أدباء ولغويون دعاة :
عمر بهاء الدين الأميرى شاعر الإنسانية المؤمنة
(رحمه الله)، لقد كان أمّة، كان الإسلام يجرى فى دمه وأعصابه، ونَفَسه، فعاش شامخ الرأس، أبيّ الوجدان، كريم العطاء.. التقيتُه لأول مرة بإسلام آباد فى الثمانينيات، وكان لنا لقاءات بعد ذلك فى مكة المكرمة، كنا نلتقى يوميًا قبل الأصيل ومعنا الداعية الإسلامى الكبير أحمد جمال عند الركن اليمانى بالحرم الشريف.
أهدانى ديوانه الفاخر «نجاوى محمدية»، يومها تحدثنا عن الظلم والظالمين الذين فرضوا الحكم العسكرى بسجونه وقيوده ومشانقه على الشعوب العربية، قلت له من غرائب الصدف أن (ح. ش) الذى كان عضوًا من ثلاثة حكموا بالإعدام على عدد من خيرة الإسلاميين فى الخمسينيات.. ينزل فى فندق (خوقير) الذى أنزل به… بل إن حجرته لصيقة بحجرتنا.
فأخرج الأستاذ عمر نسخة من ديوانه «نجاوى محمدية»، وكتب إهداءً رقيقًا لهذا العسكرى، وطلب منى أن أسلمه إياه..
قلت له: ولكنه غير إسلامى، ودم الأبرياء فى عنقه.
قال: لذلك أهديه الديوان، فأمثال هؤلاء فى حاجة إلى التوجيه والإرشاد أكثر منا.. وقد التقيته من قبل فى مصيف «قرنايل» بلبنان.
إنه درس كبير تعلمته من الرجل العظيم عمر بهاء الدين الأميرى(1).
خطوط من سجل حياته
> وُلد عمر فى حلب الشهباء بسورية سنة 1336هـ (1915م) فى أسرة من كرائم الأسر الحلبية: فوالده هو محمد بهاء الدين الأميرى، نائب حلب فى «مجلس المبعوثان العثمانى»، وأمه هى «سامية الجندلية» ابنة «حسن رضا» رئيس محكمة الاستئناف فى حلب.
> درس المراحل التعليمية الأساسية فى مدينة حلب، وفيها أتم دراسته فى الآداب والفلسفة.
> درس الأدب وفقه اللغة فى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة السوربون فى باريس، والحقوق فى الجامعة السورية فى دمشق.
> عمل فى التعليم فتولى إدارة المعهد العربى الإسلامى فى دمشق.
> أسهم فى انطلاقة العمل الإسلامى المعاصر، واتصل بكثير من مراكزه، وتولى بعض مسئولياته.
> شارك فى الدفاع عن القدس مع جيش الإنقاذ، خلال حرب فلسطين عام 1379هـ (1948م).
> مثَّل سوريا وزيرًا، وسفيرًا فى باكستان والسعودية، وكان سفيرًا فى وزارة الخارجية السورية.
> من مؤسسى جمعية «دار الأرقم الإسلامية» فى حلب، كما أسهم فى تأسيس حركة (سورية الحرة)، وكان رئيس الجانب السياسى فيها، عام (1384ه) – (1952م).
> كان عضوًا فى المجمع العلمى العراقى، وعضوًا فى المجمع الملكى للبحوث الإسلامية فى الأردن.
> اهتم بقضايا الثقافة والسياسة والجهاد فى أوطان العروبة والإسلام، واشترك فى العديد من مؤتمراتها ومواسمها، واتصل بكبار علمائها، ورجالاتها، ومؤسساتها.
> دُعِيَ إلى المغرب عام 1386هـ أستاذًا لكرسى «الإسلام والتيارات المعاصرة»، فى دار الحديث الحسنية بالرباط، واستمر فى العمل خمسة عشر عامًا، كما درّس الحضارة الإسلامية فى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس.
> دُعِيَ أستاذًا زائرًا ومحاضرًا فى جامعات الرياض، والإمام محمد بن سعود الإسلامية، والملك فيصل، والملك عبد العزيز فى السعودية، وجامعات الأزهر، والجزائر، والكويت، وصنعاء، وقطر، والجامعة الأردنية فى عمان، وجامعة الإمارات العربية فى العين، وعدد من الجامعات الإسلامية فى باكستان، وتركيا، وأندونيسيا.
