سبعون عاما في حضن اللغة العريبة
الحلقة الخامسة والعشرون
اللقاء الأول مع التوجيه الفني
الخيرة فيما اختاره الله ، وقد عزمت وتوكلت على الله ، وقلت بيني وبين نفسي ــ بقناعة واقتناع ــ ” إنها صفحة جديدة لابد أن يكون لها مكان في حياتي العلمية والتعليمية ” .
أنا من الأن موجه اللغة العربية في إدارات تعليمية ثلاث ، تضم ثلاثة عشرة مدرسة في المرحلة الإعدادية ، مع ملاحظة أن الموجه كانوا يطلقون عليه كلمة أو وصف ” المفتش ” .
وقد عاهدت الله ــ سبحانه وتعالى ــ أن أقصد بعملي وجهه ، وخدمة العلم والتعليم . وفي السطور الأتية أعرض تجربتي في هذه المدارس المذكورة ، وبعض انطباعاتي ، وملاحظاتي :
ــ كانت كل تنقلاتي من القاهرة إلى العياط ومدارسها المختلفة بسيارتي
الخاصة التى اشتريتها من الكويت ( فولكس 1971 ) ، ورفضت أن أتقاضى ما يسمى ” بدل التنقلات ” ، متمثلا بقول أبي بكر الصديق ــ رضي الله عنه ــ ” وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله ؟ ” . قالها وهو يودع أسامة بن زيد الشاب قائد الجيش المسلم المنطلق للأخذ بثأر المسلمين الشهداء في ” غزوة مؤتة ” . وكان أسامة يركب حصانه ، وأبو بكر يودعه سائرا على قدميه ، فقال أسامة : “يا خليفة رسول الله ، سانزل وتركب أنت … فقال الصديق ــ رضي الله عنه ــ والله لا تنزل ، والله لا أركب ” وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله ؟ ” .
ــ استهنت بالمتاعب التى لقيتها في ذهابي الأول إلى هذه المدارس ، وحدث من المتاعب ما يجعلني أتوقف لأقول إنني فوجئت ذات يوم بأمطار شديدة ذات لون أصفر ، فتعجبت وسألت عن سر صفرتها ، فقيل لي إنها أمطار ملوثة بغبار مصنع ” الاسفنج ” في هذه المنطقة .
وذات يوم قطع الضباب ( الشبورة ) علىَّ طريقي فلم أستطع أن أمشي بسيارتي شبرا واحدا ، ووقفت كل السيارات على الجانب الأيمن إلى أن انقشع الضباب بعد ساعتين من الوقوف الممل .
ولا أنسى ما كنت أعانيه في وصولي إلى مدرسة ” بـَــْرنشت ” فالطريق إليها طريق ضيق جدا لا يكاد يتسع لأكثر من سيارة .
ــ من استقرائي الأول لحال اللغة العربية في هذه المدارس اكتشفت أنها في حاجة إلى عناية كبيرة ، وجدية في التعامل حتى تستقيم حالتها ، وأذكر بعض هذه الحالات المؤسفة :
أ – إحدى المدارس مدرسها الأول للغة العربية ، من علية القوم ، وأغنياء البلد ومن أصحاب المزارع ومحاضن الدجاج . طلبت منه قائمة بأسماء المدرسين الذين يشرف عليهم لأدخل فصولهم مـُـقـيِّـمــا ( وقد جرى العرف ألا يدخل الموجه الفصل الذي يدرس فيه المدرس الأول ) . ولكني خالفت هذا العرف ، وفوجئ هذا المدرس الأول بي ، وكان الدرس في التربية الدينية عنوانه : ” التعاون في الإسلام ” … السبورة لا تحمل كلمة واحدة ، وسيادته ليس معه كراس تحضير ( وهو الكراس الذي يثبت فيه المدرس بياناته : التاريخ ، وقت الحصة ، عنوان الدرس ، خلاصة لمضمونه ) . ولكن دعك من هذا ، فقد وقفت استمع لشرح المدرس الأول ، فلم أجده ينطق كلمة واحدة بالعربية الفصيحة ، بل كانت كل كلماته بالعامية الساقطة . وما زلت أحفظ من هذه الكلمات :
” الإسلام …. بيدعونا إننا كلنا نبقى متعاونين ، فمثلا إللي معاه رغيف ، بدل ما يكله لواحده يكلوه اتنين ، انت معاك فلوس ، أنا ممعياش ، يقوم إللي معاه يدي للي ممعاهشي … الخ ” . وبعد انتهاء الحصة سألته عن ” دفتر إعداد الدروس ” فزعم أنه نسيه فس السيارة . سألته وأين السيارة ؟ فأجاب بتتصلح في المنيل .
