img
سبعون عاما في حضن اللغة العريبة الحلقة 14
img
Print pagePDF pageEmail page

          سبعون عاما في حضن اللغة العريبة

الحلقة الرابعة عشرة

دماء في سبيل الله

       من المواقف ما لا ينسى ، بل يظل محفورا في القلب إلى الأبد ، ومنها الموقف التالي :

       ففي بيتنا بالمنزلة (مسقط رأسي) خصصت حجرة لمكتبتي التي ضمت عددًا كبيرًا من الكتب في الأدب والشعر والفكر الإسلامي.
      وفي يوم من منتصف الخمسينيات – من القرن الماضي – عدت من القاهرة إلي المنزلة لقضاء عطلة الصيف بعد أن أديت امتحاني في السنة الثانية من كلية دار العلوم. وشعرت بصدمة عنيفة, وأنا أري رفوف مكتبتي لا تحمل كتابًا واحدًا… ورأيت في عيون أبي وأمي, وأفراد الأسرة نظرات فيها انكسار وإشفاق» فهم يعلمون مدي اعتزازي بكل ورقة من كتاب…. وصرخت هائجًا بصوت مرتعش:
– أين كتبي؟… أين كتبي..؟
وبدأ أبي يهدئ من ثائرتي:
– معلهش كل شيء.. يتعوض إن شاء الله..
– يتعوض؟؟!!… يتعوض يعني إيه؟
– يا ولدي انت عارف إنهم يقبضون علي الإخوان… ودول ناس «جبارين»… لا يعرفون الرحمة, فاضطررنا إلي….
ولم أتبين بقية كلمات أبي… فقد دارت بي الدنيا, واستنتجت ما حدث.. – وهو ما تأكد لي فيما بعد- فقد نقلوا الكتب علي دفعات… وحرقوها دفعة دفعة في «فرن» بلديّ, ببيت أحد أقاربي المجاورين.
      ولا أستطيع أن أصور عمق حزني آنذاك.. إنه كحزن من فقد أبناءه جميعًا في محرقة لم تبقِ منهم حتي الرماد.
,

                                                **********

هذا يوم الحداد العام :

       سيظل شهر ديسمبر 1954 ـ وخصوصا يوم الخميس السابع منه ـ شهر سواد حالك في تاريخ مصر, وسيظل يوم الخميس التاسع من هذا الشهر نقطة عار في جبين حكومة العساكر التي حكمت مصر, ومازالت تحكمها حتي الآن. إنه اليوم الذي شنق فيه عبد الناصر ستة من أشرف وأنقي رجال هذه الأمة, هم الشهداء: عبد القادر عودة, ويوسف طلعت, ومحمد فرغلي وإبراهيم الطيب وهنداوي دوير, ومحمود عبد اللطيف. وكان القاضي الذي أدان هؤلاء المجاهدين الأشراف ضابطًا مجنونًا اسمه «جمال سالم» وطبعًا كان من أجهل الناس بالقانون, مجردًا من أبسط قواعد الذوق واللياقة والخلق والنبالة.
علي الطنطاوي وبيانه الإيماني :
وعلي الطنطاوي (1327-1420هـ) (1909 – 1999م) هو القاضي السوري المشهور, ويوصف دائمًا بأنه: «فقيه الأدباء, وأديب الفقهاء», لأنه يعرض فقهه وفكره – كتابةً أو حديثًا – بأسلوب أدبي طلي راق بليغ, في تدفق لا يعرف التصنيع والتكلف والافتعال.
وبعد إعدام الإخوان مباشرة كتب مقالاً طُبع في كتيب صغير, وطُبع منه أكثر من نصف مليون, وتُرجم بعد ذلك إلي اللغة الأوردية, كما ترجم إلي اللغة الانجليزية, ونُشر في كثير من صحف العالم. وأذكر أننا- ونحن في بداية التعليم الجامعي- قرأنا هذا البيان, وكنت أحفظ كثيرًا من فقراته.. ولم أتمكن من قراءته مرة ثانية إلا بعد صدوره بتسعة وأربعين عامًا -أي من بضعة أشهر- منشورًا في الجزء الثامن من «ذكريات» علي الطنطاوي (ص 16-22), وأنا أعد بحثًا عن (شخصية المكان في ذكريات علي الطنطاوي) نشر في مجلة الأدب الإسلامي.
هذا يوم الحداد العام..
كان عنوان هذا البيان «هذا يوم الحداد العام», وقد طُبع منه – كما ذكرت آنفًا – أكثر من نصف مليون نسخة, وتُرجم إلي الأوردية والانجليزية, ولأن أبناء هذا الجيل – أو أغلبهم – لم يقرؤه, وكمظهر من مظاهر الوفاء لذكري هؤلاء الشهداء الأبرار الستة. رأيت أن أقدم قطوفًا من هذا البيان,