> نطق بالشعر وهو طفل صغير.
> يتكلم التركية والأوردية والفرنسية، ويلم بلغات أخرى.
> له عشرات من الدواوين والكتب المطبوعة، وعشرات أخرى تنتظر الطبع.
> من دواوينه الشعرية:
مع الله – ألوان طيف – أب – أمى – من وحى فلسطين – أشواق وإشراق – ملحمة النصر – حجارة من سجيل – قلب ورب – رياحين الجنة – الزحف المقدس – نجاوى محمدية – أذان الفجر.
> ومن كتبه المطبوعة:
1 – الإسلام فى المعترك الحضارى.
2 – المجتمع الإسلامى والتيارات المعاصرة.
3 – فى رحاب القرآن (الحلقة الأولى: فى غار حراء).
4 – فى رحاب القرآن (الحلقة الثانية: عروبة وإسلام).
5 – فى رحاب القرآن (الحلقة الثالثة: وسطية الإسلام وأمته فى ضوء الفقه الحضارى).
> ومن كتبه التى جمعت بين التاريخ والفكر والشعر:
1 – صفحات ونفحات.
2 – لقاءان فى طنجة.
> وبعد أن قدم للإسلام والمسلمين والفكر الإسلامى والعروبى هذه الأعطيات الثرية اشتد عليه المرض، ففاضت روحه إلى بارئها فى مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية سنة 1413هـ – 1992م(2).
الشاعر المفكر الداعية
يقول عنه الدكتور يوسف القرضاوى: «… كان الأميرى فى المقام الأول شاعرًا.. شاعرًا بموهبته، وشاعرًا بممارسته، ولكنه ليس شاعرًا سائبًا، إنه شاعر ذو رسالة، فليس الشعر عنده آلة لمديح الأمراء أو الكبراء، ولا لهجاء الخصوم والأعداء، ولا أداة للتعبير عن الغرائز الهابطة، إنه شاعر الإنسانية المؤمنة – كما يحلو له أن يعبر عن نفسه، أو يعبر عنه عارفوه، ومن يكتب عنه»(3).
وفى هذه السياقة نشير إلى أن الشاعر كان يحب دائمًا أن يلقب بشاعر «الإنسانية المؤمنة»، وهو تلقيب بالقيمة لا بالمكان كشاعر النيل (حافظ إبراهيم)، وشاعر القطرين (خليل مطران)، ولا بالمكانة الأدبية: كأمير الشعراء (أحمد شوقى)، فآثر لقب شاعر الإنسانية المؤمنة، وقد يخطر للقارئ سؤال اعتراضى مؤداه: ألا يعتبر وصف الإنسانية بالإيمان تزيّدا، أو فضلة لا قيمة لها؟!
وأعتقد أن هذا التحديد الوصفى جاء لينفى أن تكون الإنسانية بمفهومها الدارج، أو مفهومها الذى لا يخلو من الزيف والادعاء… كادعاء الحكومة الأمريكية البوشية بأن قواتها ما زالت فى العراق لأسباب، ودوافع إنسانية.
فالإنسانية عند الأميرى ليس لها إلا الوجه الإيمانى المشرق، وهى إنسانية بمفهومها الشامل السوي، وهى تاريخيًا تمثل نخاع ديننا، وعمليًا انعكست فى منظومة العلائق التى تربط بين المسلمين، وانعكست كذلك فى طبيعة تعاملهم مع الشعوب الأخرى، وكان للمشركين فيها نصيب، يقول تعالى: {وإن أحدٌ من المشركينَ استجَارك فأجرهُ حتى يسمعَ كلامَ اللهِ ثم أبلغْهُ مأمَنَهُ} (التوبة: 6).
فلا عجب أن يكون للأميرى فى قلب كل من عرفه مكان رحيب، يقول الدكتور القرضاوى: «… وقد كان الرجل محبَّبًا لطلابه وطالباته، لما يحمله بين جنبيه من رقة طبع، ودماثة خلق، وسعة أفق، وتجربة واسعة فى الحياة، وما يحمله فى جعبته من طرائف أدبية، ونوادر اجتماعية وسياسية(4).
