عن الكذِب والكذابين … والتهويل والمهوِّلين
قليلون…- بل نادرون – هؤلاء الذين يقولون كلمة الحق في صحفنا المسماة «الصحف القومية», ومِنْ هؤلاء في الأهرام: الأستاذ فهمي هويدي , والأستاذ أحمد سلامة, والأستاذ صلاح الدين حافظ, ومن كلماته التي تنصف الحق والحقيقة, وهو يعني بها حكامنا والقائمين علي تسيير أمورنا «نتحدث قولاً عن الإصلاح, ونعمل ضده فعلاً, نتغني بالحرية والديمقراطية, ونهدم أسسها, ونقوض رواسيها, حين يأتي وقت الممارسة, والأمر كما تري -عزيزي القارئ- سداح مداح, في الساحة كلها من حولنا, لا فرق في هذا بين الحكومات المتحكمة التي جاءت بالفرض والإجبار, وعقود الإذعان, وبين البرلمانات المعينة وشبه المعينة. الجميع يشارك بهمة لافتة, وحماسة زائدة, سواء في التبشير بالإصلاح والتغني بالديمقراطية, أو في تعويق الإصلاح, وانتهاك الحريات عامة, وبين هذا وذاك أصبح التشريع القانوني والدستوري كالأيتام علي مائدة اللئام, يتنازعة المتنازعون, كل يريد تفصيله علي مقاسه, ووفق مزاجه….» (الأهرام- الأربعاء 6/7/2005).
إنها كلمات حق, أريد بها الحق, لأن الكاتب يعبر عن واقع يعيشه شعبنا , ويدرك أبعادَه كل فرد من أفراد الشعب, بصرف النظر عن درجة الوعي والتعلم, حتي الذين يغالطون, يعلمون أن هذه هي الحقيقة, وما جاءت مغالطتهم إلا حرصًا علي تحقيق منافعهم الدنيا, والتقاط الفتات من موائد القادة والرؤساء:
– شعبنا يعيش حرية لا وجود لها, وديمقراطية مدّعاة لا وجود في حياتنا منها إلا اسمها وحروفها الرنانة.
– سياسة حكامنا قائمة علي التناقض الفادح بين الأقوال والأفعال. وحظ الهدم والتقويض في حياتنا أكبر وأفدح من البناء والتشييد.
– حُكامنا فُرضوا علينا فرضًا, بالصورة التي لخصها الشاعر في قوله:
– دَعوْا باطلاً, وجلوْا صارمًا
وقالوا: صدقْنا? فقلنا: نعمْ
– مجالسنا النيابية حصّلت الأغلبية الساحقة بالتزييف والتزوير والكذب والخداع, وأصبح الحزب الوطني (صاحب الأغلبية المدّعاة) – وخصوصًا ما يسمي بلجنة السياسات, وهي أهم لجانه- هو المتحكم في مقدراتنا, ومسير حياتنا, ومصير أبنائنا.
– وبلدنا أصبح حاكمه هو القانون والدستور والدولة, والتاريخ والعرش, والقدرة والنفوذ والإرادة, والسيد والمرجع, وعبقري الزمان والمكان, أما الشعب فكمّ مهمل, أو سقَطَ متاع. وكأن حاكمنا هو المخاطب بقول الشاعر القديم:
أنت المليك عليهمُو
وهم العبيدُ إلي القيامةْ
والشطر الأخير يذكرني بكلمة لابن الباجور «كمال الشاذلي»: «إن الحزب الوطني هو حزب الأغلبية حاليًا, وهو حزب الأغلبية إلي الأبد».
تـهويل.. وأكاذيب
هذه هي أهم ملامح الوضع الغريب الذي يعيشه شعبنا, عبر عنها بصدق وعقلانية وواقعية الأستاذ الكبير صلاح الدين حافظ. وجاءت هذه الكلمات صفعة ناقضة – بل ناسفة- لكلمات الطبالين والزمارين وحملة المباخر, والمسايرين. وهي كلمات – في مجملها- صبْغتها الزاعقة الصارخة: الإسراف والتهويل من ناحية, والكذب والمغالطة من ناحية أخري.
وفي السطور التالية أعتمد علي انتقاء بعض العينات العشوائية من معروض مكتوب.
عينات من عالم التهويل والتزييف
فمن التهويلات التي يكذبها الواقع – بأدلة دامغة لا يتسع المقام لذكرها – قول الدكتور سرور: لقد ثبت أن أداء مجلسنا النيابي في هذه الدورة وسابقتها كان أحسن أداء في العالم. (لاحظ قوله : في العالم!!!!).
