img
وطن ممزق في لوحات
img
Print pagePDF pageEmail page

وطن ممزق في لوحات

قراءة في قصيدة “آخر كلمات القرّاء الضرير

” للشاعر جابر قميحة “

Abdullah Ramadan

د.عبد الله رمضان*

“في منطقة (تل الخرابنة) بجنوب مصر عُثِر سنة 1928م في قبوٍ على مجموعة من الأوراق البردية، وعددها 52 مكتوبة بلغةٍ مركَّبة من الهيروغليفية والآرامية القديمة، منسوبة إلى (حاموتاب) القرّاء الضرير، وأقدِّم ترجمةً شعرية للورقة رقم 52”.

المقدمة النثرية السابقة هي ما صدر الشاعر به قصيدته المعنونة بـ “آخر كلمات القرّاء الضرير”.

ونلحظ أن “الإيهام الفني” أو ما سماه الشاعر في حديث لي معه بـ “الدجل الفني” هو ما يميز تلك المقدمة، فيوهمنا عنوان القصيدة أن هناك شخصا حقيقيا اسمه “القرّاء الضرير” وأن هناك منطقة تسمى “تل الخرابنة” جنوب مصر، وتم العثور بها على برديات عددها اثنتان وخمسون، ثم يوهمنا أنه تخير أهم هذه البرديات لترجمتها، وما يدلل على هذه الأهمية هو اختياره لها دون غيرها.

ولا شك أن كل هذه الرموز الإيهامية لها ما يقابلها من المدلولات الواقعية، وإذا جاز لنا التفسير فإن تل الخرابنة هي المقابل الرمزي لتل العمارنة بجنوب مصر، بل هي المقابل الأعمق لمصر نفسها، والقرّاء الضرير يمثل الشخص الحكيم الذي يرى بلحاظ الرأي ما هو واقع، كما قال البارودي، وما أراه إلا الشاعر نفسه، وفي العنوان كذلك تناص على نحو ما مع “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” لأمل دنقل، والرقم 52 يدل دلالة واضحة على ما سمي بثورة 1952م التي قام بها تنظيم الضباط الأحرار في مصر.

لا نريد من هذه التفسيرات أن تذهب بالتذوق الفني لهذا العمل، لكنها ضرورية لكشف الحجب عن الإيهام الذي قصد إليه الشاعر.

تأتي القصيدة في أحد عشر مقطعا، أو لوحة مليئة بالرموز التراثية والدينية والتاريخية التي تمتد في عمق الزمان واتساع المكان لتشكل لوحة كلية تتقاسمها على نحو ما رموز الخير في مجابهة رموز الشر، وينقب الشاعر في هذه اللوحات عن قوى الخير ورموزه لتنتشل الواقع المهين من شياطين الشر فيعيا، ولا يرى في نهاية النفق المظلم ما يبشر بالخير طالما ظلت زمرة الشر آمرة ناهية.

ينادي وطنه واصفا إياه بالمسكين، يستفهم منه عما في غده المخبوء الذي لا يعلم كيف سيكون وما المصير الذي ينتظره، لكنه لا ينتظر الرد فيسرع بهتك حجب الغيب التي تدل عليها دلائل الحاضر، فيشهد عجبا ويرى ما يدعو للدهشة:

 (1)

يا أفق الوطن المسكين

ماذا في غدك المكنون؟

دعني أهتك عنك

ضباب كتابك حتى أشهد

يا لله!

لا يشهد الشاعر غير سواد يصفه بالملعون، دلالة على قتامة المستقبل وضياع الأمل، ويرسم بكلماته مأساوية هذا المشهد ودماره، فنراه حطاما ذاويا من شجر التين، وغصونا بالية من شجر الزيتون، وبقايا راكدة من ماء وعيون.