الفقه الحضارى
عرفنا أن الأميرى ابتداء من سنة 1386ه، وعلى مدى خمسة عشر عامًا، كان يقوم بتدريس مادة «الإسلام والتيارات المعاصرة» فى دار الحديث الحسنية بالرباط، كما درَّس «الحضارة الإسلامية» فى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس.
وكان يقوم بتدريس هذه المادة فى الجامعات العربية والإسلامية التى يُدعى إليها أستاذًا زائرًا.
وكان دائمًا يدعو إلى فكرته فى (الفقه الحضارى) الذى يفتقر إليه المسلمون فى هذا العصر، بجوار الفقه التقليدى الذى يُعْنَى بمعرفة الأحكام الشرعية المستنبَطة من أدلتها التفصيلية، وهذا الفقه التقليدى هو الذى تُعْنَى به كليات الشريعة والحقوق، وتقوم عليه مجامع الفقه الإسلامى المعروفة(5).
وقد تبنَّى (رحمه الله) هذه المادة وقام بتدريسها، وعرض خطوطها وأبعادها – تنظيرًا وتطبيقًا – فى الكتب التى أصدرها، وذكرنا بعضها آنفًا، وفى هذه الطروحات نراه يؤمن إيمانًا وثيقًا بأن المسلمين قدموا للعالم عطاء حضاريًا فى شتى المجالات، علميًا وأدبيًا وفلسفيًا واجتماعيًا وفنيًا، وهذا العطاء لم يفقد قدرته، وعوامل خلوده، بل هو قدير على الحلول محل المعطيات الحضارية الغربية، وكل ما يحتاجه إيمان أهله به من ناحية، والعمل على تجديده، وإبرازه فى الثوب الذى يناسب العصر، مع ترسيخ الثوابت، وتدريس المادة فى كل الجامعات الإسلامية والعربية، من ناحية أخرى.
ومن عَجَبٍ أن نجد أناسًا من جلدتنا، ويتكلمون لساننا، ينكرون قيمة الحضارة الإسلامية، ويدعون إلى أن نفتح عقولنا وقلوبنا وبلادنا لكل ما هو غربى، ولا كذلك العُدُول من كُتَّاب الغرب ومفكرى الأديان الأخرى فالألمانية «زيغريد هونكه» تؤكد أن أوروبا تعرفت بواسطة العرب على أهم آثار القدامى، وبفضل ترجماتهم للمخطوطات اليونانية، وتعليقاتهم عليها، وبفضل آثارهم الفكرية الخاصة أدخلت إلى العالم الجرمانى روح التفكير العلمى والبحث العلمى..»(6).
والأميرى فى عرضه معطيات هذه الحضارة يتجنب التعصب والحماسة المتوقدة، بل يعرض ويناقش فى هدوء ومنطقية، رابطًا الماضى بالحاضر، ناهلاً من ثقافته الواسعة فى التاريخ والعلوم الإنسانية، ويقدم ما يقدم فى إيجاز، ووضوح.
سائح فى الله
والأميرى فى أغلب شعره ينطلق من قاعدة إيمانية روحية، وقلب ينبض بحب الإسلام والعربية والعروبة، ووجدان يعيش آلام المسلمين وآمالهم، لقد قضى عشرات من السنين ضاربًا فى فجاج الأرض، بعيدًا عن وطنه سورية، فظلْم حكامها لا يتسع لبقاء أصحاب العقيدة والشموخ، وحملة رسالة الحق من أمثاله.
