img
إلا القصة يا مولاي! [4]
img
Print pagePDF pageEmail page

همسًا في أذن القذافي

إلا القصة يا مولاي! [4]

 

أفطروا لرؤيته: إنه عنوان إحدى “قصص!!” الكاتب العقيد معمر محمد عبد السلام “أبو منيار القذافي”.. نعم، قال الحواريون من رجاله النقاد إنها “قصة!!”.. ليكن فنحن لا نناقش الآن الطبيعة القنية لهذه النصوص, أو” الإبداعات القذافية الاثني عشر”!!! , ولكننا نناقش بعض مضامينها الفكرية والعَـقَدِيّة. وقد رأينا فيما كتبناه – من الحلقات السابقة- أن النبرة الهازئة المستهترة هي التي سادت هذه الإبداعات القذافية.. أزري بالصحابة، واستهزأ بعلماء السلف من أمثال: ابن تيمية وابن كثير، وتهكم على الدعاة والمفكرين العظام من أمثال الإمامين الشهيدين حسن البنا وسيد قطب، وقد جاء تهكمه الهجائي الهابط بعيدًا تمامًا عن “السخرية الفنية” التي تعبر عن نقد بناء هادف.

ويفقد الكاتب ما توجبه قواعد اللياقة في الحديث عن الحكام والملوك الآخرين حتى في مقام النقد.. وأنقل من كتابه النص التالي دون تعليق (حتى لا أتهم بالعمالة والنفاق):

“لقد انزعج الإسرائيليون عندما بدأت الصور ترسل تباعًا من القمر اليهودي إلى تل أبيب والقدس خاصة بالنشاط العربي اليومي – انزعجوا لأن القمر- في البداية- صور كل شيء في الوطن العربي، فتزاحمت أمامهم صور الجمال في موريتانيا، وصور الحمير في السودان، مع صور الملوك ورؤساء العرب في مؤتمرات القمة..” (ص104).

وتبدأ “قصة!!” القذافي باستهلال ساذج مريض عن “الحج بالجمعة” فهو يرى أن المسئولين لا يريدون الحج بالجمعة، لماذا يا معمر؟ يقول بالحرف الواحد “تجنبا للزحمة، وما يترتب عليها من مشاكل جمة بالنسبة لهم، وهم على حق في ذلك من تلك الناحية، وهم محقون أكثر إذا تأكد أن الحج بالجمعة يؤدي إلى وفاة أحدهم، لا سمح الله، هكذا يتشاءم الإخوة في السعودية من الحج بالجمعة، فليكن الحج بالسبت أو الأحد، ولا المجازفة بحج الجمعة، وفقد أحد الكبار والعياذ بالله..” (ص94).

ونساير القذافي في رؤيته – مؤقتا- ونسأله: هل حسم الأمر؟

فيأتي جوابه في “قصته”.. يقول – بالحرف الواحد “حسم هذا العام فقط، وقد حسمه الجنرال نور شوارزكوف نفسه جزاه الله خيرًا، فقد قرر في وقت مسبق، ومنذ الأسبوع الأول من رمضان: أن يوم عيد الفطر هو يوم الاثنين الموافق 15/4/1991 لميلاد عيسى – عليه السلام- وبالتالي حدد أيام الحج بصورة قاطعة، لا لبس فيها، ووفقا للتاريخ الإفرنجي، بغض النظر –  حسب قرار الجنرال شوارزكوف- عن رؤيته من عدمها: أقصد رؤية الهلال، وليس الجنرال المذكور” (ص95).

ويُصعَّد القذافي من تهكمه العبثي فيقول “.. ومن المفروغ منه أن يكون غرة شوال هو يوم 15/4/1991م، حتى لو كان قمرًا مكتملا، أو لم يولد بعد، ولو أدى الأمر إلى اختيار شهر آخر للحج، فليكن شوالا نفسه أو ذا القعدة، وللمسلمين احتراماتهم وسيادتهم وخياراتهم في دينهم ليختاروا أي شهر يشاءون إذا لم يقبلوا بتوقيتات الجنرال نور، وهذا لا يخالف القرآن – كما قال شوارزكوف نفسه “الحج أشهر معلومات” إذن هو أشهر وليس شهرًا واحدًا..”(ص96).

ولكن لا غرابة..

