ذكرياتي مع دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة
الإهداء
إلى بنت الإسلام والمنزلة، الشهيدة (الدكتورة/ سحر الفراش).. وإلى ابنتها الشهيدة (منة الله).
وإلى الصابريْنِ المحتسبَيْنِ: رب الأسرة (الأستاذ/ منصور أبو الغيط)، وابنه (محمد).
أهدي هذه الكلمات…
مقدمة المؤلف
الإنسان مجموعة من ” الأعمال والمواقف، ورجل الدعوة – في إيجاز شديد – “هو ذلك الرجل الذي يعيش بماضيه في حاضره لمستقبله”.
وأعني برجل الدعوة وريث النبي e)) في حمل رسالته، والاضطلاع بها، ونشرها على كل المستويات بما تحمل من مبادئ وقيم تسع الإنسان في دنياه وأخراه. وميراث النبوة ليس مالاً، ولكنه علم وقيم.
فالماضي الحي هو الركيزة والمنطلق، يعيشه المسلم، وخصوصًا الداعية ” في حاضره بقيمه: العقدية، والخلقية، والإنسانية، وينطلق منه لصنع مستقبل حي مشرق وضيء.
وفي كل أولئك، على المسلم أن يفيد وينتفع بكل جديد من معطيات الآخرين، حتى لو كانوا من غير المسلمين، فالحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها.
ومعروف أن النبي e)) أخذ فكرة “حفر الخندق” للتحصن من الفرس عن طريق سلمان الفارسي، وعنهم أخذ عمر بن الخطاب t نظام الدواوين.
ويهب العلمانيون يتهمون الدعاة الرساليين بالتخلف والانغلاق، ويدَّعون أن الحياة المثلى في الانسلاخ من قيم الماضي، والانفتاح لمعطيات الغرب. إن مثل هذا العلماني الإنكاري – وقد لقبته بأمير العميان – وفيه قلت:
يـا أمـيرَ العميان حسبك زورًا فـلـتـقل ما تشاء فالحق أبقى فـلـقـد عشتَ منْكِرًا كلَّ حقٍّ غـيـر أنـي أقول قولةَ صدق تـعـستْ أمة تراخت فصارت يـدَّعـي أنـه الـبشير “بطب” فـإذا طـبـه خـداع.. وزور يـنـكر الأصل والجذور ويُبْقِي وإذا أنـكـر الـجـذورَ نباتٌ |
قـد تـماديت في هوى التزوير لستَ في العير أنت أو في النفير وجـهـولاً مـتوجًا… بالغرور لا تـبـالـي بـسلطةٍ أو أمير مـركـبًـا هيِّنا لغِرٍّ… ضرير قـادر، نـاجـح، جـديد، مثير يـجعل السهل ألفَ ألفِ عسير فـي حِـماهُ الملعون كل عقور مـات في لفْحَةِ اللَّظى والهجير |
ومن معايشتي لدعوة الإخوان في المنزلة دقهلية – مسقط رأسي – ما يزيد على ستين عامًا، تعلمت الكثير والكثير… تجارب، وعلومًا ومعارف، وتأثرت بتوجيهات أساتذتنا الأجلاء في هذا الحقل العامر النظيف.
وقلت في نفسي: إن عليَّ واجبًا يتلخص في تقديم تجاربي ورؤاي – في منظقة المنزلة – للجيل الجديد من شباب الإخوان. وأنا المؤمن إيمانًا وثيقًا بأن الداعية هو ذلك الذي يعيش بماضيه في حاضره لمستقبله.
وهأنذا أقدم صفحات هذه الحياه من جهود الإخوان وجهادهم في منطقة المنزلة دقهلية، مع ملاحظة أن أغلب ما كتبتُ اعتمدتُ فيه على الذاكرة، أو ما يسميه بعضهم “الاجترار الذهني”، آملاً في أن يكون ما كتبته فيه النفع لمن يقرأ وخصوصًا الشباب.
والله ولي التوفيق.