إنه عرس لا مأتم..
استهل شيخنا بيانه استهلالاً أخاذًا بارعًا نصه:
” لو كان الأمر إليّ لما جعلته أمر حداد, بل يوم بًشٍر وابتهاج, ولما صيرته مأتمًا بل عرسًا, عرس الشهداء الأبرار علي الحور العين, ولما قعدت مع الإخوان أتقبل التعزيات, بل التهنئات. وهل يرجو المسلم شيئًا أكبر من أن يموت شهيدًا؟
وهل يسأل الله خيرًا من حسن الخاتمة» إني لأتمني – والله شاهد علي ما أقول – أن يجعل منيتي علي يد فاجر ظالم, فأمضي شهيدًا إلي الجنة, ويمضي قاتلي إلي النار, فتكون مكافأتي سعادتي به, ويكون عقابه شقاؤه بي.
عقاب.. وعقاب!!
هذا هو العقاب لا عقابك يا جمال, عقاب الله «الناصر» لأوليائه, القاهر فوق أعدائه, الذي ستقف أمامه وحدك, ليس معك جيشك, ولا دباباتك, ولا سلاحك ، ولا عتادك, تساق إليه وحيدًا فريدًا.. فيسألك عن هذه الدماء الزكية فيم أرقتها؟ وعن هذه الأرواح الطاهرة فيم أزهقتها؟ وعن هاتيك النساء القانتات الصابرات فيم رملتهن ؟ وعن أولئك الأطفال البرءاء فيم يتمتهم؟ وعن هذه الجماعة الداعية إلي الله, المجاهدة في سبيله, فيم شمّتَّ بها أعداء الله ورسوله ؟ ..
فعش كيف عشت, وسر مهما سرت, فهل تقدر أن تجد لك طريقًا لا يمر بك علي المحشر ؟ ولا يقف بك موقف الحساب؟ هل تعرف لك مُلكًا غير ملك الله؟ تفر إليه كما يفر المجرم السياسي من دولة أساء إلي حكامها, إلي دولة أخري تحميه منها ؟ وهل تظنها تدوم لك يا عبد الناصر؟ لو دامت لغيرك ما وصلت إليك.
ما أعظم الضحايا!!!
يا عبد الناصر جزاك الله بما تستحقه:
أوتعرف بمن ضحيت ؟ ضحيت بمن كان أعلم المسلمين بالشرع الجنائي في الإسلام, ومن سنحتاج إليه غدًا فلا نجده, ولا نجد مثله, فنبكي عليه حزنًا وأسفًا, ويضحك عدونا شماتة وسرورًا ؟ بمن ألّف الكتاب الجليل (التشريع الجنائي الإسلامي) الذي ترجم إلي كثير من لغات الناس, وتقرر تدريسه في الجامعات, وتزاحم الجميع علي تكريم مؤلفه, وبعثوا يطلبونه, فقيل لهم إنه لا يستطيع أن يحضر حفلات تكريم, لأن عبد الناصر كرّم علمه وفضلّه بحبل المشنقة.
يا عبد الناصر جزاك الله بما تستحق:
ضحيت بسيد المجاهدين الفرغلي و بالشيخ الذي أفزع بريطانيا حتي جعل راديو «فايد» – البريطاني – ينادي كل يوم ثلاث مرات, بأن من جاء برأسه فله خمسة آلاف, فجاءهم برأسه عبد الناصر, فيا عبد الناصر جزاك الله بما تستحق…. لقد كانوا جميعًا من أئمة التقي, ومصابيح الهدي, من الذين يقومون الليل, يقطعونه تسبيحًا وقرآنًا, ويجاهدون في النهار يملئونه جهارًا وإحسانًا
تعذيب.. وتعذيب
وأشهد لقد قرأت أخبار المشركين وتعذيبهم لمن آمن من قريش وما فعل أعداء الإسلام بالمسلمين من الطغاة الجبارين, كهولاكو وجنكيز, وما صنعت محاكم التفتيش في الأندلس, وما تصنع إسرائيل في فلسطين, في دير ياسين, وقبية, ونحالين, فوالله ما آلمني شيء كما آلمني ما صنع عبد الناصر وأعوانه بهذه النخبة الصالحة من المسلمين.
ولو كان في هؤلاء الشهداء قاتل أو مجرم, وحاكموه محاكمة, ثم عاقبوه قصاصًا, لما اعترضهم أحد, أما أن يكونوا من خيار المؤمنين, وأن يكون ذنبهم أنهم أعدوا السلاح للعدو وبعلم رجال الحكومة, وأنهم دربوا علي القتال والتدريب بعلم رجال الحكومة, وأنهم أعلنوا رأيهم في المعاهدة , وحق الرأي واحد من حقوق الإنسان, وأن تحاكمهم هذه المحكمة, وليست محكمة فيها قضاة…. وأن يكون الحكم علي هذه الصورة فهذه قصة فظيعة فظيعة فظيعة, بلغ من فظاعتها أن أجمع الناس – علي اختلاف البلدان والألسنة والألوان والمذاهب والألوان علي استنكارها..
عساكربلا فروسية..
ولست أدري كيف يلبس هؤلاء لباس الجند, ويحملون شارة العسكرية, وما سلكوا سبل البطولة, ولا استنوا بسنن الفروسية عند الفرسان..
أما أنتم يا أيها الإخوان..
وأنتم بلغتم الغاية اليوم حين امتُحنتم الامتحان الأكبر, امتحان الدم, ونجحتم, نجحتم والله, ولم تزعزع المشانق إيمان هؤلاء الإخوان, ولا هزت أعصابهم, ولقد قابلوا الموت مقابلة انحنت – إكبارًا لبطولتها وعظمتها – هامات الرجال في كل مكان.
واذكروا أن الشيخ الإمام حسن البنا – رحمه الله – كان قد أنذركم أنها لا تزال أمامكم مصائب شداد, واختبارات صعاب, وقد أقدمتم عليها, وأنتم عارفون بها.
والعاقبة لكم, إنها والله لكم, ولأنكم تمشون علي هدي الإسلام. المستقبل لكم, فلا تزعزعكم الأحداث, ولا تفتنكم عن إيمانكم, علي أن تبقوا صفًا واحدًا, لا تفرق بينكم الدنيا, ولا يقسمكم النزاع علي الزعامات, وأن تجعلوا إمامكم دائمًا كتاب ربكم .
وبعد.. فيا أهل الشهداء: الصبر الصبر. إن دموع العالم الإسلامي كله قد مازجت دموعكم, وقلوبهم جميعًا قد قاسمت الأسي قلوبكم, وكلهم أخ لكم وصديق. ومأتمكم صار مأتم دنيا الإسلام كلها, والله معكم, والله خير من الجميع.

