محكمة الهزل العليا
تحاكم الأيدي المتوضئة
مسرحية شعرية
الشخصيات
ـ الملك المنصور .
ـ رومليون : القائد العام للجيش .
ـ صندوق الواشي : رئيس جهاز البص القومي .
ـ قلمون الهايص : المستشار الصحفي للملك المنصور والناطق الرسمي باسمه .
ـ محزون المايل : كبير ياوران الملك المنصور .
ـ هيئة محكمة العدل (أو الهزل) العليا من :
الضابط الصارم رئيساً .
الضابط الفاحم عضو يمين .
الضابط الشاحم عضو يسار .
جهلان العارف : المدعي العام .
ـ صوصاوي العرة : ابن بلد : فتوة ومحترف مظاهرات .
ـ التاريخ : هو الراوية والشاهد على العصر .
زيادة على شخصيات : نكرات من ضباط ، وجنود ، وغيرهم …
ـ زمن المسرحية .. ؟ ؟ ؟
الفصل الأول
المحاكمة …
المشهد الأول
أكذوبة المؤامرة
المنظر: شاشة بيضاء كبيرة مثل شاشة السينما في مؤخرة المسرح ، تمتد من سطح المسرح إلى أعلاه ، وتستغرق قرابة نصفه طولاً ، يسمع خلفها ضجيج جماهيري مختلط غير واضح … وبعد عدة دقائق تسلط الأضواء على الشاشة من خلفها .. لتظهر ـ بطريقة خيال الظل ـ خيال عملاق فائق الطول ، وخيالات عدد ضخم من الناس يبدون أقزاماً أمامه ، وهم يرفعون أيديهم ويلوحون بها ، وهو يرفع يده رداً على تحيتهم منشدين أثناء ذلك بصورة جماعية :
يا روح الشعب يا منصور
يا نبض القلب يا منصور
مِنْ غيرك لا نبرمُ أمرا
مِنْ غيرك لا نحرز نصرا
فإليك الأمر يا منصورْ
وبيدك النصرْ يا منصورْ
فلأنت القاهرُ يا منصورْ
ولأنت الظافرُ يا منصورْ
ونجاتُكَ عيدٌ يا منصورْ
يا مَلِكاً يحتل القمةْ
بنجاتكِ أنقذتَ الأمة
وبعثت القوةَ والهمةْ
وستبقى يا روح الشعبْ
وستبقى يا نبض القلبْ
يا روح الشعبْ .. يا منصورْ
يا نبضَ القلب .. يا منصورْ
يا روح الشعبْ …
……………..
تخفتُ الأضواء تدريجياً مع خفوت الصوت ، وتُطفأ الأنوار للحظات لتظهر قاعة العرش الكبرى ، يتصدر حائطها المواجه للجمهور صورة كبيرة للملك المنصور في ملابس تشبه الملابس العصرية ، وقد كتب تحت الصورة عبارة : [المنصورُ أساس الملك].يدخل أحد الضباط ليعلن للملك الجالس على العرش :
السيدُ صندوق الواشي رأسُ استخبارات الدولة والجنرال رومليون قائدُ جيشكمُو الظافرْ .
الملك (بلهفة) : فلْيدخلا … فلْيدخلا .
يدخل صندوق الواشي في ملابسه المدنية وهو متوسط الطول ممتلئ الجسم إلى حد ما . أما رومليون ففي بزته العسكرية : نحيل الجسم طويل الوجه سريع الحركة ..
صندوق الواشي (ووجهه يتدفق فرحاً) : الشعبْ جميعاً في فرح .
رومليون : فَرَحٍ ؟؟؟!
بل قُلْ : الشعبُ يطير من الفرحِ بقلوب أرقصها السّعدُ .
صندوق الواشي : لنجاتك من غدرِ الرجعيين الخونة .
(مبتسماً..) ورصاصِهمو الغادرِ يا مولاي ..
الملك (غامزاً بإحدى عينيه ، وعلى فمه ابتسامة عريضة) :
خبرٌ يسعدني والله
(مشيراً للواشي) والفضل لصندوقِ الواشي
رأسِ استخباراتِ الدولة
في حَبْك خيوط الأكذوبهْ
(صندوق الواشي ينظر إلى الأرض متصنعاً التواضع ثم يرفع رأسه ناظراً للملك المنصور..) :
الفضلُ لعاهلنا الأعظمْ
… لا فضل لغيرك يا مولاي
والناس على دين ملوكِهمُو
(يضحك الجميع بصوت مرتفع..)
الملك : فلنتركْ هذا ولأسألْ :
ماذا تمّ بشأن الرجعيين ؟
قل لي يا صندوق الواشي ..
صندوق الواشي : قُبض عليهم ….
قُبِضَ عليهم يا مولاي ..
ما أفلتَ منهم أحدٌ أبداً .
رومليون : والشعبُ جميعاً يتطلعُ لمحاكمةٍ عَجْلَى
حتى يتشفى فيهم .
الملك (وقد بدا على وجهه الاشمئناط والتقزز)
أصحابُ شعاراتٍ فارغةٍ :
شورى .. عدل .. تقوى .. حشمةْ
صندوق الواشي : يا مولايْ ..
رجعيون .. رجعيونْ
عميانٌ ما زالوا أَسرى ظلماتِ الماضي .
رومليون : أوباشٌ .. أوباشٌ خونةْ
ووجودهمو تهديدٌ لكيان الأمةْ
أعتى من خطرِ اليأجوجيينْ .
صندوق الواشي : والأغرب من هذا يا مولاي
أن قيادتهم فيها نجارْ
الملك : نجارّ ؟؟
رومليون : نجار
صندوق الواشي : ومحامٍ … قاضٍ سابقْ .
رومليون : والثالث ضابطُ شرطه
صندوق الواشي : والرابع واعظ
الملك (في لهجة غاضبة) :
لابدّ من الإسراع بتشكيل المحكمةِ
وليصدر حكم المحكمة بأسرع ما يمكنْ
حتى يرتدع الرجعيون وغيرُهمو
(متحدثاً إلى نفسه ، ولكن بصوت مسموع)
جهلان العارف مدّعياً عاماً
محكمة يرأسها الضابط صارم
عضواها الضابط فاحمُ والضابط شاحمْ .
(يظهر الضيق على وجه رومليون بعد سماعه كلام الملك إذ كان أقرب الموجودين إليه)
رومليون : ثمة أمر يشغل بالي يا مولاي .
الضابطُ ” صارم ” بالقانون جهولٌ جِدُّ جَهولْ
ولذلك قد يحرج نفسهْ
بل يحرج كلّ جهاز الحكمِ
إذا ما عجز عن السيطرة على أعصابِهْ
أو أحرجه المتهمون بأسئلةٍ أو أجوبةٍ
أو قاعدة قانونيهْ
إذ أغلبهم أصحاب ثقافات واسعةٍ في الدينِ ، وأيضاً في القانونْ
صندوق الواشي : وهمو في الجدل أساتذةٌ
الملك : ماذا أفعلُ والصارم يتشبث في إصرارٍ
بمحاكمة الرجعيين بنفسهْ .
صندوق الواشي : عندي تعليلٌ لتشبثه هذا يا مولاي
الملك : تعليلٌ ؟
صندوق الواشي : في تقرير رُفع إليْ :
أن القادة في التنظيم السرّيِّ الرجعيْ
وضعوا الصارم في قمة قائمةِ القتلى
أعني من عزموا أن يغتالوهمْ
الملك (ضاحكاً) حقاً … إن عُرفَ السببُ بَطُلَ العجبُ .
رومليون : يبقى جهل الصارم بالقانونْ .
الملك : أما جهل الصارم بالقانونْ
فأُصدرُ أمري للعلاّمة جهلان العارفِ
أن يتعهده بالتوعية ، وبالتلقينْ
لفنونِ الجدَلِ ، وسوْق الحجج
وخبايا الفقه ، وأسرار القانونْ .
والعلاّمة جهلانُ ـ كما هو معروف ـ
موسوعة قانون ، وعلومْ
(موجهاً حديثه لصندوق الواشي)
يا صندوق …
صُغْ أمراً ملكياً بالتشكيلْ
(يجلس صندوق الواشي على المائدة الضخمة ، ويبدأ في الكتابة)
جهلان العارف مدّعياً عاماً
الضابط صارمُ رأسُ المحكمةِ
الضابطُ فاحمُ عضوُ يمينْ
الضابط شاحمُ عضو يسارْ
(ينهض الملك ، ويرفع يده إشارة إلى انتهاء الجلسة ، فيَهُمّ رومليون وصندوق الواشي بالانصراف ، وظهورهم إلى باب القاعة ، وعند اقترابهم من الباب يهتف رومليون) :
ـ المنصور . (فيهتف الجميع في نفس واحد) .
ـ أساسُ المُلكْ .
[ستار]
المشهد الثاني
مع جهلان العارف
المنظر: حجرة واسعة يتصدرها مكتب كبير، خلفه مكتبة ضخمة ، وعلى المكتب ـ يميناً ويساراً ـ عدد من المجلدات ، ولافتة خشبية كتب عليها [البروفيسور جهلان العارف] وعلى الحائط صورة ضخمة للملك المنصور مكتوب تحتها عبارة [المنصور أساس الملك] أما جهلان العارف ـ بقامته القصيرة ، وكرشه البارز ـ فجالس إلى مكتبه ، مشغول ببعض الأوراق يدخل الساعي ويهتف :
ـ الجنرال القاضي الصارم [يهب جهلان واقفاً متخلياً عن مكتبه ويقول في لهجة سريعة]
ـ فليدخل .. فليتفضل [يدخل الضابط الصارم بزيه العسكري : قامته مديدة في طول مفرط ، ووجهه مستطيل ، يخلع غطاء رأسه العسكري فيبدو صلعه الخفيف في مقدم الرأس . يهتف الصارم عند دخوله]
ـ المنصور [فيرد جهلان] .
ـ أساس الملك ..
يا مرحى بالقاضي الصارم (يمد إليه يده ويصافحه في حرارة . يبتسم الصارم ويرد عليه)
ـ شكراً يا أفقه من في الدولة في الدستور، وفي القانون ، وفي التنظيم ، وفي التقنين ، وفي التعليم.
جهلان : عفوّا .. عفوّا يا قاضينا الصارمْ
الصارم : هذا ما قاله الملك المنصورُ .
وأصرَّ جلالته ـ وله الحق ـ
أن أتلقى من علمكَ .. من فقهِكَ
شيئاً .. بل أشياءْ
استعداداً لمحاكمة الخونةِ
أعداءِ الوطنِ ، وأعداءِ الحقْ
جهلان : عفواً يا قاضينا الصارم
فسيادتكم لا ينقصه العلم بدستور أو قانون
لكني أعلم أن المشكلة ـ وهذا حقُّ ـ
مشكلة الوقت فقط .. لا غيرْ
فسيادتكم ـ شأن العظماء من الناس ـ .
مشغولون دواماً بسياسة أمتنا العليا
أي لا وقت لديكم لمطالعة الكتب القانونيةْ
(يبدو الارتياح بشكل واضح على وجه الصارم)
الصارم : هذا صَحْ ..
لا وقت أمامي كي أطلعَ على هذي الكتب
لذلك آمل أن تعطيني
من وجهة نظر الفقه أو الدستور
ما أستطيع به إحراج المتهمين ..
ونقض دفوعهمو..
إيقافهمو.. إخراسهمو
وأنا القادر ـ بمعونتكم ـ أن أفعل ذلك .
جهلان : (واقفاً) اسمع يا قاضينا الصارم
المتهمون كما تعلم :
ـ شيخ واعظ
ـ قاض سابق
ـ ضابط شرطة (مبتسماً ابتسامة سخرية)
ـ وأخيراً نجار (يقهقهان ويقولان بنفس واحد)
ـ نجار جاهل
جهلان : (مستأنفاً كلامه) :
لا خوف هنالك من هذا النجارْ
فرْكة كعبْ ..
