img
ثروت أباظة ومُعجمه المرفوض
img
Print pagePDF pageEmail page

ثروت أباظة ومُعجمه المرفوض

عشت شبابي وكهولتي معجبا بأدب «الأباظية» أعجبت أيما إعجاب بكتاب «الضاحك الباكي» فكري أباظة, وعشقت مسرحيات عزيز أباظة ودواوينه وخصوصا ديوان «أنات حائرة» بل حفظت كثيرا من شعره, وكنت ومازلت أري أن عزيز أباظة بمسرحياته تفوّق علي شوقي فيما نظمه من مسرحيات مثل: عنترة, ومجنون ليلي, وقمبيز, وغيرها, وهذا ما سجلته في كتابي «الأدب الحديث بين عدالة الموضوعية وجناية التطرف» علي الرغم من معارضة الكثيرين, واعتبرت الأستاذ ثروت أباظة «عملاقا» في درته الفريدة «شيء من الخوف» وعلي هذا إجماع لا ينكره أحد, حتى أصبحت عبارة – أوهتاف – «جواز عتريس من فؤادة باطل» حكما قويا حاسما يدين تسلط الحاكم الدكتاتور علي الشعب, وإصراره علي حكمه والهيمنة عليه, وكنت معجبا بالأستاذ ثروت أباظة الذي كان يكتب سلسلة من المقالات في صحيفة الدعوة – لسان حال الإخوان المسلمين – تحت عنوان ثابت هو «ظلال» وذلك في الخمسينيات, وهي مقالات تتدفق بالحكمة والأدب الرفيع والأحكام الأدبية والنقدية والاجتماعية البصيرة الرشيدة.. مقالات لا مكان فيها للبذاء وعثرات اللسان, وخطايا القلم.. وأمام هيمنة هذا الحب «للأباظيات» علي نفسي, سقط من نظري الشاعر عبد الحميد الديب – الذي كنت معجبا بشعره – عندما وقع في يدي قصيدة يهجو فيها الأباظية وإبراهيم دسوقي أباظة.. والتي يقول فيها:

أبلغٍ أباظة عني أنهم ورثوا مالا, ولم يرثوا دينا ولا خُلُقا

مع أنه كان قد مَدحَهم في اليوم نفسه بقصيدة يقول فيها:

ومالي لا أزور حمى كريما تكنَّف حافظا, ورَعَي حماما

وحافظ هو حافظ إبراهيم, وحمام هو الشاعر مصطفي حمام, والبيت الأباظي كان معروفا بالكرم والسخاء, وصًلاته المتعددة لفقراء الشعراء والأدباء.

***

ومن حق ثروت أباظة أن يعتز بنفسه, ونسبه وأسرته كما يشاء, وهو حر في إصراره علي خلع الألقاب القديمة مثل «باشا» و«بك» علي من يشاء, بعد أن داس شعبنا علي هذه «الألقاب» وأصبحت لا تذكر إلا في النكات, وعلي سبيل السخرية.

وهو حر في أن يقف أمام رئيس الجمهورية مبديا اعتزازه بأبيه,مهاجما أحد الصحفيين صارخا «لقد شتم هذا الصحفي والدي يا أفندي ووالدي معروف أنه بطل من أبطال ثورة 19».

وهو حر في أن ينشر – في مقاله «الاثنيني» بالأهرام رسائل بعض قرائه كاملة مصدَّرة بالمدح المسرف والثناء المتطرف, جاعلا ذلك من قبيل, الأمانة العلمية»..

ولكن الذي لا حقّ فيه لكاتبنا الجليل «الفحل» أن يصنع لنفسه «معجما خاصا» مواده اللغوية هي: «الإجرام والخيانة والعمالة والحقارة والسفالة والوساخة والقذارة والجهل والسقوط والفشل, والفجور, والعهر, والنتانة , والإفك, والوضاعة, والغي.. إلخ», وليس في هذا المعجم مادة واحدة للنقيض مثل «البراءة والنقاء والعلم والإخلاص والوطنية, والحياء وعفة اللسان.. الخ»..