ومن التهويلات التي يكذبها الواقع ما درج علي قوله حملة القماقم, ورجال الحزب الوطني (حزب الأغلبية المّدعاة) من أننا نعيش أزهي عصور الديمقراطية والحرية .
وأسأل: أين هي الديمقراطية والحرية في بلد يُحكم بقانون الطوارئ من ربع قرن? وأين هي الديمقراطية والحرية في بلد تضم معتقلاته قرابة ثلاثين ألفًا من أطهر وأنقي شباب الأمة بلا محاكمة, وكثيرون من أهلهم لا يعرفون في أي معتقل يقيمون? وأين هي الديمقراطية والحرية في وطن يتمتع فيه رئيس جمهوريته بمجموعة من الاختصاصات لا يتمتع , ولم يتمتع بها رئيس ولا أمير, ولم ملك, ولا سلطان في تاريخ مصر كلها, فهو كل شيء, وله كل شيء, وكأنه المخاطب بقول الشاعر القديم:
لك المِرْباعُ منها و الصفايا
وحظك والنَّشيطة والفُضولُ
ويقول حملة القماقم: أليس من الديمقراطية والحرية أن يكون في مصر واحد وعشرون حزبًا? وأقول – وأقسم بالله-: إنني لو سُئلت عن أسماء خمسة منها لعجزت» ؛ لأنها في أغلبها كأكشاك السجائر , لا يكاد يشعر بها أحد لا اسما, ولا مسمي, ومن عجب أن تحرم حكومتنا «الرشيدة جدًا» الإخوان المسلمين -وهم يمثلون نصف الشعب علي الأقل- من تشكيل حزب أعلنوا هم أنه مدني يقوم علي مرجعية دينية. وما ذلك إلا خوفًا علي «كرسيّّها», وقد قالها بصراحة رئيس جمهوريتنا حسني مبارك: «إنني لو أقمت الديمقراطية كاملة لجاء الإخوان إلي الحكم , وظلوا فيه إلى الأبد ».
المبارز.. والشروط المستحيلة
ويقول حملة القماقم: أليس من الديمقراطية أن تعدل المادة 76 ليصبح للمواطن المصري -لأول مرة من عهد الملك مينا حتي الآن- الحق في اختيار رئيسه – بالاقتراع الحر المباشر- من شخصيات متعددة? وهنا تذكرت قول الشاعر:
ألقاه في اليمِّ مكتوفًا وقال له:
إياك إياك أن تبتلّ بالماءِ
فالمطلوب ممن يرشح نفسه في مواجهة المرشح الأول وهو مبارك -أو ابنه جمال- أن يوافق علي ترشيحه مئات من مجلسي الشعب والشوري, ومئات من أعضاء المجالس المحلية (وكل هؤلاء حكوميون مباركيون) زيادة علي مئات ألوف من الشعب. فعلي المرشح إذن أن يحقق شروطا مستحيلة .
وإذا أعملت خيالي قلت: إن مثل مرشح الحكومة كمثل مبارز ظل يتدرب علي استعمال سيفه ربع قرن.. وتحدي بعدها أن يبارزه أي مواطن بشرط ألا يحمل سيفًا, أو يستعمل يده. أو ينظر إلي المبارز حامل السيف… مرشح الحكومة. ولكن من حقه أن يعلي صوته أثناء المبارزة «بالشخط, والنطٍر», أو بالتأوه والأنين, وإكرامًا له, ومن قبيل التشجيع له, ُيمنح قبل المبارزة ربع مليون أو نصف مليون جنيه.
السعدني ومواصفات القادم
ومع أن المسألة محسومة لأحد المباركيين: الأب أو الابن.. يعرض علينا -والأدق أن نقول: يفصِّل لنا- عزت السعدني مواصفات الرئيس القادم وهي : أن يكون لديه دهاء محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة ,وعبقرية إبراهيم باشا في فتح الممالك , وعزيمة جمال عبد الناصر وإقدامه وإيمانه, وفلسفته في الثورة ومقارعة الخطوب , وشجاعة وحنكة وتمرس أنور السادات , وصبر وطول بال وحكمة حسني مبارك…» (عزت السعدني في الأهرام 23/7/2005). وطبعًا ينتهي السيد السعدني إلي أن كل هذه الصفات لا تتوافر إلا في حسني مبارك. ولو سألتني يا عزت لقلت لك: وفّر علي نفسك عناء البحث, والاستعراض أو النبش التاريخي: وقل: يجب أن يتوافر فيه ما قاله الشاعر أبو تمام:
إقدامُ عمرو, في سماحةِ حاتمٍ
في حلم أحنفَ في ذكاء إياسِ
وأنت تعلم أن عمرو بن معـْدِ يكَرِب يُضرب به المثل في الشجاعة, وبحاتم الطائي في الكرم, وبالأحنف بن قيس في الحلم والعفو عند المقدرة, وبإياس بن معاوية في الذكاء والعبقرية.