اعتمد الشاعر على عناصر طبيعية كانت حية في يوم من الأيام إلا أنها أصبحت كالهشيم، ويستدعي ذكره للتين والزيتون والماء والعيون آيات القرآن التي عظمت هذه العناصر، وقد يستدعي أوصاف الجنة كذلك، وكأنه يقول إن هذا الوطن الذي نعم بالخيرات فكان يشبه الجنة أصبح الآن حطاما محروقا وأطلالا مهجورة:

إني لا أشهد غير سوادٍ ملعون

وشبابٍ مهزوم النخوة

مهتوك العزم

وحطامٍ كالعصف الذاوي

من شجر التين المحروق

وغصونِ الزيتون البالي

وبقايا راكدةٍ من ماءٍ وعيون

ويشهد الشاعر فيما يشهده قوافل أشبه بالقراصنة، لا يحملون لوطنهم خيرا ينقذونه به بل يحملون إليه عناصر الهلاك والدمار ممثلة في مخدرات البانجو والهيروين، وقد يكون التخدير واقعا فعليا وهو موجود حيث سمعنا كثيرا عن مسئولين يتاجرون في المخدرات ويدمرون بها شباب أمتهم، وقد يكون التخدير رمزا يدل على إلهاء الشعوب وإبعاد الناس عن قضاياهم الحقيقية بالدعاية الزائفة والإشغالات الباطلة: 

وقوافلَ من فلكٍ مشحون

تحمل للشعب المحروم

شحنة “بانجو” وهيروين

وتتوالى إنذارات الشاعر ونبوءاته فيخبر في المقطع الثاني أنه يسمع الريح الصرصر تعوي في الوطن المفجوع، وعواؤها يهدم ويدمر ويجتاح اليابس والأخضر، ولا يخفى الاقتباس القرآني “ريح صرصر” وهو من قوله تعالى في قوم عاد: “وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ” (سورة الحاقة-آية6) وبراعة الاقتباس هنا تتمثل في استدعاء الشاعر لقسوة الهلاك والدمار الذي أحدثته الريح الصرصر التي أصابت قوم عاد ليدلل به على قسوة الهلاك الذي حاق بوطنه، ويستدعي الاقتباس المجتزأ إلى الذهن باقي الآية الكريمة فلا يذكر الشاعر كلمة عاتية التي تتمم معنى قسوة الهلاك وإنما يستشعرها القارئ ضمنا اعتمادا على المخزون المعرفي السابق.

(2)

إني أسمع عصف الريح الصَّرصرْ

تعوي في الوطن المفجوع

 وتزأر

يَهْدم ويدمر

يجتاحُ اليابسَ والأخضر

في المقطع الثالث ينفي الشاعر أن ما رآه من مشاهد الهلاك والدمار والخراب التي حلت بالوطن – ينفي أن تكون رؤيا أو أضغاث أحلام بل هي رأي العين ومشاهدة الواقع، ويكمل المشهد فيضيف إليه مكونات أخرى مستحضرا رؤيا ملك مصر التي رآها وفسرها له نبي الله يوسف وقد ذكرها القرآن:

” وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ” (سورة يوسف-آية43).

ويمعن الشاعر في تحوير رؤيا الملك ويجعلها حقيقة ملموسة ومشاهدة محسوسة بدلا من أن تكون رؤيا تحتاج إلى من يفسرها، ويجعلها خالصة للجدب بدلا من أن تكون ذات شقين: شق الجدب وشق الخصب، وهو ما يعمق ضراوة الهلاك وقسوة الجوع:

(3)

ما كانت هذي بالرؤيا

بل أشهدُ ذلك رأيَ العين

وأرى أيضًا بقرات سبعًا

عجفاوات سودًا

ينزفن دماءً وصديدًا

يأكلن سمينات من

أبقارٍ.. ألفٍ.. بل مليونْ

وأرى كل سنابل أرض النهر

تجف.. وتيْبَسُ ثم تَهاوَى

لتكون طعامًا للدود المنكود

ومن عناصر التحوير في الحدث الأصلي في السطور السابقة كذلك أن البقرات العجفاوات لم تكتفِ بأكل سبع بقرات سمان كما في الرؤيا الأصلية بل تأكل ألفا ويستدرك على الألف فيذكر أنها تأكل مليونا.

