img
عندما هتف صلاح الدين: اللهُ أكبر.. كذَبَ الشيطان
img
Print pagePDF pageEmail page

عندما هتف صلاح الدين:

اللهُ أكبر.. كذَبَ الشيطان

كان ذلك فى أصيل يوم السبت 25 من ربيع الآخر سنة 583ه الموافق للثالث من تموز/ يوليو سنة 1187م، لقد كان يومًا شديد الحرارة، أما ساحة السهل الممتد بمنطقة حطين فقد تناثرت فيها آلاف الجثث والأشلاء، وتحولت خضرته إلى حمرة قانية من كثرة ما أريق فيها من دماء..

 كان صلاح الدين يمتطى حصانه، وحوله وقف مجموعة من خيرة قواده منهم ابنه الأفضل، وألقى صلاح الدين نظرة على السهل الممتد من فوق التل الغربى الذى نصب فيه خيمته، ثم ألقى نظرة على خيمة ضخمة نصبت على تل عال فى الناحية الشرقية.

 ” الحمد لله لقد كان فضل الله علينا عظيمًا، قتلنا منهم عشرات الألوف، وأسرنا منهم مثلها، ولكن لن يتم النصر إلا بتقويض هذه الخيمة وإسقاطها. “

 أخذ صلاح الدين يستعرض وقائع معركة حطين، والمقدمات التى سبقتها، كأنما يرى ذلك رأى العين مرة أخرى، كانت أولى الخطوات التى خطاها: توحيد مصر والشام والعراق والجزيرة، واستنفار أهلها للمشاركة فى المعركة الفاصلة، كما أنزل ضربات سريعة خاطفة ببعض المناطق التى يحتلها الصليبيون، وتدارس مع قواده المعلومات التى جمعتها عيونه التى بثها فى خطوط الأعداء: جيش الصليبيين من خمسين ألف مقاتل يقوده «غى دى لوسيان» ملك بيت المقدس، وعلى مقدمة الجيش «الكونت ريمون»، وعلى المؤخرة «البرنس رينو دى شاتيون» المشهور باسم «أرناط» وزيادة على القيادة العامة كان الملك «غى» على القلب.

وعسكر المسلمون فى «سهل الأقحوانة» فى الطرف الجنوبى لبحيرة طبرية، وأرسل صلاح الدين قوة من رجاله احتلت منطقة «طبرية»، وحاصرت قلعتها التى اعتصمت بها الكونتيسة «شيفا» زوجة «الكونت ريمون» ومعها حامية من الجند.

 وكان الجيش يضم أقوى الجنود وأمهرهم فى القتال: منهم (فرسان القديس حنا)، ومعهم «صليب الصلبوت» وهو صليب ضخم يزعمون أنه مطعَّم بقطع من خشب الصليب الذى صلب عليه السيد المسيح، قال صلاح الدين:

  كذبوا.. وافتروا على الله والحق: {وما قتلوه، وما صلبوه ولكن شبه لهم} [النساء: 157]

 وأمر صلاح الدين بالعمل على إنهاك جيش الأعداء، وزرع الرعب فى قلوبهم بضربات سريعة مباغتة على المقدمة والجناحين والساقة دون الاشتباك معهم، ومواجهتهم فى قتال طويل.

 وبعد فترة من الصمت سأل صلاح الدين واحدًا من جنود الاستطلاع:

– مرة أخرى: من قادة القوم؟

– الملك «غى» ملك بيت المقدس هو القائد العام للجيش، ويتولى كذلك قيادة القلب، و«الكونت ريمون» على المقدمة، وعلى المؤخرة «البرنس أرناط»، وصرخ صلاح الدين.

– أرناط.. أرناط كلب الفرنجة.

واهتز بشدة، وبرقت عيناه، وتجمدت فيهما عبرتان:

– أعلنوا الجنود فى الجيش كله: من وقع على «أرناط» فلا يقتله.. أريده حيًا.. أريده حيًا.. ولن يقتله أحد غيرى.

