فمن ليد ترميك من حيث لا تدري؟
كان الشعر ديوان العرب» فقد حفظ تاريخهم, وأيامهم, وأحوالهم في السلم والحرب, ونقل لنا تضاريسهم العقلية والنفسية والروحية, لذلك كان -ومازال- أشهر وأثري جنس أدبي في حياتهم.
وكان الشعر من أقوي الأسلحة في الدفاع عن الإسلام, وكم دعا النبي صلي الله عليه وسلم لحسان بن ثابت وأثني عليه, ويُروي عنه قوله عن الشاعر الشهيد عبد الله بن رواحة «إن أخا لكم لا يقول الرفث هو عبد الله بن رواحة».
وكان عمر بن الخطاب يتمني لو كان شاعرًا حتي يرثي أخاه الشهيد زيد بن الخطاب كما رثي متمم بن نويرة أخاه مالكًا.
ومن أقواله في تقدير الشعر:
– ارووا من الشعر أعفه, ومن الحديث أحسنه…
– وكتب إلي أبي موسي الأشعري: مر من قًبلَك (عندك) بتعلم الشعر, فإنه يدل على معالي الأخلاق, وصواب الرأي, ومعرفة الأنساب.
– ومما قاله لابنه عبد الرحمن: …واحفظ محاسن الشعر يحسن أدبك.. فمن لم يحفظ محاسن الشعر لم يؤدًّ حقًا, ولم يقترف أدبًا.
والشعراء يتفاوتون في مستوي أشعارهم, بل إن أشعار الشاعر الواحد تتفاوت في مستواها قوة وقدرة وتأثيرًا, تبعًا لمدي انفعال الشاعر بموضوعه, ومعايشته تجربته الشعورية وغير ذلك مما لا يتسع المقام لبسطه.
الشعر الخالد…
ومن الأشعار ما يخلد علي الزمان, فلا يبلَي, ولا يفقد قدرته وبريقه وتأثيره, فكأنه نظم اليوم, وهو الذي وُلد من ألف عام, أو يزيد, ويسير ويلهج به الناس مثلاً ساحرًا, وحكمة قوية الجذب والتأثير.
ومن هذا الشعر الخالد هذان البيتان للشاعر الشريف الرضًيًّ (359 – 406 هـ) يخاطب بهما الطاغية:
إذا أنت أفنيتَ العرانينَ والذُّرا
رمتٍك الليالي من يدً الخاملً الذكٍرً
وهبكَ اتقيتَ السهمَ من حيثُ يُتقي
فمن ليد ترميكَ من حيث لا تدري?
(والعرانين جمع عرٍنين: وهو أعلي الأنف. والذّرا جمع ذروة وهي القمة. ويقصد الشاعر بالعرانين والذرا: كرام الناس وأشرافهم وأعزتهم).
وخلاصة المعني: أيها الطاغية الجبار المفتري, إنك إذا قضيت علي معارضيك من أصحاب الإباء والشمم والشرف, انتقم الله منك بيد واحد من المغامير غير المشاهير. وقد تأخذ حذرك, وتحيط نفسك بقوة هائلة تمنعك وتحميك. ولكن قد تأتيك الضربة القاصمة من «ثغرة» لم تخطر لك علي بال, من يد ترميك من حيث لا تدري. ومن حيث لا تتوقع
سر الخلود…
وهما بيتان خالدان لا يبليان علي الزمن, وسر خلودهما:
1- أن ناظمهما شاعر نبيل شريف صادق الوجدان, ثري الفكر, موسوعي الثقافة من ذوي النخوة والشرف والمروءة والإباء وعزة النفس, لا تناقض أقواله أفعاله وأخلاقياته.
2- براعة التصوير والتعبير دون إسراف وإغراق.
3- تواتر «الحدث» وتكرُّره في كل العصور: فلا يخلو عهد من طاغية متجبر, يقضي علي كل من يقف في وجهه, مهما كان علمهم, ووضوح منهجهم, ونبل مقاصدهم. ثم تكون النهاية القاصمة الحاسمة للطاغية, التي قد تتحقق بيد مغمور لا يخطر علي بال, ولا مكانة له في المجتمع, ولا مكان له في التاريخ.
كلمة التاريخ..