وبدلا من سبع سنبلات خضر وأخر يابسات كما في رؤيا الملك يجعلها الشاعر “كل سنابل أرض النهر”، وأرض النهر رمز للخصب والنماء، وهي تدل على مصر لأنها كما قيل: “هبة النيل”، وتلك السنابل مليئة بالخيرات وعندما تجف ليحين موعد حصادها ليعم نفعها الناس تتهاوى ليأكلها الدود المنكود.

والتناص من الثراء بحيث إن أكثر كلماته فيها رموز وظلال وإيحاءات تعمق معاني سيطرة القلة على الكثرة، وهيمنتها على مصادر الخير واستئثارها بها ومن ثم تجويع الرعية المغلوبة على أمرها، وقد رمز لهذه القلة المتسلطة بالبقرات السود، وبالدود المنكود.

ووصْف البقر بالسواد – على الرغم من أنه ليس بشائع فيه – مع العجف يجعل للون وظيفة في تأكيد معنى الرعب والخوف من هذه البقرات.

وذكره للدود المنكود فيه دلالة على الضعة والمهانة التي يحيا فيها فريق من هؤلاء القوم الذين قل شأنهم وعظم أثرهم السيء.

 

وفي اللوحة الرابعة يستدعي الشاعر أحداث طوفان نوح ويجعل منها بطلا رئيسا للوحته ويوظف في إطارها أحداثا أخرى من أزمان أخرى ويجعل منها مكونات متممة للوحته الرابعة، ويستخدم في كل ذلك تقنيات التناص والمفارقة معتمدا على التحوير والتغيير في الأحداث الرئيسية وبناء أحداث أخرى تستدعي الماضي في ثوب الحاضر.

فها هو يرى فيما يراه من مشاهد الهوان والضعة والخراب الذي يحيا فيه الوطن مشهد الطوفان العارم الذي لا يصمد أمامه بناء ولا يجابهه سد، فسيوله عاتية غير أنها سيول ليست من ماء إنها سيول بشعة تتكون من قيء وصديد ودماء، إنها تشبه بعضا من مكونات جهنم التي ذكرت في الآثار:

 

  (4)

وأرى الطوفانَ العارِم قادمْ

بسيول عاتيةٍ سوداء

ليست من ماء

بل من قَيءٍ.. وصديدٍ

ودماءْ..

فإذا ما حُمَّ اليومُ الأسودُ

وفي ظل هذا الطوفان المرعب يتحسس البعض سبيلا للنجاة فيبحثون عن سفينة نوح أو جبل يعصمهم من اللجج السوداء والحمراء – وهي ألوان مناسبة لطبيعة السيول المكونة من القيء والصديد والدماء – أو قطعة ضوء يستهدون بها في هذه الظلمات التي بعضها فوق بعض فلا يجدون، ونلحظ مدى اليأس الذي دب في النفوس والتيه الذي نشر أجنحته عليها، فجسم الشاعر  الضوء وجعله قطعة يمكن أن يتحسسها المستهدي، ولسان الحال يقول نريد أي ضوء ولو أقل القليل لنستهدي به، لكن أنى لهم الهدى في ظلمات الطوفان وفظاعته؟! أنى لهم الهدى وقد صادر الأمن الليلي وسائل النجاة فباع سفينة نوح لوحا لوحا ومسمارا مسمارا للملك اليأجوج، باعوها لرمز الشر والخراب؛ لينعموا بشهوات عابرة ونزوات محرمة. ولم يكتفوا بذلك بل إنهم احتلوا وسيلة النجاة الأخرى التي يمكن أن يلجأ إليها لاجئ – احتلوا جبل الجودي الذي جعلوا منه منطقة حرة يسيطرون عليها ويستغلونها لمصلحتهم الذاتية على حساب مصلحة المجموع.

السفينة وجبل الجودي قد ترمزان للوطن والمخلصين المصلحين من أبنائه، ولا ضير فحب الوطن يمثل رمزا للنجاة لمن يلجأ إليه، أما وقد تم اختطافه وبيعه بثمن بخس فسوف يصبح مجرد شيء لا قيمة له:

فاحذر أن تسأل- يا

ولدي الطيب- عن نوح

وسفينة نوحْ

أو عن جبلٍ يحميك

ويعْصمكَ من اللُّجَجِ

السوداءِ.. الحمراءْ

أو عن قطعة ضوءٍ

تستهديها في الظلماء

أو عن نوحٍ وسفينته

فسفينة نوحٍ..

