية . وفي طريقنا إلى الطائرة تفتت عربة اليد المعدنية التى حملت عليها بعض أحمالي ، ووقف المضيفون إلى جانبي ، كل منهم يحاول أن يساعدني بقدر ما يستطيع ، واستقر بي المقام على مقعدي ، وتنفست الصعداء حينما اطمأن بي المجلس ، وعرفت مكان كل ثقل أحمله ، وقلت في نفسي : كنت أتمنى أن أكون خفيف الأثقال حتى أتمتع برحلتي كما يتمتع بها خلق الله .

وعلى أية حال شعرت بشيء من الطمأنينة ، ونظرت في الصحف المصرية ، وكان أهم ما لفت أنظارنا جميعا ما كتبته هذه الصحف عما سمته جرائم عصمت السادات شقيق الراحل أنور السادات ، والتحفظ على أمواله .

لم يبق إلا أربع ساعات ونصل إلى القاهرة إن شاء الله … ثلاث … ساعة واحدة وألتقي بأحبابي وأفلاذ كبدي . وشعرت بنشاط متوهج ، فأخذت أدعو الله سبحانه وتعالى… يارب … يارب … أحيني حتى أرى أم الأبناء وفلذات كبدي ياسر ولمياء وسامح وحنان وعبير … إنه دعاء قد يبدو غريبا … ولكني أعتقد أنه دعاء لا غرابة فيه من مثلي في توهج شوقه ، وحبه لأسرته وأبنائه … وانتقل بتصوري من البيئة الأمريكية إلى منزلنا في الجيزة ، وكأن المسكن قد رسم في عقلي ، وكأني أراه رأي العين … المطبخ على يمين الداخل ، وقاعة الطعام تليه مباشرة ، وعلى اليسار غرفة الجلوس ، وفي الداخل حجرة مكتبي وحجرة نومنا . الحمد لله فمن جديد بدأت أشعر بالطمأنينة ، ويغمرني شعور عميق بحمد الله واعتراف بفضله علي إذ حققت في العام الماضي ما رسمته لنفسي ، واستهدفته انتصارا لكلمة الحق ، ودعوة الإيمان كما فصلت في الحلقة رقم 48 . 

وخفق قلبي بشدة فقد وصلنا بحمد الله ، وحطت الطائرة في مطار القاهرة ، وزاد قلبي خفوقا أحقا وصلنا ، وأصبحت من أحبابي على بعد أمتار وانتهيت من الإجراءات التقليدية المطلوبة ، ومن الصالة الخضراء عبرت البوابة متجها إلى الخارج لأرى سامح الذي لم يكن قد تجاوز الخامسة   من عمره يناديني : بابا … بابا. وسمح له الشرطي بالدخول . وبكل مشاعر الحب المدخرة في أعماقي عانقت حبيبي الصغير ، وعانقت عبير ، وكل الأحباب الذين كانوا ينتظرونني خارج البوابة ، وقابلتني أم الأبناء بكل مشاعر الحب وكذلك لمياء وابنا أخويّ سامي والمغاوري ، وأفراد من أصهاري ، ولم أصدق عيني وأنا أرى نفسي وقد غادرت المطار ، وصالة المطار ، وأنا أتجه إلى بيتي في ثلاث سيارات سيارة شقيق زوجتي محمد عاشور ، وسيارتي التى تركتها في مصر ، وسيارة تاكسي ، وأقل من ذلك لن يتسع للأحمال التي صحبتها أو صحبتني … إلى بيتي داعيا الله أن يعمره بالخير … مسكني الذي عشت فيه من خمسة عشر عاما مضت ، وعانقت بواب العمارة ، ومن التقيت بهم من الجيران ( الرجال طبعا ) . هذه مكتبتي ، وهذه حجرة الجلوس كل شيء كما هو لم يتغير . أما أسعد خبر سمعته في حياتي فهو أن كبرى بناتي لمياء قد تم تحويلها من صيدلة الإسكندرية إلى صيدلة القاهرة .

وضمتنا حجرة الجلوس في بيتي … كان أجمل لقاء … وأمتع لقاء … وأسعد لقاء . لقد عدت يا أحبابي … عدت إليكم بالحب والحنان والشوق كله ، ولم أنم إلا بعد أن أخرجت الهدايا من الحقائب والكرتونة ووزعتها على الأبناء ، وكانت عبير صغرى بناتي تتدفق بالفرح وهي تنتعل الحذاء ذا العجلات وتنطلق به في الشقة ، أما حنان ففازت بثوبين من الصوف رائعين رائعين ، زيادة على لعب الأطفال لسامح . وازداد فرحي وسعادتي وأنا أرى أسرتي سعيدة بي … وسعيدة بالهدايا التى أعياني حملها ، وكم يسعدني أن أرى أفراد أسرتي طيلة حياتهم يعيشون في سعادة وطمأنينة ورخاء . فالإنسان يجب ألا يعيش لنفسه فقط ، بل عليه أن يعيش نفسَه ، ويعيش غيرَه ، فما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط .

        وغدا أستأنف المسيرة في كلية الألسن داعيا الله  ــ سبحانه وتعالى ــ أن يوفقني في أن أنفع طلابي بما اكتسبته في رحلتي العلمية ، كما أدعو الله أن يهدي في هذه الكلية من عاش حياته يتملكه الغرور على طريقة من قال  (…يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) ( الزخرف 51) .

قطرات نفس

من خطبة الوداع لرسول الله صلى الله عليه وسلم

خطبة الوداع (10 هجرية)

ألقاها الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم عرفة من جبل الرحمة وقد نزل فيه الوحي مبشراً أنه  … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا  … ” ( المائدة 3 )

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، وأحثكم على طاعته ، وأستفتح بالذي هو خير. أما بعد ، أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم ؛ فإني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.

أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا – ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها.

وإن ربا الجاهلية موضوع  ، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وقضى الله أنه لا ربا. وإن أول ربا أبدأ به عمي العباس بن عبد المطلب.

وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب . وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية ، والعمد قود. وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية .

ألا هل بلغت؟  اللهم فاشهد.

أما بعد ، أيها الناس ، إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم ، فاحذروه على دينكم، أيها الناس إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا ، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ، ليوطئوا عدة ما حرم الله ، فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله. وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله السماوات والأرض، منها أربعة حرم ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان . ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد.

أما بعد أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهن حق. لكم أن لا يواطئن فرشهم غيركم، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن ، وتهجروهن في المضاجع ، وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله . فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً . ألا هل بلغت ؟…اللهم فاشهد.

أيها الناس ، إنما المؤمنون إخوة  ، ولا يحل لامرئ مال لأخيه إلا عن طيب نفس منه . ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.

فلا ترجعن بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله وسنة نبيه، ألا هل بلغت ؟… اللهم فاشهد.

أيها الناس إن ربكم واحد . وإن أباكم  واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب ، وأكرمكم عند الله اتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى . ألا هل بلغت؟…اللهم فاشهد . قال : فليبلغ الشاهد الغائب.

أيها الناس ، إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ، ولا يجوز لوارث وصية، ولا يجوز وصية في أكثر من ثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر. من ادعى إلى غير أبيه ،أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل. والسلام عليكم.

مساء الجمعة 4 من المحرم 1403   (22  من اكتوبر   1982)  

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img