ومضمون البيتين حُكم يمثل واقعًا مطردًا متكررًا علي مدار التاريخ كما أشرت آنفًا. والوقائع أكثر من أن تُحصي كشواهد علي اطراد هذه الوقائع, ونكتفي بالقليل منها:
ومن أشهرها ما حدث ليوليوس قيصر (120 ق. م – 44 ق. م) السياسي الروماني والقائد العسكري الفذ, وقد تولي القنصلية (وهي أعلي المناصب آنذاك) وكانت دورته القنصلية تنتهي في مارس 49 ق. م. ولكنه أصر علي ترشيح نفسه ثانية, فاعترض مجلس الشيوخ (السناتو) لمخالفة ذلك للقانون. فشرّدهم, وطاردهم, وأراد أن يثبت قدراته العسكرية, فسيطر علي روما, واكتسح اليونان, وشمال أفريقيا وإسبانيا. وأخذ يتطلع إلي أن ينصّب نفسه ملكًا, ولم ير فيه العالم «إلا طاغية من الطراز الإغريقي». ثم كانت نهايته «بيد طعنته من حيث لا يدري», نعم لم يخطر علي باله أن تكون نهايته بطعنة غادرة من «بروتس» الذي قرّبه إليه, وأخلص المحبة له. ويقال إنه لما اكتشف أن طاعنه هو صديقه «بروتس» قال قولته المشهورة «حتي أنت يا بروتس» فصارت مثلا يُضرب للصديق الذي يغدر بصديقه دون توقع (انظر الموسوعة العربية الميسرة ص 1411 – 1412).
مصرع أُمية وفرعون العرب
كان أمية بن خلف من زعماء كفار مكة, ولما أسلم عبده «بلال بن رباح» أذاقه كل ألوان العذاب, ومنها إلقاؤه معرًّي في صحراء مكة, ووضع الحجارة المحماة علي صدره, وإغراء الصبيان به, ولكنه تمسك بعقيدته, وهاجر مع المسلمين إلي المدينة.
ولما زحف جيش الكفار لقتال المسلمين في بدر كان أمية بن خلف يتولي -ومعه بضعة من الكفار- إطعام الجيش والإنفاق عليه. وبعد انتصار المسلمين رآه بلال -ولم يعرفه إلا هو- وكان معه ابنه فصرخ بلال: يا معشر الأنصار: أمية ابن خلف رأس الكفر لا نجوتُ إن نجا, فصرعه المسلمون هو وابنه. وبذلك رماه الله برجل «خامل الذكر» في نظر الكفار.
وبعد تحقيق النصر أمر النبي صلي الله عليه وسلم المسلمين بحفر قليب (حفرة كبيرة) لدفن جثث الكفار. وكان أمية شحيمًا لحيمًا فتورمت جثته ونتنت, وحاول المسلمون حمله لإلقائه في هذا القبر الجماعي, فوجدوا أعضاءه قد تفككت, وكأنما أراد الله سبحانه وتعالي أن يُري المسلمين فيه آية. ومن إنسانية النبي صلي الله عليه وسلم أنه أمر أن يبقي مكانه, ويُحجّر عليه (أي يبني علي جثمانه قبر من حجر حتي لا يكون طعامًا للوحوش).
أما فرعون الأمة فهو أبو جهل (عمرو بن هشام) فهو الذي قاد جيش الكفار إلي بدر. وكان هدف هذا الجيش هو تخليص أو حماية القافلة التجارية الضخمة العائدة من الشام, وعليها أبو سفيان, ولكن القافلة أفلتت من يد المسلمين. ومن ثم لم يعد أمام أبي جهل وجيشه مبرر لمواصلة السير والقتال, ولذلك نصحه بعض عقلاء الكفار بالعودة إذ لا مبرر للقتال. فرفض أبو جهل بصلافة وغرور… وهتف:
ما تنقمُ الحربُ العَوانُ مني
بازلُ عامين حديثى سني
لمثل هذا ولدتني أمي
– البازل: هو الجمل القوي – واعوان الشديدة العنيفة *
(أي أنني رجل حرب, تعجز أمامي الحرب الطاحنة, فأنا أملك قوة الشباب وفتوته). وأعلن أبو جهل في جيش العدوان «لابد أن نقيم ببدر ثلاثًا: نأكل اللحم, ونشرب الخمر, وتغنينا القيان (الجواري المغنيات) فيسمع بنا العرب, فيهابوننا أبد الدهر»… إنه نموذج للقائد الغبي الأحمق الطائش المفتري الذي أخذته العزة بالإثم فمضي في حماقته, ولم ينصت لصوت العقل.