صادرها “الأمنُ الليلي”

وزوارُ الفَجرْ

في صمت.. فكوها..

باعوها لَوْحًا لوحا

مسمارًا.. مسمارا

للملِك “اليأجوج”

باعوها بالدولار.. وبالدينار

وبالويسكي المستورد والكفيار

وأجوس خلال الجوديّ..

فيا بؤس الجوديِّ الأخضر

مَرسى نوحٍ.. وسفينته

وحمائمه.. وصحابته

جعلوه “منطقة حرة”

“منطقة الجودي الحرة

للتهليب.. وللتهريبْ”

وقد كرر الشاعر السؤال عن سفينة نوح؛ حيث قال:

فاحذر أن تسأل- يا

ولدي الطيب- عن نوح

وسفينة نوحْ

ثم قال بعد عدد من السطور:

أو عن نوح وسفينته

والقارئ كان يتوقع شيئا مختلفا حسب السياق الذي أورده الشاعر وهو يتمثل في: السفينة، الجبل، قطعة ضوء.

وقد يكون من الأفضل أن يتم الاستغناء عن السطر: “أو عن نوح وسفينته”.

 

وفي اللوحة الخامسة يواصل القرّاء الضرير وصاياه لفتاه الطيب الذي يبدو مندفعا للإصلاح ومتحمسا للتغيير، ناصحا إياه بلزوم الصمت؛ فهو الحكمة الباقية في هذه الأوضاع المقلوبة، ويوضح له عبثية مساعيه التي قد تجلب الضرر عليه.

وفي هذا الإطار يوظف الشاعر جانبا من قصة نبي الله يوسف، فيستدعي شخصيته بكل ما تحمله من معاني البراءة والنقاء والإخلاص والإصلاح فيناديه: “يا يوسف فلتأت إلينا”، لقد جعل من نبي الله يوسف وسيلة من وسائل النجاة ورمزا من رموز الخلاص يتضام إلى رموز اللوحات السابقة، لكن الحقيقة المرة تعاود الحضور، فيوسف صديق لا يأتي إلى وطن منهوب ليصلح من شأنه.

 إن يوسف بمكانته وأمانته وكفاءته قد يعجز عن إصلاح هذا الوطن الخرب، وتتصاعد المفارقة فيهرب يوسف للصحراء ويفضل العزلة وربما الهلاك في الجب على أن يتولى مثل هذا الأمر.

 قسوة الخراب التي حلت بهذا الوطن لا يجدي معها تولي أهل الخبرة والأمانة حتى لو كانوا في قامة يوسف، وعناصر المفارقة بتقابلاتها تعمق في نفس القارئ هذه المرارة، فنبي الله يوسف قديما تولى أمر خزائن مصر ليصلح من شأنها، وعلى الرغم من ثبات المستهدف من الإصلاح – مصر – وثبات المصلح – يوسف – إلا أن تغير العصبة الحاكمة هو الذي أدى إلى هذه النتيجة، فالعصبة الحاكمة لمصر قديما كانت لديها رغبة في الإصلاح لذلك نصبت يوسف على خزائن الأرض، أما العصبة الحاكمة التي يقصدها الشاعر في العصر الحديث فليس لديها رغبة في الإصلاح؛ لذلك نصبت نفسها على خزائن الأرض بدلا من تنصيب المصلحين أهل الدراية، وما حدث هذا الأمر إلا لأن هذه العصبة نفسها أصبحت حفنة من اللصوص الذين يملكون القوة، وهو أمر يدعو للعجب لأن وظيفتهم الأساسية كانت خلاف ذلك وهي حماية الوطن، وكأن الشاعر يستضيء بالمثل الشعبي القائل: “حاميها حراميها”:

(5)

فلتلزم تابوت الصمت

ولتحذر أن تهتف

في غدك المفجوع العاني

“يا يوسف فلتأت إلينا..