ب ــ ومدرسة أخرى نظرت من نافذتها ، فرأيت أحد المدرسين يجري بعيدا عن المدرسة ، وعلمت أن هذا المدرس آية في الإهمال والجهل ، ويخشى أن ” يصيده ” الموجه الجديد . إلى أن اصطدته ذات يوم وهو يشرح درسا من دروس النحو ، واكتشفت في النص المساعد ــ وهو من نصف صفحة ــ 13 غلطة نحوية ، كان تقديري له لا يزيد عن مقبول ، وعلمت أنه قبل توجيهي كان صاحبنا هذا حاصلا على 99 % ( ولكنه رجل كريم مبسوط اليد على بعض الرؤساء ) .
ج ــ ومدرسة أخرى لم أكن أصل إليها إلا بصعوبة ــ وهي بلا سور ــ رأيت ثلاثة من عمالها ( الفراشين ) جلسوا على الأرض وأمامهم موقد الجاز وعليه بعض الفحم يدفئون عليها أيديهم ، وكأنهم ليسوا في مدرسة . عجبت مما رأيت ، ودخلت إلى الناظر ، وأبديت له تعجبي مما أرى ، فكان جوابه : أعمل إيه ، فأنا مكره على أن اقبل ما أرى ؛ فريس الفراشين ” عم محمد ” يملك ثلاثين فدانا ، ويزرعها بنبات طبي اسمه ” بردقوش ” ، ويبيع المحصول كل عام بعشرات الألاف من الجنيهات . سألت الناظر : وما الذي يجبره على هذا العمل المهين ؟ فكان جوابه : ده مزاج حتى إذا سئل عنه في بيته أجابت زوجته : دا راح مدرسته تماما كما تقول زوجتي لمن يسأل عني في منزلي .
د ــ توجهت إلى إحدى المدارس فوجدت خلافا حادا بين ناظر المدرسة وأحد مدرسي اللغة العربية وصل إلى أحد التضارب . وحمدت الله إذ تم التصالح على يدي . وأمنت أن الدعوة إلى الحب المتبادل هو أصل من أصول شريعتنا الغراء .
**********
وأحمد الله إذ نجحت في عملي بفضل منه ، وكان من أسرار هذا النجاح : احترام الذات ، ونظافة اليد ، فأعلمت كل هيئات التدريس أنني لا أقبل هدايا ، ولا أزور أحدا في منزله ، ولا أكلف واحدا بشراء شيء لي مدفوع الثمن . وأذكر أن قرية مشهورة باللحم الطيب ، عرض علي ناظر مدرستها أن أشتري بعض اللحم ، وقال : استرح أنت فالفراش سيحضر لك اللحم ، فرفضت العرض ، فعلق الناظر : ولكنك ستدفع ثمنها . قلت : هذا صحيح ، ولكن من يشعر الناس أنني دفعت الثمن . أنا مؤمن بقول رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ ” اتقوا مواطن الشبهات ” . وذكرت له ما أثِـر عن عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ من أنه رأى رجلا يتحدث مع امرأة في الظلام ، فضربه بدرته . قال الرجل ” يا أمير المؤمنين … إنها أمي ” . فزجره عمر ، وقال : ” والله أنا أدري ، ولكن من يعلم الناس ؟!! “.
