الأديب العملاق.. فارس الميادين
شعبان عبد الرحمن
لا يستطيع المرء وهو يتأمل شخصية ومسيرة د. جابر قميحة (يرحمه الله تعالى) أن يضعه ضمن قائمة واحدة من العلماء المتخصصين، ولا بين فرسان ميدان واحد من ميادين الحياة الزاخرة بالمجاهدين والعلماء والأدباء.. فقد تبوأ الرجل (79 عامًا) عبر مسيرة امتدت أكثر من نصف القرن مكان الصدارة في ميادين شتى، يخدّم بعضها على بعض في انسجام وتناغم بما يحقق رسالة صاحبها التي ارتضاها لنفسه؛ وهي رسالة الدعوة إلى الله تعالى بمفهومها الحضاري الشامل.
فقد تأسس بنيان هذا العالم الفذ منذ كان صبيًّا في ميدان دعوة الإخوان المسلمين التي تهتم بصياغة وتربية تلامذتها على صنوف عديدة من العلم والفكر، ففي رحابها تُصقل المواهب، وتكتشف القدرات لمن أراد وسعى واجتهد؛ ولذلك فقد امتلك د. جابر مواهب الشعر والأدب والنقد، وقبل ذلك امتلك ناصية بيان اللغة العربية بكل فروعها؛ نحوًا وصرفًا وعلوم لغة، ولا تملّ من سماعه ومتابعته وهو يطوف بك في نزهة ممتعة؛ شارحًا بعض مفرداتها أو بعض الأخطاء الشائعة في حقها، وقد أضافت إليه إجادته للغة الإنجليزية بعدًا جديدًا جعله فارسًا بحق من فرسان اللغة، فقد قضى فترة من أجمل عمره- حسب روايته- أستاذًا للغة العربية لغير الناطقين بها في الولايات المتحدة الأمريكية.
أقول: إن علمه الواسع بعلوم اللغة العربية جميعها صقل موهبته الشعرية والنقدية، وصاغ منه أديبًا فذًّا وشاعرًا كبيرًا وناقدًا بلا منازع، ومفكرًا عميقًا وموسوعيًّا، ذلك إضافة إلى العلوم الإسلامية، وتلك كلها من أهم الأدوات التي يجب أن يمتلكها الداعية إلى الله سبحانه حتى يتمكن من أداء رسالته على خير وجه، ولذلك تلحظ في معظم أعمال د. جابر- إن لم يكن كلها على الإطلاق- بُعدًا ونفَسًا إسلاميًّا بين تعبيراته وكلماته وأبياته الشعرية، سواء كان ما يقدمه دراسة نقدية أو أدبية أو ترجمة لأحد الأعلام، حتى مقالاته الصحفية المكثفة التي أغرق بها الصحافة في العقد الأخير من عمره كانت تمثل طرازًا فريدًا من الأدب السياسي دفاعًا عن قيم الحق والعدل، وردًّا للغارة الإعلامية العدوانية التي كان يقودها سحرة النظام السابق من مرتزقة المهنة الشريفة، ودرءًا للشبهات والتضليل والأكاذيب التي تنهال كل صباح على قيادات العمل الإسلامي، وفي القلب منهم الإخوان المسلمون.
وجدير بنا هنا القول: إن د. جابر لم يكن كنزًا من كنوز الأدب العربي فقط، فالساحة عبر التاريخ مليئة بكنوز وعلماء لهم احترامهم، ولكن ما يميز د. جابر أنه كان صاحب رسالة تواجه الحرب من كل مكان، فما آثر السلامة، وثبت في الميدان، ولاقى في سبيل ذلك العنت والتضييق والتعتيم، فقد سُدت أمامه كل المنافذ والمنتديات والمؤسسات الأدبية الرسمية، وبالطبع كل النوافذ الإعلامية في مصر وخارجها؛ لأنه كان من المغضوب عليهم من الطبقة الحاكمة عهدًا بعد عهد، فقد سيطر على مؤسسات الثقافة والأدب وصحافة وإعلام بلادنا الشلة العلمانية إياها بعضها من بعض، والتي ما زالت تشن غاراتها على هوية الأمة صباحًا على أعمدة صحف رجال الأعمال، ومساءً في فضائياتهم، ولم يكن غريبًا في الأزمنة الغبراء عهدًا بعد عهد أن ينال غلاة العلمانية ودعاة الإلحاد أرفع الجوائز الأدبية، بينما أمثال الراحل الكبير ممنوعون من مجرد الاقتراب من الاحتفالات التي كانت تنظم لها، ولم يكن غريبًا أن يحصل “سيد القمني”.. القميء.. سبَّاب الصحابة، والمشكك في كتاب الله تعالى على جائزة الدولة التقديرية بترشيح من وزارة ثقافة “فاروق حسني” ويحرم د. جابر قميحة وغيره من أعلام الأمة من الاقتراب من تلك الجائزة.
