سبعون عاما في حضن اللغة العريبة
الحلقة الحادية والعشرون
في الكويت
انتهيت في القاهرة من إنجاز كل الأوراق المطلوبة للسفر إلى الكويت . وغادرت مطار القاهرة في 26 من سبتمبر سنة 1970 للعمل مدرسا في لإحدى مدارسها . وكنا مجموعة من المدرسين من مختلف محافظات مصر . استقبلنا مندوب وزارة التعليم الكويتية ، وأنزلنا في استراحة الكلية الصناعية بمدينة الكويت .
وبعدها بيومين توفي عبد الناصر . ووزع الأساتذة على المدارس المختلفة ، وكان وضعي في مدرسة ” ثانوية الجاحظ ” بحي ” الدسمة ” . كنت بمفردي ؛ لأن المعار لا يستطيع أن يصحب أسرته معه إلا بعد مرور عام ، كانت كل حجرة تضم أثاثا متواضعا ، وفيها دورة مياه ، وهناك عامل” فراش ” يقوم بتنظيف الحجرات وتنظيمها كل يوم .
وأبدأ بالحديث عن انطباعاتي من أول خطوة خطوتها في أرض الكويت :
كان الجو حارا جدا ، وعلى طول الطريق تناثرت أشجار عجفاء ذات زهر أصفر ، قيل لنا إنها أشجار ” السـَّلـَم ” . حينئذ تذكرت الشاهد النحوي الذي وقفنا عليه في كلية دار العلوم وهو قول الشاعر :
ويوما توافينا بوجه مقسَّم = كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم
وأذكر أن أحد الأطباء الكويتين قال لي : إن هذا الشجر يسبب أمراض الحساسية والأنفلوانزا والزكام . سألته : ولماذا لا تقطعه الحكومة من الشوارع ؟ . أجابني قائلا إن ذلك يرجع إلى سببين :
- أن هذه الأشجار أنسب المزروعات لتلطيف الجو الكويتي .
- أن علاج الوعكات المذكورة أقل في تكاليفها بكثير جدا مما لو أعادت الدولة زراعة هذه المناطق بأشجار بديلة .
**********
استقر بنا المقام في الكلية الصناعية مؤقتا ، وكان أول ما فكرنا فيه هو النزول إلى أسواق الكويت ، كانت الأسواق مزدحمة بالبضائع وخصوصا الآليات مثل ” الراديو ، والمسجل ، والمراوح الكهربية ” ، وكذلك محلات الساعات ، بل كان بعض الباعة الجائلين يبيعون الساعات ، وحذرنا أحد الكويتيين من التعامل مع هؤلاء ؛ لأن ما يبيعونه تزييف للماركات العالمية للساعات . وهناك محال مكتظة بالأقمشة والملابس ، وهناك محل مشهور اسمه ” الأمل ” يبيع فانلات ” المارسيليزيه ” ، وهذا النوع لا وجود له في مصر .
وتكثر في هذه الأسواق محلات السجائر والتومباك . وهناك محلات العصير التى تقوم بعصر الفاكهة التى تريدها ، ومنها التفاح الذي لا يعصره محلات العصائر في مصر . ونلاحظ أن كل البضائع في هذه الأسواق مستوردة ، وليس هناك مصنوعات وطنية ذات قيمة . ونلاحظ كذلك أن الصين أغرقت هذه الأسواق بإنتاجاتها على اختلاف أنواعها . حتى أصبحت مزاحمة لمنتجات البلاد الأوربية .
**********
ثانوية الجاحظ مدرسة كبيرة ، وفيها عدد كبير من الطلاب الفلسطينين ، وقليل من العرب والمصريين ، ومن مدرسي اللغة العربية فيها عبد الفتاح المليجي ، وعبد الله أبو النجا ، وأحمد المنشاوي ( وهو المدرس الأول ) . وفي المدرسة مدرسون مصريون لمواد مختلفة منها الرياضة ، والطبيعة ، والكيمياء .