واتبعت خطة أتت أكلها الطيب وهي الجمع بين النظري والعملي : فكنت أقيم بعض المدرسين ، وأوجهه شخصيا لما يجب أن يتبعه ، ثم في نهاية الجولة أجمع المدرسين وأصارحهم بالعيوب المشتركة بينهم . ولكن الأهم من ذلك أنني كنت أجمعهم وأقوم بتدريس حصة كاملة في أحد الفصول بحضور المدرسين جميعا . مع التنويع في نوعية الدرس : فحصة للتربية الدينية ، وأخرى للنصوص ، وثالثة للنحو … إلخ . وكانت هذه التربية العملية الفعلية أجدى بكثير جدا من التوجيهات النظرية .
***********
وهناك ظواهر يؤسف لها رأيتها بنفسي وهي : خلو المدارس من المكتبات المدرسية خلوا يكاد يكون تاما ، وبلغ الفقر بالمسئولين الكبار أن بعض الفصول لم يكن بها سبورة ، ولكن يستعاض عنها بصبغ الحائط الأمامي من الفصل باللون الأسود ليكون في شكل السبورة .
هذا وقد تسلمت تكليفا من إدارة التوجيه أنا والزميل الأستاذ عبد الرحمن هريدي بوضع امتحان الشهادة الإعدادية لإدارات الجيزة كلها ، وذلك بإشراف الموجهين الأولين الأستاذين سالم عمارة ، وعبد المقصود زيدان . إنها أول مرة أشنرك فيها في وضع امتحان شهادة عامة ، كنت مترددا في قبول هذا التكليف لضيق وقتي … ولكني رجعت عن ترددي وعزمت على القيام بما كلفت به ، لأسباب متعددة أهمها :
- العمل في نظري عبادة ، والتخلي عنه إخلال بالرسالة التى أؤديها ، وإلغاء لنقاء الضمير .
- هذا أول عام لي في التوجيه وتكليفي من وكالة الوزارة بمثل هذا العمل بعد قرابة شهر واحد من ترقيتي موجها دليل على ثقة كاملة بي، وسمعة طيبة لي . ورفضي لهذه المهمة ــ ولا شك ــ سيهز هذه الثقة ، ويسيء إلى هذه السمعة .
- شخصية الأستاذ إبراهيم الكاتب الذي حمل التكليف إليَّ شخصية آسرة ، ذات تقوى وعلم وأريحية ، فلم أرد أن أبدي رفضا للتكليف ، بل قبلت عن قناعة واقتناع .
***********
وعلى سبيل الاستطراد أشير إلى حادثة بل حوادث هزت مصر كلها : ففي يوم الثلاثاء 18 من يناير سنة 1977 كنت أقوم بعملي التوجيهي في مدرسة ” مزغونة ” بإدارة البدرشين التعليمية ، وفي عودتي من مزغونة أردت بسيارتي أن أجرب طريق حلوان من ناحية كوبري ” المرازيق ” ، بطريق ” التبين ” . ولكن قيل لي : ” لا تذهب ؛ فهناك مظاهرات صاخبة في مصانع حلوان ” ، فسرت في طريقي الطبيعي : البدرشين ــ الحوامدية ــ الجيزة .
ثم علمت أن مظاهرات صاخبة قد قامت في أنحاء شتى من القاهرة ، والمدن الكبرى في المحافظات الأخرى ؛ وذلك بسبب قرار الحكومة الفجائي برفع أسعار السلع الضرورية والكمالية . حقا لقد كان قرارا غير موفق في موضوعه وتوقيته .
وفي المساء اتصل بي أحد الزملاء هاتفيا وأخبرني أن هناك تخريبا مريعا داخل العاصمة ، فانطلقت بسيارتي في الحادية عشرة مساء إلى ميدان التحرير ، كان الميدان مليئا بحطام الزجاج والحجارة المتناثرة هنا وهناك ، والمواصلات متوقفة تماما بما في ذلك التاكسيات . وفي الميدان مئات من الناس يشيرون بأيديهم للسيارات الملاكي طمعا في وقوفها لتوصيلهم إلى الأماكن التي يريدون ، ووقفت وقمت بتوصيل بعض الواقفين إلى أول ” حي المنيل ” ، وهناك شاهدت عشرات من الشباب والصبية وقد أضرموا النار في كشك هيئة النقل العام ، ورجال الشرطة ” يتفرجون ” ولا يتدخلون ، وقمت كذلك ــ لوجه الله ــ بتوصيل آخرين إلى العجوزة ، وكان أثر التدمير واضحا في المصابيح والإعلانات الزجاجية المهشمة .