 

                                           **********

       لقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال : ” إن من البيان لسحرا ، وإن من الشعر لحكمة ” . وما كتبه الشيخ على الطنطاوي يصدق عليه وصف البيان الساحر أو سحر البيان . إذ كانت كلماته تأخذ بالقلوب والمشاعر ؛ لأنها منطلقة من نبض إيماني صادق ، أوتي صاحبه القدرة على التعبير ، والتمكن من لغة القرآن ، فلا عجب أن يحفظ كثير من الطلاب والدارسين بيانه الصادق الساحر الذي جاء بعنوان ” إن من البيان لسحرا ” .

                                           **********

        ومن أدبيات هذه الفترة مسرحية نثرية… شعرية  كتبتها في صفحة واحدة وهي بعنوان : موت منكوس المهرج 

           وهي تعكس أمل الشعب المصري في التخلص من ” الزعيم الدكتاتور “.  والشخصية المحورية في المسرحية هو ” منكوس المهرج ” ، فهو زعيم مهزوم على يد أعدائه ، كما أن سياسته في التعامل مع الشعب هي سياسة الدجل والتهريج والبلطجة … أي ادعاء البطولة . وإلى القاريء نص هذه المسرحية :   

 [المنظرُ: جثمانّ فوق رصيف الشارع، صاحبهُ يبدو كهلا مفتول العضلات طويل القامةْ، أعْرَضُ ما يه قَفاهْ، يتجمعُ بعضُ المارةْ ويدورُ حوارّ لا يخلو من حُزنٍ واستغرابْ ]

الأول: رحمةُ الله عليه، كيفَ ماتْ؟

الثاني: شكلُه ليس غريبا.