لن يتحملَ منكم غَلوةْ
قاضينا الصارم يمكن أن يطويَهُ في لمح البصر
نجار مُغلقْ (بعد لحظات من الصمت)
الإشكال بحقِّ الباقين
وأنا قدرت دفوعهمو (بلهجة تنم على الزهو والخيلاء)
وبعقل فقيه دستوري ومجرّبْ
سجلتُ بقلمي ما تستطيع به إفحامَ الرجعيين
الضابط فادي تفحمُه بالقول الآتي :
رجلُ الشرطة ملتزم بنظام الدولةْ
يحميه بروح وبولد … هذا مفروضْ
وتمرده ضد نظام الدولة
يدخل في مفهوم جناية ” غدر كبرى “
هذا ما دُرِّس لهمو في كلية شرطتهم
الصارم : هذا رائع .. رائعْ
جهلان : (بشيء من الزهو) : أقسم بالمنصور الغالي
الصارم : المنصور
جهلان : أساس الملك
جهلان : أقسم بالمنصور الغالي
أن ” صلاح ” الضابط هذا
لن ينطق حرفاً حين تواجهُهُ
هذي القاعدةُ القانونيةْ
الصارم : رائع .. رائع .. هيه .. ثمَّ
جهلان : الشيخ الواعظ تفحمه بالآتي :
مالكَ أنت ومال الحكمْ ؟
إنك واعظْ ، رجلُ من علماءِ الدينْ
والدينُ بعيدٌ عن كل سياسةْ
وشئون الحكم أمور دنيا
ليستْ من شأن الدين السامي
فالدين سمو روحاني
الصارم : هايل .. هايلْ
جهلان (بصوت هادئ متئد) :
وأَشِرْ في قولك أن القاضي الفاحِمَ
ـ في هذي المسألة ـ بصفة خاصة ـ
يعتبر إماماً مطلعاً .
الصارم : لكنْ قد يوردُ هذا الواعظُ
آيات تحكم بالكفرِ وبالفسْق
وتُدين بظلم من لا يحكمُ بالشرع
المُنْزَل من عند اللهْ
جهلان : لا ضيْرْ. ستقول بقوةْ :
هذي آياتٌ ما نزلتْ فينا
بل في شأن يهودٍ نزلتْ
إذ حكموا بينهو بالباطل
لا بالتوراة المُنزلةِ من عند الله .
يا شيخنا فاضلْ :
أتحكِّم فينا شَرْعَ يهود ؟
الصارم : (ينهض رافعاً يديه في فرح وسعادة)
هايلْ .. هايلْ
وبذلك يقف الشيخ المعتوه
مشكوماً لا ينطق كلمةْ (بعد لحظات من الصمت)
والنجارْ ؟؟ والنجار ؟
جهلان : يا قاضينا الصارمَ لا تعمل أي حساب للنجارْ
هذا النجارْ ـ وأراهنُ ـ لن ينطق كلمةْ
لن يتحمل منكم غَلْوة
فرْكةَ كعبْ (صمت قصير)
نأتي للقاضي السابق عبد القادر فودةْ
احذرْ .. هذا رجلٌ داهيةٌ
لكن لن يعجزنا أن نهدمَهُ
ستقول له :
إنك قد شاهدتَ الإرهابَ
فيما يدعى بالتنظيم السري ، وسكتَّ .. سكتّ
وسكوتُ العارف يعني ـ فقهاً ـ الإقرار
الصارم : (مقهقها) ها .. ها .. ها ، عليك الرحمةُ يا فودة .
لن تنطق حرفاً يا فودة
جهلان : لكنْ ـ وأكرر يا قاضي محكمة العدل العليا ـ احذرْ أن تعطيه متسعاً من وقت ..
قاطعْه بصفة دائمة ، أرهبهُ .
هذا رجل داهيةٌ ، وفقيهٌ ، ومحام معروفْ
أخرسهُ ، ولا تمنحه الوقت الكافي
حتى لا يسترسل في عرض أدلتهِ
فتصاب بحرج لا يدفع
(ويستمر الحديث بينهما بصوت غير مسموع مصحوب بالإشارات ، ويظهر التاريخ بلحيته البيضاء الطويلة على المسرح من الناحية اليسرى ، ويتحدث إلى الجمهور)
التاريخ : جهَلانُ العارفُ .. يا عجباً يا ضيعة شعب يصبح فيه الجهلانُ هو العارفْ يقصده الناس لطلب العلْم ، وطلبِ الفقهْ
آه … عصرٌ أصبح فيه العميانُ يقودون البصراءْ
والعُرْجُ الكسحاءُ
يقودون أصحاءَ الأرجل في مضمارِ السبْقْ .
واللصُّ الفاسقُ نُصِّبَ في المحراب إماماً
لا تعجبْ . فالعصر هو العصر الداعرْ
هو ” عصر الفاقد شيئاً يُعطيهْ “.
(وتخف لهجته تدريجياً وهو يكرر) :
الفاقدُ شيئاً يعطيهْ
الفاقدُ شيئاً يعطيهْ
جهلان : هذي يا قاضينا الصارمَ كلُّ دفوعِهمو العرْجاءْ
وبجانب كلٍّ منها سجلتُ الرد القاصمْْ
وإليك المكتوب .. ملفاً ضخماً
ليكنْ نُصبَ عيونِك في المحكمةِ
تعودُ إليه عند الحاجَةْ
((يسلمه ملفاً ضخماً ويسدل الستار)
المشهد الثالث
في محكمة الهزل العليا
المنظر: قاعة محكمة العدل الكبرى ـ كما تدل اللافتة المعلقة ـ وفي صدر القاعة منصة ضخمة يجلس إليها في الوسط القاضي الصارم ، وعلى يمينه القاضي الفاحم (متوسط القامة معتدل الجسم أسمر اللون سمرة تقترب من السواد) ، وعلى يساره القاضي الشاحم (ممتلئ الجسم أبيض اللون بياضاً يميل إلى الحمرة) وكلهم يرتدون الزي العسكري . وعلى الحائط خلف المنصة صورة ضخمة للملك المنصور مكتوب تحتها ” المنصور أساس الملك ” وعلى اليسار منصة يجلس إليها المدعي العام ” جهلان العارف “. وعلى يسار منصة القضاة ـ بميْل يمثل زاوية منفرجة ـ قفص حديدي بداخله أربعة من المتهمين هم :
عبد القادر فودة (محام وكان قاضياً سابقاً) ، وصلاح فادي (ضابط شرطة سابق) ، وفاضل شاكر (واعظ) ، ويوسف رأفت (نجار) ، وفي القاعة يجلس عشرات من الصحفيين والصحفيات والجمهور، وتقع منصة كاتب الجلسة بين منصة القضاة ، ومنصة المدعي العام ، وهي أقل انخفاضاً منهما . وعلى باب القاعة الكبرى يقف ضابطان . وهناك عدد من رجال الشرطة موزعون في القاعة .. يدور في القاعة لغط .. وكلام مختلط غير بيّن . يدق القاضي الصارم بمطرقته الصغيرة على المنصة فيلزم الجميع الصمت .
الصارم : يا سادة :
نبدأ جلستنا الأولى بقراءة ” فرمان الرحمةْ “
(ناظراً لمكتوب أمامه ويبدأ القراءة)
فرمان الرحمة يهديه الملك المنصورُ
لشعب الوطن الغالي :
الرحمة فوق العدلْ
والإنسانية فوق الدستور وفوق القانونْ
ولذلك باسم الشعب أصدرنا نحن
الملكَ المنصورَ الفرمانَ الآتي :
1 ـ تشكيل المحكمة نهائيٌّ
لا يُقبل أن يُعترض عليهْ
2 ـ أحكام المحكمة العليا لا تخضعُ لاستئناف أو نقض
3 ـ لا يلتزم المشنوقُ بدفع تكاليف الشنقْ .
بل هيئة تنظيم الأسرة تتكفل بالدفعْ
4 ـ يُستخدم في الشنقِ حبالٌ مستوردةٌ
من أرقى الأنواع
تليقُ بشعبٍ سَبقَ العالمَ في الفنِّ
وفي العلم ، وفي المعمارِ وفي التوحيدْ .
5 ـ لا يُستخدم حبل واحدُ في الشنقِ لأكثر من مرةْ
6 ـ من حقِّ المشنوق تخيّرُ لونِ الحبلْ .
7 ـ نفقاتُ الدفن مناصفة بين الدولة والوَرثةْ
8 ـ تتحمل دولتنا مسئوليةَ أيلولةِ أموال المشنوقِ لمصلحةِ الشعْبْ .
وختاماً عاش الملكُ وعاش الشعبْ
توقيع
الملك المنصورُ طويل العمر.
ضابط (بصوت مرتفع) : المنصورْ
الجميع (ما عدا المتهمين) : أساسُ المُلك .
القاضي الصارم : هيه .. هل من كلمْة ؟
أعتقدُ أن الرحمةَ في هذا الفرمان الغالي واضحة لا تحتاج إلى إيضاحْ
عبد القادر : يا قاضي محكمة العدلْ
الفرمانُ العالي لا يحتاجُ إلى إيضاحْ
فالفرمانُ يقرر حُكماً صَدَرَ ولما يَصْدُرْ
فإذا كان الأمر كذلكْ
فلنُقتَلْ جوعاً أو عطشاً
أو بالسيف البتار الصارمْ
أو بالنارِ الموقدةِ كأصحابِ الأخدودْ .
أما الحبلُ المستوردُ من مالِ الشعبْ .
فليُعطَ لحمَّالٍ يحمل أعباءَ الفاقة في شعبِ جائعْ .
الشيخ الفاضل : أعطوهُ لفلاح يبحثُ عن حبلٍ
يربط فيه الثورَ المسلولَ فلا يَجدُ .
صلاح : أعطوه لبحار رثَّتْ أحبالُ سفينته حتى أفلتَ منهُ المَرسىَ والدَّفَّة ، وانهارَ شراعُ سفينته .
يوسف : أعطوه لحطاب يحزمُ فيه حصيلة ليلٍ من حطبٍ مخنوقٍ ذابلْ
عبد القادر : أعطوه لأطفال الوطن المحروق
ينطّون به في يوم العيدْ
الشيخ فاضل : أو فادخروا الحبلَ لنرفعَ فيه العَلَم الوطني المنكوس .
صلاح : أو فادخروا الحبلَ لتعليق مصابيح الزينة في ليلٍ تهزجُ فيه الأمّ بزغرودة فرحٍ عند زفاف الابنْ لبنتِ الجيرانْ .
عبد القادر : الحبلْ .. الحبْلْ ..
من قال بأن الحبلَ لقطع الأعناقِ الحرةْ ؟
من قال بأنّ الحبلَ لتكبيل الأيدي المتوضئة البيضاءْ .. أيدٍ لم تُرفعْ إلا للتكبير الحقِّ ، وذكِر الله .
الصارم (باستهتار وسخرية) :
هه .. للحبل مهماتٌ أخرى ..
فهو مفيدُ للـ …
الشيخ فاضل : الجزار يعلق فيه ذبائحهُ
صلاح (في لهجة هادئة حزينة) :
يا وطني المسكينَ الغالي
يا وطناً جفت فيك الأثداءُ ، والأنداءُ
عبد القادر : والأرض المعطاء الحلوَةْ
جرفتها العاصفة المرَّةْ
ما عادت تُنبتُ فيكَ القمحَ الأصفرَ
والفلَّ العاشِقَ
والأعنابَ السكّر، والعشبَ الأخضرَ
يوسف : ما عادت تُنبت إلا القاتْ . والأنّاتْ
الشيخ فاضل : والأزماتْ
صلاح : والمعتقلاتْ
الصارم : (في ثورة) : ما هذا ؟
فلتخرس يا هذا … أنت وأنت … وأنت وأنت باسم الشعب .. لا تتكلمْ .
عبد القادر: الشعب ؟ ما شاء الله !!
باسم الشعب ؟
يا قاضي محكمة العدلْ
الشعبُ الأخرسُ يملكُ أن يُخرِسَ غيرَهْ ؟
هلْ فاقدُ شيءٍ يُعطيهِ ؟
هل أصدرَ هذا الشعبُ المُخْرَسُ أَمراً بالإخراسْ ؟
الشيخ فاضل : أمراً مكتوباً ؟
كيف ؟ وقد حطَّمتمْ كلَّ الأقلام ؟
صلاح : أمراً منطوقاً ؟
كيف ؟ وقد قطَّعتم كلَّ لسانٍ ينطقْ ؟
يوسف : لا تُنطقُ كلمةْ
لا تُكتبُ كلمةْ
إلا ما يرضى المنصورُ
فأينَ الشعبُ ، واسمُ الشعْبْ ؟
الصارم (هائجاً) : يكفي هَذََََراً .. وبذاءةْ
للصبر حدود يا هذا ..
والآن : الادعاء .. البروفسير جهلان العارف
(يقف جهلان بينما يصيح أحد الضباط)
ـ المنصور ..
الجميع (عدا المتهمين) : أساسُ المُلْكُ .
جهلان : يا هيئة محكمة العدل العليا
نحن بصدد جرائمَ ليستْ عاديةْ
والمجرمُ فيها دمويّ غادرْ
يا سادةُ ، في القفصِ الآنْ :
قادةُ تنظيم إرهابي غايتهُ تخريبُ الدولةْ
وكذلك قتل الملكِ المنصورِ طويل العمرْ
ضابط : المنصورْ
الجميع (عدا المتهمين) : أساس الملْكْ
جهلان : قالوا ذاك شعارٌ خاطئ!!