ولم يثر هذا الأمر استغراب من كان بحضرة صلاح الدين؛ فهم يعلمون أن «أرناط» قد ترك فى قلب صلاح – بل قلوب المسلمين جميعًا – جرحًا غائرًا لم يندمل بسبب إغارته الدائمة على قوافل الحجاج، وقتله الشيوخ والنساء، وسلب أموالهم وأمتعتهم، ويعلمون كذلك أنه أقسم على الصليب الأكبر (صليب الصلبوت) أن يسير إلى مكة وينسف الكعبة والمسجد الحرام، ويسير إلى المدينة وينبش قبر محمد ويخرج عظامه ليعرضها فى أكبر متاحف فرنسا.

– أريده حيًا.. ليكون طعامًا لسيفى.

 وألقى صلاح الدين نظرة على جيش الأعداء ورآه يفوق جيش المسلمين عددًا وعدة، فخاف أن يوهن ذلك من عزيمة المسلمين، فنزل بنفسه، وترك مكانه فى القلب، وأخذ يمر بين صفوف الجنود يحمسهم، ويزرع بكلماته الطمأنينة فى قلوبهم، ويطلب منهم أن يتدرعوا بالثقة بالله، والشجاعة، والثبات، والصبر.

– يا جنود الله.. اذكروا قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} (آل عمران: 173)، واستعينوا على كسر عدوكم بتقوى الله، فلا نصر إلا بطاعته ونصره، أما المعصية فهى القائدة إلى الخسارة والهزيمة والنار {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفًا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} (الأنفال: 16).

واعلموا أنكم لا تقاتلونهم بالعدد والعُدد، ولكن بقوة هذا الدين الذى أكرمنا الله به.

يا جنود الله الصبر.. الصبر عند اللقاء، فالصبر ضياء، وما بين النصر والهزيمة إلا صبر ساعة.

واعلموا أن الله صادق الوعد، فلا يقول إلا الحق. لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فأعدوا العدة وشمروا للحرب، وشدوا عليهم إذا ما هتفت «الله أكبر».

 وقبل أن يعطى صلاح الدين إشارة البدء انطلق مملوكه «لؤلؤ».. وهبط على الأعداء شارعًا سيفه، وهو غلام لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، واخترق بجواده صفوف الأعداء فى سرعة البرق، وأخذ يضربهم بسيفه حتى قتل منهم قرابة ثلاثين، وهم فى ذهول من هول المفاجأة التى لم تخطر على بال، ثم تكاثروا عليه وقتلوه، وسمع صلاح الدين بعض جنوده يقول: إنه واحد من الملائكة الذين أنزلهم الله لنصرتنا..

– بل هو غلامى «لؤلؤ»، منحه الله قوة جيش، وعزيمة حشد، فقاتل، وقَتَل وقُتِل، وفاز بلقاء الله سبحانه وتعالى.

 وكان لكلمات صلاح الدين فعل السحر فى النفوس، كما كانت مغامرة الصبى الشهيد «لؤلؤ» باعثًا قويًا شد من عزائمهم، وقوَّى من يقينهم، وقال بعضهم: أنكون أقل من هذا الغلام؟!!

وصاح صلاح الدين بصوت اهتزت له القلوب، وتوهجت منه العزائم:

– الله أكبر.. شدوا عليهم شدوا.. رحم الله امرأً أراهم اليوم من نفسه قوة، احرصوا على الموت توهب لكم الحياة.

 كان الجيش الصليبي يعاني الإعياء، والعطش الشديد، حتى كلحت وجوههم، وكادت جلودهم تحترق من شدة حرارة الشمس فى هذه الأيام من شهر تموز/ يوليو، وأصبح الوصول إلى الماء مستحيلاً؛ لأن جيش صلاح الدين يحول بينهم وبين الماء.