(1)
الأدبي أو العلمي
في ( 12 4 1934 ) ولدت في مدينة المنزلة بأقصى شمال دلتا النيل. وفي مجال التعليم كان هناك الكتَّاب لتحفيظ القرآن .. ثم تعلم بعض معالم القراءة والكتابة فيما يسمى “المرحلة الإلزامية أو الأولية”. ثم المرحلة الابتدائية (أربع سنوات), ثم المرحلة الثانوية (خمس سنوات) منها أربع للثقافة العامة، أما السنة الخامسة فهي للتخصص الأدبي أو العلمي.
التحقت بالمرحلة الابتدائية في قرابة العاشرة من عمري، في مدينة المنزلة. وفي مجالالتعليم كان هناك الكتَّاب لتحفيظ القرآن.. ثم تعلمت بعض معالم القراءة والكتابة فيما يسمى “المرحلة الإلزامية أو الأولية”. ثم المرحلة الابتدائية ( أربع سنوات)، ثم المرحلة الثانوية (خمس سنوات)، منها أربع للثقافة العامة. أما السنة الخامسة فهي للتخصص. وكان بالمدرسة عددطيب من الأساتذة من الإخوان المسلمين.. منهم عباس عاشور: أستاذ اللغة العربية، وإبراهيم العزبي، أستاذ اللغة الإنجليزية، والمهدي قورة، أستاذ التربية الفنية (الرسم والأشغال)، وكانت بوادر القضية الفلسطينية تلوح في الآفاق المصرية، وذلك في منتصف الأربعينيات، ويتولى الإخوان المسلمون الدعاية للقضية، وعملية الشحن المعنوي. وقد قاد الإخوان مظاهرة في القاهرة بلغت مليونين من المصريين سنة 1947م وخطب فيها الإمام الشهيد قائلا: “إن كان ينقصنا السلاح، فسننتزعه من أعدائنا، ونلقي بهم في قاع البحار”.
وقد استطاع الأستاذ إبراهيم العزبي – أستاذ اللغة الإنجليزية – أن يشدنى إلى الإخوان لأكون شبلاً من أشبالهم، مؤمنًا إيمانًا صادقًا بفكرهم، وذلك لما وجدت فيه من أبوة حانية وحسن معاملة، وتشجيع في المجال العلمي، وسنعرف أن شخصيات ومواقف أخرى اشتركت في العوامل التي شدتني للدعوة، سنعرفها فيما بعد.
كانت فلسطين بطوابعها الدينية، وأصالتها التاريخية تهيمن على مشاعرنا من الصغر، وثمة عدد من المواقف مرت بي، والتقيتها في سنيَّ الباكرة، منها أن أول ما نظمت من الشعر كان في فلسطين.. والقصيدة طويلة أتذكر منها أبياتًا مطلعها:
فلسطين أمي وحق اليقين وحق الشهيد غدًا تسمعين
وقد نشر القصيدة بعد ذلك الأستاذ (علي الغاياتي) – رحمه الله – في صحيفة منبر الشرق.وتأخذني الحماسة وأنا تلميذ في أواخر المرحلة الابتدائية، وأتحدث إلى أستاذنا (عبد الرحمن جبر) – رئيس منطقة الإخوان في المنزلة بمحافظة الدقهلية, وكان الإخوان قد بدءوا في التطوعللجهاد في فلسطين.
قلت له: أريد أن أتطوع لأداء ضريبة الجهاد، وإنقاذ فلسطين، فقال : لكنك صغير السن.. فأنت لا تتعدى الثالثة عشرة من عمرك، قلت: لكني أعلم أن من الأطفال من قاتل في “بدر” مثل: (ابني عفراء).
كان الأستاذ عبد الرحمن يعرف أنني وحيد والدي، فابتسم وقال: إن شاء الله قد نحتاجك مستقبلاً, فنطلب منك التطوع والتقدم للجهاد.
قلت : أرجوك.. فاليوم خير من غد.. اسمحوا لي بالتطوع، ولو جعلتم مهمتي أن أقدم للمجاهدين “الشاي والقهوة”.
