img
الحضارة الإسلامية تعمير وتنوير – 4
img
Print pagePDF pageEmail page

الحضارة الإسلامية تعمير وتنوير

(4) من (4)

كانت معاملة المسلمين لأهل البلاد المفتوحة  تقوم  على العدل، والإنصاف، والرحمة، وحسن الرعاية، والأمثلة في هذا المقام أكثر من أن تحصى، فأقباط مصر حرموا العدل في ظل حكم الرومان. وهم ابناء دين واحد، ولم يروا  نور العدل، ويستشعروا السلام والطمأنينة إلا حينما دخل المسلمون مصر، وقضوا على حكم الرومان إلى الأبد.

ومن القصص المشهورة في هذه السياقة لجوء قبطي إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في المدينة يشكو إليه محمد بن عمرو بن العاص، والي مصر أنه ضربه بالسوط، وقال خذها وأنا ابن الأكرمين، فأبقاه عمر عنده في المدينة، وكتب إلى عمرو أن يحضر ومعه ابنه محمد. فلما قدما قال عمر للمصري: دونك الدرة، فاضرب ابن الأكرمين، فضربه حتى أثخنه، ثم قال: أجلها على صلعة عمرو (أي اضرب عمرو بن العاص بالدرة على صلعته، وفي ذلك إهانة كبيرة له) فوالله ما ضربك إلا بفضل سلطانه. فقال القبطي: يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني، قال عمر: أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه، حتى تكون أنت الذي تدعه، وقال لعمرو: أيا عمرو، متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟! ثم التفت إلى المصري فقال: انصرف راشدًا، فإن رابك ريب فاكتب إلي.

وفي عصر المماليك أسر قطز، والظاهر بيبرس، ثم الناصر قلاوون طوائف كثيرة جدًّا من التتار في مصر، والشام، وكانوا يعاملون معاملة طيبة جدًّا، وأطلق عليهم اسم “الوافدية” وجعلوا لهم نظام حكم يخصهم، ولا يعم غيرهم من سكان مصر والشام، فكانوا في المسائل الشرعية الخالصة يخضعون لسلطان القاضي المسلم الذي يعينه ولي الأمر ليقضي بين الناس. وبالنسبة للمعاملات الجارية كانوا يتحاكمون إلى الحجاب، ويسيرون على مقتضى قواعد “السياسنامة” وهو كتاب الحكم الذي وضعه لهم جنكيز خان، وأكثره مخالف لما جاءت به الكتب السماوية، وأحكامه فيها قسوة وشدة ، وفيها يهدر الدم لجرائم دون القتل، فيحكم بالقتل على من ارتكب جريمة من الجرائم الآتية:

1 ـ الزنا بإطلاق، ويستوي فيه المحصن وغير المحصن.

2 ـ اللواط.             3 ـ الكذب عمدًا.              4 ـ السحر.

5 ـ إعانة أحد الخصمين بغير حق .                     6 ـ التبول في الماء الراكد.

7 ـ المنغمس في الماء الذي تنجس بالبول … الخ.

ويشهد عدول الغربيين لحكام المسلمين بالتسامح وسعة الصدر، واستخدام الحوار الهادئ مع أصحاب الأديان الأخرى، ومن شواهد ذلك أن “فرنسيس الأسيزي ـ (ت 1226م) مؤسس رهبنة الفرنسيسكان، قام برحلة تبشيرية إلى مصر في سنة 1219م، حيث وصل إلى دمياط في زمن الحملة الصليبية السادسة (بقيادة جان دي بريين في عهد الملك الكامل الأيوبي، والتقى هو وزميله “الوميناتو” بالملك الكامل في تشرين الثاني 1219م، وأخذ فرنسيس يشرح للملك معنى الثالوث، وهو يصغي برحابة صدر، وإذ شعر الأسيزي برحابة صدر الملك المسلم، وتسامحه الكبير، بادر بدعوة الملك إلى اعتناق المسيحية، مع استعداده للبقاء إلى جانبه لكي يعلمه حقائقها. وبطبيعة الحال لم يقبل الملك الكامل التحول إلى المسيحية؛ لأن إيمانه بالإسلام وعقيدته، لم يكن أقل من إيمان فرنسيس بالمسيحية.

ولا عجب في هذه السماحة من ملك مسلم مجاهد يؤمن أن الإسلام هو دين التسامح، وأن نبي الإسلام كان الأسوة الحسنة، والقدوة المثلى في الرحمة والتسامح والتحاور مع الآخرين، انطلاقًا من قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ …).النحل 125

ومن شواهد تسامحه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مجال العقيدة أنه عند توزيع غنائم خيبر كان بينها صحف فيها التوراة، فأمر بجمعها وردها على اليهود.