ويزول استغرابنا مما ذكره “معمر محمد عبد السلام أبو منيار القذافي” في مجموعته “القصصية” من هجاء وسخرية وتهكم على الصحابة والسلف إذا عرفنا أن هذا “الزعيم” له عدوان آثم مشهور على كتاب الله حين أعلن في إحدى خطبه أننا يجب أن نحذف فعل الأمر “قل” من القرآن، لأن الأمر موجه إلى محمد، وما دام قد بلغ ونفذ الأمر، فاستجابتنا للأمر تقتضي أن نحذف هذا الفعل من السياق القرآني كله.

يا عجبًا: لقد نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكثر أربعة عشر قرنًا لم تُبدَّل ولم تُحذف منه كلمة واحدة، فنحن نقرؤه الآن كما نزل به جبريل على محمد عليهما السلام، وقد قامت إسرائيل من خمسة عشر عامًا بطبع القرآن بعد حذفها الآيات التي تصم اليهود بالقتل والغدر والخيانة والجبن، ووزعت عشرات الآلاف من النسخ المطبوعة – عن طريق عملاء لها-في العالم الثالث، ولكن الله فضح جريمة اليهود، وانصرف الناس- من مسلمين وغيرهم- عن هذه النسخ المزورة، وصدق الله – سبحانه وتعالى- إذ يقول (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9).

والفعل “قُلْ” يشير إلى واجب الدعاة، وقيمة الكلمة – في كل عصر- كأداة للدعوة إلى الله، حتى لا تتوقف مسيرة التوجيه والإرشاد إلى الحق قولا وفعلا، ثم إن هذا الفعل “قلْ” يشير إلى واجب الدعاة، وقيمة الكلمة – في كل عصر- كأداة للدعوة إلى الله، حتى لا تتوقف مسيرة التوجيه والإرشاد إلى الحق قولا وفعلا، ثم إن هذا الفعل ” قلْ” يؤيد الحقائق ويؤكدها ويثبتها بنشرها والإشهاد عليها، فالمقول له مُطالَبّ بأن يقول لغيره في ترديد وسلسلة لا تنتهي0      والأمر، “بالقول” لا يمثل خصوصية من خصوصيات الرسول صلى الله عليه وسلم – كما توهم القذافي- فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وعليهم “القول” والتبليغ، بل هو واجب كل مسلم بقدر ما يستطيع، وهو أمر دائم لا ينقطع ولا يتوقف، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلا عجب أن يرد هذا الفعل في القرآن الكريم 332 مرة “بصيغة المفرد” في 57 سورة ما بين مدنية ومكية، وهذا العدد يمثل نصف سور القرآن، وهذا يعني  أن “تنفيذ” أمر القذافي يؤدي إلى العبث بنصف القرآن، بل “إنشاء” قرآن جديد، ومرة أخرى علينا أن نتذكر قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر: 9).

عدوان على رسول الله صلى الله عليه وسلم 

إن الباحث لا يستطيع أن يقيِّم في دقة مضامين المجموعة القصصية القذافية إلا في ضوء الإبداعات القذافية الأخرى!! مثل كتابه الأخضر وأحاديثه الخاصة والعامة، وخطبه العديدة وقراراته وبياناته الصحفية، وسنرى- بمشيئة الله في حلقة قادمة أو أكثر- أن هذه المجموعة تفتقر إلى الطوابع القصصية القويمة بكل المعايير، ولكن الحقيقة الواضحة التي تفرض نفسها، ولا يحتاج إدراكها إلى مجهود هي أن عدوان القذافي على الصحابة والسلف الصالح من العلماء والفقهاء والدعاة إنما هو انعكاس وامتداد لما يردده، ويردد أشد منه وأعتى في خطبه بصفة خاصة، فهو ينطلق في هذه المنظومة الهجائية الاستهزائية “القصصية!!” من عدوانه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى سنته، وقد رأينا من قبل كيف كان يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه مجرد ” بوسطجي” .

وبين يدي نص خطبة للقذافي مطبوعة في كتيب وزرع على مستوى عالمي، وعلى الغلاف (خطاب الثائر المسلم معمر القذافي في ذكرى المولد النبوي الشريف -12 من شهر ربيع الأول 1387هـ من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم الموافق 19 من فبراير 1978م).