فقال وهو يبتسم: مستحيل، فعندهم أمر بعدم التدخين وشرب الشاي والقهوة. وبت في ليلتها وأنا في بكاء متواصل، وأذكر أن مدرستنا – وكنا في آخر المرحلة الابتدائية – قامت برحلة إلى معالم القاهرة، ومن ضمن هذه المعالم “المتحف الزراعي” تقدم منا أحد “السعاة” المسؤولين عن قسم من أقسام المتحف، وقدم إلينا نفسه دون أن نطلب منه ذلك: أخوكم عبد السميع قنديل، من إخوان إمبابة وقد تطوعت للجهاد في فلسطين، وإن شاء الله سيكون اسمي في أول قائمة من قوائم الشهداء.. وحقق الله ما تمنى، وقرأت اسمه في أول قائمة من قوائم شهداء الإخوان في فلسطين. إنه حديث ذو شجون، أوردته عفو الخاطر، من قبيل التذكرة حتى يبقى الارتباط النفسي بيننا وبين فلسطين والمسجد الأقصى، أرضًا وتراثًا حيًا لا يموت.
وإنصافًا للحقيقة التاريخية، أعرض على القارئ ما علمته بعد ذلك، وخلاصته أنه اختلف مع شقيقه عبد المنعم اختلافًا شديدًا: كل منهما مصر على التطوع للجهاد في سبيل فلسطين، وأبوهما شيخ كبير. وأمام إصرارهما أجاز الأب تطوعهما.. وجاهدا في الله حق جهاده. واستشهد عبد السميع، وعاد عبد المنعم.. بعد تآمر حكامنا، والقبض على الإخوان المجاهدين، وعاش عبد المنعم بعدها سنوات صاحبًا ومديرًا لمحل “ساعاتي بورسعيد” بميدان الدقي بالجيزة.
وهذه الواقعة – على بساطتها – إنما تدل دلالة صادقة على عمق التمسك بدعوة الإخوان، وصدق الاعتقاد دون توانٍ، أو خلل. ولنبدأ الطريق من أوله بالتعرف – على سبيل الإجمال – على بعض الخطوط التاريخية والواقعية في مدينة المنزلة (مسقط رأسي).
المنزلة أحد مراكز محافظة الدقهلية الإدارية، وتقع في الشمال الشرقي من مصر، وقد سميت من قبل مدينة تنيس وهي كلمة هيروغليفية تعني صناعة الحرير، حيث اشتهرت هذه المدينة قديمًا بصناعة الحرير الطبيعي، أما سبب تسميتها بالمنزلة فتذكر بعض المصادر التاريخية أن ذلك يرجع إلى كتاب عمرو بن العاص الذي رد فيه على رسالة القعقاع بن عمرو التميمي، والذي أخبره فيه أنه نزل في هذه المنطقة بعد أن فتح أحد حصون الرومان، فقال له عمرو: بارك الله في منزلتك يا قعقاع، فسميت بالمنزلة.
والمنزلة عبارة عن بيئة تجمع بين سمات الريف والحضر، وبها بحيرة معروفة ومشهورة هيبحيرة المنزلة. وتتميز بحيرة المنزلة بانتشار مجموعة من الجزر، أهمها: جزيرة ابن سلام، وتضم ضريح الصحابي الجليل عبد الله بن سلام، حيث يفد إليها أعداد كبيرة من الزائرين، كما تتميز البحيرة بغناها بالثروة السمكية والطيور المهاجرة إليها من مختلف الأنواع، ويتم الآن دراسة استغلالها سياحيًّا. وتحمل مدينة المنزلة كل السمات البشرية والثقافية والعمرانية للمراكز الإدارية التابعة لمحافظات الوجه البحري (دلتا مصر).