واليوم ” الأربعاء 19 /1 /1977 ” يظهر أن الوضع قد تفاقم ، والنار ازداد سعارها ، فأصدرت الحكومة أمرا بحظر التجول ابتداء من الساعة الرابعة مساء ، وبقلق شديد انطلق الناس إلى محال البقالة والمخابز ، والكل حريص على
” تخزين ” ما يفي بحاجته ، وحاجة أسرته ، وخصوصا الخبز .
وتوالت بيانات وزارة الداخلية ، ومنها : تعطيل الدراسة ابتدائا من 19 / 1 إلى 3 / 2 / 1977 ، كما صدر قرار بإلغاء قرار زيادة الأسعار ، وإبقاء الأسعار على حالتها القديمة .
وهناك عدة ملاحظات تستوقف النظر في هذه الأحداث . من أهمها :
- كثرة المشتركين ــ في التخريب ــ من الأطفال والأحداث . مما يدل على أن الطفولة في مصر تمثل مشكلة ، لا بمعنى كمي يعني كثرة عدد الأطفال ، ولكن بمعنى كيفي موضوعي … فالأحداث في مصر يعانون الفراغ النفسي القاتل … يعانون الضياع … ليس هناك استغلال منظم لفترات الفراغ عند الأطفال … ليس هناك اشباع عاطفي ، وعَقدِي يدفع الحدث إلى الولاء .
- كان موقف الشعب من هذه الأحداث متمثلا في الفئات الآتية : أ ــ فئة الشيوعيين الناقمين على وضع الحكومة ، أيا كانت تصرفات القائمين على الحكم ، أي بصرف النظر عما في مسلك الحكومة وقراراتها من صحة أو غلط ، وهؤلاء ولا شك قد استغلوا ” الغلطة القاتلة ” للحكومة وأعني بها قرار رفع الأسعار ، دون تهييء نفسي للشعب . نعم استغلوا هذه الغلطة فأصابوا الحكومة في مقتل ، وربما كانوا هم الذين أوعزوا لفئات الشعب المختلفة بالتظاهر والتخريب . ب ــ فئة الناقمين على الحكومة لأسباب متعددة من غير الشيوعيين ، ومن هؤلاء بعض المتدينين الذين هاجموا ملاهي شارع الهرم ، وأتلفوا كثيرا من محتوياتها . وخصوصا المشروبات الروحية ، جــ ــ فئة الناقمين … وبتعبير أدق غير الراضين عن الحكومة لأسباب متعددة ، ولكنهم لم يفقدوا ولاءهم لمصر ، فهم يؤمنون بأن ” البلد بلدنا لا بلد الحكومة ” . وأن أي إضرار بالبلد في أي مرفق من مرافقه يعد خيانة للوطن ، وإساءة إلى الدين ، وتتمثل هذه الفئة في الإحوان المسلمين ، فهم لم يشتركوا في هذه الأحداث ، ولكنهم لم يقاوموها . د ــ فئة المنساقين انسياقا عفويا بعقلية جماهيرية جماعية ساذجة ، سطحية التفكير ، فكانت استجابتها تلقائية لا واعية ، دون أن يكون لها أيديولوجية معينة ، تخلص الود والولاء لمصر . وأغلب هذه الفئة من الأحداث .
***********
وما قدمته في هذه الحلقة التى اتسعت لتوجيهات وأخبار وملاحظات …
جاءت في كلمات موجزة كنت فيها صادقا مع نفسي ومع الآخرين ، أقدمها للقراء والمعلمين والمختصين ، قاصدا بها وجه الله سبحانه وتعالى ، وما زلنا ــ الاستيفاء هذه المرحلة ــ في حاجة إلى حلقة تمثل اللقاء الثاني مع التوجيه الفني . والله ولي التوفيق .
اترك تعليقاً