المنصورُ أساسُ الملْكِ ” شعارٌ خاطئْ !!! “.
هل يصلحُ للمُلكِ أساسٌ غيرُ المنصورِ المحبوبْ ؟
(مشيراً إلى القفص)
قال الرجعيون الفجرةْ :
بل إن العدل أساس المُلْكْ
يا عجباً لغبائكمو يا أعداءَ الشعبْ
هل يمكنُ أن يسريَ هذا العدلُ المزعومُ بغيرِ المنصور ؟
هل يمكنُ أن يُدعى عدلاً إن لم يَدْعمْهُ المنصورْ ؟
المنصورُ أساسُ الملْكْ
والمنصورُ .. مَلِكٌ عادلْ
فالمنصورُ أساسُ الملْكْ
إذ أن المنصورَ بحقِّ يعني العَدلْ
لا فرقَ هنالك إلا في الأحرُفْ (بهياج شديد وهو يضرب المنصة بيده)
فلماذا تعترضون على ذلك يا أعداءَ الحقْ ؟
(صمت قصير)
قالوا لابُدَّ من الشورى
أيةُ شورى يا أعداءَ الأمةْ ؟
ما دُمنا يحكمنا الملكُ الملهَمُ
مَهديّا للحقِّ الخالدِ
بشهادةِ كل شعوبِ العالَمْ .
الشورى تعني إهدارَ الوقتِ
بجدلِ لا نفعَ وراءَهْ (صمت قصير)
والأغربُ من ذلك دعوتُهم
” فلينسحب الجيشُ إلى الثكناتْ
جيشُ المنصور إلى الثكناتْ “
هه .. يا عجباً !!!
العسكرُ برعاية منصورِ الشعْبْ
حين تولّوا بعضَ مناصبَ ، بحكومةِ منصورِ الشعبْ
حملُوا الأعباءَ مضاعفةً
ضحّوا بالراحةِ والصحِّةْ
إذ أصبح كل منهم يحمل عبئين
ـ ما أثقلَ هذين العبئينْ
العبء الأول : عبء الحكم
العبءَ الثاني : عبءَ حماية هذا الوطنِ
من اليأجوجيين .
تضحيةٌ حقاً يا سادهْ . (فترة صمت قصيرة)
والجرمُ الأكبرُ ما زعموا
من أنَّ الدين سياسة حُكْمْ (ناظراً للمتهمين)
الدين صلاة ، وصيام
وتسامٍ للأفقِ الأعلَى
لا يهبط أبداً لمعاناةِ الحكم
وصراعِ الأحزاب عليهِ
بأساليبٍ لا تنفقُ مع الدين الحقْ (صمت قصير)
يا هيئةَ محكمةِ العدلِ الكبرى (ناظراً للمتهمين . وملوحاً بقبضة يده)
الإعدامْ .. الإعدامْ
أبسط ما ينزلُ بالخونَةْ
وأخيراً :
عاشَ المنصورُ أساسُ الملك (يجلس)
ضابط : المنصورْ
الجميع (عدا المتهمين) : أساس المُلْكْ
الصارم : والآن دور المتهمين :
المتهم الأول : عبد القادر فودة
عبد القادر : موجود
(يفتح الشرطي باب القفص ويخرج عبد القادر ويقف أمام المنصة)
الصارم : عملك ؟
عبد القادر : قاضٍ سابق ، ومحامٍ حالياً
الصارم : منْ ذا سيدافعُ عَنْك ؟
عبد القادر : عن نفسي سأدافعُ إن شاءَ اللهْ .
” إن الله يدافع عن الذين آمنوا “
الصارم : ها قدْ أسمَعَكَ الأستاذ العارفُ
ما وُجِّه نحوك من تهم .. ما قولكْ ؟
عبد القادر : إني من ذلك جدُّ برئ ..
ولأني سأدافع عن نفسي
يلزمني أن أطلعَ على كلّ محاضر
تحقيقاتِ التهم المنسوبة لي
الصارم : هذا حقكَ .. دون نقاش .
وأمامك خمسُ دقائق .. بل عشر دقائق تقرأ ما شئت ، وتكتب ما شئت
عبد القادر : يا قاضي محكمة العدل ..
إني أحتاج لساعاتٍ
عشر دقائق لا تكفي
الصارم : (وهو يسلمه ملفاً ضخماً جداً به محاضر التحقيقات)
بل تكفي عشر لا أكثر
وكلامي لا يقبل جدلا
(عبد القادر يتناول الملف ويجلس في الصف الأول مع جمهور الحاضرين ، ويقلب في أوراق الملف ، بينما يُسمع أصوات جلبة ، وصراخ ونداءات مختلطة خارج المحكمة ، لا يتبين منها إلا الكلمات الآتية: )
ـ من هذي الناحية انطَلقَ
ـ أَمسِك به .
ـ إياك ، وأن يُفلتَ منكْ .
ـ هذا جاسوسُ اليأجوجْ
(يدخل شرطي وهو يمسك في قوة بذراع التاريخ (الشيخ الأشيب) ووراءه ضابط يوجه مسدسه إلى ظهره)
التاريخ : أنا لم أذنبْ . اتركني .
الصارم (باستغراب شديد) :
ما هذا ؟ من هذا ؟ (يشير إلى الشرطي بتركه والابتعاد عنه)
الضابط : هذا رجل كان يطوِّفُ حول المحكمة العليا
قلنا لا ضَيْرْ
رجلٌ من سوقة هذا الشعبْ
يتسكعُ في الطرقاتْ
أغفلناهُ بعضَ الوقتْ
لكنْ من ثقب في أحد الجدرانْ
أخذَ يركِّز نحو القاعة بَصَرَهْ
… جاسوسٌ للمملكة اليأجوجيةْ
هذا ما استنتجْنَا من هيئته وطريقته
الصارم (في دهشة) : ما اسمُك يا رجلُ
التاريخ : اسمي التاريخُ المظلومُ
الصارم : ما اسمك ؟؟
التاريخ : اسمي التاريخ المظلومُ .
الصارم : التاريخْ ؟؟ التاريخ ؟؟ (هامساً في أذن الفاحم)
هذا الرجلُ يؤلّب في أعماقي ذكرى سيئةً سوداءْ
ذكرى سنوات المدرسة
إذ كنتُ الراسب دوماً في فَصْلي
في هذا الرجل التاريخ .
ثلاث سنين والله رسوباً متواصلْ
(موجهاً كلامه للتاريخ)
هيه : ما اسمُك قلتْ ؟
التاريخ : اسمي التاريخ المظلومُ .
الصارم : واسمُ الأبْ ؟
التاريخ : الزمنُ .. اسمي التاريخُ بنُ الزَّمَنِ
الصارم : ومحلُّ إقامتِك الدائمُ ؟
التاريخ : سَكَنِي في الأرضِ المعمورةْ
الصارم : المعمورةْ ؟
إقطاعيٌّ أنتَ إذنْ ..
التاريخ : يا سيد .. أسكنُ في المعمورةِ أرضاً لا شاطئْ
الأرضُ المعمورةُ سكنى
وكذاك الأرضُ المخروبةْ
(يضحك القضاة الثلاثة في قهقهة عالية)
الصارم : تسكنُ في الأرض المعمورةْ ؟
وكذلك في الأرض المخروبةْ ؟
التاريخ : لكني الآن بأرضٍ مخروبةْ
الصارم : كيف ؟؟ .. لماذا ؟
التاريخ : منهوبةْ
قد مرّ عليها عشرات الأعوام
لا أشهد فيها غير نفوس منخورةْ
وجيوش مقهورةْ
وخيول معقورةْ
وذئاب مسعورةْ
أغمض عيني
أفتح أذني
لكني لا أسمعُ إلا التَنْعَابْ
تنعابَ غرابْ
وفحيحَ خرابْ
الصارم (وأمارات الدهشة تزداد على ملامح وجهه)
شيءٌ عجيبٌ .. قل لي ما عملُكْ ؟
التاريخ : عملي أن أشهدَ بالحقْ .
الصارم : تشهد بالحق ؟ أعني مهنتكَ
انسب نفسك لقوى الشعب العاملْ
فلاح .. جندي .. عامل ..؟
التاريخ : إني عامل
الصارم : عالْ . في أي محل أو مصنعْ ؟
ماذا تعملُ ؟ ماذا تصنعُ ؟
التاريخ : لا معملَ ثمةَ أوْ مصنَعْ
بل عملي للحقّ تجردْ
لا ألبسُ زيَّ العمال
بل حلةَ عدل وصراحةْ
لا تأخذني لومة لائم
أو أهتزُّ لصولة ظالمْ
الفاحم (ثائراً) : هذا تعريض بالمحكمة العليا
لا أقبلُه
التاريخ : أنا لا أحتاج إلى تعريض
فالتعريض سبيل الخائف
وأنا لا أخشى إلا الله
ولقد سجلت الحكم على ما تُدعى كذِباً
” محكمة العدل العليا “..
محكمة الصارم والفاحمِ والشاحمْ
الصارم : سجَّلْتْ ؟!
التاريخ : وشهَرْتُ .. وأذَعْتْ .
الصارم (بتهكم) : ماذا قلت ؟
ما حكمك يا قاضي محكمة الكونْ ؟
يا قاضي كل قضاة الكون ؟
التاريخ (في ثبات وثقة) : أصدرتُ الحكم التالي :
باسم الله ، أنا التاريخ المظلوم بنَ الزَّمنِ السرمَدْ
أشهدُ وأقرِّرْ
كي تسمعَ مني الأجيالُ
أن المحكمةَ المنصوريةْ
تلك المدعوة ” محكمة العدلِ العليا “
هي ” محكمة الهزل السفلى “
ورئيس المحكمة المدعوَّ ” بصارمْ “
غِرٌّ مجنونٌ ظالمْ
والقاضي الفاحمْ
كانَ ـ وما زال ـ عميلاً عِربيداً آثمْ
والقاضي الشاحمْ
ثورٌ لا يعرفُ غيرَ النطحِ الغاشمْ
(يظهر الغضب الشديد على وجوه أعضاء المحكمة الثلاثة وخصوصاً الصارم ، وتدور همهمات ، وأصوات مختلطة في قاعة المحكمة . يقف الصارم هائجاً ، ويضرب المنصة بيده ويصرخ) :
ـ يا حراسْ . هذا جاسوسٌ للمملكة اليأجوجيةْ
أرسَلَهُ الملك اليأجوجُ
فلْيؤخذْ هذا الكلبُ
ولتُقْطَعْ يدُهُ
بل تُقْطعْ عنقُهْ
لا .. لن أقتَلَهُ فالقتلُ يريحُهْ
فلتفقأ عيْناهْ
فلتفقأ عيْناهْ بخنجر
ليعيشَ بقية أعوامِهْ
في ليل كالقبر الدامسْ
(يتقدم ضابط وحارسان ، ويسحبونه خارج القاعة ، وهو يهتف)
ـ فلتفقأ عينٌ أو عينانْ
فوسيلةٌ نظري ليستْ بصري
ووسيلة سمعي ليست أذُني
في أعماقي ألفُ بصيرةْ
تطوي ظلماتِ الليل الحالكْ
وتسجلُ حتى دبَّ النملِ ، وخفق النحْلْ
وبصدقٍ أكتبُ ، وأسجلْ
وبصدق أكتبُ ، وأسجلْ
صفحاتي أرضٌ ، وسماءْ
ومدادي من دمْع الثكلى
ممزوجاً بدمِ الشُّهَداءْ
(ومن خارج المسرح تسمع صرخة عميقة صادرة من التاريخ ، وهم يفقئون عينيه)
الصارم (موجهاً كلامه لعبد القادر فادي) :
هيه .. قد نلتَ من الوقتِ كفايةْ
(يتقدم عبد القادر ويسلم الملف الضخم للقاضي الصارم ، ويبدأ مرافعته)
عبد القادر : يا قاضي محكمة العدل العليا
إني متهمٌ بجرائمَ لو صحَّتْ كنتُ أنا الجاني
وسيادتكم مَنْ وقعَ عليه جناياتي
الصارم (مبتسماً) : هذا صحْ
عبد القادر : هذا يُلغي حقَّ سيادتكُمْ في الحكمِ علَيّ
الصارم (هائجاً) : ماذا ؟
عبد القادر : إنسانياً .. قانونياً .. أو عقلياً .. أو نصياً
في كلِّ قوانين العالمْ
المجنيُّ عليه لا يصلح أبداً لمحاكمة الجاني
الصارم (في هياج شديد) :
القانون الصادرُ باسم المنصورِ الأعظمْ ..