يا يوسف لا تبعد عنا”

يوسف صدِّيقٌ يا ولدي

ولذلك يأبى أن يتولى

أمرَ خزائنِ وطنٍ منهوبٍ

مطحونْ..

ليكون عليها خيرَ أمينْ

يوسف هاجر للصحراءْ

آثر أن يرجع للجبِّ المعزول

هناكْ

فخزائن هذا الوطنِ المطحونِ

تولاها حرَّاس الوطن

من العسكر

شطارِ المنسر

ومما يراه القرّاء الضرير من نبوءات واقعةٍ مشاهدةً طفل أخضر من نبت أرض هذا الوطن الطيبة، إلا أن هذا الطفل يعاني مما يعاني منه عموم الوطن فهو مفقود أو مغتصب أو موءود، وحتى لو كان هذا الطفل الذي يحتاج إلى الرعاية على قيد الحياة فإنه لن يجد العوامل التي تساعده على إتمام هذه الحياة بشكل طبيعي، فرافد الحياة بالنسبة له وهو ثدي الأم/الوطن لا يمده – بعد معاناة – بنقطة لبن بل يمده بنقاط من دم، يتلوها قيء وعدم، وما ذلك إلا لأن العسكر حراس المنسر قد امتصوا كل الخيرات ولم يرحموا صغيرا أو كبيرا، والتباين شديد بين قسمي اللوحة: القسم الأول هو الطفل وما يرمز إليه من براءة وضعف، والقسم الثاني هو العسكر وما أضفاه الشاعر عليهم من صفات القسوة والوحشية.

فالطفل الأخضر وما توحيه اللفظة ووصفها من براءة ونقاء واحتياج لا يجد ملجأ للحياة في ظل وجود العسكر الذين امتصوا كل ما يحتويه شريان الحياة.

وهذا التباين يوجه المشاعر للتعاطف مع الطفل وما يرمز إليه واستنكار واستبشاع العسكر وأفعالهم، الذين سرقوا وامتصوا غذاء الطفل من ثدي الأم/الوطن ، ثم خنقوا الأم وما لبثوا أن التفتوا إلى الطفل فوأدوه بقاع النهر.

إنها صورة مرعبة: سرقة ونهب ثم قتل ووأد، وقد جعل الشاعر وأد العسكر للطفل في “قاع النهر”، وفي ذلك دلالة على أن أولئك القوم قد استنزفوا كل الخيرات حتى النهر جف وأصبح قاعا دون ماء يئدون فيه البراءة:

  (6)

وأرى في سِفْر الوطنِ المكنونِ

الطفلَ الأخضرَ

نَبْتَ الوطنِ العاني

إما مفقودًا.. أو مغتصبا

أو موْءودا

إذ يأتي يومٌ يا ولدي..

يتشبث فيه بثدي الأم

يعتصر بفكيه الحلَمة

يستجديها نقطةَ لبنٍ

هاربةً في أعماق الصدر

لكي تنقذه

من جوع ساعرْ

لكنَّ الحلمةَ لا تسعفه

إلا بنقاط من دمْ

يتلوها قيْءٌ وعدمْ

فالعسكر- في نهم كافر-

امتصوا حتى لبن الأمِّ

فلما شبعوا

خنقوها في ليلٍ دامٍ

أما الطفل..

فقد وأدوه بقاعِ النهرْ

  وفي اللوحتين السابعة والثامنة يرى القرّاء الضرير فيما يرى مصادرة الحقيقة والصدق والرأي الآخر على يد الملك اليأجوج يإيعاز من سالومي.

وتوظيف قصة نبي الله يحيى عليه السلام يسهم بالإضافة إلى باقي الرموز والعناصر التاريخية في خلق تفاصيل منوعة تقيم ما يشبه فيلما وثائقيا عن هذا الوطن.

وملخص قصة سالومي، أنه كان في زمن النبي يحيى عليه السلام ملك أراد أن يتزوج من ابنة أخيه واسمها سالومي، لكن نبي الله أظهر حرمة هذا الأمر، وكانت سالومي راقصة تسعى لحيازة الملك والثروة، فحرضت الملك هيرودس على أن يأتي برأس يحيى ثمنا لمعاشرتها، فأمر الملك جنوده، فذهبوا إلى نبي الله يحيى واقتحموا عليه محرابه، وفصلوا رأسه عن جسده، وذهبوا به إلى هيرودس ليقدمها هدية لسالومي.

