img
يومياتي في أمريكا: بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم (9)
img
Print pagePDF pageEmail page

يومياتي في أمريكا:

بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم

(9)

نفثات قلم في أرض الغربة

ما أقسى الغربة ، وما أكثر ما قاله الشعراء والأدباء فيها ، إنها توالد الحرمان في البعد عن الأهل والأبناء والزوجة والأصدقاء والمريدين .

ولكن الجانب المضىء من الغربة هو أن الشعور بالحرمان قد يتمخض عن عطاء فكري وفني عظيم .. لذلك لن تجد في الأدب العربي أبلغ مما قاله مالك بن الريب في رثاء نفسه ، وقد رزئ بالغربة ، وحرم رؤية وطنه ، وهو يلفظ آخر أنفاس الاحتضار .

وكذلك روميات أبي فراس الحمداني ، وقد فقد حريته وعاش أسيرا في سجون الروم ، وحديد القيود يعض في يديه وينهش في رجاليه .

وللشعراء كلام كثير في ” غربة الروح ” ، وهي تعني شعور الإنسان بأنه غريب بين قومه وفي وطنه ، لأنهم يضيقون بما يحمله من قيم عليا ، واعتزاز بالنفس . وأبلغ ما قيل في ذلك بيت ابن الرومي :

أعاذك أنسُ المجد من كل وحشة          فإنك في هذا الأنام غريبُ

ولكن هذا المعنى لاعلاقة له بما نسجله في الاغتراب المكاني ، حيث كنت في أمريكا … بلاد الكلاب والخضرة والآيس كريم

*** *** *****

وكنت أعيش في مسكني الشاعري بمدينة نيو هافن ، ورفيقي هو قلمي الذي يعبر عما في أعماقي , فهو أداة التنفيس ، والتسجيل العلمي والأدبي .ومما سجلته في يومياتي أقتطف ما يأتي :

عمرو وحكاياته :

 ليس في العربية من نسجت حوله الأمثال والأقوال مثل ” عمرو” من ذلك :

· بيدي لا بيد عمرو .

· أراد عمرا ، وأراد الله خارجة .

· والمستجير بعمرو عند كربه              كالمستجير من الرمضاء بالنار

· تعالى الله يا سلم بن عمرو              أذل  الحرص  أعناق الرجال

· هذا عدا تسليط زيد على عمرو، واختصاصه بضربه في كتب النحو في الجملة المشهورة ” ضرب زيد عمرا” ومرت قرون ولم يتمكن عمرو حتى الآن من القصاص من زيد ولو مرة واحدة .

 وكل عبارة مما سبق يحتاج إلى شرح ، وبعضها يرتبط بوقائع تاريخية.

**********

بكائية للشهداء ( من ضحايا الحكام الطغاة ) :

لا …. لا تموتوا ؛ فبغيركم نموت … لاتموتوا ؛ فأنتم زاد حياتنا ، وخبز الوجود . لا … سألتكم بالحياة والجهاد ، والبلاد ، … لا تموتوا ؛ فبكم النور نور … والحق حق . وبغيركم كل شىء سواد . لا تموتوا حتى يظل القرآن حيا في المحاريب ، ويبقى النور غذاء للقلوب والعيون . وتموتون كيف ؟ ومن بعدكم يهز العروش ، ويخلع القلوب ، ويقتلع جذور الفساد ؟ … تموتون كيف ؟ ومن للمستضعفين في الأرض ، يأخذ بناصرهم ، ويفديهم بالنفس والنفيس ؟ . تموتون … كيف ؟ ومن للمآذن يجلجل فوقها صوت الله ؟ ومن للقرآن يشرب القلوب حلاوة ؟ ومن لهذه الجموع يقودها إلى النصر المؤزر المبين ؟ .

لا … لاتموتوا فالموت لم يخلق لكم …. ولكنه خلق لمن يدعون الحياة بلا حياء … والموت معهم مولود …. وقلوبهم … قلوبهم خراب وهواء .

لا…. لاتموتوا … وقولوا للموت : إلينا أخطأت الطريق , فنحن ـ أحباب الله ـ لا نموت . بقاؤنا في الدنيا نصر …. وسجننا في الله خلوة … ونفينا في الله هجرة … وموتنا في الله شهادة … بها ننزل ضيوفا كراما على أكرم وأغني مضيف .

    سألتكم بالله لاتموتوا أيها الأحباب … حتى لاتعيش الإنسانية بعدكم في ذل اليتم وسعير الضياع .

***********

 رأيتكم … نعم والله رأيتكم أيها الأحباب … رأيتكم تملئون شاشة التلفاز بوجوهكم السمحة … وعيونكم التى تشرق بالإيمان … وتنطق باليقين … يا لله !!! وهتافكم .. وما أدراك ما هتافكم … لا إله إلا الله .. محمد رسول الله … عليها نحيا … وعليها نموت .. وفي سبيلها نقاتل.. وعليها نلقي الله .