وللمنزلة تاريخٌ مجيد في مقاومة كل صنوف الاستعمار
وكان لهذه البلدة شأن وخطر لما امتد في أنحائها من أسباب الثورة، ولظهور جماعة من زعماء الأهالي يحرضون الناس على مقاومة الفرنسيين، وقد برز من بينهم في تقارير القواد الفرنسيين اسم “حسن طوبار” شيخ بلدة المنزلة كزعيم للمحرضين وخصم عنيد لا يستهان به، ومدبر لحركات المقاومة في هذه الجهات. وكان “حسن طوبار” زعيمًا لإقليم المنزلة الذي سبب متاعب كثيرة للفرنسيين.. كتب ريبو يصف سكان هذه الجهات بقوله: “إن مديرية المنصورة التي كانت مسرحًا للاضطرابات، تتصل ببحيرة المنزلة، وهى بحيرة كبيرة تقع بين دمياط وبيلوز القديمة، والجهات المجاورة لهذه البحيرة وكذلك الجزر التي يسكنها قوم أشداء ذوو نخوة، ولهم جلد وصبر، وهم أشد بأسًا وقوة من سائر المصريين”.
بدأت الحملة تتحرك على البحر الصغير من المنصورة يوم 16 من سبتمبر 1798م بقيادة الجنرالين (داماس ووستنج) اللذين أنقذهما الجنرال دوجا، وقد زودهما بالتعليمات التي يجب اتباعها، وفى هذه التعليمات صورة حيه لحالة البلاد النفسية ومكانة الشيخ “حسن طوبار”.
تحرك الجنرال على رأس الجنود الفرنسيين، وساروا بالبحر الصغير على ظهر السفن، فأرسوا ليلاً على مقربة من (منية محلة دمنة)، وشعر أهالي المنية باقتراب الحملة فأخلوا بلدتهم، وكذلك كان الوضع في القباب الكبرى، وقد كلف الجنرال داماس مشايخ بعض القرى المجاورة أن يبلغوا أهالي القريتين أن يعودوا، فإن القوة لن تنالهم بشر إذا دفعوا الضرائب المفروضة عليهم. وهناك افترق القائدان، فرجع الجنرال “وسنتج” إلى المنصورة، ومضى داماس إلى المنزلة لإخضاعها ومعه من الجنود أكثر من ثلاث مئة جندي بأسلحتهم وذخيرتهم، غير أن الجنرال “دوجا” وجد أن هذا العدد من الجند ليس في مقدوره القضاء على مقاومة المنزلة؛ مما دفعه إلى أن يطلب المدد من داماس، وبعد محاولات عدة فاشلة فشل الفرنسيون في اقتحام البلدة العنيدة لتظل المنزلة فيما بعد في ذاكرة قادة الحملة الفرنسية، وقد ذُكرت المنزلة في كثير من مذكراتهم مقترنة باسم حسن طوبار هذا المجاهد العظيم.
أثناء العدوان الإسرائيلي على مصر (سنة 1956م):
بعد العدوان الإسرائيلي على مصر، ومع امتلاكه سلاح جو رفيع المستوى، أصبحت مدن مصر في مهب قذائف العدو، ولاسيما المدن المتاخمة على شاطىء قناة السويس، ومنها محافظات السويس والإسماعيلية وبورسعيد.
لذلك؛ عمل معظم أهل هذه المحافظات وساكنوها على الهروب منها، واللجوء إلى إحدى المدن القريبة نسبيًّا من هذه المحافظات، وأن تكون بعيدة وبمنأى عن قذائف العدو.
وكانت مدينة المنزلة هي أنسب هذه المدن لذلك؛ لما عرف عن أهلها من الكرم وسعة الصدر، وقد استقبل أهل المنزلة اللاجئين، أو كما كان يطلق عليهم حين ذاك (المهاجرون)،وقد عمل أغلب هؤلاء المهاجرين في الأعمال والحرف التى تشتهر بها المنزلة، مثل: الزراعة، وصناعة الأدوات الخشبية والأثاث، والصيد، وذلك سهَّل عليهم انخراطهم في مجتمع المنزلة قبل أن تنتهى الحرب ويعود كل منهم إلى الديار.
اترك تعليقاً