وقد جعل الشاعر من الصفوة الأحرار معادلا لنبي الله يحيى دون أن يذكره صراحة، وهو بذلك يشير إلى أن هؤلاء الأطهار يقومون بمهمة من مهام النبوة وهي قول كلمة الحق في وجه الظلم والطغيان تماما كما فعل يحيى عليه السلام مع هيرودس.

  وستكون “الكلمة” ضحية مثلما كان نبي الله يحيى ضحية كي يرضي هؤلاء الأشرار نزواتهم المحرمة.

(7)

وأرى ألسنة الصفوة

من أحرار الناس ستُقطعْ

وعيون الأطهار ستُقلعْ

لتكون قلائد وعقودا

وأساور تُهدَى

“لِسالومى”

راقصةِ الملكِ اليأجوجْ

 

(8)

والكلمةْ..

يا ويلَ الكلمة

ستُراق دماها ليل نهارْ

كي تَروي بستان “سالومي”

ولِتَروِيَ أرض “اليأجوج”

المنهوبة من “أرض النهرْ”

  وفي اللوحة التاسعة يتجلى التناص مع نصوص وآثار دينية ليعبر عن الحال البائسة التي وصلت إليها الأوطان، ويجسد عوامل اليأس والضياع.

فيستخدم لغة القرآن في التعبير عن الضيق واليأس “وضاقت عليهم الأرض بما رحبت” ويستدعي حديث رسول الله عن آخر الزمان حيث يتمنى الأحياء أن يكونوا مكان الأموات وذلك فيما رواه البخاري: ” لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه”، وكأني بالشاعر كذلك يستدعي ما روي عن رسول الله: “ينزل بأمتي في آخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم لم يسمع بلاء أشد منه حتى تضيق عنهم الأرض الرحبة وحتى يملأ الأرض جورًا و ظلمًا لا يجد المؤمن ملجأ يلتجئ إليه من الظلم فيبعث الله عز وجل رجلاً من عترتي فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً…” (رواه الحاكم في المستدرك).

أصبح الوضع من السوء والمهانة واليأس والإحباط والظلم والقهر بحيث يشبه ما تحدثت عنه الآثار الدينية التي تناولت آخر الزمان أو مقدمات اليوم الآخر.

يتمنى الناس الموت بلا ألم ولكن هيهات، والأيام التي قدر لها أن تظل على قيد الحياة تبحث هي الأخرى عن العدم حيث يؤلمها الظلم الفادح نتيجة الاتهامات الباطلة التي ينسبها إليها أولئك الأفاقون حيث يتهمون الزمان ولا يتهمون أفعالهم المشينة:

 (9)

وستشهد كل فجاج الأرض

تضيقُ.. تضيقُ بما رحُبت

حتى يتخذ الأحياءُ

قبورَ الأمواتِ مساكنْ

بل يغدو الموت- بلا ألمٍ-

حلمَ الأحلامْ..

يطلبه الناس صباح مساء

“بحق البؤس

وحق الذل

تعالَ.. تعال”

فلا يأتي

حتى الأيام- وصدقني-

ستحاول أن تنتحر فلا تقدرْ

تنتحر لتخلص من عارٍ

موهومٍ.. كاذبْ

ألصقه فيها الأفاقون

الأفاكون

إذ قالوا:

“عار الأيام

ظلم الأيام

غدر الأيام”

مع أن الأيام من العار بريئةْ

ويتقمص القرّاء دور السيد المسيح عندما كان يعظ حوارييه، فيقتبس منه كلمته التي رددها أكثر من مرة في عشائه الأخير – كما في العهد الجديد – مع تلاميذه وهي: “الحقَّ أقول” وكان قد ابتدأ بها تعاليمه ووصاياه واستشرف الغيب الذي كان قد اقترب حدوثه، وهو مؤامرة يهوذا الإِسْخَريُوطِيِّ ضده.