* * *
لقد قلت في مقال سابق: إن القول بأن مبارك لا بديل له يعني أننا شعب متوقف.. بل متخلف… لأن الملايين السبعين عجزت عن إنجاب شخص. أو شخصيات في حجم مبارك عقلاً.. وفكرًا.. وقدرة.. وخبرة…
* * *
يقول لي صاحبي ـ وأنا أحاوره ـ ما لي أراك تحمل حملة شعواء على التهويل والمهولين، وتغض النظر عن التهوين والمهونين أو المستهينين؟ قلت يا صاحبي، فلننطلق من التعرف على المفردات حتى نكون على بينة من المضامين، وحتى لا نقع في ظلم الآخرين، كما ظلموا الناس والحق والحقيقة.
التهويل يا صاحبي – كما تعلم ـ يعني النفخ في المحكوم عليه بشرًا أو عملاً أو سلوكًا، أو ظاهرة , وتضخيمه بإسراف وغلو حتى يكون أكبر من واقعه بكثير، بكثير جدًّا، أما التهوين فبالعكس، فهو استصغار، واستهانة، ولا مبالاة، وأنا ـ بما عرضت من قبل ـ ما أغفلت، وما قصرت، وما خلطت؛ لأن “التهويل” و”التهوين” وجهان لعملة واحدة، يصعب ـ بل يستحيل الفصل بينهما: فكل تهويل صريح يحمل في طياته، “تهوينا ضمنًا”،والعكس صحيح، فإذا هولت مثلاً في قوة عساكرنا، فهذا يتضمن تهوينا، واستصغارا لقوة أعدائنا، مثال ذلك ما نجده في خطب عبد الله النديم أثناء الثورة العرابية ومنها قوله: “إن طوابينا على ساحل الإسكندرية تستطيع أن تدك بطلقات مدافعها عاصمة بلاد الإنجليز” وجاء الواقع ليدك الأسطول الإنجليزي بمدافعه الحديثة هذه الطوابي التي كانت قذائفها تسقط في مياه البحر قبل أن تصل إلى السفن الإنجليزية، وهو مثال صارخ من تهويل “القوة الذاتية” والتهوين ـ في الوقت نفسه من قوة الأعداء.
بعضًا من عبيدك يا سيدي!!
والأمثلة في هذا المقام أكثر من أن تحصى، مع ملاحظة أن هذه الظاهرة بوجهها ـ التهويل والتهوين ـ لا يتخلى عنها قيم دنيا ساقطة مثل الغرور ـ إلى حد الساوية ـ وقصر النظر، وضيق الأفق، والغباء والنفاق، وكل أولئك يتفاعل لتحقيق النتيجة التي ينشدها، ويرجوها هؤلاء الخاسرون.. الضالون المضللون.
ويسعفنا المؤرخ العظيم عبد الرحمن الجبرتي بالمثل الصارخ في هذا المقام وخلاصته أن نابليون أو “بونابرطة”، كما كانوا يدعونه آنذاك، كما نزل “البر المصري” بحملته، واستعد له “مراد بيك” قال بعض بطانته: يا بيك إن “بونابرطة” لا يستحق كل هذا، فأرح نفسك، وأرسل إليه بعض عبيدك يأتوك برأسه”، وتدفق مراد غرورًا، ولكنه حرص على أن يمحق جيوش “الفرنساوية” محقًا
وكتب الجبرتي في يوميتي الأحد والإثنين 15، 16 من يوليو 1798 “وبدأت المناوشات.. فلم تكن إلا ساعة، وانهزم مراد بيك، ومن معه.. ودخل الرعب قلب مراد بيك، وولى هاربًا منهزمًا، وترك الأثثقال والمدافع، وتبعته عساكره..وحضر إلى بر إمبابة، وشرع في عمل المتاريس.. ثم هجم الفرنساوية، وكانت الهزيمة المنكرة، وهرب مراد بيك، وصار قطر مصر ـ كما يقول الجبرتي “من أوله إلى آخره في قتل ونهب، وإخافة طريق، وقيام شر، وإغارة على الأموال، وإفساد المزارع، وغير ذلك من أنواع الفساد الذي لا يحصى..”.