وفي هذا الخطاب يعتبر القذافي أن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم شرك بالله، وتقليد للنصارى في تأليه المسيح، لأن هذه الصلاة تجُسم النبي حتى يحجب الله – على حد قوله- . ولنقرأ ما يقول: “… إن المسلمين ابتعدوا عن الدين الإسلامي، وهم في طريقهم إلى النتيجة التي وصل إليها المسيحيون… ونحن الآن بدأنا عبادة الأصنام، فنحن نجسِّم النبي حتى يحجب الله، ولو قلت لكم “رسول الله” لقلتم كلكم “صلى الله عليه وسلم” , ولو قلت لكم “الله”  لما تكلم أحد . وهذا نوع من الاستعباد والوثنية التي نسير فيها.. وكأن ذلك يعني أننا نخاف الرسول أكثر مما نخاف الله، أوأننانرىالرسول أقرب إلينا من الله , وذلك تمامًا مثل المسيحيين الذين قالوا إن عيسي أقرب من الله..” (ص9،10، 11) .

وواضح ما في هذا العدوان من مغالطات وتخليط:

1-   فلا وجه لتشبيه المسلمين إذ يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ، بالنصارى الذين أدانهم القرآن الكريم بالكفر البواح، وذلك في قوله تعالى ” وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ..” (التوبة: 30).       
وقوله تعالى: (
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ..) (المائدة: 17، المائدة:72).

2- والمسلمون إذ يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، إنما يستجيبون لأمر الله – سبحانه وتعالى- في قوله: (إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (الأحزاب: 56).

3- وعدم رفع الصوت – حتى يصل إلى أذني القذافي- عند ذكر الله لا يدل على انعدام الخشوع، كما أن رفع الصوت لا يقطع بعمقه أو تمامه، فالمسألة بين العبد وربه، ومن ثم تسقط النتيجة التي أصر القذافي على الوصول إليها من الحكم على الناس بالكفر الصريح والخوف من النبي أكثر من الخوف من الله..

وعدوانُ على السنة النبوية

والقذافي ينكر السنة النبوية، ولا يعتبرها مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامي، ولكي نضع أيدينا على منطلقاته وأسانيده في دعواه – أو ادعائه- نعرض على القارئ بعض ما قاله في خطابه السابق بالنص- دون تغيير أو تحريف.

1- القرآن الكريم لم يرد فيه نص يقول إن النبي قال عليكم أن تتبعوا كل الكلام الذي قلتُه.. وإلاًّ فأين الكلام الذي قاله لمدة أربعين عامًا قبل البعثة؟…” ص 12 “ولم يرد فيه ما يشير إلى أن نأخذ عنه حديثًا”. (ص16).

2- “النبي لو كان يقول: اتبعوا حديثي فمعنى ذلك أنه سيعمل بديلا للقرآن، لكنه باستمرار يؤكد التمسك بالقرآن فقط..” (ص14).

3- “الأحاديث كتبها أناس ثم نسبوها للنبي، وهو أنواع: منها الصحيح والمنقول والخاطئ والمكذوب، أما القرآن فهو قرآن واحد..”(ص19).

4- “لو كان الحديث الذي يقوله الرسول يُعتَد به، أو يؤخذ كشريعة لوجب أخذ كل كلامه حتى الذي قبل الرسالة”(ص32).

5- سنة النبي إنما هي عمل النبي، وليس كلامه، فهل النبي كان يسرق مثلا؟ طبعا لم يكن يسرق، هذه سنة من سنته، ومن أخلاقه أنه لا يكذب، ولا يسرق، ويتصف بالأمانة والنزاهة والاستقامة، هذه هي السنة، أي أنها تصرف النبي وطريقته في ذلك، إذن كيف نأتي بعد ألفي سنة، ونقول: إن الحديث هو السنة؟ (ص26-27).

وواضح ما في كلام القذافي من ضعف وهشاشة وسذاجة. ومنطقه المتهافت يستطيع أي تلميذ في المرحلة المتوسطة أن يدحضه، زيادة على ما في أسلوبه أيضًا من ضعف وركة:

1- من عجب أن يطلب الكاتب “معمر محمد القذافي” نصًا من النبي صلى الله عليه وسلم يطلب من المسلمين أن يتبعوا كل الكلام الذي قاله بما في ذلك كلامه لمدة أربعين عامًا قبل البعثة، ونصًا قرآنيا يؤكد ذلك، فمن البدهي أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبدأ إلا من يوم بعثه نبيًا ورسولا، أي بنزول الآيات الأولى عليه في غار حراء في ليلة القدر من شهر رمضان.  
والمعروف أن المسلم غير مطالب باتباع كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال، بل ما كان تكليفًا منها متعلقًا بالدين والاعتقاد, وما دار في هذا الفلك , كقولـه