ولأهمية الكلمة في التفاهم والتعامل والدعوة كان فعل الأمر (قل) هو أكثر أفعال الأمر ورودًا في القرآن، فاستعمل قرابة 350 مرة، كما عرض القرآن صورًا متعددة من الحوار: فعرض حوارًا بين الله وإبليس، وبين الله والملائكة، وبين الله وإبراهيم، وبين مؤمن وكافر، وبين إبراهيم والملك الكافر، وعرض كذلك لونًا من الحوار الداخلي (في الآية 259 من البقرة) وكل أولئك يوحي أن الحوار آلية لها قيمتها في التفاهم والتعامل والدعوة والإقناع والاستمالة.

إن الذين يهاجمون الحضارة الإسلامية أغلبهم من اليهود الصهاينة، أو من المتعاطفين معهم بسبب عقدة الحقد على الإسلام، أو لبواعث مصلحية أخرى، وكان عليهم أن ينظروا إلى التاريخ اليهودي نظرة موضوعية ويدرسوا التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية بعقلية متجردة من الهوى والتعصب حتى يكونوا عدولاً في تقييمهم وأحكامهم، وحرصًا على هذه الموضوعية نستدعي شهادة علامة غربي لا يختلف اثنان على موسوعيته وعبقريته وهو “غوستاف لوبون الذي يخلص من بحثه عن “اليهود في تاريخ الحضارات الأولى إلى أن قدماءهم لم يجاوزوا أطوار الحضارة السفلى التي لا تكاد تميز من طور الوحشية، وعندما خرج هؤلاء البدويون الذين لا أثر للثقافة فيهم من باديتهم ليستقروا بفلسطين، وجدوا أنفسهم أمام أمم قوية متمدنة منذ زمن طويل، فكان أمرهم كأمر العروق الدنيا التي تكون في أحوال مماثلة، فلم يقتبسوا من تلك الأمم العليا سوى أخس ما في حضارتها، أي لم يقتبسوا غير عيوبها وعاداتها الضارية، ودعاراتها، وخرافاتها فقربوا (أي قدموات القرابين) لجميع آلهة آسيا: قدموا لعشتروت، ولبعل، ولمولك من القرابين ما هو أكثر جدًّا مما قربوه لإله قبيلتهم يهوه، وكانوا يعبدون عجولاً معدنية، وكانوا يحملون نساءهم على البغاء المقدس في المشارف.

وإذا عدوت العهد القديم، وجدت بني إسرائيل لم يؤلفوا كتابًا. والعهد القديم  لم يشتمل على شيء يستحق الذكر سوى ما جاء فيه من بعض الشعر الغنائي، وأما ما احتواه من أمور أخرى، فيتألف من رؤى أناس متهوسين ومن أخبار باردة، وأقاصيص داعرة ضارية.

   وإذا أريد تلخيص مزاج اليهود النفسي في بضع كلمات ـ كما يستنبط من أسفارهم ـ وجد أنه ظل على الدوام قريبًا جدًّا من حال أشد الشعوب بدائية، فقد كان اليهود عندنا مندفعين غُفَّلاً سذجًا جفاة كالوحوش والأطفال، وكانوا مع ذلك عاطلين في كل وقت من الفنون الذي يتجلى فيه سحر صبا الناس والشعوب، واليهود الهمج، إذ وجدوا من فورهم مغمورين في سواد الحضارة الآسيوية المسنة الناعمة المفسدة فأضحوا ذوي معايب، مع بقائهم جاهلين، واليهود ضاعوا خلال البادية من غير أن ينالوا شيئًا من النمو الذهني هو تراث القرون.

وإذا أريد وصف المجتمع اليهودي من ناحية النظم أمكن تلخيصه في كلمتين، وهما: نظام رعائي، مع طبائع المدن الآسيوية الهرمة، وذوقها، وعيوبها، وخرافاتها.

ويعرب حزقيال عن ذلك الرأي في الفصل السادس عشر حين يذكر ظهور الشعب اليهودي الحقير، وأوائله الهزيلة، وما أعقب من استقرار بفلسطين ، فيقول مخاطبًا تلك الأمة العامية قائلاً باسم يهوه:

“في جميع أرجاسك وفواحشك لم تذكري أيام صباك. وإذا كنت لم تشبعي زنيت مع بني أشور ولم تشبعي. فلذلك أقضى عليك بما يقضي على الفاسقات، وسافكات الدماء، وأجعلك قتيل حنق وغيرة”.