أحد الضباط : المنصورْ
الجميع (عدا المتهمين) : أساسُ الملكْ
الصارم : القانون الصادرُ باسم المنصور الأعظمْ
لا يُعطي متهماً مثلك حقَّ الرفْضْ
أعني أن يعترضَ على التشكيلِ المنصوريِّ
لقضاةِ المحكمةِ العليا
عبد القادر : لكنْ …
الصارم : لا ” لكنْ ” أو ” حتى ” (بتأنٍ وهدوء)
كان هناك جهازٌ سريٌّ إرهابيٌّ
وسيادتكم كنتَ ..
عبد القادر (مقاطعاً) : أين السرية في تنظيم معروفٍ عندكمو
أعضاءً ورئيساً ؟
بل معروفٌ للناس جميعاً
هذا تنظيمٌ مرصودٌ لجهادِ الأعداءْ
الصارم (ثائراً) : قام بعمليات للتخريب ، وأنت سَكَتَّ
(يقرأ من الملف الذي سلَّمه إليه جهلان العارف .. ويقول بهدوء : )
مما يعني إقرارك للتخريبْ
فسكوتُ الشخص موافقةٌ
قاعدة في الفقه أصيلة (ينظر إلى جهلان الذي يبتسم في زهو ثم يوجه نظره لعبد القادر)
قاعدة لا تقبل نقضاً
عبد القادر : بل تنقضُ .. يا قاضي محكمةِ الْـ .. ـعدلِ العليا .
فهناك كذلك ما يُدْعى بسكوتِ المُكْرَهْ
الصارم : إهْ .. سكوتُ الإهْ ؟
عبد القادر : سكوتُ المكرَهْ
وهناك حديثٌ نبويٌّ
يُلغِي مسئولية منْ سكتَ عن الباطلِ إنْ أُكْرِهْ
بل يلغي مسئوليةَ من يأتي إثما
إن أُكرِهَ ، واشتدَّ عليه الإكراه
الصارم (متهكماً) : حديث ؟ أي حديث يا هذا ؟
عبد القادر : ” رُفع عن أمتي الخطأ ، والنسيانُ ، وما استكرِهوا عليه “
(ينظر الصارم في ضيق شديد إلى جهلان العارف الذي يظهر عليه الاضطراب حين وقعت عيناه على عيني الصارم)
الصارم (بصوت خفيض وهو يضغط في شدة على مخارج الحروف) :
آه .. يا جهلان الكلبْ .. (موجهاً حديثه لعبد القادر)
اترك أمرَ الدين وأمرَ السنَّهْ
فالدينُ بريء من أمثالِكْ
ولنسألْ بعضَ الجمهور (مشيراً إلى شاب وسيم أنيق يجلس بين الجمهور في آخر القاعة)
ما رأيك في هذا المتهم .. القاضي السابق عبد القادرْ
الشاب (بلهجة خطابية) : هذا دجَّالٌ أفَّاقْ
يتأول في الدين لمصلحتهْ
الصارم (مبتسماً) : شكراً .. شكراً (موجهاً كلامه لعبد القادر)
أسمعتَ لرأي الشعب الناضجْ ؟
ما ردَّك يا عبدَ القادرْ ؟
عبد القادر : ردي هو قول الحق تعالى : [وإذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً] [الفرقان : 63] .
الصارم : يكفينا هذا .. ولْترجعْ للقفص هناكْ
عبد القادر : لكني لم أُمنح وقتاً أُبدي فيه كلَّ دفوعي .
الصارم : (في ثورة) يكفي هذا .. يكفي هذا
عبد القادر : إني متهمٌ ومحامٍ ، ودفوعي لم أطرحهْا حتى الآن .
الصارم (وهو يضرب المنصة بقبضته) : يكفي هذا ، ارجعْ للقفص كما كُنْتْ
عبد القادر : لكنْ ..
الصارم : لا ” لكن ” أو ” بلْ ” أو ” حتى ” . ارجعْ للقفصِ كما كنت والحكم بآخر هذي الجلسة
(يعود عبد القادر للقفص في ثبات ، وتدور همهمات في القاعة ، ويميل القاضيان الفاحم ، والشاحم على الصارم ، ويدور بينهم همس ، ثم يدق الصارم على المنصة بمطرقته ، فيسود الصمت القاعة ، وتتعلق الأنظار بالصارم)
الصارم : والآن دورُ المتهمِ الثاني
المدعوِّ ” صلاح فادي “
صلاح : موجود (يتقدم ومعه أحد الحراس إلى المنصة)
الصارم : الاسمُ ؟ والعملْ ؟
صلاح : صلاح فادي .. ضابطُ شرطةِ سابقْ
الصارم : هل أنت بريء أم مذنب ؟
صلاح : طبعاً إني جِدُّ بريءْ ..
الصارم (في سخرية) : هِهْ .. ضابطُ شرطهْ ..!
وتحاول قلب نظامَ الحكمْ ؟
شيءٌ رائعْ
رائعْ جداً .
صلاح : يا قاضي محكمة الـ … ـعَدْلِ … الـ .. ـعُلْيا
كانت أولُ قاعدةِ عُلِّمْناها إذْ كنَّا طلاباً فِي الكليةْ
” الشرطة في خدمةِ الشعبْ “
الصارم : طبعاً .. طبعاً
هذا أمرٌ يعرفُهُ الكلُّ
صلاح : صبراً … من فضلكَ .. صبراً
وتعلَّمنا … وتخرجنا
فإذا بالقاعدةِ هُراءْ
لتحلَّ بديلاً قاعدةٌ أخرى
” الشعبُ جميعاً في خدمةِ رَجُلِ الشرطةِ ،
ورجالِ السلطةْ “
الصارم : هذا كذِبٌ … هذا إِفكٌ من صنع خيالكْ .
ولنسمع رأي الشعب بهذي القاعةْ ..
(يتجه بنظره للجمهور….)
فلنسأل مَنْ ؟ … فلنسأل مَنْ ؟ (مشيراً إلى كهل في الأربعين يجلس في الصف الثاني)
الأستاذ الصافي .. شيخُ صحافةْ …
رجلٌ موهوبٌ بالفطرة …
ما رأيك يا أستاذ الصافي ؟
الصافي : منطقُ هذا الرجل الآثمِ
لا يقنع من أوتي حداً أدنى من تفكيرْ
وأكاد أُجَنُّ لمنطقِ هذا المجنونْ
الصارم (وقد ظهر على وجهه الرضى والانبساط) :
أرأيت ؟ أسمعت لرجل من أفرادِ الشعْبْ ؟
صلاح (متجاهلاً ما قيل) : والحاكمْ … يا للحاكمْ …
كانَ من المفروض أن يكونَ الراعي لأماني الشعبِ
ونبضِ الأمّةْ
لكنْ للأسفِ
الحاكمُ أصبحَ ذئباً يرعى قطعانَ الغنمِ المهزولةْ
الصارم (هائجاً) : ماذا تعني يا هذا ؟
صلاح : أعني أن الحاكم أصبح كالوحشِ المسعورْ .
فإذا ما العسكرُ أصبح منسر
وإذا ما الشرطةُ أضحتْ سوطاً مجدُولاً .
في كفِّ السُّلطةْ
وتحولت الشرطةُ من عينِ تحرسُ أمنَ الشعبِ
إلى سكين ينخر هذا الشعْبْ
في هذي الحالْ
مطلوبٌ من رجل الأمنِ الحقْ (بلهجة أقوى وأعلى)
أن ينحازَ لصفِّ الشعب المقهورِ
أن ينحازَ لصفِّ الحق المهدورِ
وصفِّ الإنسان المسلوب الحقْ
تنفيذاً للقاعدة المعلنةِ بخط ضخمٍ
فوقَ مداخل أقسام الشرطةْ
أوْ كان على رجلِ الأمنْ
أن يكفرَ بالشعب وبالإنسانْ
كيما يصبحَ ناباً مشحوذاً
في فكّ الوحشِ المسعورِ
أو سوطاً مجدولاً قذراً في أيدي زوارِ الفجْرْ
وأنا ـ يا قاضي محكمةِ الـ .. ـعدلِ الـ .. ـعليا
آثرتُ لنفسي أن أحيا إنسانْ
فحياتي إنساناً خلفَ القضبانْ
أسعدُ منها حراً في صفِّ الطغيانْ
الصارم (في غضب) : أَوَلاً تصبحُ إنساناً
في صفِّ الحقِّ الـ .. مهدورْ
أو صفِّ الإنسان الـ .. مقهورْ
إلا حين تحاول قلب نظام الحكمْ ؟
صلاح : بل قلْ من فضلك ” عدْلَ نظامِ الحكمْ
لا قلبَ نظامِ الحكْمْ “
هل كان الحكمُ بوطني ” معدولاً ” حتى أقلِبَهُ ؟
قد كانَ وربي مقلوباً
مهترئ الواقعِ منكوساً
منخورَ القوةِ منكوباً
الصارم (في هياج شديد) : إلزم حدَّكَ ، وكفى هَذَراً .
الحكمُ سيبقى رغماً عنكمْ .. ما دامَ هناكَ المنصورُ
ضابط : المنصورْ
الجميع (عدا المتهمين) : .. أساسُ الملْكْ
صلاح : ما قيمةُ حكم باقٍ ينخرُ فيه السوسْ ؟
ما قيمة حكم للأهواءِ الصولةُ فيه ؟
والعدلُ الحقُّ به موكوسْ ؟
والناسُ كذلكَ …..
الصارم (في هياج شديد) : مالك أنت ومال الناسْ ؟
لِمَ تتكلمُ باسم الناسْ ؟
شيءٌ عجيبٌ …
هل أمَّرَكَ الناسُ عليهم حتى تنطقَ باسم الناسْ ؟
صلاح : أَوَلَسْتُ أنا ، وأبي ، وابني ، وأخي من ضمنِ الناسْ ؟
الناسِ المسحوقين بأعرقِ وطنِ في التاريخ ؟
الصارم (في هياج أشد ضارباً المنصة بيده)
هذا كذبٌ محضٌ يا هذا .
فالناسُ بفضلِ المنصورِ
يغمرهم فيضُ الخيراتِ
صلاح (في حدة) : بل فيضُ صديدٍ وبصاقْ
اختنقتْ فيه الحريةْ
والقمرُ الأخضرُ ، والإشراقْ
والأملُ الباسمُ ، والأشواقْ
الصارم (يهب واقفاً ويضرب المنصة بيده صارخاً) :
اخسأْ يا خائنَ وطنه (يجلس)
فالوطنُ الحرُّ الغالي رغماً عنكم …
صلاح (مقاطعاً) : لا يتسعُ الآن لغير الكاذبِ
والغشاشْ
والقَوّادْ
والأفَّاقْ
الصارم : إن لم تتأدبْ سيكونُ الطردُ نصيبَكَ
من ساحةِ محكمةِ العدلْ
صلاح (ضاحكاً) : الطردْ ؟ الطردْ ؟ الطردُ لأينَ ؟
قد أصبحَ كلُّ مكانٍ في الوطنِ سواءْ
الداخلُ خارجْ ، والخارجُ داخلْ
والفوقُ كتحتْ ، والخلفُ أمامْ
فالوطنُ غدا سجناً أكبرْ .
الصارم : كذِبٌ مَحْضْ
في أرضِ الوطنِ الكلُّ يفكرْ
الكلُّ يقولُ …
يتنفسُ عَبَقَ الحريةْ
والمثلُ الواضحُ أنتَ
فأنتَ تقولُ ، ونحن جميعاً نستمعُ إليكْ
أَوَليْستْ هذي حريّةْ ؟
بل قمةَ ما اصطلَحَ الناس على أن يدعى ” حريةْ “.
فلماذا تنكرُ يا جاحدْ ؟
صلاح (ساخراً في هدوء) :
لستُ بجاحدْ ..
هي حقاً … حقاً حريةْ (بصوت مرتفع حاد)
حريةَ من يختارُ لشنقِهْ
لونَ الحبلِ المستخدم في الشنْقِ
كنصِّ الفرمانِ المنصوريِّ العالي .. فرمانِ الرحمةْ !!
الصارم (في ثورة وعصبية) :
أنت تسبُّ بقولِكَ هذا ذاتَ المنصورِ العظْمى
والبندُ الخامسُ من قانونِ التأديب الملكيْ
يجعلني أنطقُ بالحكمِ الفرعيِّ التكميليِّ التالي :
” حكمتْ محكمةُ العدل على المتهم صلاح فادي
بمضاعفةِ عقوبةِ ما ننطقُ بالحكم عليه
في آخرِ جلستِنا هَذِي .. “
صلاح : وأنا أعرفُ سلفاً هذا الحكمَ المزمَعَ
أن يصدرَ آخر جلستنا هذي .
الصارم : ما شاء اللهْ !!
