img
العدل أساس النقد…
img
Print pagePDF pageEmail page

العدل أساس النقد…

العدل أساس الملك، وبغير العدل يضْرَى الحاكم، ويضيع المحكوم. والعدل أساس النقد، هذا ما يجب أن يكون؛ فالناقد في مقام القاضي، والنقد حكم يجب أن يتسم بالعدل، والتنزه عن الهوى (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) المائدة 2  . فعلى الناقد ـ حتى يكون عادلاً ـ أن يتجرد من “الحب” و “الكراهية” على غير أساس موضوعي، وإلا سقط في مستنقع ما نسميه بنقد “المجاملات” ونقد “العداوات”.

وإذا كانت المجاملات تدفع الناقد إلى الرفع من قيمة “الخسيس”، والاحتفاء بالدون، والتضخيم والتهويل في تقدير “الأثر الفني”، فإن شعور العداوة والغضب، أو عدم الرضا يقود إلى عملية عكسية هي الإزراء بالعمل العظيم، والحط من قيمته، والتحقير منه. ونجد هذا التوجه في كتاب “الديوان” للعقاد والمازني اللذين انقلبا على ثالثهما عبد الرحمن شكري، أو “صنم الألاعيب” كما أطلقا عليه في فصل من فصول الكتاب. وهو في نظري من أبرز مظاهر “التطرف النقدي” في العصر الحديث.

ويصدق هذا الحكم على كتاب “على السفود” الذي كتبه مصطفى صادق الرافعي، ونثر فيه معجمًا من الهجاء اللاموضوعي على العقاد. وكثير مما سجله الرافعي ـ في هذا الكتاب ـ لا يتفق مع ما عرف عن الرافعي من دماثة الخلق، ونبل السلوك، وقد يكون هذا هو السبب في أنه لم يكتب اسمه على الكتاب، فكتب على غلافه أنه بقلم “أديب عربي كبير”.

فطابع التطرف واحد في الكتابين:”الديوان” و “على السفود” على غير أساس فني أو موضوعي، إنما هو الشعور بالنقمة والغضب، والحرص على “الغلبة والظفر” بصرف النظر عن أخلاقية النهج والأسلوب.

ومن أسباب التطرف النقدي الانبهار “بالغربيات” أدبًا ونقدًا، وذلك باتخاذ الآداب الغربية مثلاً أعلى يجب أن يحتذى، واعتبار قيمه الأدبية والجمالية ومذاهبه في النقد والأدب، والاجتماع، والسياسة هي قمة ما وصلت إليه البشرية، يظهر ذلك في هروع نقادنا إلى المذاهب النقدية الغربية، والسقوط في شباكها وأسرها، وتوظيفها في تعنت، وغلو وإسراف لم يقع فيه أصحاب المذهب نفسه. وما أرى ذلك إلا راسبًا من رواسب “عقدة الخواجة”.

ومن لوازم هذه العقدة أيضًا ـ بدافع من الإسراف في الإخلاص للأدب العربي ـ حرص كثير من نقادنا على تلمس الأسباب والظواهر والخفايا لإثبات أن الأدب العربي لا ينقصه جنس من أجناس الأدب الغربي. ففيه القصة الشعرية، وفيه الملحمة، وفيه كل ما في الآداب الغربية من أجناس وألوان.

مع أنه من البدهيات والحقائق التي لا ينكرها أحد أن كل أمة لها آدابها الخاصة بها، ولا يعيبها ألا يكون أدبها في “حجم” أدب غيرها ـ فالمغايرة في الآداب ـ كالمغايرة في أسلوب المعيشة، وأساليب الثقافة، واتجاه الحضارات ـ أمر طبعي كما تقرر بدائيات علم الاجتماع.

فلا يعيب الأدب العربي ألا يكون فيه ملحمة مثل الإلياذة والأوديسة، كما لا يعيب الأدب الغربي مثلاً ألا يكون فيه مقامات كمقامات بديع الزمان، ومقامات الحريري.

ولا يعيب الشعر الإنجليزي ألا نجد فيه مكانًا لوصف النوق، والخيل، والصحراء. كما لا يعيب الشعر العربي ألا نجد فيه قصيدة في عظمة قصيدة “البحيرة”  للامرتين.

المهم أن يتسم الأدب بالمصداقية في تمثيل شخصية الأمة، وشخصية الأديب. فإذا ما تحققت فيه هذه المصداقية بمفهومها الشامل السديد، استطاع الأدب أن يأخذ طريقه إلى العالمية مع ما فيه من طوابع محلية.

***

ومن أسباب التطرف التي تقود إلى الخطأ في الحكم، وسوء التخريج والتفسير: نقص الاستقراء، والاندفاع في الحكم بلا روية، وتأن، والنظر إلى الأثر، أو مادة الدراسة من زاوية ضيقة لعدم الإحاطة الشاملة بجوانبها المختلفة.