الثالث: بل غريبٌ غجريُّ..

رُبَّمَا.

الرابع:  يا جماعه. ذاك أمْرٌ لا يُهم. أكرموا الميتَ غطوا وجهَهُ، ريثما يحضرُ مسئولٌ محقَّقْ.

الخامس: هات جُرناَلَك من فضلك كيما نستر الوجهَ بهِ.

السادس: خذه واترك ليَ أخبار الرياضهْ، فبها تحليل “متْشاتِ” الزمالكْ.

الثاني:  آه.. إِني قد ذكرتُهْ.. أعرفه.. أسمه الحركي “منكوسُ المهَّرجْ”. وافد لا نعرف أيان
ومن أين أتى. (غجريُّ) هكذا قال المعلم “أبّههْ” مستدلا بوشمات على زنديه والصدر وجنبي جبهتِهْ.

السابع: يا سلامْ!! كيف ماتْ؟ فجأةً؟     

الرابع: فجأة.. أو غير فجأةْ، ليس للموت كبير يا جماعةْ.

الثامن: كان بالأمس بميدان “الحداقة” –قد رأيته- عارضا فنا عجيبا، فتحدى خمسة قد كتفوه بجنزير حديد، في دقائق فك نفسه، غير لوح من زجاج يمضغه، دون أن يُؤذَي بخدش واحدٍ، بين تصفيق مدوّ، وهتافات تعالت: “عاش منكوس المهرج”.

التاسع: يا جماعة. قد نسيتم أظهر الملكات فيهْ: كان “أستاذًا” يجيد الرقص كله: غجريا.. بلديا.. وفنون الزار والجاز وموسيقي النّـوَرْ.

الثاني:  كان عملاقا وموهوبا ولكن كيف مات؟

التاسع: ربما قد مات من ضربة شمس.

الثامن: في يقيني أن ما قلت حقيقةْ: ذات يوم قد سمعتهْ، قال في مقهى المعلم “أبههْ “: “أكره الشمس، وضوء الشمس والدفءَ، وأن أفتح شباكًا لنورْ. فأنا عشت حياتي أعشق المجهول والمحجوب والسر الدفين. وأحب الليل والبدر إذا كان محاقا”.

[الزحام اشتد وامتد فسد الطرقات. فجأة: انشقت الأرض على صرخات ملتاع دميم السحنةِ – ينحنى فوق الجسد. يرفع الجرنال عن وجه الفقيد]

الرابع:  أنت يا هذا دع الميت للهِ.. فللموت علينا حُرماتْ.

الدخيل: لا تُـراعُوا.. فأنا المنقذ المحجوب والموهوب والمحبوب معشوق الفقيدْ.

الأول:  فلماذا لم تبكّر بالحضور. قبل أن يُـدهَم بالموت الزؤام؟

الدخيل: أنا.. لا أظهر إلا وقت “زنقهْ “. إنه سر حياتي.. أكل عيشي، إنه لو مات “منكوس” حبيبي لا يعد العيش في الدنيا بعيش.

السابع: (باستغراب): إنه لو مات ؟؟!! هل عميتْ ؟ إنه شبعانُ موتًا..

الدخيل: لاتراعوا.. لم يزل في الوقت فرصة.

[ينحني هذا الدخيل “المنقذ” فوق جثمان الفقيد، معطيًا إياه “قبلات الحياة”. ويطيل النفخ حتى تجحظ العينان منه]

السابع: لا حراكْ.. جسدُ المنكوس مازال بلا أدنى حراك!!

[ويوالي المنقذ النفخ بلا جدوى . وفجأة: يسقط النافخ- كالمنفوخ معدوم النّـفَسْ ]

الأول:  لا إله إلا اللهْ. سقط (المنقذ) لا حسّ بهِ.

الرابع:  وحدوووه.. أمره إن قال: “كن” للشيء “كان” . يستوي المشهودُ والمحجوبُ فيها، فانظروا: جَمَعَ الموت هنا ما بين ” منكوس مهرجْ ” ودعِيّ زعم القدرة في منح الحياهْ ، فهوى كالحائط المشروخِ معدومَ الحياهْ …

                                              ستار

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img