img
من مواقف العظمة في حياة الرسول..
img
Print pagePDF pageEmail page

من مواقف العظمة في حياة الرسول..

ما كان فاحشًا ولا لعَّانًا

الكلمة الطيبة صدقة، والبشاشة في وجه الناس صدقة، وكم ألانت الكلمة الطيبة قلوبًا، وكم فتحت للخير نفوسًا، وما زالت الحكمة والموعظة الحسنة أنجع الوسائل، وأقواها، وأبقاها. بل وأيسرها لغرس قيم الخير، والحق في نفوس الناس. وقد يختلط الأمر على كثير من الناس، فيعجزون عن معرفة حدود بعض القيم والمفاهيم، ولا يفرقون بين الشجاعة والتهور. ولا بين المجاملة والنفاق. ولا بين التسامح والتهاون، والتفريق بين هذه المفاهيم لا يحتاج إلى عقلية واعية فحسب بل يحتاج كذلك إلى حاسة إيمانية موصولة بالله قوية بالحق.

وقد روي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رجلاً استأذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما رآه قال: “بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة” فلما جلس تطلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله “حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا” ثم تطلقت في وجهه، وانبسطت إليه” فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ “يا عائشة متى عهدتني فاحشًا؟! إن شر الناس منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره” (رواه البخاري في كتاب الأدب ومسلم في كتاب البر والصدقة والآداب).

وقبل أن نتحدث عن هذا الموقف النبوي الكريم علينا أن نذكر بموقف آخر للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع مسيلمة الكذاب حين حضر إلى المدينة وقال: لو جعل محمد الأمر لي من بعده تبعته” فأمسك النبي ـ عليه السلام ـ بقطعة من سعف النخل وقال: “يا مسيلمة والله لئن سألتني هذه القطة من جريد ما أعطيتكها، ولن أتعدى أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله”.

وقد يتوهم متوهم أن موقف النبي الذي روته عائشة في صورتيه يتعارض مع ما عرف عنه ـ عليه السلام ـ من جرأة في الحق، ووضوح في أقواله وأفعاله، كموقفه مع مسيلمة الكذاب، وقد يتوهم كذلك أن هذه المداراة تعد لونًا من ألوان التنازل عن استعلاء الإيمان:

ودفعًا لهذا الوهم، أو هذه الشبهة نجد أن الأمر يحتاج إلى شيء من التحليل والتفصيل.

1 ـ ذكر الإمام النووي أن المعنيّ بهذا الحديث هو عيينة بن حصن، وقد كان من الأعراب الحفاة المؤلفة قلوبهم، ومن جفائه أنه دخل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غير إذن فقال له: “أين الإذن” فقال: “ما استأذنت على أحد من مضر طيلة حياتي”.

وكا ممن ارتد وتبع طليحة الأسدي، وقاتل معه فأخذ أسيرًا، وحمل إلى أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فكان صبيان المدينة يقولون: “يا عدو الله أكفرت بعد إيمانك؟ فيقول: ما آمنت بالله طرفة عين”.

ودخل على عمر مرة فقال له: يا ابن الخطاب: والله ما تقسم بالعدل، ولا تعطي الجزل”، ومع أن عثمان بن عفان كان قد تزوج ابنته، إلا أنه دخل عليه ذات يوم، وأغلظ له القول، وأساء معه الأدب.

وكل أولئك يبين عن طبيعتة الجافية، ونفسه الفظة القاسية الخشنة.

2ـ انبساط النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له وطلاقته وبشاشته في وجهه، وإلانة القول له، إنما كان تألفًا له، ولأمثاله على الإسلام، والمعروف أن النبي ـ عليه السلام ـ كان يعطيه من سهم المؤلفة قلوبهم.

3ـ عرف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحياء والأدب، والبشاشة، والتبسم في وجوه الآخرين حتى الذين يسيئون إليه، قال قيس بن جرير ـ رضي الله عنه ـ “ما حجبني النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ أسلمت، ولا رآني إلا وتبسم في وجهي”. وقصص إحسانه إلى من أساء إليه أكثر من أن تحصى.

فاستقباله لعيينة بهذه الطريقة، إنما هو من باب الأدب، والحياء، وإكرامه لمن قصده. وهذا لا يتعارض مع وصفه للرجل بما وصف. يقول النووي: “ولم يمدحه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا ذكر أنه أثنى عليه في وجهه ولا في قفاه، إنما تألفه بشيء من الدنيا مع لين الكلام”.

4ـ ولا تعارض بين بشاشة النبي ولينه في القول مع عيينة، وبين تصديه لمسيلمة وشدته في القول معه؛ لأن الأول لم ينل بكلامه من أصل العقيدة، أو النبوة، والقرآن في حياة النبي على الأقل، لذلك كان النبي يأمل دائمًا أن ينتفع الإسلام بهذه الأعرابي الجافي القوي الشجاع الذي وصف في التاريخ بأنه من “الزعماء أو القادة الجرارين” أي القادرين على الاقتحام، والغلبة.

ولو أنه أعطى كل ما عنده للإسلام بإخلاص لانخرط في سلسلة الفاتحين العظام مثل: سعد، وخالد، وعمرو بن العاص، ولكنه وقف بإسلامه عند أولى العتبات، ومات مسلمًا على أية حال.

أما مسيلمة فجاء إلى المدينة مساومًا. يطلب مقابلاً ضخمًا لإسلامه: أن يجعل محمد له الأمر من بعده.. كأنها هرقلية كلما مات هرقل جاء هرقل. إن المسألة هنا في حاجة إلى حسم قاطع لا يعرف الملاينة؛ لأنها قضية من القضايا العليا ولا ردّ إلا الرفض. الرفض الذي لا رجعة فيه.

لقد كان النبي أعلم الناس بطبائع الرجال، ومواقفه كلها تتسم بالإنسانية التي لا تعرف التهاون، وبالحسم الذي لا يعرف الظلم. وبالعدل الذي يضع كل إنسان في موقعه المناسب، وقد يحتاج الموقف لينًا لو استبدل به شدة لفسد كل شيء، وقد يحتاج الموقف شدة لو حلّ محلها لين لأضار ذلك بالدين والقيم، واختلاف التصرف باختلاف المواقف والرجال لا يتعارض مع القواعد العامة، والقيم العليا، إذا ما صدر ذلك عن نفس بصيرة موصولة بالله، وهل كان هناك من هو أنقى وأطهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟.

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img