ولما انتقل (رحمه الله) إلى العالم الآخر سنة 1992م، رثيتُه بقصيدتين، يستطيع القارئ أن يرى فيهما ملامح عقيدته ودعوته وموضوعات شعره، وطبيعة وجهته الأدبية، فمن قصيدتى الأولى (الشهيد على فراش الغربة) انتقى الأبيات الآتية:
حتى إذا مسَّ عادٍ عرضَ أمتنا
أوهمّ يخدشُ شيئًا من حمى الدين
أضحى قصيدُك هوْلاً مِلْؤه ضرَمٌ
فليس غير سعيرٍ أو براكينِ
وأصبح القلمُ السيالُ عاصفةً
تجتاح كل دعيِّ الفكرِ ملعونِ
ويسأل الجمع «من ذا؟» – «إنه عمرٌ
عمرُ البهاء الأميري ثار من لين
فدكّ دعواهُمُو بالحقِّ فى ثقةٍ
ومزق السِّتْر عن غِرِّ ومأفونِ
إن الحليمَ إذا ما ثار ثائرهُ
فليس منه سوى جمْرٍ وغِسْلين
……………
يا سائحًا فى سبيل الله غربتُه
وما ذللت وما استسلمتَ للهُوِن
فى الشرق والغرب تمضى تحت رايته
فى درب «أحمد» والغرّ الميامين
لئن جفتْكَ بلادٌ أنت صفْوتها
فافخر بأنك «لا» لم ترضَ بالدونِ
نزلتَ فى كل قلب مؤمن سكنًا
من الرباط.. إلى مصر.. إلى الصين(7)
*********
ومن أبيات قصيدتى الثانية (أمير العاشقين):
وقالوا بأنك «ضد الولاءِ
وضدّ الحضارةِ و«المنقذين»
وتنكر «قومية» المخلصين
وما هى إلا انتصار مبين
وفهمك للدين رجعيةٌ
تدمّر عقل الشباب الفطين»
………….
أيا عمرَ الخير أنت الصدوقُ
وزُمرتهم زمرة الكاذبين
فما كان جُرمك إلا الولاءَ
لربك لا للطغاة العَمينْ
وما كان إثمك إلا النقاءَ
وإيقاظك النوَّم الغافلين
وشعرًا يؤرق ليل البغاةِ
ويخلع قلب الغويِّ اللعينْ
ودعوتَك «الدينُ حكمْ وجنسٌ
وروحٌ وجسمٌ ودنيا ودينْ
وخير، وخيلٌ، وحب، وعلمٌ
ونفْس تموتُ وتأبى تهون
ولكن قومية الأدعياء
فسادٌ دعِيٌّ وظلم مبين
بها انتُهك الشوق اليعربيّ
وهُتِّك عرض البلاد المصون
………….
بشعرك علمتنا أن نكونَ
وأرسيْتَ فينا جذور اليقين
وعلمتنا الصبر فى النازلات
وألا نكون من القانطين
وعلمتنا أن نحب الحياةَ
جهادًا وصبرًا وعلمًا ودين(8)
********
ولعل المتلقى قد تبين فى الأبيات السابقة غير قليل من ملامح شخصية الأميرى، وأهم محاوره الشعرية وحرصه على الذود عن دينه وعقيدته وعروبته، على أن للأميرى غرضًا شعريًا يعد كسبًا كبيرًا للأدب العربى بعامّة، والأدب الإسلامى بخاصة، وهو «الشعر الأسْريّ»، فقد نظم ديوان «أمي»، وديوانًا للأطفال بعنوان: «رياحين الجنة»، ومن قصائده فى هذا المجال ما يصدق عليه وصف «الأدب العالمى» كقصيدة (أب)(9)، وقد كان عباس العقاد من أشد المعجبين بهذه القصيدة، حتى قال عنها فى ندوة من ندواته المعروفة التى كان يعقدها فى منزله بمصر الجديدة فى صباح كل جمعة: «لو كان للأدب العالمى ديوان من جزء واحد لكانت هذه القصيدة فى طليعته»(10).
شعر المقاومة والجهاد
ذكرنا أن الأميري (رحمه الله) كان يعيش بعقله ووجدانه وشعره هموم المسلمين والأمة العربية، ولكن فلسطين كانت هى الجرح الغائر النازف فى أعماقه، وعاش على أمل شَغَلَ أقطار نفسه، وهو «تخليص مسرى النبى الأمين»، وعاش بشعره أبعاد النكبة، بما تنزفه من دم، وما تعكسه من آلام وأوجاع وانكسارات، وما تبعثه كذلك من آمال واستشراف وتطلعات، فالمؤمن لا يقنط من رحمة الله، وهو – بالإيمان والعزم والإصرار – يأوي إلى ركن شديد.