والحرب الوقائية!!!
وأترك الجبرتي لأستحضر واحدًا من أيام صيف سنة 1965م ـ أي من أربعين عامًا ـ وكنا قرابة ثلاثمائة من الحضور نستمع لمحاضرة يلقيها أحد ضباط الميمونة الكبار، وهو “حسن صبري الخولي” عن “مكانة مصر الثورة في عالم اليوم” وسأله سائل عن موقف حكومة الميمونة من “إسرائيل المزعومة” وما يتردد من أنها تضع اللمسات الأخيرة في قنبلتها الذرية، وكان جواب الرجل
ـ “إحنا مش ساكتين” وحينما يتأكد رجال مخابراتنا من أن هذه الدولة المزعومة ستنتهي من اختراع قنبلتها الذرية بعد ثلاثة أيام مثلاً.. نكون نحن بعد يومين فقط قد قمنا بشن “الحرب الوقائية” عليهم، وبذلك نجهض ما اخترعوا إلى الأبد.ـ (تصفيق حاد جدًّ) واشتهر مصطلح “الحرب الوقائية” وسمعناه وقرأناه مئات المرات، ولم نر له “تطبيقًا عمليًا ميدانيًا” في حياتنا ..,كل الذي رأينه وعشاه.. مصيبة العدوان الكارثي الذي صبته علينا إسرائيل في 5/6/1967م، وما زلنا نجني ثمراته المرة حتى الآن… ورحم الله “مراد بيك” و “عبيد” مراد بيك..وموقعة إمبابة.. وغفر الله لحسن صبري الخولي.
الرفاهية.. عشرة أضعاف!!
والواقع الذي يعيشه شعبنا المطحون يقطع بأن هناك ثمانية ملايين مواطن يعانون البطالة، ومثل هذا العدد يعيشون “العنوسة” وأن نصف هذا الشعب أي 50% منه يعيشون تحت خط الفقر، وأن متوسط دخل الفرد اليومي لايزيد على جنيه واحد ونصف جنيه، أما نار الغلاء فحدث عنها ولا حرج.
ومع ذلك نجد “الكبار جدًّا” ومن يسيرون على دربهم من “نشامى” الصحف القومية (أعني المسماة بالقومية) يزعمون أن شعبنا يعيش أزهى “عصور الرفاهية” وأن رفاهية هذا الشعب ـ شعب مصر المبتلاة المخروسة قد ضوعفت عن ذي قبل عشر مرات (!!)
وبمنهجنا الذي نكتب به، وحتى تسلم وتصح أحكامنا، نجد لزامًا أن نحدد مفهوم هذه “المفردة المدللة المظلومة” وهي (الرفاهية):
فهي لا يمكن أن يكون لها وجود عملي إلا إذا كان الشعب يعيش حد “الكفاية” من ضرورات الحياة: من مأكل ومشرب، وملبس، ومسكن، وتعليم، والشعور بالطمأنينة والأمن والاستقرار، أي يشبع الضرورات المادية، والضرورات النفسية والمعنوية، وكل أولئك أشار إليه قوله تعالى: (.. أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”.
ثم بعد ذلك يكون “للرفاهية” مكان فيتمتع المواطن بمظاهر الترف والتسلية، والكماليات، أي ما يزيد على حد الضرورة.. من سيارة، وتلفاز، وحديقة… وتمتع بالمصيف … الخ، في حدود الحلال طبعًا
واستقرار الشعب، والحكم على مستواه حكمًا عادلاً يقاس بالأولى لا الثانية، فلا قيمة للثانية بغير الأولى، وإلا كان ذلك ضربًا من الإخلال المتمرد على حدود العقل والمنطق، كالذي يقتني سيارة وهو يعيش بأسرته في مسكن لا يصلح للاستعمال الآدمي.
والقياس على الماضي في إثبات هذه المضاعفة العشرية يعد قياسًا فاسدًا؛ لأننا لو أخذنا بقاعدة المضاعفة العشرية بإطلاق لوجب أن تصدق على “المرتبات” بحيث يرتفع مرتب الجنيهات المائة إلى ألف جنيه، وهذا ما لم يحدث طبعًا، فالغلاء يفتح “كرشه” لالتهام كل علاوة جديدة يحصل عليها موظف الدولة.
وما ذكرته إنما هو قليل جدًّا من الأكاذيب والتهاويل التي نعيشها في العهد الربع قرني المباركي.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
اترك تعليقاً