 لقد تجمعت على الصليبيين نكبة العطش الشديد الذى جفت معه حلوقهم، وزاغت معه أبصارهم، ونكبة حرارة الشمس الشديدة التى زادتهم عطشًا ووهنًا، وحرارة النار التى أشعلها المسلمون فى الحشائش الجافة، وكان الدخان يكتم أنفاسهم، وهبت الريح تجاههم تحمل أفواجًا من الدخان واللهب، وأيقنوا أنه الموت لا محالة، وحمل المسلمون عليهم حملة شديدة صرعوا فيها ما لا يقل عن عشرة آلاف، حتى كاد الأحياء منهم يستسلمون، ولكنهم جمعوا فلولهم، وحملوا على المسلمين، وكانوا كالذئاب الجريحة.. فقاتلوا بتهور مستميت، وكادوا يزيحون المسلمين عن مواقعهم، لولا لطف الله بهم. وصاح فيهم تقى الدين عمر ابن أخى صلاح الدين:

«اثبتوا، وقاتلوا عن دينكم الذى أكرمكم الله به».

 وكر عليهم المسلمون كرّة أشد، وسقط منهم آلاف لا تحصى، وأمر القائد تقى الدين عمر بفتح طريق للصليبيين ليخرجوا منه، وكان هذا الطريق يزيد من اقترابهم إلى الحرائق، فازدادوا عطشًا وإعياء، بينما نجح المسلمون فى محاصرتهم من كل جانب، وأعملوا فيهم القتل والأسر، مما دفع كثيرين منهم وعلى رأسهم الملك «غى» إلى الاعتصام بأحد التلال العالية فى حطين، وحاولوا نصب خيام لهم تقيهم حرارة الشمس، ولكن المسلمين لم يمكنوهم من ذلك، وإن نجحوا فى نصب خيمة ملكهم (غى)، ولم يجدوا ظلاً يقيهم من حرارة الشمس، فأوقفوا خيولهم، واستظلوا بظلها، واشتد عليهم العطش، فوضع بعضهم بعض الأوانى تحت بطون الخيل طمعًا فى «بولة» يبللون بها حلوقهم وشفاههم.

 وتخلى الصليبيون عن «صليب الصلبوت» فأمر صلاح الدين بتحطيمه، وحرق حطامه، ولما رأى الصليبيون ذلك انهارت معنوياتهم، وأعمل المسلمون فيهم سيوفهم ورماحهم، ولم يبق مع ملكهم إلا مائة وخمسون من أقوى فرسانهم وأشجعهم، أحاطوا بخيمته على التل العالى لحمايته.

وهتف صلاح الدين:

– من وقع فى يده أرناط يحضره لى حيًا.

 وردد هتافه قواده عدة مرات، ولكن فرسان الملك شدوا على المسلمين فى اندفاعة حيوانية، حتى أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من خيمة صلاح الدين الذى انتفض فى قوة، ورفع سيفه، وهتف «الله أكبر.. كذب الشيطان.. كذب الشيطان»، أيها المسلمون اصبروا وصابروا، ولا تولوهم الأدبار {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافونى إن كنتم مؤمنين}(آل عمران: 175).

 أيها المسلمون: لقد اتخذوا الشيطان وليًا {ومن يتخذ الشيطان وليًا من دون الله فقد خسر خسرانًا مبينًا. يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا} (النساء: 119، 120) شدوا عليهم شدوا.. الله أكبر.. كذب الشيطان، وأخذ القادة والجنود يرددون الهتاف فى حماسة وقوة، واستردوا ثقتهم بالله، وأعملوا سيوفهم فى فرسان الملك، ولاذ بالفرار بقيتهم إلى خيمة الملك بالتل لحمايته، فصاح الأفضل بن صلاح الدين: الحمد لله يا أبى.. هزمناهم.. يا أبى. فقال صلاح الدين: لا، ما نهزمهم حتى تسقط هذه الخيمة.. خيمة ملكهم فى أعلى التل.

