img
سيادة القانون لا سيادة الرئيس
img
Print pagePDF pageEmail page

سيادة القانون لا سيادة الرئيس

 حتي يستطيع القراء أن يتفهموا في دقة مضمون هذا المقال ومراميه, أجد من اللازم أن أحدد ما أقصده بجزئيات هذا العنوان, وهي بمجموعها قد تبتعد أحيانًا عن «تعريفاتها» الاصطلاحية, ولكنها – بأية حال – لا تنفصل عنها.
  
مفهـوم القانون  

       ابتداء أعني بـ«القانون» مجموعة القواعد والمبادئ التي تنظم الجماعة, وتحدد طبيعة العلائق التي تربط بينها علي اختلاف طبقاتها, ومراكزها الاجتماعية والسياسية, وبصرف النظر كذلك عن مصدر القانون الذي قد يكون «سماويًا» وهو «شريعة الله», وقد يكون بشريًا, وهو «القانون الوضعي» مثل «قانون حمورابي» الذي كُتب من قرابة أربعة آلاف عام. وبصرف النظر عن ثبوته بالكتابة كأغلب القوانين, أو كان منقولاً شفاهة وعملاً دون كتابة, ويستمد وجوده وقوته من الأعراف والتقاليد التي تجذرت وترسخت علي مدار التاريخ كالدستور الإنجليزي.
  مفهـوم الرئيس

و أعني «بالرئيس» كل ذي مركز فوقي قواميّ , يعطيه الحق في الإشراف والتوجيه, وتسيير الأمور في مجاله, بصرف النظر عن طبيعة هذا المجال من الناحية النوعية, ومن ناحية المدى والاتساع والامتداد, ومن هنا يصدق هذا الوصف علي كل «ذي مسئولية منضبطة», ذات طرفين محددين – ولو بالصفة – هما التابع والمتبوع, كرئيس الدولة والوزراء والولاة والمحافظين, ورؤساء المجالس المحلية ومديري الشركات…. إلخ. ويغنينا عن مزيد من التفصيل قول رسول الله صلي الله عليه وسلم «كلكم راع, فمسئول عن رعيته, فالأمير الذي علي الناس راع, وهو مسئول عنهم, والرجل راع علي أهل بيته, وهو مسئول عنهم, والمرأة راعية علي بيت بعلها وولده, وهي مسئولة عنهم, والعبد راع علي مال سيده, وهو مسئول عنه, ألا فكلكم راع, وكلكم مسئول عن رعيته» رواه الشيخان.
 
سيادة القانون
ومصطلح سيادة القانون  –  ويطلق عليه بالإنجليزية “
Rule of law” وبالفرنسية “Souverainet de la loi” –  يعني «مبدأ من مبادئ الحكم في الدول غير الاستبدادية, ومفاده التزام الدولة باحترام قوانينها وتشريعاتها والأنظمة الثابتة فيها, فتخضع تصرفاتها وأعمالها للقانون وأحكامه, فتحافظ بذلك علي حقوق الأفراد والجماعات والمؤسسات حسب تحديد القانون لهذه الحقوق».
فسيادة القانون ذات طبيعة شمولية, بحيث تجعل الرئيس – وهو حاكم متبوع في نطاق عمله – تابعًا للقانون كبقية الشعب, بوصفه مواطنًا لا يزيد علي المواطن العادي إلا بما منحه القانون من سلطات منصوص عليها علي سبيل الحصر.
وتوصف الدولة بـ«الدستورية» أو «القانونية» بقدر خضوعها لـ«سيادة القانون», ويتخلي عنها هذا الوصف بقدر «ارتفاع» ترمومتر سيادة الرئيس, إلي أن تصبح الدولة «دكتاتورية», يهيمن عليها حكم الفرد المطلق.
ودفاعًا عن «دكتاتوريته» يلجأ الدكتاتور إلي تبريرات معروفة مستهلكة , مثل «الحرص علي مصلحة الوطن», والتلويح بوجود مؤامرات خارجية وداخلية تهدد سلامة الشعب واستقراره وأمنه, وتأكيدًا لهذا الادعاء يلجأ الطاغية إلي القمع والتنكيل بمعارضيه سجنًا, ومطاردة وإعدامًا, وغالبًا ما يستند إلي «قوانين استثنائية» تمنحه أوسع السلطات, وهي في واقعها من عمله, وصنع يديه.
ويكون «الدكتاتور» محاطًا دائمًا بسياج من عتاة المنافقين , وحملة المباخر النفعيين. وهم يؤدون مهمتين حقيرتين:
المهمة الأولي: النفخ في شخصية الطاغية وتضخيمها إلي درجة التوثين, وذلك بإيهامه أنه نسيج وحده, وعبقري زمانه, ومثله لم ولن تلد النساء.
والمهمة الثانية: إيهام الشعب بأن مصلحة الوطن وما يتهدده من أخطار خارجية وداخلية توجب قبول هذا الحاكم, فليس في الإمكان أبدع مما كان, ولا أبدع ممن كان, بحيث تكون مقاومة هذا الحاكم «الفلتة» أو معارضته, خيانة للوطن, وضربًا لمصالحه.
وكذلك تلجأ «جوقة المنافقين» إلي توظيف منطق التبرير المزوّق, فإذا ما ساءت الحال في عهد الطاغية اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا إلي درجة السقوط والضياع, رأيتهم يقولون «إنها علة طارئة علي مستوي العالم كله, وعن قريب تزول, ومرارتها ليست مرارة ضياع وشقاء, ولكنها مرارة «دواء» بعده شفاء, ثم رفاهية وسعادة».
ونذكّر القارئ في هذا السياق بأن الرئيس المؤمن محمد أنور السادات عاش طيلة سنوات حكمه يمنّي الشعب «بعام الرخاء», وعاش, ومات, ومازلنا في انتظار هذا العام الموعود.
  