ومن معجمه الخاص يفرز الكاتب «الفحل» الجليل ما يشاء من أوصاف ويخلعها علي من يعتقد أنهم خصومه وخصوم الوطن, وقد حددهم في فئات ثلاث هي: الشيوعيون والناصريون, والإخوان المسلمون, – الذين كان يكتب روائعه في صحيفتهم «الدعوة» سنة 1954, ودون انقطاع وفي أغلب مقالاته يخلع علي كل هؤلاء دون تفريق ألقاب: المجرمين – الخونة – العملاء – الإرهابيين – الأقذار – السفلة – الجهلة.. إلخ.

وإن كان الإخوان المسلمون (أو المجرمون كما يصر علي وصفهم دائما) هم أكثر الفئات «ظفرا» بإفرازاته المعجمية, ولم يتوقف هذا الإفراز الأباظي علي مقال أو عشرة أو عشرين, بل أصبح ذلك «تيارا» متدفقا لا ينقطع من سنوات طويلة, ولم اقرأ لكاتبنا «الفحل» نقدا موضوعيا لهؤلاء, أو توجيها اجتماعيا أو سياسيا ذا حيثيات وانتظام كالذي كان يكتبه سنة 1954 في صحيفة «الدعوة» صحيفة الإخوان المسلمين ولو فعل ما خسر قراءه الشرفاء الذين كانوا يعتزون به.

***

وجميل جدا أن يسوق ثروت أباظة في تضاعيف مقالاته هذه أحاديث لرسول الله صلي الله عليه وسلم، ولكن المؤسف المحزن أنه يخرًّج هذه الأحاديث عن مقاصدها, ويلوي أعناقها, ويؤولها تأويلا لا يليق بكاتب «فحل» مثله, وكنت أتمني أن يقرأ قول رسول الله صلي الله عليه وسلم «وهل يكب الناس في النار علي وجوههم إلا حصائد ألسنتهم»?!

وكنت أتمني أن يقرأ ما جاء في حديثه صلي الله عليه وسلم لعائشة.. «يا عائشة متي عهدتني فحاشا» إن شر الناس منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره» (البخاري: كتاب الأدب, ومسلم: كتاب البر والصدقة والآداب)

وكنت أتمني أن يقرأ كيف غضب رسول الله صلي الله عليه وسلم علي خالد بن الوليد لأنه «سبّ» الغامدية, التي زنت, أثناء إقامة حد الرجم عليها (انظر لابن القيم زاد المعاد 3/ 206 طبعة محمد صبيح)

بل إن رسول الله صلي الله عليه وسلم حرَّم مثل هذا الأسلوب «الثروتي الأباظي» في السب واللعن, حتى لو كان موجها إلي الحيوان.. لا الإنسان يا ثروت, فعن عمران بن حصين أن النبي صلي الله عليه وسلم كان في سفر فسمع «لعنة» فقال ما هذا? قالوا: فلانة لعنت راحلتها.فقال «ضعوا عنها, فإنها ملعونة, أي ارفعوا عنها حمولة صاحبتها وأنزلوا عن الناقة متاعها واشتري الناقة من صاحبتها, وخلي سبيلها, وقال «لا يصحبنا ملعون» (سنن الدرامي: باب النهي عن لعٍن الدواب حديث رقم 2577) أفيكون خصومك – يا كاتبنا الفحل, وهم بشر – أحط مرتبة في نظرك من الدواب, فتنطلق سابا لاعنا بأسلوب ترفضه الطبيعة السّوية, وترفضه طبيعة شعبنا الطيب, ويرفضه الحد الأدنى من الخلق القويم, لأنه يفسد أذواق القراء وأخلاق الشباب, ويسئ إلي مشاعر الناس, ويفجع القارئ في ثروت الأباظة الكاتب «الفحل» العظيم, صاحب «شيء من الخوف» وسلسلة مقالاته الرائعة في مطالع الخمسينيات في صحيفة الإخوان المسلمين «الدعوة» ولا يبقي أمامه إلا «ثروت» آخر مفطور علي «التطرف» المقيت المرفوض, وهي للأسف حقيقة مرة نعرضها بأمانة في مقال العدد القادم إن شاء.

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img