ومستوى الطلاب متوسط ، وكثيرون من الطلاب الكويتيين يحضرون إلى المدرسة بأفخم السيارات وأحدثها . همس أحد المصريين في أذني وقال إن الطالب هنا إذا لم يغير سيارته كل عام يعيش وكأنه ارتكب إثما كبيرا . وقص علي قصة غريبة خلاصتها أن أحد الآباء رفض أن يشتري لابنه سيارة أحدث ، لأت سيارته لم يمض عليها أكثر من عام . فما كان من الطالب إلا أن ” سكرب ” السيارة أي صدم بها ــ عن قصد ــ شجرة عدة صدمات ، فأصبحت السيارة لا تصلح للاستعمال ، وبذلك أرغم أباه على أن يشتري له سيارة جديدة موديل العام .
بدأت التدريس للصف النهائي بالمدرسة ( الصف الرابع ) ، والحمد لله وفقني الله إلى حد كبير في عملي ، ووجدت الطلاب يقدرونني ويحترمونني ، ويعشقون حصتي . كان الناظر ” أحمد الرومي ” رجلا طيبا ، يعتز بالمصريين ، ويقدرهم ، أما وكيل المدرسة فكان فلسطينيا ، وكان كذلك طيبا وإداريا ناجحا ، ومن أظهر المدرسين في المدرسة الأستاذ حسين الصفتي المدرس الأول للرياضيات ، فقد جمع إلى علمه الموفق في التدريس حكمة القضاة ، فكم حل من مشكلات المصريين الذين تسوء علاقتهم مع إدارة المدرسة ، ويحاول أن يوجه إخوانه توجيهات نافعة ، ويزيل ما بين الإدارة وبين بعضهم من جفاء .
لقد ضم المسكن الذي ننزل فيه فرادى من غير أسر … ضم شخصيات متعددة المشارب والملامح من المدرسين : فمنهم الأخ عبد الله الدياسطي مدرس اللغة العربية وهو ” دمياطي الجنسية ” وكنت أعتبره أقرب الأصدقاء إلى قلبي .
أما أظرف الشخصيات فهو أحمد عبد الحفيظ مدرس اللغة الإنجليزية ، وقد لازمته عادة غريبة جدا ، وهي أنه كان يكلف أي زميل ينزل إلى السوق بأن يشتري له فاكهة أو جبنا أو ما شابه ذلك ، وكان الإخوة ينتظرون ما يستقبله هو فيأتون عليه في دقائق ، فإذا كان جبنا يكونون قد أعدوا الخبز ويهتكون حرمة الجبن حتى يأتوا عليه ، وكذلك الفاكهة والحلوى ، ولا يملك إلا التسليم وهو لا يكاد يتفجر غيظا .
وفي منتصف العام اشترى سيارة جديدة ، وأقنعه أحدهم أن قيادة السيارة عميلة سهلة ، فأخذ يتمرن على قيادتها في محيط المسكن ، وفجأة أتت سيارة أحد الكويتيين وصدمتها من الجانب الأيمن حتى أصبحت السيارة مثل حرف U “ ” ، وقذفت به الصدمة بعيدا عن السيارة بقرابة سبعة أمتار ، فلما نهض وجد الأخ الكويتي يقول له : مبروك يا أخي طال عمرك ، والله من اجل سلامتك لازم تدبح جوز خراف ” أي خروفين ” . وصرخ أحمد في وجه الرجل ” روح يا شيخ ربنا يخرب بيتك ، عاوزني أخسر السيارة وخروفين كمان . وحملت السيارة لكي تأخذ مكانها في مقبرة السيارات المنفية التى لم تعد تصلح للركوب ولا للتصليح؛ فتصليحها يتكلف أكثر من ثمنها . ومن هنا أشتهر أحمد عبد الحفيظ بــ ” أحمد خلقة ربنا ”
**********
و كان موجه اللغة العربية هو الأستاذ الشاعر عبد العليم عيسى ، وهو شخصية متكاملة في كل شيء … مظهرا ومخبرا : فقد كان أنيقا جدا في ملبسه ، كما كان عالما واسع المعرفة ، وكان ــ كما قلت ــ شاعرا له وجوده ومكانته في مصر . كما أنه عليم بالمناهج ، وطرق التربية الحديثة . وقد تعود في أول اجتماع له مع هيئة التدريس بأية مدرسة أن يطرح سؤالا عاما وكل مدرس عليه أن يجيب عن هذا السؤال . واذكر انه طرح السؤال التالي في أول اجتماع لنا معه :
ـــ من جوامع الكلم : من بدا جفا … أريد أن أسمع رأيكم في هذا التعبير
الموجز .