– صلى الله عليه وسلم: “صَلَّوا كما رأيتموني أصلَّي”، وما رواه البخاري ومسلم عن أنس – رضي الله عنه- من قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تباغضوا، ولا تحاسدُوا، ولا تَدابروا، ولا تقاطعوا، وكونُوا عباد الله إخوانًا، ولا يحلّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث” وقوله ” إنما يلْبَس الحرير من لا خلاق له” , يعني: من الرجال.      
ويحرّمُ على المسلم اتباع ما كان من خصوصيات الرسول صلى الله عليه وسلم كوجوب تهجّده بمقتضى قوله تعالى: “
 وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ” (الإسراء: 79)، وجواز مواصلة الصوم، وقد نهى غيره عنه وقال: “وأيّكم مثلي؟ إنَّي أبيتُ يُطعمني ربي ويسقيني”(1).
وشدد النبي صلى الله عليه وسلم في نهي أصحابه عن الإقتداء به في هذه الخصوصيات , أو هذه المثاليات النبوية، فعن عبد الله بن عمرو قال: “دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألم أخْبَرْ أنك تقوم الليل , وتصوم النهار؟ قلت: بلى، قال: فلا تفعل: قم ونم، وصم وأفطر، فإن لجسدك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقًا، وإن لزوْرك (زائريك) عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا.. “(2)
وهناك الأعمال العادية كالتي تتعلق بالمعاش مثل طريقته في المشي، وتناول الطعام، وإيثاره ألوانًا معينة منه، ومثل هذه السلوكيات لا حرج على المسلم في مخالفتها، وإن حرص كثير من الصحابة والسلف الصالح على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في ذلك: فقد رأى بعضهم عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما- يدير ناقته في مكان فسُئل عنه فقال: “لا أدري، إلا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله ففعلته”(3).

2- وقد جاء في القرآن الكريم ما يُلزمنا بالأخذ بالسنة النبوية والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويحذر من عصيانه، ويبين عاقبة هذا العصيان، وينفي الإيمان عمن خالف عن أمره . والآيات الشاهدة على ذلك كثيرة نكتفي  ببعضها:

–  قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ” (آل عمران: 32).

–  مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ “(النساء: 80).

–  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ “(سورة الأنفال: 24)

–  فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا “(النساء: 65).

أما الأحاديث النبوية في هذا المقام فهي أكثر من أن تحصى ومنها – على سبيل التمثيل-:

– ” ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني، وهو متكئ على أريكته، فيقول بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله”(4)..

– “يا أيها الناس , إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا بعدي أبدًا : كتاب الله وسنتي”(5).

– وفي رواية  أخرى للحديث الأول ” ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه”، قال الإمام الخطابي في معنى هذه الرواية “أوتى الكتاب وحيًا يُتْلَى، وأوتي من البيان مثْله،أي أذِن له أن يبين ما في الكتاب: فيعم، ويخص ويزيد، ويشرح ما في الكتاب، فيكون: في وجوب العمل به ولزوم قبوله كالظاهر المتلوِّ من القرآن”(6).

وقد أجمع الصحابة – رضي الله عنهم- على الاحتجاج بالسنة والعمل بها، وقد استفادوا ذلك من إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه على اليمن “فسأله: بم تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: بكتاب الله، قال فإن لم تجدْ؟ قال فبسنة رسول الله، قال فإن لم تجد؟ قال اجتهد رأيي ولا آلُوا (أي لا اقصر)   فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله إلى ما يُرضي الله ورسوله”(7).

وتقوم السنة بتفصيل الأحكام المجملة في القرآن الكريم، وتقييد الأحكام العامة، وتوضيح ما غمض على المسلمين، وتأكيد ما جاء به، وتقعيد ما ورد فيه مفرَّقًا.

كما جاء في السنة أحكام تشريعية مستقلة لم ترد في القرآن مثل: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وتحريم الذهب والحرير على الرجال، وإثبات حق الشفعة للجار، وميراث الجدة، ورجم الزاني المحصن، وكل ذلك لا يتعارض مع وصف القرآن في قوله تعالى: (…مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ)(الأنعام: 38).