 وما هى إلا لحظات حتى باغتهم المسلمون بهجوم خاطف، وقوضوا الخيمة، واستسلم جميعهم بما فيهم الملك «غى»، و«أرناط» ونادى المنادى لا تقتلوا أرناط.. فالسلطان يريده حيًا.

 كل هذه المشاهد استعرضها صلاح الدين فى بعض ساعة كأنما يراها رأى العين مرة ثانية، وخر ساجدًا لله الذى أتم عليه النصر، بسقوط الخيمة اللعينة، وشعر بالسعادة، وهو يرى القواد والملك «غى» وعدو الله أرناط مقرنين بالحبال، مسوقين إلى خيمته.

 وأجلس صلاح الدين الملك الأسير إلى جانبه، وقدم إليه إناء فيه ماء مثلوج، فشرب منه ما شرب، وأعطى «أرناط» ما تبقى فيه فشربه، وتوجه إليه صلاح الدين بالكلام:

– وأخيرًا وقعت فى يدى يا أرناط.. يا قاتل.. يا سفاح.. يا غادر، وإنى لقاتلك بسيفى هذا.

– ولكنك أمنتنى إذ منحتنى شربة ماء.

– أنا لم أعطك ماء، ولم تشرب الماء بإذنى، فلا أمان لك، ولابد من قتلك.. يا قاتل الحجيج.. يا مهدد الكعبة وقبر الرسول.

– ولكنى مقاتل أسير، والأسير فى دينكم لا يقتل.

– أنت لست مقاتلاً أسيرًا، ولكنك قاتل مجرم، وقع عليك الأسر جبرًا وقهرًا.

– فأمهلنى لساعات حتى تهدأ نفسك، وتنطفئ ثائرتك، فربما أخذتك الشفقة على أسير جائع، غريب عطشان.

– كيف تهدأ نفسى، وقاتل الأطفال والشيوخ، وناهب قوافل الحجيج حى يرزق؟ كيف تهدأ نفسى وأنا أرى أمام عينى من سب الله ورسوله، وهدد بتخريب مكة والمدينة ونبْش قبر الرسول (عليه الصلاة والسلام)؟

– ولكن أنت تقبل الفدية فى أسراك، فأطلق سراحى مقابل ما ترى من المال.

– لا أقبل الفداء فى مجرم شيطان أراق دماء بريئة، وحارب الله ورسوله؟

– لكن ألا ترى أيها السلطان صلاح الدين أن الأمر…

 ولم يكمل عبارته، فقد أطار صلاح الدين رأسه فى لمح البصر بضربة واحدة، وصلى صلاح الدين صلاة الشكر، وترك الخيمة للخدم ليزيلوا آثار الدماء الخبيثة..

 وألقى نظرة إلى ميدان المعركة الذى غص بعشرات الألوف من قتلى الفرنجة، ورأى أشعة الشمس الغاربة تمتزج بالدم المراق، وكأنها شاهدة تضع توقيعها على وثيقة الإدانة… إدانة المعتدين الأفاقين الذين جاءوا بلاد المسلمين يطلبون الدنيا، فخسروا الدنيا والآخرة.

 ولملمت الشمس آخر أشعتها، مودعة أرض الدم والأشلاء، والصراع والصدام، وتذكر صلاح الدين مملوكه «لؤلؤ»، فدمعت عيناه، وأخذ يتمتم:

 يرحمك الله يا ولدى. وصدق الله الذى قال: {وكان حقًا علينا نصر المؤمنين} [الروم: 47]، وكذب الشيطان.. كذب الشيطان الذى كان يُمنّى حزبه من الصليبيين بالنصر الأكيد، فاستحوذ عليهم، وأنساهم ذكر الله {..أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} (المجادلة:9 1)

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img