ومثال ذلك أننا نجد الكاتب الصحفي رجاء النقاش يعلل اتجاه العقاد إلى كتابة العبقريات الإسلامية تعليلاً سياسيًّا خلاصته:

شعور العقاد بأنه فقد شعبيته بعد أن استقال من حزب الوفد صاحب الجماهير العريضة، والأغلبية الشعبية، فأراد أن يكسب الجماهير بكتاباته الإسلامية، وخصوصًا أن كتبه في العبقريات، والدين أقوى تأثيرًا في الجماهير من السياسة (انظر النقاش في كتابه: عباس العقاد بين اليمين واليسار ص 209).

وهو تعليل ناقص غالط في عمومه، وذلك للأسباب الآتية:

1 ـ أن شخصية العقاد عاشت على الفردية والاستعلاء، ولم تكن تهتم بالجماهير، والكسوب الشعبية. وهو من أكثر كتابنا استخدامًا للكلمات الحادة تعبيرًا عن الجماهير مثل “الدهماء” و “الغوغائية” و “الطغام” و “الرعاع” … إلخ.

2 ـ في سنة 1940م ألف كتابه “هتلر في الميزان” هاجم فيه هتلر والنازية والألمان، وكانت غالبية شعبنا تتعاطف معهم آنذاك.

3 ـ والكتابة الدينية الجادة للعقاد بدأت بكتابه “النازية والأديان” لا بالعبقريات التي بدأ صدورها سنة 1942م.

4 ـ كانت كتابات العقاد في شتى العلوم والفنون، ومنها العبقريات كتابات للخاصة، ولم تكن كتابات على المستوى الجماهيري الشعبي، وذلك لطابعها العلمي التحليلي العميق.

5 ـ كما كانت الكتابات الدينية في ذلك الوقت ـ وبخاصة الكتابة عن عظماء الإسلام ـ تمثل تيارًا ساهعم فيه الدكتور محمد حسين هيكل “بالحيوات”: حياة محمد ـ حياة أبي بكر ـ الفاروق عمر، وتوفي قبل أن يكمل كتابه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.

والدكتور هيكل كان رأسًا من رءوس حزب “الأحرار الدستوريين” أحد أحزاب الأقلية. وصدر لطه حسين (الوفدي) كتابه “على هامش السيرة” وصدر لتوفيق الحكيم (اللاحزبي) كتابه “محمد”.

6 ـ ولم يحرز العقاد ـ بكتبه المذكورة ـ أي كسب جماهيري سياسي، ولو على مستوى التمثيل الشعبي، فلم يرشح نفسه للمجالس النيابية بعد تركه حزب الوفد لعلمه أن الشعبية الجماهيرية كانت مرتبطة أساسًا بعضوية حزب الوفد، لا بالعطاء الفكري الذي قدمه في عبقرياته وكتبه عن الفكر الإسلامي، وعظماء الإسلام.

ولعل الحوار التالي الذي تخيله ـ وبتعبير أدق “أملاه” العقاد على “حكيم المعرة، وتلميذه في بلاد الإنجليزي يوضح موقف العقاد من “الكثرة الجماهيرية” ومدى اعتزازه بالقلة الحكيمة:

قال التلميذ: بل الرأي هنا للكثرة من سواد الأمة، وما على الحكام إلا أن يطيعوا ما يأمر به هؤلاء.

قال أبو العلاء: هل للكثرة من السواد رأي؟ إن الله يقول ( …بل  أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)العنكبوت 63

 ويقول: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) الأنعام 116  . قال التلميذ: ويقول (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) الشورى 38. قال أبو العلاء: ونسيت أنه جل جلاله يقول: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) النحل   43  .   ويقول: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الزمر 9 (العقاد: في كتابه: رجعة أبي العلاء ص 116).

وبعد هذه المسيرة نستطيع أن نتبين طبيعة التطرف النقدي، وأثره المدمر:

ـ فهو كذب على الواقع؛ لأن واقع العمل المنقود إما أن يكون أخفض بكثير، أو أرفع بكثير من مستوى هذا النقد.

ـ وهو كذب على النفس؛ لأن الناقد ذاته لا يؤمن بأن عطاءه هو الحق، بل إنه عين الباطل.

ـ وهو تزييف وكذب على الآخرين من المتلقين إذ أنه يمثل شهادة زور آثمة تؤدي إلى صرف أنظارهم عن الحقيقة الواقعة.. حلوة كانت أو مرة.

ـ والنتيجة الحتمية هي إفساد الأذواق، واختلال المعايير، وخصوصًا إذا كان النقد صادرًا من مشاهير لهم ثقلهم، ولهم مكانتهم في الساحة الأدبية والفكرية؛ لأن أمثال هؤلاء ينظر إليهم كمثل أعلى يحتذيه شباب النقاد والأدباء، والمتأدبون.

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img