د. جابر قميحة الذى لا يعرفه أحد
توفى فى الأسبوع الماضى فى صمت وهدوء أ.د جابر قميحة، أستاذ الأدب العربى فى كلية الألسن والأستاذ السابق بجامعة ييل وهى من أرقى الجامعات الأمريكية، كما درس الأدب فى باكستان والسعودية وغيرهما.
ويعد د. قميحة موسوعة دينية وعلمية وأدبية وشعرية كاملة ورغم ذلك لم تهتم به صحيفة أو فضائية مصرية، ولم يتم تكريمه من مصر أو وزارة الثقافة رغم مكانته العلمية ومؤلفاته الكثيرة التى جاوزت الأربعين كتاباً.. فى الوقت الذى منحت جوائزها للمتردية والنطيحة وما أكل السبع ما دام ليس إسلامياً.
مات رمز من رموز التواضع.. حيث كان يردد أنا «قميحة» أقل من قمحة.
كنت أسمع له كأفضل عالم وشاعر، ثم يعقب ذلك بنكتة أو قفشة وكان يفخر بأنه يستطيع تقليد أى إنسان كأفضل من أى ممثل.
لقد كان د. قميحة طويل القامة فى خلقته وفى العلم والأدب والتواضع وسمو النفس أيضاً .
وعندما سألته عن أهم شىء استوقفه فى رحلته إلى أمريكا، قال:
«رحلتى إلى أمريكا تثير أشجانى وأحزانى.. فهؤلاء القوم سرقوا منا إسلامنا دون أن نشعر أو دون أن يشعروا.. فطبقوا إسلامنا فى الوقت الذى تركناه نحن.. فهؤلاء يطبقون الإسلام أفضل منا ويحولونه إلى سلوك ومنهج نابض فى الحياة.. ونحن أخذنا منه الاسم فقط دون الجوهر والمعنى.. حتى إننى لم أر فى أمريكا إلا اللون الأخضر.. ولم أر بقعة صفراء واحدة فى أمريكا.. وتعجبت وقلت لنفسى: كيف حدث هذا مع أن أمريكا كانت صحارى كلها.. لقد كنت أرى الأزهار فى الحدائق ولونها very sharp فيخيل إلى أنها ورود صناعية.
أما هنا فى مصر فلا تجد إلا الصحارى والعشوائيات.. وإذا وجدت زهوراً تجدها باهتة ذابلة وكأنها تودع الحياة ولا تستقبلها.
لقد حاولت هنا فى مصر أن أثنى طفلاً عن كسر شجرة فى إحدى الحدائق، فانتفض والداه: «وأنت مالك».. قلت: إنه مال الدولة.. فغضب غضباً شديداً منى».
وحينما سألته عن أكثر ما أدهشك فى أمريكا.. قال لى:
رأيت أستاذة فى جامعة ييل Yale عمرها 93 عاماً،ً فقلت لها: هل أنت على المعاش؟.. فدهشت قائلة: ماذا تقول؟ العلم ليس له سن للتقاعد.
فعجب من هذه الحيوية العلمية والنفسية فى هذه السن المتقدمة.. وهذه القصة جعلت د. قميحة يكتب ويبدع حتى آخر أسبوع من حياته، فقلت له: القرآن سبق هؤلاء فى هذا المعنى فى قوله تعالى: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» أى الموت.. فقال حزيناً: القرآن سابق.. ولكن أين هو فى حياتنا.. إنه على رفوف مكاتبنا وليس فى حياتنا العملية.
ومن أفضل ما تعلمته من د. قميحة تلك السنّة العمرية فى تقبيل يد الأطفال.. حيث قال لى هناك قصة كلما تذكرتها أبكتنى.. فقد كانت معنا مدرسة يهودية اسمها سارة تعمل معنا فى الجامعة وكانت معها طفلتها فى ساعة الغداء، فقبلت يدها.. فعجبت أننى أفعل ذلك وأنا عربى.. فقلت لها: إنها سنّة عن عمر بن الخطاب.. حيث كان يقبل يد الأطفال ويقول: «استغفروا لى فإن الذنوب لم تدنسكم».. فقالت: عمر القاتل ««killer الذى قتل راهباً، فقلت لها: هذا غير صحيح.. فقد كان ينهى عن قتل الرهبان والأطفال والشيوخ والمرضى.. وحكيت لها كيف جاع فى عام الرمادة قبل أن تجوع رعيته.. وقد تأثرت جداً بحديثى.. وتعلمت يومها أن الداعية لا يفقد الأمل أبداً فى أى إنسان.
وداعاً للإسلامى الوسطى العظيم د. جابر قميحة.. وسلاماً إليه فى الصالحين.. وللحديث بقية عن د. جابر الشاعر العظيم.
اترك تعليقاً