وكانت فلسطين هى الموضوع الأساس لعدد من دواوين الأميري، منها ديوان (من وحى فلسطين)، وديوان (الزحف المقدس)، وديوان (حجارة من سجيل).
ولديوان (من وحي فلسطين) أهمية خاصة، ترجع إلى عاملين:
الأول: أن الشاعر حمل السلاح، وقاتل فى فلسطين بروح الرعيل الأول من المسلمين، فالكلمة – فى هذا المقام – تعد ترجمة عملية عن واقع فعلى، وممارسة عملية حقيقية.
أما العامل الثانى فهو أن الديوان ضم عن فلسطين شعرًا باكرًا، بدأ سنة (1946م)، وتأثر بحرب 1948م، وكشف أسرار الضياع العربي، وجذّر من النكبة، فلما وقعت الكارثة سنة 1967م أرخ هولها، وفند عواملها، وبكى هزيمتها، وحمل مشعل الدعوة إلى الجهاد.
لقد انضم الأميرى إلى جيش الإنقاذ الذى قاده «فوزى القاوقجي» للدفاع عن فلسطين قبل نكبة 1948م، وكان من بواكير شعره فى فلسطين:
يا فلسطينُ يا تراثَ النبوةْ
يا لسان المجد الأثيلِ المفوَّهْ
لا يُضرْك العدوان مهما تمادى
إن هذا العدوان مبْعث قوة
أمة العُرْب فى ركابك هبتْ
تلقم العاتي الزنيم عتوَّهْ
والأباةُ الكماةُ تهتز ثأرًا
كلما معرجُ الرسولِ تأوّه(11)
وتدور الأيام والأميري يضرب فى فجاج الأرض داعيًا إلى الله والحق والجهاد، ويهل العيد، ولا جديد إلا تفاقم البلاء، وتزايد الشهداء، أما حال الحكومات فما ضٍ فى التيه، والدجل، والتمويه، حتى أصبح شأنهم مع شعوبهم أشد وأنكى من سياسة الصهاينة، ومكرهم وعدوانهم:
يقولون لى عيد سعيد وإنه
ليوْم حساب لو نحسُّ ونشعرُ
أعيدٌ وللبغى العدو تفاقمٌ
وأمرُ ولاة الأمرِ أنكى وأخطرُ
همو أوقعوا الهول الضروس بقومهمْ
فهمْ قدروا – ويل لهم – كيف قدروا؟(12)
ويربط الانتفاضة بالفقه الحضارى الذى يدعو إليه، ويتبناه، فيقول وهو فى مكة المكرمة فى غرة ذى الحجة عام 1408هـ «إن الانتفاضة خطوة جريئة فى سبيل تحويل الخط الحضاري الإنساني من «السامرية اليهودية» إلى «الربانية الإسلامية» فى أجواء الصحوة المرجوة لأمتنا العريقة المسئولة، وإن من حقها على عقلاء العالم كافة، وعلى المؤمنين والمسلمين عامة، وعلى العرب منهم بخاصة حق عظيم جسيم، يتطلب حشد كل الطاقات والقوى، واستخدام جميع الوسائل المشروعة، بمنهجية هادية واعية، وعقد العزائم والإرادات على المضى السوي القوي بها إلى غايتها فى ضوء فكر حضاري مبين..»(13).
وخلّد الأميرى انتفاضة الأطفال بديوانه «حجارة من سجيل»، وفى مطوَّلته الخالدة «طفل فلسطين المارد» يقول:
أنِفَ الزيفَ، ووأْدَ الحقِّ
مذْ كان وليدا
ونما.. ثم نما فى الرفضِ..
جبارًا عنيدا
يركبُ الموت ليحيا رافع الرأس
مجيدا
لا يبالى
كان حيَّ الجسم
أم حيا شهيدا
صائحًا: الله أكبر
قهر الصعب ببأس من حديد
ليس يُقهرْ
يتحدى النار كالإعصار
يصلاها.. ويجأرْ
ضارعًا لا ينثنى
يمعنُ فى الزحف المظفّرْ
صائحًا: الله أكبر
أزلاً: الله أكبر
أبدًا: الله أكبر
باسمه نعلو ونُنْصَرْ(14)
شعر الاغتراب
شعر الاغتراب لون واضح القسمات فى أدبنا العربى مثل شعر الغزل، وشعر الرثاء، وشعر المديح، وشعر الفخر، بل لعله يتميز بملامح قلما تكاملت فى لون من الألوان الأخرى(15).