سيادة القانون : الثمار والنتائج
      وفي ظل «سيادة القانون» تتحقق أطيب النتائج. ومنها:
(1) شعور الشعب بالطمأنينة والاستقرار النفسي, والسلام الاجتماعي.
(2) حرص المواطنين علي الولاء الصادق الأمين للوطن والنظام.
(3) الاعتزاز بالذات والقيمة الشخصية» فالمواطن يشعر أن هناك «قانونًا» يخدمه ويحميه, ويمكّنه من أن يجابه به كل من يحاول أن ينال منه, أو ينتقص حقوقه مهما كان مركزه. والاعتزاز بالنفس هو أساس نسيج الشخصية السوية المتكاملة.
(4) العمل الجاد الدائب, وزيادة الإنتاج» فالرابطة قوية متينة بين المواطن والنظام القائم علي أسس دستورية قويمة. والمواطن لا يستشعر أن هناك ما يهدده في حياته, أو أولاده, ومن ثم يوجه كل طاقاته وإمكاناته للعمل, وزيادة الإنتاج.
 
عندما تصبح السيادة للرئيس
وفي ظل «سيادة الرئيس» – الذي نحر القانون ليصبح هو القانون والدولة والنظام والحكمة والمرجعية – يختل كل شيء, وتبرز النتائج السيئة  ومنها:
(1) اختلال..- بل احتراق- قائمة القيم الأخلاقية النبيلة التي كان يعيش عليها – وبها – المواطن.
(2) فقد الثقة بين الحاكم والمحكوم, واتساع رقعة التباعد بينهما, وقد يترتب علي ذلك صراع بينهما يخسر فيه الوطن الكثير والكثير.
(3) اختلال «المعايير التقييمية» إلي درجة الوصول إلي طرفي النقيض: فيحكم علي الدكتاتورية بأنها حكمة وحزم وبعد نظر, وعلي الرشوة بأنها إكرامية وهدية وحوافز, وعلي الحماقة أو التهور بالشجاعة. وعلي تبلد الشعور بالوقار والرزانة والاتزان, وعلي الإسراف والتبذير بأنه كرم وسماحة, وعلي الاستسلام بأنه نبل وسلام.
(4) ضعف الشعور بالمسئولية, فلا يشغل المواطن نفسه بمصلحة الوطن, بل يهيمن عليه روح اللااكتراث واللامبالاة, وتتردد علي ألسنة المواطنين عبارات تفصح عن هذا الواقع مثل: «معلهش», «يا عم وأنا مالي», «يا عم شوف مصلحتك», «يا عم خليني في نفسي».
(5) ويترتب علي كل أولئك أن يفقد الوطن «هويته» «كموجود اعتباري» له مركزه وقيمته ومكانته بين دول العالم» لأن «الوطن» في عهد «سيادة الرئيس» وهيمنته أصبح مرادفًا «للرئيس», فالرئيس هو الوطن, وهو القانون, وهو الدولة, وهو النظام.
  اعتـبروا يا أصحاب السيادة

إننا ندعو الحكام الذين يستمرئون السيادة والهيمنة والظلم والدكتاتورية أن يقرءوا التاريخ قديمه وحديثه:
ومَن وَعي التاريخَ في صدرهِ
أضافَ أعمارًا إلي عمرهِ
ندعوهم إلي قراءته للمعرفة والاعتبار, وأن يضعوا نصب عيونهم درسًا خالدًا لم يتخلف, ولم يختل مرة واحدة. وخلاصته أن انتصارات الأمم مرتبطة بعدل حكامها, وسيادة القانون فيها. وأن هزائمها المنكرة مرتبطة باغتيال القانون, وسيادة الرئيس ودكتاتوريته. وحينما قال محمد بن عبد الله صلي الله عليه وسلم لرجل أصابه الخوف وارتعش في حضرته «هوّن عليك, فلست بجبار, ولا ملك, إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد» وحينما قال «والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها. إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف (الغني) تركوه, وإذا سرق فيهم الفقير أقاموا عليه الحد» حينما قال ذلك, وأخذ نفسه وأصحابه بقانون السماء… شرع الله , استطاع أن يبني دولة الحق والعدل والعلا والشموخ.
وحينما ارتكز عمر في حكمه علي العدل والرحمة والشوري, وحينما سمع رجلاً يقول له «اتق الله يا عمر» قال «ألا فقولوها» فلا خير فيكم إن لم تقولوها, ولا خير فينا إن لم نستمع إليها» كان بهذه الركائز وهذه القيم يقدم للتاريخ أسباب انتصار المسلمين علي القوتين العظميين: دولة فارس , ودولة الروم.
وانظروا بالمقابل – في تاريخنا الحديث «كيف قادت دكتاتورية هتلر ألمانيا إلي الهزيمة النكراء. وكيف أدت دكتاتورية موسوليني إلي هزيمة إيطاليا وانهيارها.
بل انظروا إلي ما نزل بنا من هزائم بشعة علي يد الصهاينة بسبب «السيادة والدكتاتورية الناصرية».
أقول انظروا واعتبروا… قبل فوات الأوان. وعلينا – نحن العرب والمسلمين – أن ننتصر بكل ما نملك من قوي وقدرات وإمكانات لهيمنة الحق والعدل وسيادة القانون, في مواجهة الظلم والدكتاتورية وسيادة الرئيس 
.

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img