أقول: في تلك الأجواء البائسة الضاغطة منذ عهد “عبد الناصر” حتى عهد “مبارك”، انطلق د. جابر قميحة وواجه- كغيره من العلماء والدعاة والمفكرين الشرفاء- الحصار والكبت والمنع، واستطاع بعطائه المتدفق أن يخترق الحصار، ويخط كلماته ويخرج دراساته وعلمه، ويصل بها إلى الساحات الأدبية والفكرية والسياسية ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولم يكن ذلك هو التحدي الوحيد في حياته، فقد قوبل بتحدٍّ كبير داخل أروقة الجامعة؛ حيث كان يعمل أستاذًا بقسم اللغة العربية بكلية الألسن، وكان تعرفي عليه للمرة الأولى في مكتبة تلك الكلية، حيث كنت أراجع بعض أبحاثي باللغة الإسبانية في السنة التمهيدية للماجستير، وفوجئت- على غير العادة- بأستاذ يجلس بين تلامذته في أحد أركان المكتبة، ويقدم لهم محاضرته، وجذبني حديثه المسموع، فوجدته كأنه يسقي طلابه حوله العلم سقيًا، والجميع مستمتع بشرحه الذي أضفى عليه فكاهة بقفشاته الأدبية الممتعة، وبعد ذلك اختفى الرجل من المكتبة التي قررت الذهاب إليها يوميًّا للاستماع إليه، وعلمت أنه سافر إلى الولايات المتحدة أستاذًا لغير الناطقين بالعربية.
وبعد أن التقيته بسنوات وذكرته بتلك الواقعة روى لي ما يشيب له الولدان مما جرى له على يد متنفذين في كلية الألسن؛ لتعويقه عن رسالته، ولدفنه حيًّا بعلمه الذي أشعر كثيرين بأنهم أمامه أقزام، وقد بلغ التحدي من أستاذ مسئول في الكلية أن يلقي في سلة المهملات بخطاب موجه للدكتور من الجامعة الأمريكية يفيد باختيار الجامعة له للتدريس بها، وذلك لحرمانه من تلك الفرصة، وكان تقدير الله سبحانه مع د. جابر الذي وجد- قدَرًا- خطاب الجامعة الأمريكية في سلة المهملات، فأخذه في صمت، وخاطب الجامعة، وسافر بعد طول عناء في الحصول على موافقة كلية الألسن بسبب الكيد.
لقد تحدى الرجل كل العقبات وهو صحيح البدن، وانتصر عليها، وصبر على المرض أيما صبر عندما داهمه، وأخرج أفضل أعماله وهو طريح الفراش، وفي كل زيارة لي لبيته- يرحمه الله تعالى- كنت أشعر أنني أمام عملاق تتبدد أمامه كل التحديات، وكان بحديثه الشيق ونوادره ولمحاته الإنسانية يشيع أجواءً من البهجة والمرح على كل من حوله.. إنه عملاق بحق وقفت بجانبه سيدة عظيمة هي زوجته الفاضلة التي كان لا يكل من ذكر فضائلها النبيلة خلال رحلة حياته الزاخرة، وخاصة في الفصل الأخير منها، فجزاها الله خير الجزاء.. وأحسب أنه لقي ربه وقلمه في يده (سيف الحق) شاهدًا له، ولسان حاله يردد قول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
وما من كاتب إلا سيفني ويبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بخطك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه
رحمك الله رحمة واسعة وأسكنك الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.
——————————————————–
(*) كاتب مصري- مدير تحرير مجلة “المجتمع” الكويتية-
اترك تعليقاً