ولا يختلف اثنان فى أنه أصدق ألوان الشعر تعبيرًا عن لواعج النفس بسبب الفراق والحنين إلى الأهل والأوطان، ومدارج الصبا، ومراتع الشباب، ومصدر كل أولئك – كما يقول الجاحظ: «توقد النار فى الأكباد»(16).
ويعتبر شعر الغربة من الأغراض الغالبة فى دواوين الأميرى، وكل قصائد الغربة التى نظمها تلتقى فى ملامح مشتركة تتلخص فيما يأتى:
1 – انطلاقها – فى أغلبها – من بلاد غير موطن الشاعر، مثل: لبنان، والمغرب، والجزائر، وباكستان، والسعودية، واليمن، وهى البلاد التى قضى فيها الشاعر أغلب عمره الشعرى.
2 – تصويرها لواعج النفس وأساها بسبب الفراق، أو لوضع سياسى أو اجتماعى مؤسف.
3 – صدق الانفعال، وتوهج الشعور، وخصوصًا فى أوقات الأزمات النفسية الخاصة، أو النكبات التى تنزل بالأمة الإسلامية.
4 – الحس الديني المتدفق، فلا تكاد قصيدة من قصائد الغربة تخلو من بصمات الدين ومشاعر الإيمان.
5 – انتهاء القصيدة غالبًا بالنظرة الآملة الطامحة.
وهذه الملامح المشتركة لا تنفى طبعًا ما بين قصائد الغربة من سمات وملامح فارقة.
وباستقراء شعر الغربة عند الأميرى – ارتباطًا بالمسيرة الزمنية، أو العمر الشعرى، وهو يزيد على نصف قرن من الزمن – نرى أن قصيدة الغربة يمكن توزيعها على ثلاث مراحل زمنية متتابعة، كان لها فى كل مرحلة ” شخصيتها الفنية المتميزة “، مع الاعتراف طبعًا بنقاط التلاقى التى ذكرناها آنفًا:
– ففى المرحلة الأولى: كانت قصيدة الغربة الحنين.
– وفى المرحلة الثانية: كانت قصيدة الغربة المزيج.
وهى التى تجمع بين الحنين والأشواق الخاصة من ناحية، والشعور بالغربة والألم الحاد لما يصيب الأمة من عدوان وانكسارات من ناحية أخرى.
– وفى المرحلة الثالثة: كانت قصيدة الغربة الروحية، وهى القصيدة التى يرتد فيها الشاعر إلى ذاته، ليصبح إحساسه بالغربة هنا إحساسًا نوريًا، يمتح من صفاء روحى موار، ويستظل بمقام رفيع تنمحى فيه الزمانية والمكانية، كما نرى فى قصيدته (حلم بين صحوتين)(17)، إذ نحس بنبرة الشاعر دامعة دامية، وهو يعبر عن حدة غربته:
واغربتى بين الدُّنا
أحيا المكابدةَ الأبيةْ
وأنا رهين الـمشرقيةِ
فى الديار المغربيةْ
وكأننى بين الصخور
لموج مُعْتَزَلِى رميّةْ
ولا يجد الشاعر المسعفَ المنقذ هذه المرة فى لقيا الأهل والأبناء والأحقاد، ولكن فى «التجلى»، وتخليص الروح من رينها، والأثقال التى تنوء بها.