لأن ما قدمه الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته يتفق مع أهداف القرآن ومقاصده العامة، ولا يخالفه، ولا يناقضه، وقد جاء القرآن في أغلبه كليات، وقواعد مجملة، ومهمة الرسول هي بيان كل ذلك استجابة لقوله تعالى: “ …وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ “(النحل: 44).

3- فالأحاديث النبوية إذن ليست بديلا للقرآن إذا أخذنا بها، أما زعمه بأن الأحاديث كتبها أناس ثم نسبوها للنبي، فهذا افتراء لا أساس له من الصحة، فأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم خضعت لأدق عملية توثيق في التاريخ حتى وصلت إلينا الصحاح منها، ولست أدرى إن كان القذافي قد سمع بكتب “الجرح والتعديل” أم لا، تلك التي فضحت كل موضوع مخترع من الأحاديث.

وتقسيم الحديث إلى صحيح ومنقول وخاطئ ومكذوب تقسيم مضحك… مضحك جدًا والله!! لأن أقسام الحديث يعرفها طلاب المدارس ولا أزيد.

   4- أما البلية الأشد إضحاكًا فهي زعمه أن “سنة النبي إنما هي عمل النبي، وليس كلامه، فتلاميذ المدارس المتوسطة يعرفون منها ما هو قولي، ومنها ما هو فعلي، ومنها ما هو إقراري، على أنه يستحيل الفصل في كثير من الأحيان بين الفعل والقول، كقوله صلى الله عليه وسلم “صلوا كما رأيتموني أصلي” فهو أمر بالقول، وهو فعل في الوقت نفسه، وما رأى القذافي مثلا في تحديد الرسول صلى الله عليه وسلم للزكاة نصابًا وإخراجًا؟ وخطبة الوداع مثلا – ألا تعد من السنة؟

ونسي كاتبنا معمر محمد عبد السلام “أبو منيار القذافي” إذ يرى أن السنة في عمل النبي دون قوله – أن عمل النبي وهيئته لم تصل إلينا إلا نقلا عن الصحابة، فكيف يصدق الصحابة، ويكذب رسول الله؟ أو كيف يصدق الصحابة فيما نقلوه من أفعال النبي، ولا يصدقهم فيما نقلوه من أقواله؟!

وأختم هذه الحلقة بكلمتين: الأولى للإمام الشوكاني إذ يقول: “إن ثبوت حجية السنة المطهرة، واستقلالها بتشريع ضرورة دينية، ولا يخالف ذلك إلا من لا حظَّ له في دين الإسلام”.

أما الثانية فلابن حزم، ونصها: “ولو أن امرءا قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافرًا بإجماع الأمة”(8).

فلا عجب إذن أن يتهكم القذافي في “مجموعته القصصية على الصحابة والسلف الصالح، وأفاضل العلماء والفقهاء والدعاة، نعم.. لا عجب.. ولا غرابة.. فمن يطالب بتحريف القرآن الكريم، ومن يزري برسول الله صلى الله عليه وسلم وينكر سنته، لا يستغرب منه أن يسب الصحابة والفقهاء وأهل العلم والفضل من صفوة الناس.

 

وما زال للكلام صلة.. صلات.

 

الهوامش:

([1]) انظر: علي حسب الله: ( أصول التشريع الإسلامي 49- مكتبة الجامعة- القاهرة- الطبعة الأولى 1952، والحديث بتمامه في البخاري: كتاب الاعتصام).

(2) البخاري: كتاب الأدب.

(3) ارجع إلى كتاب “في صحبة المصطفي” جابر قميحة 121 (دار الكتاب المصري اللبناني- بيروت: 1406-1986م).

(4) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه.

(5) أخرجه الحاكم ومالك في الموطأ.

(6) انظر للدكتور عبد الرحمن عتر: معالم السنة النبوية 31 (مكتبة المنار –  الزرقا- الأردن ط(1)، 1406-1986م).

(7) أخرجه الترمذي وأبو داود وأحمد بن حنبل والبيهقي والدار قطني، وانظر: عبد الرحمن عتر: السابق 32.

(8) العتر: السابق، الصفحة نفسها.

Print Friendly, PDF & Email
مقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

img
القائمة البريدية
img