وأدلى كل منا بدلوه في المعروض : فبعض الإخوة تحدث عن مفهوم
” جوامع الكلم ” ، وساق عدة نماذج من جوامع الكلم ، مثل : الصبر ضياء ــ الصوم جُــنـة ــ من لا يرحم لا يرحم .
اما الأستاذ عبد العليم فقد عالج هذه العبارة من زاوية أخرى وهي : تأثير البيئة في حياة الإنسان ، وسلوكه وإبداعاته ، فشعر البادية فيه جفاء وخشونة ، وضرب لنا مثلا من الشعر القديم ، وهو ما قاله الشاعر البدوي على بن الجهم في مدح الخليفة المتوكل إذ قال :
أنت كالكلب في حِفاظِكَ للود = وكالتيسِ في قراعِ الخطوبِ
أنت كالدلوِ لا عدمنــاك دولا = من كبار الدلا كثير الذنــوبِ
فلما عاش عيشة القصور والحضارة والرفاهية تحول إلى شاعر آخر في رقته ، وتصويره الأسر . فمن قصائده المشهورة قصيدته الرائية ،وهي من ستة وخمسين بيتا . ونقطتف منها الأبيات الآتية :
عيون المها بين الرصافة والجسر = جلبن الهوى من حيث أدري ولا ادري
ومنها :
وبتنا على رغم الحسود كأنــــنــــــــا = خليطان من ماء الغمامة والخمرِ
فقلتُ اسأتِ الظنَّ بي، لستُ شاعرا = وإن كان أحيانا يجيشُ بهِ صدري!!
فما كل من قادَ الجيادَ يسوســـهـــــا = ولا كل من أجرى يقالُ لهُ مُجري!
ومن قال أن البحر والقــــطــرِ أشبها = يَداهُ، فقد أثنى على البحرِ والقـَطرِِ
واستشهد الأستاذ عبد العليم بشعر شعراء أهل الأندلس ، فشعرهم في مجموعه أرق من شعر المشارقة . وأفاض الأستاذ عبد العليم في الحديث عن نظرية تأثير البيئة في الإنسان ، بل في الحيوان والنبات .
وكان هدف الأستاذ عبد العليم من هذه المطارحات أن يكشف حصيلة كل مدرس من المعارف المختلفة . وكان حكمه دائما صائبا .
وللحق أعترف بأنني أفدت من الأستاذ عبد العليم وانتفعت بكثير من منهجه وتوجيهاته . وهذا الانتفاع خدمني وانا في مصر في رتبة موجه للغة العربية ” مفتش ” .
**********
وكانت إدارة المدرسة كأسرة واحدة في تعاونها ، واليوم الدراسي يبدأ من السابعة والنصف صباحا ، وينتهي بعد الواحدة والإدارة تهتم جدا بنسبة الحضور . أما مستوى الطلاب بصفة عامة فقد كان متوسطا : فالطالب الكويتي مشغول بسيارته ورفاهيته ، والطالب الفلسطيني مشغول بهمومه ، ومشكلات الغربة ، وكذلك بقية الطلاب العرب المغتربين من سوريا ولبنان والعراق وغيرها .
وبجانب المدرسة عدد كبير من ” الفيلات ” الجميلة الأنيقة ، وزعتها الحكومة على البدو ، ومع ذلك لم يكن البدوي لينسى حياته الصحراوية ، فكانوا يلتقون في فناء القيلا جلوسا على الحصير ، أما المقاعد فليس لها قيمة في أنظارهم . وبجانب المدرسة ( جمعية الدسمة الاستهلاكية ) ، وهي تشبه إلى حد كبير ” السوبر ماركت ” في وقتنا الحالي ، وإن كانت هي أوسع وأشمل .
**********
ومن الصحف اليومية في الكويت السياسة ، والقبس ، والوطن . واشتهر في الكويت من الأدباء الشاعر خليفة الوقيان ، وخالد سعود الزيد ، ومن القصاصين سليمان الشطي .