واليهود يعتمدون في علومهم وسلوكهم، وسياستهم، ورؤاهم، على مصدرين أساسيين هما: التوراة، والتلمود. والتوراة في ـ نظر اليهود ـ هي كتابهم المقدس، وهي الوسيلة والأداة التي خلق بها العالم، فيها ولأجلها خلق الإله الدنيا، ولذلك فهي أقدم من هذا العالم، إنها أسمى فكرة، وإنها الروح الحية للدنيا كلها، وبدونها ليس للدنيا بقاء.

أما التلمود فيتكون من المشنا والجمارا . والمشنا الذي به زيادات لحاخامات فلسطين يسمى هو وشروحه “تلمود أورشليم” أما المشنا الذي به زيادات لحاخامات بابل، فيسمى هو وشروحه “تلمود بابل” وهو المتداول بين اليهود، والمراد عند الإطلاق.

ويعتبر أكثر اليهود التلمود كتابًا منزلاً، ويضعونه في منزلة التوراة ويرون أن الله أعطى موسى التوراة على طور سيناء، مدونة ولكنه أرسل على يده التلمود شفاهًا، ولا يقنع بعض اليهود بهذه المكانة للتلمود، بل يضعون هذه الروايات الشفوية في منزلة أسمى من التوراة.

ومن نصوص التلمود ومضامينه:

ـ ندم الله لما أنزله باليهود وبالهيكل، وجاء على لسانه “تبا  لي لأني صرحت بخراب بيتي وإحراق الهيكل ، ونهب أولادي.

ـ لا عصمة لله.. وهو مصدر الشر، كما أنه مصدر الخير.

ـ تتميز أرواح اليهود عن باقي الأرواح بأنها جزء من الله.

ـ يجب على كل يهودي أن يبذل جهده لمنع تسلط باقي الأمم في الأرض، لتصير السلطة لليهود وحدهم، فإذا لم تكن لهم السلطة عُدّوا كأنهم في حياة النفي، والأسر، ويعيش اليهود في حرب مع باقي الشعوب حتى ينتقل لهم الثراء والسلطان من الجميع، وحينئذ يدخل الناس أفواجًا في دين اليهود، ويقبلون جميعًا ما عدا المسيحيين؛ لأن هؤلاء من نسل الشيطان.

ـ اليهودي جزء من الله، فإذا ضرب أمي إسرائيليًّا فكأنه ضرب العزة الإلهية، والفرق بين درجة الإنسان والحيوان، وهو بقدر الفرق بين اليهود وغير اليهود. ولليهودي ـ في الأعياد ـ أن يطعم الكلب، وليس له أن يطعم غير اليهود، والشعب المختار هم اليهود فقط، أما باقي الشعوب فهم حيوانات.

ـ لا تسرق مال القريب، وهذا يعني جواز سرقة اليهودي مال الغريب، أي غير اليهودي.

ـ يصرح لليهودي أن يغش غير اليهودي، ويحلف له أيمانًا كاذبة.

ـ لا يغفر الله ذنبًا ليهودي يرد للأممي ماله المفقود.

ـ غير مصرح لليهودي أن يقرض الأجنبي إلا بالربا.

ـ محرم على اليهودي أن ينجي أحدًا من الأمميين من هلاك، أو يخرجه من حفرة يقع فيها.

ـ اليمين التي يقسم بها اليهودي في معاملاته لا تعتبر يمينًا.

ـ يسوع الناصري موجود في لجات الجحيم بين القار والنار، وأمه مريم أتت به من العسكري “باندارا” عن طريق الخطيئة، والكنائس النصرانية هي بمقام القاذورات، والواعظون فيها أشبه بالكلاب النابحة، وقتل المسيحي من الأمور المأمور بها .

والنصوص التلمودية السابقة ـ وغيرها كثير ـ ليست في حاجة إلى شرح أو تعليق، فهي تبين ـ في وضوح ـ طبيعة المزاج اليهودي وطوابعهم العقدية، والفكرية، والسلوكية، ومنهجهم في التعامل مع الآخرين.

ألا نَـخْـلص من كل ما ذكرناه في مقالاتنا الأربع السابقة إلى الإيمان الراسخ بأن ما قدمه أعداء الإسلام والحق والعقل ـ مما يسمى مجازا حضارة ـ  اعتمد قولا  وعملا على الأنانية  ، والتخبط  ، والشذوذ ، والتخريب والتدمير ؟ . أما الحضارة الإسلامية فكانت ـ وما زالت ـ حضارة حق ، وإنسانية ، وتعمير وتنوير .

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img