وفي المقابل كانت القيادة الرشيدة البصيرة الهادية المتمثلة في شخص رسول الله -صلي الله عليه وسلم- الذي وقف في «العريشة» يدعو ربه بقلب خاشع.. ومما قال «اللهم نصرك الذي وعدتني… اللهم إن تهلك هذه العصابة (جماعة المسلمين) فلن تُعبد في الأرض».
ورمتٍه يد من حيث لا يدري
وصُرع أبو جهل, وقام بالدور الأكبر في صرعه طفلان أخوان هما: معاذ ومعوّذ ابنا عفراء, وبعدها استشهدا بأيدي الكفار. فوقف النبي صلي الله عليه وسلم أمام جسديهما وقال «يرحم الله ابني عفراء, فإنهما قد شَرًكا في قتل فرعون هذه الأمة» فقيل: يا رسول الله, ومن قتله معهما? قال: الملائكة, ودَافَّهُ ابن مسعود (أي أجهز عليه)».
وبذلك جاء مصرع فرعون العرب بيد طفلين «خاملي الذكٍر»… «… يدي رمته من حيث لا يدري»… لأنه أخذ عدته كاملة لقتال الرجال, ولم يعمل حسابًا لضربة طفلين صنعهما الإيمان.
إنجازات… إلي دمار
إن الطغاة -في العصر الحديث بخاصة- قد يقيمون من المشروعات والإنشاءات أضخمها, وقد يجهزون من الجيوش أوٍفاها عدة وعددًا. مفاخرين بهذه (النهضة) البنائية, متخذين منها ذريعة لتعطيل القوانين والهيمنة علي الشعوب, وحولهم «كتائب» المنافقين من حملة القماقم, وباعة الضمائر والأقلام. ولا يهتم هؤلاء الطغاة «ببناء المواطن» علي قيم العزة والكرامة والشجاعة والإباء والشمم, بل إنهم «يفرًّغون» المواطن من كل قيمة نبيلة, حتي يسهل التحكم فيه والهيمنة عليه.
وأذكر في هذه السياقة: شاعر القطرين: خليل مطران الذي رأي في هرم خوفو رمزًا لاستعباد الملك لشعبه علي عظمة البناء وضخامته, وهو بذلك يخالف وجهة الآخرين من الشعراء. يقول مطران في مطلع قصيدته عن خوفو
شادَ فأعلي, وبني فواطَّدا
لا للعلا, ولا له بل للعدَي
مستعبد أمتَه في يومه
مستعبد بنيه للعادي غدا
ويصرخ مطران صرخة احتجاج مشيرًا إلي من استعبدهم الملك لبناء هذا «آلقبر» فيقول:
أَكُلُّ هذي الأنفس الهَلٍكي غدًا
تبني لفان جَدَثًا مُخلَّدا?!!
* الجدث: هو القبر ويقصد الهرم الأكبر *
يا طواغيت العرب…
يا طواغيت العرب وفراعينها, هلا تأملتم هذه الكلمات الربانية:
– {…وخاب كل جبار عنيد } [إبراهيم: 15].
– {…وقد خاب من افترى } [طه: 61].
– {…وقد خاب من حمل ظلما} [طه: 111].
– {…. إنَّه لا يفلح الظالمون } [الأنعام: 21].
– {…وأغرقنا آل فرعون وكلّ كانوا ظالمين } [الأنفال: 54].
تأملوا -يا طواغيت العرب- هذه الكلمات العلوية لتروا أن الخيبة والهزيمة والضياع والهلاك مرتبطة دائمًا بالظلم والطغيان والجبروت والافتراء… ارتباط المسبّب بالسبب.
… فتأملوا… وتوبوا إلي الله توبة نصوحا.
يا طواغيت العرب وفراعينها: انزعوا من حياتكم المنطق الجاهلي:
* ما تنقم الحرب العوان مني.. لمثل هذا ولدتني أمي. *
وأخرجوا من حياتكم المنطق الفرعوني {أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى } [الزخرف: 51].
واخلعوا من حياتكم المنطق القاروني {… إنَّمّا أوتيته على علم عندى..} [القصص: 78].
وتذكروا… بل احفظوا عن ظهر قلب -أيها الطواغيت الفراعنة- بيتي الشريف الرضيًّ:
إذا أنت أفنيت العرانين والذرا
رمتك الليالي من يد الخامل الذكر
وهبك اتقيت السهم من حيث يُتَّقي
فمن ليد ترميك من حيث لا تدري?
وإلا فانتظروا الطوفان والدمار والهلاك.
اترك تعليقاً