 ويقتحم الهتاف أطباق الأثير … ليملأ الأسماع في أمريكا …. يالله من أنتم ؟؟!! … قلة قليلة … ولكنكم الكثرة الكثيرة …. وراء القضبان ؟؟!! أنتم الأحرار الأطهار الأبرار …. وأعداؤكم هم العبيد المستعبدون … لاتـهنوا يا أصحاب الحق فأنتم الأعلون …. وأنتم أصحاب عليين ….

 تبتسمون ؟؟ ابتسموا …. فستلقون محمدا وبلالا وابن أبي وقاص . تهتفون … اهتفوا ؛ فبالإمس هتف أبوكم وسيدكم وزعيمكم محمد صلى الله عليه وسلم : يامنصور أمت …. وأنتم المنصورون … والله أنتم المنصورون . نفسي …. نعم نفسي فداء ذلك الأسد الشامخ وراء القضبان … صامتا كجبل أشم … راسخا كإيمان محمد … عليا … رفيعا … أمينا …. مكينا … عتيدا …. ينظر لقضاته مستصغرا شأنهم .. وهل لمثل هؤلاء شأن ؟؟… نفسي فداك يابني … والحديد ينحني لك … وقامتك أعلى .. أعلى من دنياهم وآمالهم … وماضيهم … وحاضرهم … احتقرهم يافتى … وابصق عليهم بنظراتك … يكفيك أنك أرقت ليلهم فلم يناموا … ونغصت نهارهم فلم يهنئوا بطعام … ودافعت وقاومت … وقاتلت قتال الفرسان … وهربوا هروب الجرذان …. ستموت بالرصاص لا يهم … ستموت بحبل الشنق … لا يهم . إنما سعدك أن تموت مسلما … ومامت … ومثلك لن يموت :

فالناس صنفان : موتى في حياتهمو           وآخرون ببطن الأرض أحياءُ

أبشر فأنت من الأحياء فوق الأرض , أو تحت الأرض كنت … نعم أيها الأحباب .. عليها نحيا .. وعليها نموت … وفي سبيلها نقاتل , وعليها نلقى الله …

**********

الريحانة القمرية :

 دعيه نائما لاتوقظيه … فلطالما أضنته الليالي , وعذبته المقادير …. ولطالما بكى واستجار ولا مجير .. ولطالما صرخ بنبضات دامعة دامية .. في هدأة ليله الممزق … فما رثى له إنسان … فلما خا ل أن القدر قد هادنه … إذا بك تبزغين فجأة في سمائه الغائمة … ريحانة قمرية تقول : أنا هنا … فإذا به ذلك المسكين – قلبي … يقول لك بلسان الصمت … خذيني معك إلى عا لم الصمت تسبحين , واستبيح … هروبي … وأنا معك .. بعيدا … بعيدا حيث لاعمْـر … ولا زمان ولامكان . … إنما انا وأنت .. هو … العالم بموته وحياته … هو العالم بجواحمه وفراديسه … ولنكن ـ أنا وأنت ـ فردوسا … كما تشائين , أو جحيما متسعرا … كما تحكمين . إنما المهم عندي ألا نرتدي من الحياة ـ أنا وأنت ـ إلا ثوبا واحدا … يضم نسيجه الحب الخالد في قلبين صارا قلبا واحدا … ودماءين توحدت لهما الشرايين .. فإذا الكل … الكل الجامع … في واحد ,علا على الزمان والمكان والوجود والكيان .

 ياحرقة الروح … يابسمة الأمل … كوني لطمة يأس , ودعيه نائما لاتوقظيه , فلطالما أضنته الليالي , وعذبته المقادير … لم يعد يتحمل تعلقا بـأمل جديد , ثم تتكشف له أستار المجهول عن سراب … عن خراب .. بالله دعيه للحرمان … لليأس … للنسيان .. دعيه ” أيتها الريحانة القمرية ” … لاتقتليه … لاتقتليه “

**********

ومنّي نفسه , ومنّي نفسه . وجلس على شاطىء البحر يستشرف الأفق البعيد .. وكله شوق إلى موطن الفتنة والعزة والجمال … لقد واعدته الريحانة القمرية وأكدت الوعد وقالت له : إني لك , وحرام أنا على أنوف الآخرين .. بل حتى العيون .

وعاش على هذا الوعد ,        وشغله الوعد عن كل عمل .. وشغله حتى عن كل آماله في اليقظة , وعن كل أحلامه في المنام … وكان يحدث نفسه ما عليّ لوعطلت من أشاء من أجل وعد الواعد الساحر الجميل ؟! فأنا الكاسب على أية حال .. يكفيني منها كلمة .. يكفيني منها بسمة … يكفيني منها همسة … يكفيني منها نظرة … بل لمحة عين … وما أثرى لمحة العين منها .

