د.جابر قميحة.. المبدع الذي رحل مظلوماً
جهر بمعارضة النظام البائد..وخاض معارك ضد خصوم الإسلا
اخبار اليوم– العدد : 3551 – بتاريخ : السبت 24 نوفمبر2012
د.محمد بديع: أغفلت الدولة تگريمه.. وگان نجماً في مجال الدعوة
شخصية ثرية أدبيا شعرا ونثرا، وكاتبا مجاهدا، ولسانا صادقا، وداعية مثابرا، وجنديا من جنود الدعوة الإسلامية المعاصر، وواحدا من أعلام الفكر والأدب الإسلامي. إنه الأديب الشاعر، والكاتب الناقد، والداعية المفكر د. جابر قميحة الذي رحل عن دنيانا يوم التاسع من نوفمبر الجاري، عن عمر يناهز الثامنة والسبعين عاما بعد رحلة عطاء طويلة في خدمة الدعوة الإسلامية والأدب الإسلامي تجاوزت الستين عاما.
ولد د.جابر قميحة عام 1934م في مدينة المنزلة بمحافظة الدقهلية وحفظ القرآن الكريم في الكتاب ثم التحق من سن الخامسة بالمدرسة الإلزامية، ثم الابتدائية، ثم الثانوية، وكان ترتيبه الأول في كل مراحل التعليم. وكان د.قميحة منذ الصغر محباً للقراءة ونما حبّه للأدب واللغة العربية منذ سن مبكرة، وكان كلما صعب عليه كتاب تصدي له من منطلق التحدي حتي يستوعب ما فيه، وعن شغفه بالقراءة وهو طفل صغير كان يقول : رزقني الله حب القراءة فأنا مريض بالقراءة، كان أبي يخاف عليّ، وينزع الكتاب مني، ومع ذلك كان يفرح حينما أقرأ له، وأنا مازلت صغيرا.. وعندما أصبحت شاباً تكونت لدي مكتبة عامرة، وكانت أمي تسألني: هل قرأت هذه الكتب؟.. فأقول: نعم، ثم تسألني: هل فهمت هذه الكتب؟ فأقول: نعم، فتقول: ما دمت قد فهمتها فلماذا لا تبيعها إلي محل البقالة وتستفيد من ثمنها؟.. وكنت أقول لزوجتي: “كلما أقتني كتابًا جديدًا، كأنني تزوجت حورية«.وعندما استشهد الإمام حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في عام 1949 م، كان عمر د.قميحة خمسة عشر عامًا، ويقول عن وصف هذه اللحظة: لم أحدثه ولكن دخل في أعماقي، وحينما استشهد بكيت بكاءً مرًا.. وبعد عامين من استشهاد الإمام البنا يظهر ولأول مرة في حياة د.قميحة موهبة كتابة الشعر، فكانت أولي قصائده عن الإمام البنا، وقال فيها: قل يا إمامنا حسن فكل ما تقوله حسن.. وإنك البناء في السراء والمحن.
وأنهي د.قميحة المرحلة الثانوية، وكان الأول علي مدرسته والأربعين علي مستوي القطر المصري آنذاك، مما أهله للتقدم إلي كلية دار العلوم، مدفوعًا بحبه للإمام البنا، وحقق الله حلمه وأمنيته، فقد كانت المسابقة التي تقوم بها دار العلوم للقبول بها قاسية، وتقدم 600 طالب، لم يقبل منهم إلا 300 فقط؛ حيث كان ترتيبه الأول في التعبير والأدب والشعر بنسبة 96٪.
وبعد الجامعة عين مدرساً بالتربية والتعليم ثم موجها، والتحق بكلية الحقوق، وحصل علي ليسانس الحقوق عام 1965م، ثم علي الدراسات العليا في الشريعة الإسلامية بكلية حقوق القاهرة عام 1967م، وهمَّ أن يقوم بعمل دكتوراه بعنوان “نظرية التعسف في استعمال الحق بين الشريعة والقانون”، لكن استهواه الأدب، وخاصة الشعر.
وسافر إلي الكويت في إعارة، وحصل من جامعة الكويت علي ماجستير في الأدب عام 1974م بعنوان ” الفن القصصي في شعر خليل مطران”، ثم حصل من كلية دار العلوم علي الدكتوراه عام 1979م، وكانت بعنوان “منهج العقاد في التراجم الإسلامية”.
ودرّس د. قميحة في كلية الألسن بجامعة عين شمس، ثم أرسلته الحكومة المصرية للتدريس في جامعة ” يل ” بالولايات المتحدة الأمريكية، وبالجامعة الإسلامية بباكستان، وجامعة الملك فهد بالمملكة العربية السعودية ،وعاد بعد ذلك إلي مصر ليتفرغ للقراءة والكتابة بعيدا عن السلك الجامعي، ويعتز الدكتور قميحة بتاريخه وخط سير حياته حتي قال: “لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما غيرت مسيرة حياتي”.