هل تعلمُ يا هذا الغيبْ ؟
صلاح : لا يعلمُ إلا الخالقُ أمرَ الغيبْ
لكنْ … يا قاضي محكمةِ الـ … ـعدْلِ
نصوصُ الفرمان المنصوريِّ العالي
فرمانِ الرحمةْ
وقرائنُ كلِّ الأحوالِ
وطريقةُ هيئةِ محكمةِ العدلِ المحترمةِ في استجوابات المتهمينْ
تجعلُ حتى أيَّ غبيِّ يدرك ” نصَّ الحكمِ المنتظرِ “
(فجأة يضحك صلاح بصوت مرتفع ، بينما يظهر الضيق والاضطراب على وجه القاضي الصارم)
الصارم : ما هذا ؟ ولماذا تضحكْ ؟
صلاح : أضحكُ من أعماقي
إذْ وقعتْ محكمةُ العدلِ العليا في حَرَجٍ .
الصارم : حرجٍ ؟ ماذا تعني ؟
صلاح : الحكمُ المزمعُ أنْ يصدرَ ضدِّي في آخرِ هذي الجلسةِ
لا يقبلُ أيَّ مضاعفةٍ
من ثمَّ يكونُ الحكمُ الفرعيُّ التكميليُّ
بمضاعفةِ عقوبةِ ما يُحكمُ بهْ
عبثاً لا قيمةَ لهْ
الصارم : لم أفهَمْ ، فكلامُكَ غامضْ
كطبيعتكم يا أعضاءَ التنظيمِ الإرهابيِّ السريّ
صلاح : بل إنك تفهمْ
فكلامي غيرُ مشوب بغموضْ
لكني في الآخر قائلْ :
لا يرهبني حكمٌ أو حكمانْ
لا الأصليُّ ، ولا الفرعيُّ
وليرحمْ ربي أسماءَ بنتَ الصديقْ
إذْ قالت للإبنِ المحصور بمكةْ
” ما دمت على الحق فقاومْ . لا تتراجعْ
فَلَضَربةُ سيفِ في عزٍّ
خيرٌ من ضربةِ سوطٍ في ذلْ
لا تخشَ التمثيلَ بجسدك إن قتلوكْ
فالشاةُ إذا ذبحتْ لا يؤلُمها سلخٌ بعد الذبْحْ “
هذا ما قالتْ أسماءُ
ويقيني بالله يقيني
أن يأخذني الهلعُ بسبب الموتْ (تعلو وجهه ابتسامة عريضة)
حتى لو كان الموتُ مضاعفْ
وليعلمْ كلُّ الناسِ بأن الحقَّ …
الصارم : (مقاطعاً) يكْفي … يكفي هذا
عُد يا هذا لمكانِكَ في قفص المتهمين .
والحكمُ بآخرِ جلستنا هذي
(يعود صلاح لمكانه في القفص .. همهمة في القاعة ، وينشغل الصارم بالنظر في بعض الأوراق أمامه ثم يهمس بكلام غير مسموع للشاحم ، ثم ينظر إلى القفص . ويقول بلهجة فيها سخرية) :
والآنْ … ننتقل إلى المتهم الثالث (بسخرية واضحة)
شيخِ الشُيَّاخ : فاضلْ شاكرْ
فاضل (وهو يخرج من القفص ويتقدم نحو المنصة)
موجودْ
الصارم : اسمُكْ ؟ عملُكْ ؟
فاضل : فاضل شاكر ..
أعمل : واعظْ
الصارم : ومحاميك ؟
فاضل : أنا في كل غَنَاء عن أي محامٍ
سأدافع عن نفسي إن شاء الله
” إنَّ الله يدافعُ عن الذين آمنوا “
الصارم : هل أنت برئٌ أم مذنبْ
بالنسبة للتهم المنسوبةْ
فاضل : للحقِّ .. بريءٌ من كلِّ التهمِ
الصارم (في سخرية) :
يا سيدَنا الشيخَ الفاضلْ
مالك أنت ومال الحكمْ
إنكَ واعظ . رجلٌ من علماء الدينْ (ناظراً للفاحم)
والدينُ بعيدٌ عن كلِّ سياسةْ .
وشئون الحكم أمورٌ دُنيا ليستْ مِنْ شأن الدينْ
والقاضي الفاحمُ مطلعٌ حُجْةْ
كم قالَ ، وما زالَ يقول :
” لا سياسةَ في الدين ، ولا دينَ في السياسة ” (تصفيق حاد من الجمهور)
[يبتسم الفاحم في اعتداد وخيلاء هازاً رأسه في هدوء]
فاضل : القاضي الفاحمُ ليس بحجةْ
إذ لا تتوافرُ فيه شروطُ المجتهدينْ
الصارم (في غضب) : لا من فضلكْ .. لا أسمحُ لكْ
الفاحمُ مجتهدٌ منْ صغرِهْ
لم يَرْسُبْ في أيةِ مرحلةٍ …
لم يدخلْ أبداً أي ملاحقْ
أي أن الفاحِمَ مجتهدٌ من صغرهْ
ما كان يضيِّعُ وقتاً إلا في استذكارِ دروسهْ
فاضل (هازاً رأسه مبتسماً) :
يا قاضي محكمةِ الـ … ـعدلِ العليا
لا أعني بالمجتهدِ الشاطرَ في مدرستهْ
بل أعني ….
الصارم (هائجاً) تعني أو لا تعني …
مَن بعدَ الفاحم يصلحُ حجةْ ؟
ولتسألْ كلَّ الجمهورِ (موجهاً كلامه للحاضرين)
ما رأيكُمو في القاضي الفاحم يا سادةْ ؟
(تصفيق حاد من الجميع ، وزغاريد من بعض السيدات ، يقف الفاحم ويحني رأسه عدة مرات للحاضرين .. يشير الصارم للحاضرين فيكفون عن التصفيق)
الصارم : هذا استفتاء شعبيٌّ صادقْ
يقطع بالتأكيد بأنَّ الفاحمَ أذكى المجتهدينْ
فاضل : يا سيدنا القاضي ..
في سِفْرِ ضخمٍ لابن القَيّمْ
يُدعى ” إعلامَ الموقعين ” يقول :
” لا يمكنُ أن يُدعى حقاً ما يلجأُ بعضُ الناس إليه
من تقسيم الدين الحقِّ شريعةْ ، وسياسةْ
شريعةْ ، وحقيقةْ
ثم إلى ما يُدعى بالمنقولِ وبالمعقولْ
ذلك تقسيمٌ باطلْ
إذ كلُّ المذكورِ السابقِ
إنْ صلحتْ فيه مبانيهِ ، ومعانيهِ
فهْوَ الدينُ الحقُّ بلا تفتيتٍ أو تفريقْ
الصارم : ما اسمُ كتابك هذا ؟
فاضل : ليس كتابي ، بل صاحبُه ابنُ القيمْ
” وإعلامُ الموقعينَ عن ربِّ العالمين “
هو اسمُ السِّفرِ المذكورِ الرائعْ
الصارم (متهكماً) : هَهْ … إعلامْ … إعلامْ ..!!
يا شيخَ المشْيوخاءْ (ناظراً إلى الفاحم)
القاضي الفاحمُ رجلٌ فذُّ في الإعلامْ .
صحفيٌّ ناجحْ .
كم كتب مقالاتٍ وحكاياتٍ في الصحف اليوميَّةْ .
ومذيعٌ هايلْ .
فهْوَ مذيعُ بيان معروفٍ مشهورْ .
وتقول ” ابن القيم ” !!!
يا شيخُ تيقَّظْ
” أين الثرَّى منَ الـ ….منَ الـ …”
(يتلعثم ويبدو عليه الاضطراب ، ويميل عليه الشاحم فيهمس له بكلمة الثريا ، ليكون المثل ” أين الثرى من الثريا ” فيعتدل الصارم … ويقول):
نعم أين الثرى من الـ .. سنية …
نعم أين الثراءُ من الـ .. سنيةْ
فاضل (مبتسماً) : ما شاءَ اللهْ … ما شاء اللهْ .
الصارم : وتقول الفاحمُ ليس بحجةْ
فاضل : ابن القيم .. عَلَمٌ … عالِمْ .
وفقيهٌ ذو فضل غامرْ
أما الضابط فاحمُ …
الصارم : لا تخرج عن حدِّ الأدب (وفي هياج أشد)
هل كان ابن القيم يتقنُ أية لغةٍ غيرَ العربية ؟
القاضي الفاحم يعرفُ أكثر من سبع لغات :
الألمانية … اليأجوجية … النرويجية
… الهولندية … (الفاحم يبتسم في اعتداد)
فاضل (مقاطعاً) : فلنترك ابْن القيم والقاضي الفاحمْ
ولننظر في فكرة ” هلْ في الدين سياسةْ ” ؟
هل يأمرنا هذا الدين بحكم الدنيا
بنظام وقواعد معروفة .. ؟
الصارم (وقد انبسط وجهه) : ها جئنا للجد . اسمع يا شيخاً يا فاضلْ (يقرأ من ورقة في الملف الذي سلمه إليه جهلان العارف)
آياتُ الحكم منْ تكفيرٍ ، أو تظليمٍ ، أو تفسيقٍ
ما نزلت فينا بل في شأنِ يهودْ
إذ حكموا بينهمو بالباطِل
لا بالتوراةِ المُنْزَلَةِ من عندِ اللهْ
فاضل : يا عجباً … ولنفرضْ هذا ..
هل لو حَكمَ يهودُ بغير الحقِّ المُنزلِ في التوراةْ
كفروا أو فسقُوا أو ظلموا
لكنْ لا يأثمُ من همْ خيرٌ منهمْ
إن تركوا حُكمَ الشرع النازلِ في القرآنْ ؟!!
الصارم : (مضطرباً ، وهو ينظر في غضب ونقمة لجهلان العارف فيظهر الاضطراب على وجه جهلان)
أنتَ …! إِ … إِ … أنتَ
أنتَ بذلك تَخرجُ عن أصل الموضوع إلى الفرعْ
فاضل : بل في أصل الموضوع دخلتْ
فالجوهرُ واحدْ …
تَرْكُ الشرع ، وإغفالُ كتابِ الشارع (ثم بنبرة حماسية)
هل ذلك كفرٌ عند يهودٍ
ويسمى عندكمو .. إيمانْ ؟
ذلك أمرٌ لا يعقلهُ إنسانْ .
الصارم (متحدثاً إلى نفسه ، ناظراً إلى جهلان العارف ، وهو يضغط على دروسه في غيظ مكتوم):
آهْ .. يا جهلانَ الجاهلْ .. ماذا أفعل ؟
كيفَ أجيبْ ؟ (موجهاً كلامه للشيخ فاضل)
يُعقلُ أو لا يُعقل … ما شأنُكَ أنتْ ؟
فاضل : (مواصلاً كلامه دون اهتمام بكلام الصارم)
وجيوشُ رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعهودُ رسول الله ، ورسائله لملوك العالمْ
وكتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الأول للهجرة في يثربَ وهْوَ كتابٌ جمعَ قواعد تنظيم المجتمع المدني بكل فئاتهْ أي أن هناك رسائلَ ، وجيوشاً ، وعهوداً ، وقواعدَ حكمْ ، وقواعدَ حرب ، وسلامِ ، وموادعةٍ
هل ذلك دينٌ ؟ أم ذاكَ سياسةْ ؟
الصارم (في شيء من الطمأنينة) :
اسمع يا شيخٌ .. فاتكَ شيءْ (يقرأ من الملف)
فرسولُ اللهِ رسولٌ أرسله اللهُ
ليستقبلَ وحياً من عند الله صباحَ مساءْ
والوحيُ يسدِّد كلَّ خطاهْ
أما نحنُ فإنّا بشرٌ لا وحيَ يسدِّد ما نفعلْ
فالأمرُ إذنْ ـ باستثناء العصرِ النبويّ ـ
متروك للعقل الإنسانيّ يمارسُ ، ويجربُ
ويصيبُ . ويخطئ
ويفيدُ إذا ما أخطأَ من عثراتِهْ
فيجانبُها بمرور الأيامْ
فاضل : يا عجباً !!!
هل جاءَ الرسلُ ليُتَّبعُوا ؟
أم بُعثوا ليكونوا ذكرىَ في التاريخْ ؟
الصارم (قارئاً من الملف) :
لكنَّ هناك خصوصياتِ لرسولِ اللهْ
لا تُلزمُنا نحنُ الناسْ
فاضل : هذا حقْ
والنصُّ عليها مذكورٌ حصْراً
كقيام الليل وجوباً
ووصالِ الصوم
وتحريم وراثة تركته ، فالتركةُ صدقَةْ .
أما العدلُ ، وأما الشورَى ،
وأصول معاملة الناسِ
كتحليل البيع ، وتحريم الربوياتْ ..