وانطلق الصاحب الموعود إلى الشاطىء قبل العشاء الموعود بأمد طويل … قالت له نفسه : لماذا تبكر الانتظار ومازال هناك أمد ليس بالقصير؟ قال لنفسه … فلأعش على الملتقى قبل الملتقى .

كان هدير البحر صاخبا .. وكانت الأمواج يحطم بعضها بعضا .. وكانت الزرقة من بعيد تميل إلى السواد … وهو على الشاطىء وقد تعلقت عيناه بالأفق البعيد … الليل يزحف … حثيثا يزحف … وهو لايدري بما حوله … عيناه بالأفق البعيد معلقتان … غابت الشمس … فسعد لغيابها … وأحمر الأفق من لوعة الشفق … وبدأت الظلمة تعانق جوانب الكون … سعيد هو بالظلام .. سعيد هو بالقمر الذي بدأ يصعد فى تؤدة من بعيد .

فالشمس ليست مناه … والضوء ليس مبتغاه .. إنما هو على أحر من الجمر ينتظر “الريحانة القمرية ” تتدلى إليه من القمر البعيد … وساعات … وساعات ينتظر … وقارب الفجر من البرزغ … واختفى القمر … ولم تتدل الريحانة القمرية , وعاد إلى المدينة يجر قدميه … بوجدان شاحب , وقلب محطوم .

**********

ماصدق عينيه نهارا حين رآها . وهو يسير هنالك في درب الأحزان … والقلب ملىء بالأحزان .. الكون سواد في عينيه .. والثلج الأبيض مثل الحب ضباب حالك .. والموت يغني في شفتيه … يا شقوة هذا الضائع في تيه الغرباء … يستشرف منها وعد لقاء .. وسراب التيه يناديه .. ويصبِّـحه , ويغاديه , فليمض هنالك مقهورا , ويشق عواصف مقدوره ؛ فالعودة أمل لا يدرك … وهنالك في تيه الأحزان رأها … ماصدق عينيه نهارا حين رآها .. وترامى بين يديها عصفورا مزقه الحرمان .. وبكى منه القلب .. وبكت عيناه بشوق دام .

ريحانة قلبي … يا بنت القمر الفضي … كم ذابت نظراتي شوقا .. استشرف عالمك العلوي … أتعلق في الفجر بأهداب الفجر … وأنادي في تيه الأحزان … وأغني أنشودة شوق ملتاع . يابنت القمر الفضي تعالى … ياريحانة هذا الكون تعالي , ما عاد لنا في العمر سوى أيام تمضي … فلماذا التيه وأحزان الغربة ؟؟!!

انا ياريحانة عمري لست ككل الناس .. يتحرك في وجداني وحش آثم … وسعير ناقم .. بل إني ــ ولأقسم بين يديك بطهر الحب ــ لا أنشد من دنياك سوى البسمة .. لا أبغي من شفتيك سوى الوعد المسحور , لا استشرف إلا نظرة حب من عينيك , وعبير السحر العاطر من خديك , ليعود الأمل الهارب من دربي المقهور .

    قولي , ياريحانة قلبي أى كلام .. فالكلم الرقراق وضيئا من شفتيك يزرع في وجداني روض سلام … وربيعا فياض السحر … وينسيني فحوى الكلمات .. يذهلني عن دنيا الناس …. عن كل زخارف دنياهم , عن حاضرهم … عن ماضيهم .. عن لقياهم , عن زيف الوهم الواهم في سكناهم … فبحسبي ياريحانه قلبي أن أحياك … وأعيش رؤاك …. أو رؤياك .

**********

لا تلومي واعذريه – فهو من ماء وطين – لم يكن في خلقه ملكا طهورا , إنه النحلة العطشى تهيم إلى الرحيق . سحر خديك سباه .. نور عينيك دهاه .. فهوى .. وغدا نارا تلظى .. ولهيبا يتسعر . لا يرى في الكون غيرك . لايرى سحرا سواك .. وكأن العمر لايشرق إلا من رؤاك .. وكأن الشمس لاتمنح نورا إلا من بهاك .

لا تلومي .. واعذريني .. بل فلومي قدرا ساق كلينا في طريق واحد ، وعلينا أن نسير .. حيث لا نملك إلا أن نسير .. أو فلومي سحرك الأسر ياريحانتي .. فهو أقوى من إرادات البشر .. وهو أمضي من تصاريف القدر.

***********

إنها بعض نفثات قلم سجلتها بعفوية … كما شاء , فكأنه يكتب ” بلا يد” ؛ لأنه موصول بالقلب والعقل والضمير . وأقول إنها بعض ؛ لأن القلم لايتوقف عن مواصلة التعبير عما في جوانية صاحبه .

ولعل الأجزاء الأخيرة من ” الريحانة القمرية ” قريبة مما يسمى ” بالأدب الرمزي” ، وإن صح هذا فهو رمز غير مغلق ، ولا حظ للتكلف والتصنع فيه . وبمشيئة الله التقي بقارىء هذه اليوميات في نفثات قلمية أخرى .

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img