يبين القرّاء أن العار الحقيقي يتجسد فيمن سب الأيام واتهمها بكل نقيصة، وفيمن قلب موازين الأمور ونواميس الكون فجعل المُلك بديلا للعدل ولم يجعل العدل أساسا للملك، وهذه كلها دلائل على قصر نظر هؤلاء وقلة حيلتهم وضعف حجتهم ولجوئهم إلى القوة الغاشمة للقفز على طبائع الأشياء، وسنن الحياة:

والحقَّ أقول:

العار الداعر فيمن سبوا الأيام

فيمن شحنوا الزمن الناصعَ

بمخازيهم.. هربًا منها

فيمن قالوا:

ليس العدل أساس الملك

فيمن قالوا:

“إن الملكَ بديلُ العدل.. وفوق العدل”

فيمن تخذوا الجبن فضيلة

فيمن جعلوا الطهر جريمة

أما الصدق فشر رذيلة

فيمن قصفوا عنق الكلمة

وبغدر قد غالوا الشمس

وانتزعوا روح المستقبل

وانتهكوا الحاضر والأمسْ

وتعاود الراقصة سالومي الظهور في اللوحة العاشرة، بعد أن تخلصت من العقبة الكأداء التي كانت تحول دون تحقيق رغباتها، ومسرح ظهورها ليس كما في اللوحتين السابعة والثامنة مع الملك اليأجوج، بل أصبحت رقصاتها وملذاتها مع المنسر وبين يدي كل عناصره الفاسدة، أصبحت مشاعا تتقاسم معهم أنخاب الفساد والخراب وتشرب كؤوس الدماء على وقع صراخ الأبرياء وأنين المعذبين:

(10)

وأرى “سالومى” والمنسرْ

في رقصة عُهْر مجنون

تسكرهم أنخابٌ شتَّى

من خمر ضارٍ.. ودماءْ

في مأتم شعب مطحونْ

في أرض النهر المحزونْ

  وفي اللوحة الأخيرة من لوحات الوطن الممزق يتعب القرّاء الضرير ويعتريه الإرهاق مما شاهد وطالع فتتوه البردية منه، وينهي المشهد بما يستشعره ويتحسسه، فالسحب الدامية السوداء تمطر جمرا وسكاكين، تقضي على بقايا الوطن الحية والميتة، فلا يصبح لهذا الوطن من أثر، وتتلاشى الحياة ويذوى بريقها في جسده شيئا فشيئا تماما كما يتلاشى الوطن، فلا يستطيع أن يواصل مشاهداته ونبوءاته:

(11)

يا ولدي الطيب معذرةً

فالرؤية قد تاهتْ مني

والسحب الدامية السوداءْ

تمطر جمرًا وسكاكينْ

تطوى كل حطام باقٍ

من ماء وعيونْ

وجذور التين أو الزيتون

وأحسُّ بنبضي الذاوي

في قلبي المطعونْ

يأسره الصمت الأبديُّ

فأعجزُ عن أن أستقرئ

باقية باكية

من سِفْر الوطن المكنونْ

القصيدة مليئة بالصور واللوحات والرموز والمفارقات التي أنشأت مشاهد ومشاهد أخرى مقابلة لها معتمدة على لغة التضاد لإبراز التناقض بين فريقين: الأول يمثل الوطن وأهله على تنوع مستوياتهم الفكرية والمعرفية، وفي مقابله فريق الحاكمين الذين جاءوا إلى السلطة غصبا فمارسوا كل ألوان الظلم والقهر والتدمير في حق الفريق الأول الذي لم يفلح في منع سطوتهم وإيقاف عجلاتهم الحربية المدمرة، وبدعوى الإرهاق والتعب لا يكمل القرّاء الضرير/ الشاعر باقي مشاهداته أو لم يذكر لنا النهاية الطبيعية لأي صراع بين الخير والشر وهو ما ينتهي غالبا بانتصار الخير، ربما لأن القرّاء ما زال يحيا في هذا الزمن الذي لم يتغير بعد.

——————–

شاعر وناقد مصري

Print Friendly, PDF & Email
قالوا عن د. جابر قميحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img