أما التربيةُ الحقة ، وبناءُ الأمةِ بالإيمان
فذلك حكمٌ وسياسة
وكذلك دين وشريعةْ
الصارم (في ضيق وتأفف) : هذا يكفي .. هذا يكفي
فاضل (مواصلاً كلامه كأنه لم يسمع الصارم)
والخلفاءُ …؟ ؟
خلفاءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم
هل كانُوا بشراً أم رُسُلاً ؟
الصارم : بل كانوا بشراً .. بشراً طبعاً .
فاضل : بل كانوا بشراً .. بشراً طبْعاً .
فاضل : واتَّبَعوا أمرَ رسولهمو
أم نقضُوا البيعة واجتنبوا ؟
الصارم : اتِّبعُوا طبعاً .. اتبعُوا ..
فاضل : واكتَسَحُوا
وأطاحُوا بالرومِ ، وفارسٍ الأسدينْ
دكَّوا كلَّ عروشِ الظِلمْ
أقاموا دولةَ عدلٍ للإنسانْ
ما زالَ العالمَ يحكي عنها حتى الآنْ
هل هذا ـ يا قاضي محمكمة العدل العليا ـ
دينٌ أم ذاكَ سياسةْ ؟
الصارم (وقد اخذه الاضطراب لأنه فوجئ بالسؤال)
هذا … هذا والله سياسةْ
لا … بل ذلك دينٌ …
آه … دينْ
فاضل : أرأيتَ ؟ ؟ اختلطَ الأمر عليكَ
ـ ولا لومَ عليكَ ـ
بل يختلطُ على من فكَّر ، وتدبَّر
ذلك أن الفاصل بينهما كالفاصِل بين الوجهين لعُملَةْ
الصارم : أنا أخطأتُ … أعترفُ بخطئي
بل ذاكَ سياسةْ
بالتأكيد .. ما قام به الخلفاءُ سياسةْ
فاضل : هل كانتْ ضد الدين
أم كانت تلبيةً لأوامرِ هذا الدينْ ؟
اقرأْ ، اعملْ ، جاهدْ .
كنْ مرفوع الرأس عزيزاً
اعدلْ .. شاورْ
اكتبْ دَيْنَك ، أشْهِدْ
لا تأكل أموالَ يتيمٍ …
توجيهات صدرت ضد الدين .
أم تلبية لأوامر هذا الدين ؟
الصارم : طبعاً تلبية لأوامر هذا الدينْ
فاضل : هذا رائعْ
ما قمنا من أجلهْ
يتلخص في تحقيق الحكم الشوريِّ العادلِ
تلبيةً لأوامر هذا الدينْ
والتسميةُ غيرُ مهمةْ
الصارم : ” لا … لا … إني أعترفُ بخطئي
ما قام الخلفاءُ به
من فتح ، أو عدلِ ، أو شورى .. دينٌ
دينٌ .. ليسَ سياسةْ
أخذوا أنفسهم بأوامر دينهمو فانتصرُوا
آه .. دين هذا .. ليس سياسةْ
فاضل : هذا رائعُ .. سأُسايركمْ
إن قيل بأن الإنسانَ إذا ما يمشي في اليوم لساعةْ .
كرياضة ..
يكتسبُ الصحةَ ، والقوةْ
هل هذا صحْ ؟
الصارم : طبعاً صحْ .
فاضل : المشي هنا سببٌ واضحْ
والقوة والصحةُ في هذا المثل مسبَّبْ
صحْ ؟ ؟
الصارم : صح .
فاضل : والقاعدةُ هنا مُطَّرِدةْ … صحْ
الصارم : صحْ
فاضل : وذكرتم بالكَلِمِ الواضحِ من لحظاتْ :
” ما قام الخلفاءُ به
من فتح ، أو عدلٍ ، أو شورى
دينٌ ليس سياسةْ .. “
الصارم : صحْ
فاضل : أي أخذُوا بأوامر هذا الدين ففتحوا وانتصروا
الصارم : هذا صحْ
فاضل : المشي يحقق عافيةً
أخذوا بأوامر هذا الدين ففتحوا ، وانتصروا
الدين هنا سبب واضح
والنصرُ مسبَّبْ … النصرُ نتيجةْ
الصارم (في غضب) : ما هذا ؟
ما هذا .. يا هذا ؟
فاضل : هذا ما قمنا من أجلِهْ .. تحقيقُ النصر بشرع الله
(يمتقع وجه الصارم ، ويتحدث إلى نفسه بصوت مسموع وهو ينظر إلى جهلان العارف)
آه يا جهلان الكلبْ
لم تمنحني جُرعاتٍ تكفي لمواجهة الشيخ الآثمْ .
(يظهر الاضطراب على وجه جهلان ، ويندى جبينه بالعرق ، فيخرج منديله ليجفف عرقه وفجأة ينبسط وجه الصارم فيوجه خطابه للشيخ فاضل)
الصارم : لكنْ ما رأيكَ فيمنْ أخطأ من حكامٍ
بل أجْرَمَ باسم الدينْ
فَعَلا وتجبَّر ، وانتهك ودمرْ ؟
فاضل : سأكررُ نفس المثل السابق :
المشيُ يحققُ عافيةً ..
لكنْ ..
لو أن الماشي أغمضَ عينيه وسارَ
فعثرتْ قدماه بحجر فانكسرتْ ساقُهْ
هل ذلك يجعلنا نزعُمُ :
أن المشيَ يُسبِّبُ كسرَ الأرجلِ والأقدامْ ؟
الصارم : طبعاً لا .. فالمخطئ مَنْ أغمضَ عينيه وسارْ
فاضل : والقاعدة سليمةْ ؟
الصارم : والقاعدة سليمةْ .
فاضل : وكذاك الدينْ ..
ما ذنب الدين إذا ما الحاكمُ باسم الدين طغى وتجبَّرْ ؟
ما ذنب المشي إذا ما الماشي عميتْ عيناه فما أبصرْ ؟
الصارم :(قارئاً من الملف)
يا شيخُ : الدينُ سموٌّ وعلُوٌّ
فلماذا نهبطُ بالدين إلى دَرْك الحكْمِ
وواقع ما بين الناسْ ؟
فاضل : الدين يعايش هذا الواقع حتى يسمُوَ بهْ
الصارم : هه .. ليكون الإنسان ملاكاً ؟
فاضل : لا .. بل ليكون الإنسان ملاكاً أرضياً ..
أيْ : إنساناً ربانياً
الصارم : كلماتٌ تَنْضَح بالتعقيدْ ..
لا أفهمُ شيئاً مما تذكرْ
فاضل (مواصلاً كلامه متظاهراً بأنه لم يسمع كلام الصارم) :
والقول بأن الدين سُموَّ لا يهبط لشئون الحكمْ
قول يرفضه العقلُ ، ويرفضه الواقعْ
إذ لو صحَّ لقلنا ” تكريماً للعلم ، ومرتبة العلماء لا يتلقّ الجاهلُ علماً عن عالمْ “
ولقلنا تكريماً للطبّ وعلمائهْ
” لا يختلطنَّ طبيبٌ بمريض كي يكتشف الداءَ
ويمنحه جُرعاتِ دواء تدفعُ عنهُ
خطر المرض المحْدِقِ به “
(يفيق الصارم لنفسه فيقف صارخاً ويضرب المنصة بيده) :
الصارم : ما هذا .. يا هذا الشيخ ؟
أتحاكمني ؟
أنت المسئول ولستَ السائلْ
نتساهلًُ معكمْ ..
فيكون جزاء تساهلنا سوءَ الأدب مع المحكمةِ
(لحظات من الصمت .. يجلس ويواصل الكلام)
مشيٌ .. وطبيبٌ .. ومريضٌ .. و ..
انظرْ للجمهور لتعرفَ رأيَ الأمةِ فيكْ ..
… هيا … خلفاً دُرْ ..
(يعطي الشيخ فاضل وجهه للحاضرين ، وعلى وجهه هدوء وطمأنينة)
الصارم : (موجهاً كلامه للحاضرين)
ما رأيكمو في هذا الشيخ .. ومنطقِ هذا الشيخ ؟
صحفية : شيخٌ مأفونٌ دجَّال ، يتخذ من الدين ذريعةْ
أحد الحاضرين : لا يتْقِن إلا الكلمات الرنانةْ ..
سيدة : يُشنق في ميدانٍ عامْ …
الصارم : يكفينا هذا (موجهاً كلامه للشيخ فاضل الذي استدار بوجهه إلى المنصة) :
أرأيت الشعبَ .. ورأي الشعبْ ؟
اذهبْ لمكانِك بالقفصِ ، والحكمُ بآخر جلسَتنا
(يتجه الشيخ إلى القفص ، ويجلس الصارم غاضباً ، وينظر إلى جهلان في غضب شديد ، ويتحدث بصوتٍ خفيض محموم)
آه .. يا جهلان الكلبْ .. هوَّنت عليّ الأمرْ
فإذا بي المتهم .. ولست القاضي !!
صبراً يا جهلانُ الكلبْ .. (يمتقع وجه جهلان ويخرج منديله ويجفف عرقه)
(يميل الفاحم على الصارم ويهمس إليه) :
ما رأيك في أن نكملَ باقي الجلسةِ بعد المغربْ ؟
الصارم : لا .. ما عادَ هنالك غيرُ النجارْ
شخصٌ واحدْ .. فركةُ كعبْ .
الشاحم : غيرُ مثقفْ
محدودُ الفكرْ
لن يتعبنا ..
الصارم : لن يستغرق غير دقائق
… والآن .. نتسلى بهْ
فيكون ختام الجلسة ترفيهاً خالصْ .
(ينشغل الصارم لحظات مقلباً بعض أوراقه ثم ينادي)
والآن : يوسف رأفتْ .. المتهم الرابعْ
يوسف (وهو يهم بالخروج من القفص مع أحد الحراس) :
موجودْ
الصارم : اسمُكَ ؟ عملُكْ ؟
يوسف : يوسف رأفت . نجارْ
الصارم (بسخرية) : ما شاء الله !! نجارٌ وسياسيْ ؟!
ما شأن النجارين بأمرِ الحكم وأمرِ الساسةْ ؟
يوسف : يا قاضي محكمة الـ .. عدلِ العليا
النجارُ من العمالْ
والفلاحون .. وكذا العمالُ ..
ـ كنصِّ القانون المنصوري العالي ـ
هم قاعدة الشعبْ
وتهكمكم يعني نقض سيادتكم للأمرِ المنصوري العالي
وكذلك حكمٌ منكم أن القاعدة الشعبية
من فلاحين ، وعمال ، لا شأن لها بسياسة أمر الأمةْ
(ناظراً لكاتب الجلسة)
سجِّلْ هذا يا كاتبَ محكمة العدْلِ العُليْا
الصارم (وقد ظهر الاضطراب والفزع على وجهه) :
أنا لا أقصد يا يوسفُ
عفواً .. اقبلها مني هذي المرةْ
فأنا أعني أنك نجارٌ مشغول دوماً بصناعة كرسيٍّ ..
أو بابٍ .. أو شباكٍ (في لهجة ساخرة)
أو قرمةِ لحم يعتمدُ الجزار عليها في تقطيع اللحمْ .
يوسف : هذا رائعْ .. قرمة لحمْ
يا سيدنا القاضي (في ابتسامة ساخرة)
إن ” القرمة ” هي في الواقع
صورة وطني الحرِّ الغاليِ
في عهدكمو الحرِّ الغالي
(يظهر الاعتداد والزهو على وجه الصارم ، ثم يفيق لنفسه ، فيصرخ في غضب)
الصارم : ماذا تعني .. أفْصحْ .. قلْ لي ماذا تعني ؟
يوسف (في قوة وحماسة)
يا قاضي محكمة الـ .. ـعدل .. الـ .. ـعليا
اسمعْ لي ، وليسمعْ كلُّ الجمهور : (يتهدج صوته في نبرة حزينة)
الشعب سيبقى مفزوعاً
في وطن كان مثابة أمنْ
في وطن كان الأمَّ لكل المفزوعين
المقهورين بكل مكانْ
لكنَّ الجزار الأكبر ..
الصارم (مقاطعاً) ما هذا ؟ هذا لبخٌ لا يُقبلْ .
(تدور همهمات في القاعة ، وأصوات اعتراض مختلطة من الجمهور لا يعطيها يوسف اهتماماً ويواصل كلامه)
يوسف : صبراً يا سيدنا القاضي
.. لكنَّ الجزار الأكبر جعلَ الوطن الآمنَ قرمةَ لحم والساطورُ الدامي شغالٌ عمّالٌ لا يتوقفْ
وعلى كل مواطنْ
أن يمضي فوق القُرمة من تحتِ الساطورْ
من يسعدُهُ الحظُّ وينجو من ساطور الجزارِ
هوى من فوق القرمةْ
لكنْ مكسوراً مشدوخ الرأس يعيشُ بعاهَهْ
أما من أدركهُ الساطورُ فساقٌ تقطعُ منهُ
أو رِجْلٌ ، أو كَتِفٌ ، أو كفٌّ ، أو عنُقٌ
أو ربعٌ ، أو نصفٌ ..