أين التجلى يرتقى بى
فى معارجه العلية؟
أين الصفاء لليلة
القدرِ المباركة الصفيةْ
أين السعادة يا إلهي
فى عوالمنا الشقية؟
ويهمنا – بصفة خاصة النوع الثانى من قصائد الغربة، ففى هذا النوع ينطلق الشاعر من الخاص إلى العام، ومن المحدود إلى الواسع الرحيب كما نرى فى الأبيات التالية من إحدى قصائده التى نظمها فى «هرهورة» بالمغرب:
وحيدًا مع الذكرى وللهمِّ.. زأْرةٌ
صخوب يؤج الروْع من أزْلِها ضُرَّا
ففى أسرتى – والشرق والغرب دارها
أفانين من لأْواءَ ما يوقر الظهرا
وفى أمتى فتكُ التناحر دائب
ضروسٌ إلى الخسرانِ يأطرُها أطرا
وفى بلدى – واجرح قلبى ومهجتى
على بلدى – غَشْم تفاقم واستشرى(18)
وكثيرًا ما كان يفضل ذكر أسرته وأهله، ويفرد قصيدة الغربة لآلامه الحادة التى تستبد به، وتأخذ بخناقه، وتتركه فى حالة يرثى لها بسبب ما نزل بالأمة والدين، فيقول فى قصيدة (نجاوى سجينة)(19).
جلست وفى الرأس من همةِ
النفوس الكبار نجاوى سجينةْ
أفكر فى أمر دينى وقومى
وأدْمُعُ عينيَّ حرّى دفينة
وطرفيَ يرنو وراء المدى
وللحب أنوار كشفِ مبينة
وكنت من الهم فى شرْدةٍ
تلم برأسى طيوف حزينة
كأنيَ ألمح فى عاصفاتِ
العباب تعثر جرْي السفينة
وألقي بنفسي حنانًا عليها
لأوثقها بالحبال المتينة…
فيرتد للصحو بى مفزعا
يطير بوجهي حمامُ المدينةْ
فلا عجب أن يكون طعم الأشياء ممرًا فى حلقه، فلا يفرح للمناسبات السعيدة التى يفرح لها الناس:
ما العيد والقدس فى الأغلال رازحة
والمسلمات سبيَّاتٌ لفساقِ؟!(20)
ونحن نعلم أن الشاعر لم يهجر وطنه غضبًا لنفسه لمنصب لم ينله، أو مكانة فائتة، وكان حريصًا على الظفر بها، ولكنه هاجر واغترب؛ لأنه رفض الخنا والظلم، وأن يساير طلاب الدنيا، وأعداء الحق والدين والقيم الإنسانية، فانطلق يضرب فى فجاج الأرض يجاهد «بالكلمة الحرة» شعرًا ونثرًا، مصورًا آلامه ومعاناته، معبرًا عن مشاعره التى أثقلتها النكبات التى تنزل بالأمة، ومنها ما هو من صنع الكبار والقادة، داعيًا إلى الجهاد بكل الوسائل والآليات، باعثًا أمجاد الأمة، وتراثها الحضاري، متبنيا «الفقه الحضاري الإسلامي»، فكان إبداعه نماذج عليا «للأدب الإسلامي» الذى ندعو به وإليه، وجمع بكتاباته وشعره بين شخصية الأديب الفذ، والداعية المخلص لدينه، وأمته، والقيم الإنسانية الشامخة.
نثريات رائعة في شعره
ومن قبيل الاعتراف بالفضل لأصحابه، وتقديرًا لهذا الشاعر الداعية العظيم، ننوه بجديد أرى أنه رائده أو من رواده، وهو تصدير قصائده بمقدمات نثرية تعايش جو القصيدة – فى أكثر من موضع منها – بأسطر من هذه القطع النثرية الراقية، ومن أمثلة هذه النثائر ما صدَّر به قصيدته «غربة الروح»(21).
فى الأندلس مجد وأى مجد ما تزال آثاره ماثلة
تضحك وتبكى
عدت من قرطبة وأشبيلية وغرناطة إلى مدريد
تنشج الحسرة فى زفراتي
ويكاد طموحي الحيران
يخرج بي عن إهاب الإنسان
والجمال… والكبت.. والحرمان
بركان..
عيون بلا خَفَر
كأنها خمر من جمْر
تشربك.. ولا تشربها!!
عدت إلى «مدريد»
إلى غربتي.. وحرقتي.. ونجواي..