وقد توثقت الصلة بيني وبين الأخ الزميل عبد الفتاح المليجي مدرس اللغة العربية ، والذي يعمل صحفيا مرموقا في مجلة الرائد ، وكان يرأس تحريرها الأستاذ الفاضل سليمان فياض ، وطلبا مني أن أكتب مقالات وخواطر في مجلة الرائد ، فبدأت الكتابة الصحفية بحماسة وانطلاق ،
وأذكر بهذه المناسبة معركة حامية الوطيس موضوعها أدب التحرير وأدب المقاومة سنعرض لها في حلقة قادمة إن شاء الله .
وهناك واقعة لا أنساها وهي أنني دعيت إلى ندوة في نادي المعلمين يتحدث فيها سعد الدين ابراهيم (المصري) ، وعالم شيعي اسمه ” الكوراني ” ، وتحدث الجميع بحرية وجرأة تعجبت لها ، وكنت أنظر حوالي بين الجمهور معتقدا أن بين الجمهور رجال أمن سريين سيقومون باعتقال المتحدثين في جرأة مذهلة ، وانتهت الندوة بصورة طبيعية ، وعلمت أن الكويت تتمتع بحرية شاملة في كل المجالات . لقد استهولت ما حدث أمامي ؛ لأنني أتيت من مصر بلد الظلم والاضطهاد ، والسجن والمعتقلات .
وفي ظل هذه الحرية في الكويت تمكنت من قراءة مجلدات (في ظلال القرآن ) للشهيد سيد قطب ، وغيرها من الكتب الممنوع دخولها إلى مصر .
**********
وفي يومياتي مساء الأربعاء 2 من يونيو 1971 كتبت السطور الأتية : أجلس الأن في وحدتي ، وقد قارب الليل ان ينتصف ، أستمع لأغنيات فيروز … تسري نبراتها في أوصالي فتمسح عن نفسي غبار التعب وأثقال الإعياء .
وأسرح بخاطري إلى هناك …. إلى القاهرة حيث أحبابي وأفلاذ كبدي ، وأسأل نفسي : أيأتي اليوم الذي أعانق فيه ولدي ” ياسر” وابنتي الحبيبة
” لمياء ” ؟ وأرى فيه ” حنان ” التى لم أكحل عينيا بمرأها حتى الأن ؟ لأنها ولدت في القاهرة وأنا مغترب في الكويت .
أيأتي هذا اليوم الذي أصبح فيه بين أسرتي ؟ وتذهب عني حيرتي ، وينقضي قلقي ؟ … أيأتي هذا اليوم أم هو حلم من الأحلام ؟
ولا أنسى أنني في يوم 7الأحد من مارس سنة 1971 كادت الدموع تطفر من عيني وأنا أدرس في الفصل نص إبراهيم عبد القادر المازني وأنا أقرأ استشهلده بقول الشاعر :
صيد حُرمناه على إغراقنا = في النزع والحرمان في الإغراق
وأصابني راعد من الذهول ، وأنا أصاحب الكاتب ، وهو يحمل ابنته الصغيرة إلى مثواها الأخير ، ويسوي تراب القبر بيديه ، ويبعد عنه الحصى الدقاق ؛ حتى لا يؤذي جسمها الرقيق … ودفنت أساي في قول ابن الرومي الذي ختم به نصه :
لم يخلق الدمع لامرئ عبثا = الله أدرى بلوعة الحزن ِ
**********
وغدا ” الخميس 3 من يونيو 1971 ” سيصرف لنا من ” بنك الدسمة ” مرتب أشهر الصيف أي قرابة 380 دينار كويتي . وقد انتويت أن أودع منها قرابة 200 درينار كمقدم لسيارة أنوي شراءها في العام القادم إن شاء الله . لم يعد إلا أيام تعد على أصابع اليد وأنطلق إلى القاهرة في عطلة الصيف لألتقي بأسرتي وأعد العدة لمصاحبتها إلى الكويت .
فاللهم كن معي وحقق أمالي ولا تخيب رجائي ، فأنت أنت نعم المولى ونعم النصير .
اترك تعليقاً