أو أكثر من ذلك حَسَبَ الحظْ
(في لهجة قوية حارة)
القرمة والساطورُ أداتا الجزارِ
هما في وطني المسكين العاني
أركانُ الحكم الميمون ..
المجنون (في صوت كالنشيج)
واوطناهُ .. واوطناهْ
واذلاه .. واذلاهْ
الصارم (هائجاً) :
ما هذا …. يا هذا
قطعاً .. لم تفهمْ ما أعني (يخفف من حدة لهجته)
يا يوسف .. حاول تفهمُني :
ما أعني يتلخصُ في كلماتٍ :
إنك نجارٌ ماهرْ
فإذا ما شُغل ضميرك بشئون الحكمْ
عطَّلْتَ الإنتاجَ الوطني
يوسف (برباطة جأش وصوت جهوري)
آه .. هذي أخرى (ناظراً إلى كاتب الجلسة)
سجِّلها يا كاتب محكمة العدلْ
اكتبْ أن رئيس المحكمة العليا
يزعم أن العامل إن يُشغلْ بسياسة وطنِهْ
عطَّل إنتاجَ الدولةْ
(يظهر الاضطراب ، والفزع على وجه الصارم فيتوجه بلهجة رقيقة هادئة ليوسف) :
الصارم : لا يا سيد يوسف أرجوكْ
(ينظر الصارم إلى كاتب الجلسة فيجده ، منهمكاً في الكتابة فيثور صارخاً فيه)
ماذا تفعل يا ملعونْ ؟ ماذا تفعلْ ؟
أسْمِعني .. اقرأ ما سجَّلت ؟
الكاتب (يشرع في القراءة) :
” .. وهنا اعترض المتهم على قاضي محكمة العدلِ العليا إذ قال سيادته :
إن العامل إن يُشغل بسياسة وطنهْ
عطَّل إنتاج الدولةِ .. وكذلك ..
الصارم (هائجاً) : يا حيوانْ .. اشطبْ هذا (في لهجة أهدأ)
قد كنتُ أضاحكُ يوسف
فحديثي لا يعدو الهزلْ
يوسف (بصوت مرتفع موجهاً كلامه لكاتب الجلسة) :
سجِّل يا كاتب محكمة العدْل
أن سيادة قاضي المحكمة العليا
قد حوَّل مجراها ..
من محكمة للعدل إلى محكمةٍ للهزلْ
(الكاتب يتوقف عن الكتابة فيوجه يوسف كلامه للصارم)
يا قاضي محكمة الهزلْ .. آسف .. العدلِ العليا
إني أسألُ .. هل ..
الصارم (في لهجة هادئة لطيفة) :
يا سيد يوسف .. أرجوكَ
لا تأخذ كلَّ أمور المحكمة بهذي العصبيةْ
(ينظر إلى جهلان العارف ، ويتحدث في صوت خفيض بغيظ وضيق وهو يضغط على الكلمات ضغطاً شديداً)
آه يا جهلانُ الكلبْ .. هونتَ على نفسي أمر النجارْ
” يوسف هذا نجار جاهل ” ..
يوسف لا يتحمل غَلوةْ .. فركةَ يدْ .. فركة كعبْ .
لا جاهلَ غيرُكَ .. يا جهلانُ الجاهل
(موجهاً كلامه ليوسف ، في هدوء ، وعلى وجهه ابتسامة مفتعلة)
ـ يا يوسفْ .. أسئلة أطرحها
وتجيب عليها بهدوءٍ …
أصحيحٌ كنتَ رئيس جهازِ للقتلْ ؟
يوسف : هذا حقْ .
الصارم (وقد بدا عليه زهو المنتصر) :
ها .. هذا رائعْ .. للقتلِ .. ههْ ؟
يوسف : للقتل .. للقتل .. جهاز للقتلْ
الصارم (موجهاً كلامه لكاتب الجلسة) :
سجِّل .. وتنبَّه (ملتفتاً ليوسف)
عال … يعجبني فيك الصدقْ .
جهاز للقتل ؟؟
يوسف : للقتل نعمْ .. لا للعب
قتل الأعداءْ .. قتلِ الأعداءِ اليأجوجيينَ
ومن ناصرهمْ
الصارم (بلهفة) : ورجال الملكِ المنصورِ .. طبعاً فيهمْ ؟
ضابط : المنصورْ
الجميع (ما عدا المتهمين) : أساسُ المُلْكْ
يوسف : ليس الكل.
بل نقتلُ من أنصار المنصور الخائنَ ، والمجرم ، والمدْبرَ عن نهج الحقِّ
والمُدْبرَ عن نهج الحقْ
الصارم : عال .. مَن منهم ؟
اذكر اسماً أو اسمينْ
يوسف : أولهمْ أنتْ .. أولهم أنتْ .
الصارم : (وقد هبَّ واقفاً في هياج شديد)
اخرسْ .. يا قاتلْ .. يا خائنْ .. يا إرهابيْ
يوسف : وأقول : سلاماً
[وإذا خاطبهمُ الجاهلونَ قالوا سَلاماً] [الفرقان : 63]
هذا ما علمني ديني .
الصارم (ساخراً) :
ـ ما شاء الله !! الدينْ ؟ ؟ ههْ ؟!
هل تحفظُ قرآناً ؟
يوسف : أحفظ من صغري كلَّ القرآنْ
حمداً لله .. وشكراً ..
الصارم : اقرأ لي فاتحة القرآن ..
يوسف : [الْحَمْدُ للهِ ربِّ العالَمينَ (1) الرحمنِ الرحيمِ]
الصارم : ما هذا .. سمِّ الله .. يا نجارْ .
يوسف : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
[الحمد لله ربِّ العالَمينَ (1) الرَّحْمنِ الرحيم]
الصارم : (وقد بدا عليه الضيق)
ـ لا .. لا ..
إنِّي أرغبُ أن تقرأها بالمقلوبْ
من آخرِها حتى الأولْ .
يوسف : أعوذ بالله من الشيطان الرجيمْ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيمْ
الصارم : هه .. أكمل :
آمين .. الضالينْ .. ولا …
يوسف : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيمْ
الصارم : ما هذا ؟
ما دخْلُ الشيطان هنا ؟
يوسف (ثائراً) : بل إن الشيطان هنا
يا قاضي محكمة الـ .. عَدْل
ما تطلبُ عبثٌ لا يصدرُ إلا من شيطانْ
(ضجة وهمهمة .. وأصوات مختلطة بين الحاضرين ، ويهم الصارم بصب جام غضبه على يوسف ، ولكن الشاحم يمسك بيده محاولاً أن يهدئ من ثائرته هامساً في أذنه)
الشاحم : يُستحسنُ .. غيِّر مجرى الموضوعْ
حتى لا يغضبَ منا السُّوقةْ
الصارم : (في تظرف وتلطف مفتعلين)
يا يوسف … معذرةً لم أقصدْ إلا الخير
حسنُ النية ـ يا يوسف ـ عندي متوفرْ (بعد صمت للحظات)
… قل لي يا يوسف ..
ما رأيك في المنصورْ .
أحد الضباط (هاتفاً) : المنصورْ ..
الجميع (عدا المتهمين) : أساس الملْكْ .
يوسف : رأيي أن العدلُ أساسُ الملك .
الصارم : أسألك عن الملك المنصور
ما رأيك في الملك المنصورْ ؟
يوسف : رأيي لن يدخلَه الجنةَ أو يدخله النارْ
رأيي لن يحرمه الجنةَ أو يدفعَ عنه لهيبَ جهنمْ .
فالمالكُ أمرِ المنصورِ هو الله
الصارم : فلننتقل الآن لأمرٍ آخر .
مع تقديري (ملتفتاً لكاتب الجلسة ، وموجهاً إليه الحديث)
افتح عينيك ، وأذنيكَ
وبخطٍّ حسنٍ سجْل هذا (موجهاً كلامه ليوسف)
مع تقديري للعمالِ
من حدادٍ ، أو نجارٍ ، أو شيَّالٍ
إني أسألُ :
كنت رئيسَ جهازٍ ضخمٍ ـ هل تعتقدُ …؟
(ملتفتاً لكاتب الجلسة)
مع تقديري للعمالْ (ملتفتاً ليوسف)
أن ضخامة مسئولية هذا الأمرْ
تتناسب ـ في أية صورةْ ـ مع مهنة رجلٍ نجارٍ ؟
(ناظراً لكاتب الجلسة)
مع تقديري للنجارِ وللحدادِ ، وللفلاح ، وللعمالْ
يوسف : ما رأي رئيس المحكمة العليا فيما بُعِثَ الرسْلُ لأجلِهْ ؟
الصارم : إ .. إ .. إ طبعاً أسمى عملٍ في تاريخ الإنسانيةْ .
يوسف : نوحٌ ـ وسلامُ الله عليه ـ
قد كان نبياً نجاراً
بل أعظم نجارٍ في تاريخ الدنيا .
بنجارتِهِ أنقذ كلَّ الجنْسِ البشريْ .
بسفينتهِ حمل خميرة هذا الكونْ
من كلِّ الأنواع اثنين
حتى بلغ الجودي بالفلْكِ المشحونْ
فانطلق الصفوةُ حتى عَمَروا الأرضْ
وخلاصة قولي :
لولا نوح … ونجارتُهُ .. وسفينتُهُ
ما كنا في هذي الدنيا.
الصارم : (هامساً وهو ينظر إلى جهلان العارف وقد انتفخ وجهه غيظاً)
آه … صبراً يا جهلان الكلب .
يوسف (مواصلاً كلامه) :
داودٌ قد كان نبياً ، وكذلك يعمل حداداً
عيسى ـ وسلام الله عليه ـ
الصارم : (مقاطعاً في هياج)
يكفي هذا … يا هذا
أتعلمني نشأةَ هذا الكونْ ؟
هل تعطيني درساً في التاريخ ؟
اخرس … لا تتكلم .. (لحظة صمت)
قُضِيَ الأمرْ
يوسفُ (متهكماً) : يا نجارْ .. خَلْفاً دُرْ
اجعل وجهك للجمهورْ (موجهاً حديثه للحاضرين)
يا سادةْ .. هذا من كان سيحكمكمْ بَدَلَ المنصورْ
أحد الضباط (في حماسة) : المنصورْ
الجميع (ما عدا المتهمين) : أساسُ الملكْ
الصارم : نجار يحكم شعباً . أعرقَ شعبٍ في التاريخ (ضحك في الحاضرين)
أحد الحاضرين : أنا أبني لابني شقَّةْ
وأكون سعيداً لو قامَ الملكُ النجارُ بعملِ المنجور (ضحك)
إحدى الحاضرات : وأنا أحتاج لحجرة نوم (ضحك)
سيدة أخرى : وأنا أحتاجُ لتصليح الباب الخلفيِّ من ناحية المطبخْ (ضحك)
أحد الحاضرين : وأنا أحتاج لدولابٍ من خشبِ الأرْوْ (ضحك)
(يوسف لا يبدي اهتماماً بما يقال بل يبدو على وجهه طمأنينة وثبات ورباطة جأش)
الصارم : (موجهاً كلامه ليوسف) خلْفاً دُرْ
(يدور يوسف وينظر للصارم)
أسمعتْ .. أرأْيتْ
هذا رأيُ الشعب الناضج في أمثالِكْ ، ما ردُّكْ ؟
يوسف : وأقول سلاماً …
[وإذا خاطَبَهُمُ الجاهلونَ قالوا سَلاماً] [الفرقان : 63]
الصارم : اذهبْ يا يوسف للقفصِ (يتجه يوسف للقفص)
تُرْفعَ جلستنا
والحكمُ بعد المداولةْ
أحد الضباط : المنصورْ
الجميع (عدا المتهمين) : أساسُ الملكْ
(يخرج القضاة الثلاثة للمداولة ويبقى جهلان العارف في القاعة والصارم ينظر إليه نظرات غاضبة ناقمة ، فيخرج منديله ليجفف به عرقه بيد مرتعشة مضطربة ، تشجب الأضواء رويداً ، وتسمع موسيقا حزينة لمدة ثلاث دقائق .. يعلن بعدها الضابط الواقف على الباب)
ـ محكمة (يقف الجميع ، ويدخل القضاة الثلاثة ويأخذون أماكنهم في المنصة . وتتعلق الأنظار كلها بالصارم ، والصمت يهمين على الجميع ، ويشرع الصارم في قراءة نص الحكم)
الصارم : باسم الملك المنصور ، وباسم العدل المنصوريّ الخالدْ
وكذلك إعمالاً للقانون المنصوري العادل : فرمانِ الرحمةْ
نحن قضاةَ المحكمة العليا
نحكمُ بالإجماع بما يأتي :
1 ـ يُعدمُ شنقاً كل من :
عبد القادر فودة
وصلاح فادي
وفاضل شاكر
ويوسف رأفت
2 ـ إلغاء الحكم الفرعي الصادر منا
ضد المدعوٍّ صلاح فادي بمضاعفة عقابه
نظراً لصعوبة تكرار الشنقِ بشأنهْ
ولقد روعي في إلغاء الحكم الفرعي
روح العدل المنصوري
3 ـ يحكم بالسجن لعشر سنينَ
على المدعوِّ بجهلان العارف
لتعمده إعطاء بيانات ناقصة أو مكذوبة
عن كل المتهمين
مما يوحي بتواطئه النذل مع الخونة
(يظهر جهلان مضطرباً منهاراً ، ويتقدم شرطيان لاقتياده)
وأخيراً عاش المنصور طويل العمر
أحد الضباط : المنصور
الجميع (عدا المتهمين) : أساس الملك .