وقد تكون النثيرة مستقلة تمثل عملاً فنيًا كاملاً، كالنثيرة التى جعل عنوانها (أدركت.. فبكت)(22)، وقد ذكر الشاعر أنه كتبها فى حلب سنة 1364ه، وذكر فى تصديرها «أنها تحكي قصة رؤيا كان هو المتكلم الوحيد لأمه، أما هى فكانت تعبر عن مرادها بما ينطبع على قسمات وجهها من مشاعر، ثم بما لاح فى عينيها من دموع، ثم ينهي تصديره بقوله: «إنه ليس بشعر، ولكنه زاخر بالمشاعر».
وهى تتفوق على ما يسميه الحداثيون «قصيدة النثر»، وقد رأينا نماذجها مثقلة بالغموض والإبهام والرموز، كما أنها تُؤدَّى غالبًا بأسلوب هابط.
رحم الله الأميرى، وجزاه الله خيرًا عن الإسلام والأمة والفكر الشامخ، والأدب الرفيع.
المراجع والتعليقات
ـ أذكر القارئ أننا نقصد بالأدباء: الشعراء والكتاب المبدعين فى الأعمال القصصية والمسرحية، وما دار فى فلكهما، ونقصد باللغويين النقاد والمتخصصين فى علوم اللغة وفقهها، والنحو والبلاغة، وذلك إذا كانت الدعوة إلى الإسلام وقيمه أهم أهدافهم، ولا يصدق ذلك على الفقهاء وعلماء الشريعة، فالدعوة إلى الإسلام وقيمه هى عملهم الأصلى الذى فيه تخصصوا.
(1) جابر قميحة: أدبيات الأقصى والدم الفلسطينى (مركز الإعلام العربى، القاهرة 2001م).
(2) 3 – 8 من بحثى المخطوط الغربة فى شعر عمر بهاء الدين الأميرى، والقرضاوى موقع إسلام أون لاين.
(3) موقع إسلام أون لاين.
(4) الموقع السابق.
(5) الموقع السابق.
(6) زيغريد هونكة «شمس العرب تسطع على الغرب»، ترجمة فاروق بيضون وآخر ص 163، دار الآفاق الجديدة – بيروت 1981م، وارجع كذلك لقصة الحضارة لديورانت، وحضارة العرب لغوستاف لوبون، وتراث الإسلام فارتن باسنر، وموجز تاريخ العالم لويلز، وارجع إلى الصفحات من 222 إلى 253 من كتابنا «أعداء الإسلام ووسائل التضليل والتدمير»، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة 2002م.
(7) جابر قميحة: «على هؤلاء بشعرى بكيت» 67، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة 2004م.
(8) السابق: 69، 70، 72.
(9) القصيدة نشرت فى أكثر من ديوان: فنشرت فى ديوان مع الله، 133، وديوان: ألوان طيف 52.
(10) القرضاوى: موقع: إسلام أون لاين.
(11) جابر قميحة: أدبيات الأقصى والدم الفلسطينى 112، 113.
(12) السابق: 115.
(13) السابق: 117.
(14) السابق: 119، 120.
(15) ماهر حسن فهمى: الحنين والغربة فى الشعر العربى الحديث، ص5 (معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة 1970م).
(16) الجاحظ: الحنين إلى الأوطان، ص 4 (المطبعة السلفية، القاهرة 1351ه).
(17) الأميري: ديوان: الزحف المقدس، ص 103، دار الضياء – عمان، الأردن 1989م.
(18) الأميري: ديوان: نجاوى محمدية، ص 285 (المدينة المنورة 1407هـ (الروع: القلب. الأزْل واللأواء: الشدة والضيق. يأطرها: يشدها. الغشْم: الظلم).
(19) السابق: 34.
(20) الأميري: ديوان: أشواق وإشراق، ص 23 (دار القرآن الكريم – بيروت 1973م).
(21) ديوان «ألوان طيف»، ص 384 – ص 387 (دار الفتح – بيروت 1975م).
(22) ديوان «أمي» من ص 76 – ص 84 (دار الفتح – بيروت. د. ت)، ولى بحثان معدان للطبع هما: شرائح النثر فى شعر عمر بهاء الدين الأميري، والثانى: الغربة فى شعر عمر بهاء الدين الأميري.
اترك تعليقاً