وكان د.قميحة رجلاً من رجالات الأمة الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله، جعل قلمه وقفا لله تعالي، وسخر كل وقته للشعر والنثر والقصة والمسرحية والمقالة المحترفة من أجل القيام بحق جهاد الكلمة وخدمة قضايا أمته ،فما من حدث من الأحداث التي تمر بها مصر أو تخص قضايا الأمة الكبري إلا لباه، بقلمه ينثر مقالات ويسطر شعرا، وبلسانه يلقي ما كتب في المؤتمرات والملتقيات والتجمعات، وكان لا يتأخر عن دعوة يدعي إليها تخص الهم الإصلاحي العام بالرغم من ظروفه الصحية؛ فكان بحق الصوت الأدبي لأحداث أمته، فكم من حملة جائرة تهاوت أمام عمق فكره ورسوخ علمه، وكم من عاصفة هوجاء تكسرت علي صخرة قلمه الذي ينبري لها، مفندا شبهاتها، ومبينا شهواتها، وموضحا تهافتها وضحالتها.
وكان د.جابر قميحة يلقن تلاميذه رأيا يقول فيه : الشعب هو الذي يصنع نيرونه أو فرعونه، (فاستخف قومه فأطاعوه)، ولو أن الحاكم لم تقدم له وردة، وقدمت له مقاومة عندما يتنكب الطريق، لرأينا كلمة (اتق الله) فقد قيلت للنبي صلي الله عليه وسلم وقيلت لعمر بن الخطاب، ولكن الأمر يحتاج إلي تربية الشعب تربية طيبة، فأشد الأمراض علي نفسية الأمة النفاق.
وكان له رأي يجهر به، في ظل النظام السابق وظهر في كل مقالاته، عن النظام المستبد البائد، مستدلاً بحديث السائل عن الساعة؟ فقال له النبي صلي الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، وإذا وسد الأمر إلي غير أهله فانتظر الساعة)، فكان يعقب علي الحديث بقوله: “نحن نعيش عهد تضييع الأمانة، ويتولي الحكم غير أهله، لا علم له، ولا خبرة له، ولا ضمير له«. وألف د.قميحة مؤلفات عديدة في مجال الأدب والنقد، منها:أدب الخلفاء الراشدين، و التقليدية والدرامية في مقامات الحريري، وأدب الرسائل في صدر الإسلام، والشاعر الفلسطيني الشهيد عبدالرحيم محمود، والتراث الإنساني في شعر أمل دنقل، وصوت الإسلام في شعر حافظ إبراهيم، والأدب الحديث بين عدالة الموضوعية وجناية التطرف،و كلمات في التراث العربي، وآثار التبشير والاستشراق علي الشباب المسلم. كما له دواوين شعرية كثيرة منها: لجهاد الأفغان أغني، والزحف المدنس، وحسبكم الله ونعم الوكيل، وله أيضا عدد من المسرحيات، إلي جانب عدد من المؤلفات في الدعوة والفكر الإسلامي، وقد أصدر مركز الإعلام العربي له مجموعة الأعمال الشعرية والمسرحية في ثلاثة مجلدات كبيرة قاربت الألفي صفحة.
وأكد د.محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين في ليلة تأبين الراحل أن د.قميحة كان قيمة كبيرة، لم تفقده أسرته فقط بل هو فقيد دعوة الإخوان ومصر كلها، وكان أخا حبيبا ونجما ساطعا في دعوة الإخوان المسلمين، وجاهد كثيرا في سبيل الدعوة في ربوع مصر، مشيرا إلي أن د.قميحة ظُلم حيا وميتا، فقد ظلمه ابناء جيله من المثقفين المناهضين لفكره، ولم يعطوه حقه، وأغفلت الدولة تكريمه علي مشواره الذي خدم فيه اللغة العربية ودافع عن الهوية الإسلامية لمصر.
ووصف د.خالد فهمي الاستاذ بكلية الآداب جامعة المنوفية د. قميحة بالرائد الأكثر إنتاجا والأعظم منجزا في الحركة الأدبية، ففي الجانب الإبداعي الشعري والمسرحي هو أحد أكبر الأكاديميين الذين كتبوا في النقد من منظور إسلامي، وقد قدم الأدب الذي يحمل رسالة إنسانية راقية خادمة للمجتمع، ويشهد له الوسط الثقافي علي المبارزات التي خاضها مع العلمانيين وخصوم الفكرة الإسلامية. ويقول عنه الكاتب الإسلامي د.جمال ماضي: كان د. قميحة يجذبك إليه، حتي تجلس إليه وكأنك مع نفسك، وهو الذي في رأسه حكمة العلماء، وفي صدره خشية المتقين، وفي عقله مشروع لنهضة الأمة، وفي تاريخه تجربة طويلة؛ حيث طاف بلدان العالم معلمًا ومحاضرًا ورائدًا وأستاذًا، في الكويت والسعودية وإسلام آباد والولايات المتحدة الأمريكية، وقد ترك الثمار اليانعة في ربوع أمتنا الإسلامية، من تلامذة نجباء ساروا علي الدرب، في مشارق الأرض ومغاربها، ومن قراء نهلوا من أبحاثه وكتاباته وكتبه في شتي المجالات في الأدب والشعر والتراجم وقضايا الأمة والدعوة والتربية والسيرة والإعلام والسياسة، فكان بحق أستاذ الجيل ومفكر الدعوة.
اترك تعليقاً