(تشحب الأضواء تدريجياً ، ويبدأ الجميع في الانصراف ، ومع ابتداء الإظلام التام للمسرح يتغير المنظر إلى شاشة بيضاء بطول المسرح يظهر خلفها ـ منعكساً عليها ـ ظلال عدد كبير من المشانق وأشباح المحكوم عليهم بالإعدام تتجه نحوها بأعداد متزايدة كأنها صف عسكري (وكل ذلك بطريقة خيال الظل) وعلى أنغام الموسيقى تسمع خلف الشاشة أصوات مجموعة الشهداء ، بينما يسمع الصوت الآخر من داخل المسرح)
صوت جماعي :
تقدموا تقدموا تقدموا تقدموا
مجاهِداً وصادقاً وعانقوا المشانِقَا
وعانقوا المشانِقا
مجموعة الشهداء :
حمداً لله حمداً للهْ
حمداً لله حمداً للهْ
عِشنا شرفاءْ متنا شرفاءْ
الصوت الجماعي :
موتوا فأنتم وقودٌ لشعلة الحريَّةْ
وموتكم ليس موتاً كموتِ كلِّ البريّةْ
بل أنتمو أحياءُ .. لا يعتريكم فناءُ
مجموعة الشهداء :
حمداً لله حمداً لله
أنا شهداءْ أبداً أحياءْ
وهناك لقاءْ بين الشرفاءْ
في ظلِّ العرشْ
الصوت الجماعي :
تقدمّوا تقدمّوا تقدموا تقدموا
مجاهداً وصادقاً وعانقوا المشانقا
وأشهدوا المغاربا وأشهدوا المشارقا
بأنكم وقودها وأنكم نشيدها
بأنكم وقودُها وأنكم نشيدُها
مجموعة الشهداء :
حمداً لله حمداً لله
أنّا شهداء أبداً أحياءْ
(يتكرر المقطع الأخير مع انخفاضه تدريجياً ، ويشحب الضوء أيضاً بالتدريج ، وتظهر مجموعات من الجنسين من الناحية اليمنى من المسرح ، وبعد اختفاء الظلال الخلفية المنعكسة على الشاشة ، وعلى أنغام مختلفة تتحرك المجموعات في ملابسها البيضاء من جهة المسرح اليمنى رافعة أيديها في هيئة من يستنجد ويدعو ، متجهة بأيديها وأنظارها إلى الجهة اليسرى من المسرح) .
المجموعة :
يا أبتي التاريخَ تعالَ يا أبتي التاريخَ تقدمْ
يا أبتي التاريخَ تعالَ يا أبتي التاريخَ تقدمْ
(يدخل التاريخ من الجانب الأيسر من المسرح ، وهو يدب بعصاه وعلى لحيته آثار دماء نتيجة فقء عينيه ، ويقف في الناحية اليسرى مواجهاً للمجموعة)
المجموعة :
قل لي يا أبتي قل لي ماذا في الغيب المكنونْ
ماذا تحمله الأيام في أفق الوطنِ المسكينْ
التاريخ : إنّي لا أشهد غيرَ سوادٍ ملعونْ
وشبابٍ مهزومِ النخوةْ
مهتوك العزم
وحطامٍ كالعصف الذاوي
من شجرِ التين المحروقْ
وغصونِ الزيتون المحزون
وبقايا راكدة من ماءٍ وعيونْ
وقوافل من فُلْكٍ مشحونْ
تحملُ للوطن المحرومْ
شحنةَ أفيونٍ وهروينْ
وكأني أسمع عصف الريح الصَّرصرْ
يعوي في الوطن المفجوع ويزأرْ
يهدمُ ويدمِّر
يجتاح اليابسَ والأخضرْ
المجموعة :
يا هول المشهد يا أبتي يا هول المشهد يا ابتي
هل هذي رؤيا أم رؤيةْ هل هذي رؤيا أم رؤية ؟
التاريخ : بل أشهد ذلك رأي العينْ
بل أشهد ذلك رأي العينْ
وأرى أيضاً بقراتٍ سبعاً عجفاواتٍ سودا
ينزفن دماء وصديدا
يأكلن سميناتٍ من أبقار ألفٍ بل مليونْ
وأرى كلَّ سنابلِ أرض النهرِ
تجفُّ وتَيْبَسُ ثم تهاوى
لتكونَ طعاماً لدودِ المنكودْ
المجموعة : هل ثمةَ طوفانٌ قادمْ ؟
حدثنا عن خبر الطوفانْ .
التاريخ : (بصوت أعمق وأشد ارتفاعاً)
وأرى الطوفان العارمَ قادمْ
بسيولٍ عاتية سوداءْ
ليست من ماءْ
بل من قيءٍ وصديد ودماءْ
المجموعة : وسفينة نوح قادمةٌ
كي تحملَنا في الظلماءْ ؟
وسفينةُ نوح قادمةٌ
كي تحملَنا في الظلماءْ ؟
التاريخ : فإذا ما حمَُّ اليومُ الأسودُ
لا تسألْ ـ يا ولدي الطيبَ ـ
عن نوحٍ وسفينةِ نوحْ
أو عن جبلٍ يعصمكَ من الماءْ
أو عن قطعةِ نورٍ تستهديها في الظلماءْ
نوحٌ يا ولدي قد طردوه بليلٍ
ونفوه بعيداً وشريداً
وسفينة نوح صادرها العَسَسُ الليليُّ
وزوّارُ الفجرْ
في صمتٍ فكّوها لوحاً لوحاً
وقبيل شروق الشمسْ
باعوها خشباً ومساميراً للملكِ اليأجوجْ
باعوها بالدولار وبالدينارِ
وبالويسكي المستوردِ والكفيارْ
المجموعة : واحزناهُ … واوطناهْ
نوحُ المبعوثُ المهْدِيْ
مطرودٌ منها مَنفيْ
وسفينة نوح منهوبةْ
باعتها الذممُ المخروبةْ
لكنْ يا أبتي أخبرنا
ما نبأ الجوديِّ الأخضر ؟
هل بقي الجوديُّ الأخضر ؟
التاريخ : يا بؤسَ الجوديِّ الأخضرْ
مرسى نوح وسفينته
وحمائمه … وصحابتِهِ
جعلوهُ .. مِنطقة حرةْ
” منطقة الجودي الحرةَ
للتهليب وللتهريبْ “
المجموعة : يا أبتي نادِ الصديقا
يا يوسفُ فلْتأتِ إلينا
يا يوسف لا تبعد عنا
التاريخ : يوسف صدِّيقٌ يا ولدي
لن يقبلَ أن يتولى أمر خزائنِ وطنٍ منهوبٍ مسكينْ
ليكونَ عليها خيرَ أمينْ
يوسف هاجرَ للصحراءْ
آثرَ أن يرجع للجبِّ المعزولِ هناكْ
فخزائنُ هذا الوطن المطحونِ
تولاها شطارُ المنسَرْ
أعني حراسَ الوطنِ من العسكرْ
المجموعة : يا ويلَ الوطن من المنْسرْ
يا ويل الوطنِ من العسكرْ
العسكرُ يا أبتي منسرْ
يا ويل الوطن المسكينْ
لكن يا أبتي أخبرنا
عن نبأ الأطفالِ الخُضْرِ
في سفر الأيامِ الآتي
التاريخ : أدميتَ فؤادي يا ولدي
فالطفلُ الأخضرُ مفقودٌ أو موؤودْ
وسيأتي يومٌ يا ولدي
يتشبث فيه بثدي الأمْ
يعتصر بفكيهِ الحَلْمةْ
يستجديها نقطة لبن
هاربةً في أعماقِ الصدْرْ
كي تنقذهُ من جوع ساعرْ
لكنَّ الحَلمة لا تسعفه إلا بنقاطٍ من دَمْ
يتلوها قيءٌ وعدمْ
فالعسكرُ في نَهمٍ ساعرْ
امتصّوا حتى لبن الأمِّ
فلما شبعوا خنقوا الأمَّ
ووأدوا الطفل بقاع النهرْ
المجموعة : والصفوة من أحرار الناسْ
أصحاب الألسُنِ ، والأقلامْ
يقفون … مكتوفي الأيدي .
في فزعٍ مخزٍ واستسلام ؟
التاريخ : ألسنة الأحرار ستقطعْ
وعيون الأطهارِ ستُقلعْ
لتكون قلائدَ وعقوداً
في صدرِ بغايا الأعداءِ
في قصرِ الملك اليأجوجْ
المجموعة : والكلمة تبقى يا أبتي
والكلمة تبقى يا أبتي ؟
التاريخ : الكلمة!! .. يا ويلَ الكلمةْ
فدِماها ستراقُ هناكْ
كي تروي زهرَ اليأجوج
بحدائقه المنهوبة من أرض النهْرْ .
المجموعة : والأرضُ وأحلامُ الأرضْ
هل يغدو فيها متسعٌ
أم فيها تنقصفُ الأحلامْ ؟
التاريخ : في غدك القاتم يا ولدي
ستضيق الأرضُ بما رَحُبَتْ
حتى يتخذَ الأحياءُ قبور الأمواتِ مساكنْ
بل يغدو الموتُ بلا ألمٍ
حلمَ الأحلامْ
يَطلبه الناسْ
” بحقِّ البؤس ، وحقِّ الذلِّ تعالَ تعالَ “
فلا يأتي .
حتى الأيام ـ وصدقني … يا ولدي الطيب صدقني .
حتى الأيام غداً ستحاولُ أن تنتحر فلا تقدرْ
تنتحر لتخلُصَ من عارٍ موهومٍ مكذوبْ
ألصقه فيها الناسُ الكَذَبَةْ
إذ قالوا ” عارُ الأيام “
” ظلمُ الأيامْ “
” غدرُ الأيام ” .
مع أنَّ الأيامَ من العارِ بريئةْ
المجموعة : يا للعارِ .. يا للعارِ
لا عارَ هنالك في الأيامْ
يا أبتي فالعار لمنْ ؟
يا أبتي فالعارُ لمن ؟
التاريخ : الحقَّ أقولْ
العارُ الداعرُ سبُّوا الأيامْ
فيمن شحنوا الزمن الناصعَ بمخازيهمْ
هرباً منها …
فيمن قالوا : ” ليسَ العدل أساسَ الملْكْ “
فيمن قالوا : إنَّ المَلِكَ بديلُ العدلِ ، وفوق العدلْ “
فيمنْ جعلوا الجبنَ فضيلةْ
فيمن جعلوا الطهرَ جريمة .
قيمن زعموا الصدقَ رذيلةْ
فيمن قلبوا عيشَ الوطنِ أسىً ووبالْ
فيمن شنقوا المُثُلَ العليا للأجيالْ
المجموعة : فيمن قلبوا عيشَ الوطن أسىّ ووبالْ
فيمن شنقوا المُثُلَ العليا للأجيالْ .
(تظل المجموعة تردد هذين البيتين وينخفض الصوت بهما تدريجياً ، والتاريخ يمضي في الكلام وهو يهم بالانصراف من الناحية اليسرى)
التاريخ : وأنا التاريخ المظلومْ
مكلوماً أمشي
… وأجوب فجاجَ الأرضِ
وأطرقُ أبوابَ عبادِ اللهْ
كيما أحظى بحقيقةِ خبرٍ
أرْصُدُهُ للأجيال القادمةِ بأرضِ النهرْ
في زمنِ الكربةِ والقهْر
(تنتهي المجموعة من الإنشاد مع آخر كلمات التاريخ فيسدل الستار)
يتبع…
اترك تعليقاً