“جابر قميحة” في ذِكْراه الرابعة
عمر إبراهيم
أكاديمي مصري
9-11-2016م
المتتبع لحركة التاريخ-لا ريب- يجد أن هناك من لا يستنكف من أن يرفع راية الحق ويعض عليها بالنواجذ ويرفع ذكرها في العالمين, حتى وإن كان في ذلك ضريبة باهظة يدفعها هؤلاء الذين آثروا الآخرة على الأولى وكانت أعينهم على الباقية لا الفانية, طيبة بها أنفسهم .
ومن هؤلاء النفر الذين سخَّرهم الله لخدمة دينه واللغة العربية لغة القرآن الكريم: الكاتب والناقد والشاعر الدكتور”جابر قميحة” الذي كتب اسمه بمدادٍ من نور في سجل الشرفاء والمخلصين-نحسبه كذلك والله حسيبه – فما ترك منبرًا إلَّا وأفاد منه في تسخيره لخدمة قضيته وفكرته ودعوته التي آمن بها وكان أمينًا عليها مبشِّرا بها وداعيًا -بالحكمة والموعظة الحسنة- إليها, ولم يترك مناسبة إلَّا ووظفها في الدفاع عن دينه ووطنه وقضاياه التي ملأت عليه حياته, وسيطرت على عقله وتفكيره , فضلًا على جَنانه ووجدانه الذي كان يقطر أسًى وحسرة على ما آلت إليه أحوال قومه من العرب والمسلمين!!
عرفته يوم عرفته عبر صفحات”آفاق عربية” في نهايات القرن الماضي فكنت أنتظر مقاله بشغفٍ لا يوصف وشوقٍ لا نظير له, كنتُ حينها في بدايات المرحلة الثانوية (2000م), ثم بعد ذلك في جريدة “الأسرة العربية”, ومجلة “الرسالة” التي كانت تصدر عن “مركز الإعلام العربي” بالقاهرة, وكذلك مجلة “الزهور”, وركنه الخاص بالموقع الإلكتروني”منزلاوي”, فضلًا على حضوره المتميِّز في الندوات والحفلات, كل ذلك كان سببًا في أن يكون هذا النتاج النافع الغزير-من مقالاته-موضوعًا لرسالتي الماجستير في الأدب والنقد.
هاتفتُه بعد أن انتويت دراسة مقالاته من الناحية الأدبية والنقدية؛ لأخبره بالأمر, فرحّب أيّما ترحيب, وتعددت المكالمات العلمية منها والاجتماعية, ثم حدَّد لي موعدًا للمقابلة وجهًا لوجه, وهنا كانت المفاجئة .
ذهبت في الموعد المحدد لأرى الرجل على سرير المرض يرقد ولا يتحرك إلَّا بصعوبة, فانتقل إلى غرفة الاستقبال, متحدثًا إليِّ عن حياته ونشأته وشيوخه وتلاميذه وروافده الفكرية والثقافية, وبداياته الإبداعية, ثم معاركه ومواجهاته النقديَّة والسياسية, وأسفاره العلمية والدعويَّة, فهو كالبحر لا شاطئ له, ولولا علمي بحالته الصحية لأطلتُ وأطلتُ, ولم يكن بُدًّا من الانصراف, وهنا كانت المفاجأة الثانية .
دعا إليَّ بآخر ما كَتَب من كُتبٍ وموسوعات ومقالات نادرة, المطبوع منها والمخطوط , داعيًا لي بالخير, مودِّعًا لي بكلمته التي لا زال تتردد في أذني: “تصْحبكَ السَّلامة” , وكانت هذه المقابلة الوحيدة لهذا العملاق العظيم؛ فقد رحل بعدها بأقل من عامٍ, ولا زالت آثاره شاهدة عليه, فقد أمضى عمره كلَّه في خدمة الأدب– رغم المنع والمطاردة– شعرًا ونثرًا في ربوع العالم شرقه وغربه, بيد أن الكلمة عنده عِرْضٌ لا يستهان بها, فهي لا تباع وتشترى, وإلَّا صارت كلمةً خبيثةً لا جذور لها ولا قرار, وفي ذلك يقول رحمه الله:
إن الكلمة عرض الشاعر
فإذا مالت
نحو الدرك الأدنى السافل
في مستنقع مدح داعر
لنفاق السلطان الجائر
كانت لعنة
تطرد صاحبها
من فردوس الله الأعظم([1]).
ما أحوج الأمة في هذه الأيام الكالحة- وقد رمتها الخصوم عن قوسٍ واحدة- إلى نفرٍ من الكتَّاب والأدباء يذودون عن حياضها, ويحرسون ثغورها, ويحافظون على هُويِّتها وثقافتها وقِيَمها, لا- كما نرى بعضهم الآن- يُغيبون وعْيها ويُسمِّمون فِكرها؛ من أجل شهرةٍ أو مال أو مكاسب زائلة, فما عند الله خيرٌ وأبقى , والعاقبة للمتقين, رحم الله “جابر قميحة” في ذكراه الرابعة.
___________________________________________________
اترك تعليقاً